لماذا أخفق شعراء النظرية الجمالية السوداء في دمج الشعر والسياسة
الشعر الأسود في الستينات لم يحرر زنوج أميركا.
الأربعاء 2024/06/12
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الشعر والفنون أخفقا في دفع الجماهير نحو التغيير
انتهى صراع الأدباء الزنوج ذوي الأصول الأفريقية مع الحكومة الأميركية إبان الستينات من القرن الماضي في سبيل الحصول على حقوقهم المشروعة في ظل نظام عنصري بغيض، بفشل المشروع النضالي الزنجي، لأن الزنوج المدافعين عن حقوقهم لم يتوحدوا ولم يتقنوا أساليب إدارة الصراع مع عدو شرس اعتاد خوض المعارك على كافة المستويات وتفنن في إدارة الصراعات بشكل حرفي.
عوامل عديدة أفضت إلى انهيار المشروع النضالي الزنجي المناوئ للسياسات العنصرية الأميركية ضد الزنوج، وأدى إلى الموافقة على الشروط التي وضعها الرجل الأبيض للمصالحة بين الطرفين.
هذا الكتاب “تمرد زنوج الجيتو على رعاة البقر.. ” الصادر أخيرا عن دار الجديد بالقاهرة للناقد والأكاديمي صديق محمد جوهر يناقش هذا الصراع وهذا المشروع الزنجي المناهض للعنصرية والطامح إلى تحقيق العدالة، وذلك الذي يستجلي فيه الجوانب المختلفة في شكل الشعر الثوري ومحتواه لدى كوكبة من كبار الشعراء الزنوج الأميركيين – الذين قادوا حركة التمرد والاحتجاج الثوري ضد الحكومة الأميركية – إضافة إلى أدباء آخرين شاركوا في حركة التمرد على السياسات الأميركية العنصرية المناهضة للزنوج إبان حقبة الستينات من القرن الماضي.
إخفاق الشعراء السود
المشروع الزنجي المناهض للعنصرية والطامح إلى تحقيق العدالة
يؤكد جوهر أن جهود جيل شعراء الستينات السود آلت إلى نهاية جدباء، فلا هم بلغوا غاياتهم السياسية، ولا هم حققوا جماهيرية وشعبية عريضة، نظرا إلى اعتمادهم على الشفرات السرية الأيديولوجية المستغلقة على الجمهور الزنجي، وعلى الخطاب الحماسي الملتهب، والأفكار العاطفية عوض التصوير والتعبير الفني ذي الأسس الجمالية.
وبالرغم من الفشل الذي منيت به جهودهم على الأصعدة الجمالية والأيديولوجية والمنهجية كحاملي ألوية النظرية الجمالية السوداء، فإن هذا القصور ذاته ساعد على بيان العلاقة بين الشعر والسياسة، وبات جليا أنه من الصعوبة بمكان توظيف الشعر لخدمة غايات سياسية حين تحتضن أطره الفنية صورا وأفكارا تنم عن عنصرية وكراهية وبذاءة لا تعكس نظرة إنسانية متوازنة، فلقد أخفق جيل الستينيات من الشعراء السود في تشكيل وعي جماهيري زنجي/أفروأميريكي جديد حين اعتمدوا مفهوما دعائيا فجا للفن والشعر، وحين أسقطوا من حسابهم التطلعات والأماني الشخصية لأفراد الشعب الزنجي الأميركي، وحين تجاهلوا العوامل التاريخية التي تحكم تطور مجتمع الزنوج الأميركيين.
ويوضح “لأنهم شعراء هواة، فقد وقعوا في وهم أن الشعر كفيل بتغيير المجتمع، غافلين عن كون السياسة هي العامل الحاسم في أيّ تغيير مجتمعي، فعجزوا عن ضفر الشعر والسياسة في جديلة واحدة تعبّر عن الوعي الجمعي الزنجي الأميركي، ويدل هذا الفشل في تحقيق أهدافهم السياسية على أن الشعر والفنون الأخرى ليست الوسائل الناجعة في دفع الجماهير نحو التغيير في مجتمع تظل فيه الغلبة للكثير والكثير من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، ولأنهم ألحوا على طرح المشكلات المتعلقة بالعلاقة بين السياسة والفن عوض طرح موضوع الفن/الشعر والسياسة، فإنهم أخفقوا في النفاذ الحقيقي إلى أعماق الوجدان والفكر، على مستوى الجماعة الزنجية الأميركية بما تنطوي عليه طبقات هذا الوجدان من قلق وتوتر وعواطف ومعاناة وإحباطات”.
كما أن هؤلاء الشعراء فشلوا في نقل خبرات السود الأميركيين عبر لغة السود، وهي اللغة التي تصفها ساره ويبستر فابيو على النحو التالي “إنها لغة تقيم تواصلا مباشرا مبدعا كيّسا بين الجماعة السوداء تقوم على الواقع المشترك والوعي المشترك والتفهم المشترك بما يولد التفاعل الاجتماعي، وهي تعطي أولوية مطلقة للتعبير بالصور والأحوال المزاجية على تنوعها، تلكم الخصائص الأسلوبية المتبلورة، في لهجة ذات رؤية اندماجية لا تفرق بين لون ولون من ألوان البشر، وهي قرينة معرفة صادرة من اقتران الأحاسيس بحقائق الواقع المعاش”.
ويرى جوهر أنه “على خلاف الشعراء الأفروأميركيين/السود في عشرينات القرن الماضي الذين أخذوا الشعر مأخذ الجد، عجز شعراء نظرية الجماليات السوداء – في الستينات- عن إبداع شعر ذي قيمة وبال بالنسبة إلى الزنوج الأميركيين، ولمّا كان هؤلاء الشعراء قد أخفقوا في الإفادة من الخبرات التاريخية والاجتماعية والنفسية الأصيلة للشعب الأسود في كليتها في أميركا البيضاء، وحصروا نظرتهم في الجوانب السلبية القاتمة منها، فقد عوّضوا ذلك بمحاولة توصيل شعرهم إلى هذا النفر القليل ممن آمنوا بثورية النظرية الجمالية السوداء، وقدرتها على التغيير الاجتماعي والسياسي”.
النهج العقائدي والفني المتعسف لشعراء الستينات السود يختلف في الكثير من جوانبه عن نهج الزنوجة ومفهومها
ويرى أن حصر الخبرة الاجتماعية والتاريخية والنفسية للسود في هذا الحيز الضيق، وعلى هذا النحو المغلق، لم يسمح بتأسيس جماليات فنية ذات بال تقنع معشر السود ومعهم البشرية كلها وتغريهم على تذوقها وتبنيها خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون في مجتمعات متعددة الأعراق والألوان والثقافات.
ويتابع “هذا ما أدى إلى مجيء إبداعهم لنصوص شعرية خارج السياقات السياسية والعرقية المعيشة، محاولة منهم لتأسيس هوية قومية سوداء إيجابية، وتوظيفا للفن كأداة لإعادة تنظيم الوعي الاجتماعي للسود وترتيبه، إلا أن افتقارهم للآليات الفنية الصحيحة التي من شأنها تمكينهم من النفاذ إلى قلب الموروث الثقافي الفريد للجماعة الأميركية السوداء، وإعادة اكتشاف ما فيها من ثراء وتنوع وكذا انكبابهم الملحوظ على النهج السياسي الداعي لانفصال السود عن أميركا البيضاء كقومية سوداء مستقلة، آل بهم إلى العجز الظاهر عن تنمية وتطوير نماذج شعرية فاعلة تعبر تعبيرا صادقا عن أعمق نوازع وتطلعات الشعب الأسود الأميركي، وهكذا يبرهن إخفاق الشعراء السود من جيل الستينات في إبداع شعر يجسد التطلعات الروحية للشعب الأسود الأميركي، شعر قادر على تبرير نظريتهم الجمالية السوداء، على أن الشعر – والفنون جميعها – في حاجة إلى ذلك التوازن الدقيق بين الشكل والمحتوى”.
يشير جوهر إلى أن جيل الستينات من الشعراء السود، الذين اعتمدوا النظرية الجمالية السوداء كإطار مرجعي نظري لأشعارهم، قد أخفقوا في تحقيق مراميهم، لأنهم حاولوا دمج السياسة والشعر في بنية واحدة عبر الوسيط الشعري، ومن ثم تراجع حسهم الإبداعي، وتحول ذلك الحس بصورة تثير السخرية إلى حس شخصي ضيّق عوض أن يكون حسا ذا أفق إنساني اجتماعي شامل بسبب اتكائهم على نسق أيديولوجي يفرض على المجتمع الأسود منظومة من الأساطير وحسا تاريخيا جديدا، وقد ظهر ذلك في لجوئهم إلى الفكرة الأفريقية كعنصر من عناصر موقفهم الأيديولوجي في إطار الجماليات السوداء.
وبغض النظر عن مدى توفيقهم في تنفيذ ذلك بصورة فنية، فإن تلك الفكرة لم تجد طريقها إلى وجدان الكثيرين من أفراد الشعب الأسود الأميركي، ولم تحدث الأثر الوجداني المنشود، صحيح أن ثمة نفرا قليلا من السود الأميركيين شجعوا البعد الأفريقي في النظرية الجمالية السوداء، لكنهم لم يكونوا من فقراء السود، ولا من الجماهير السوداء التي لم تحظ بأيّ قسط من التعليم، والتي تجهل أفريقيا تماما، ولا هم كانوا من الطبقة الوسطى الأميركية، التي لم تنشد سوى الاندماج في المجتمع الأميركي القائم.
الشعراء السود من جيل الستينات أخفقوا لأنهم حاولوا دمج السياسة والشعر في بنية واحدة عبر الوسيط الشعري
وهكذا يختلف النهج العقائدي والفني المتعسف لشعراء الستينات السود في الكثير من جوانبه عن نهج الزنوجة ومفهومها، والتي يرى دعاتها أن القيم الفنية ينبغي أن تنبثق من روح الشعب وواقعه، وأن للشعر والأدب وظائف عملية نفعية، ولئن كان من الصحيح أن الشعر الأسود في الستينات كان ملتزما بكفاح الزنوج الأميركيين من أجل التحرر القومي، فإن السؤال يظل مطروحا عن مدى تمثيل هذا الشعر لروح الأمة السوداء كلها، وعن مدى أدائه واجبه تجاه واقع الشعب الأسود الأميركي.
ويضيف جوهر “من الواضح إذن، أن الشعر الأسود في الستينات قد فشل في أداء دوره المزعوم عن الوصول بزنوج أميركا إلى بر الحرية والاستقلال، كما أخفق في مسعاه لأن يكون شعر الأمة الزنجية، حين أعرض الشعب الأسود عن نظرية الجماليات السوداء التي نظّر لها هؤلاء الشعراء، وقد أعلن أحد غلاة الداعين للجماليات السوداء، وهو الشاعر لروي جونز، فشل هذه النظرية في سبعينات القرن الماضي حين قرر في مقدمته لكتاب “حقائق صادمة” ما يلي “في البداية نهلت قصائدنا من بركان الوطنية الزنجية الذي كان في حالة فوران، وكانت قصائدنا ترسل حمم الغضب والصراخ في وجه البيض الأميركيين باعتبارهم الأعداء الأزليين للشعب الأسود والمسؤولين عمّا نعانيه من تمزق وقهر، وقد أفضت هذه النزعة الذاتية الغامضة إلى نهج لاعقلاني، إلى تصورات شديدة التجريد وأوهام متشنجة، راحت تشتبك مع حقائق الواقع الأميركي على الأرض، ومع نزعة وطنية رجعية متطرفة لم تكن تخدم سوى مصالح النخبة البيروقراطية السوداء الصاعدة والبورجوازية الصغيرة الصاعدة.
ويلفت إلى أن عقيدة القومية السوداء انطوت – فيما انطوت عليه- على التطلع إلى شعر وأدب يتناغم وينسجم مع المتطلبات الروحية والوجدانية والتاريخية للجماهير الزنجية الأميركية، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي سفن شعراء هذه الأيديولوجيا، فقد أخفقت أشعار جيل الستينات هذا في تحقيق آمال الشعب الأسود وتطلعاته، وعلى المستوى ذاته، عجز هذا الجيل عن إيقاظ وتحفيز وجدان وفكر وخيال الأمة الزنجية الأميركية إلا على نحو عابر وغير ذي بال، وحتى عندما أتاحت الظروف لشعراء من أمثال دون لي، وسونيا سانشيز، وراب براون، وجيرالد باراكس أن يلقوا أشعارهم من فوق خشبة المسرح، أو أن يرددوه إنشادا مصحوبا بأداء تعبيري، فإنهم أغرقوا في الأداء الميلودرامي والانفعالية الزائدة عوض القيام بفعاليات على الأرض تؤكد ما يدعون إليه نظريا وإبداعيا في ثنايا النظرية الجمالية السوداء، إضافة إلى كمّ الالتباس والإبهام الكبيرين اللذين اكتنفا أفكارهم حول ترك الفراغات على الصفحة المطبوعة، والتي طالما شكلت جزءا لا يتجزأ من التقنية الشعرية لديهم، باعتبار ذلك يمثل عاملا يساعد على تجديد الأصوات وإبرازها كأصوات متخلصة من طابعها المكتوب المقروء أو توسيع نطاق المعنى الذي يقصده الشاعر، كما لم تتمكن أشعارهم في أغلب الأحوال من تجسيد غايات النظرية الجمالية السوداء.
أسباب الفشل
صديق محمد جوهر: جيل الستينات من الشعراء السود أخفقوا في تحقيق مراميهم
يلاحظ جوهر أنه بالرغم من زعم الشعراء السود من جيل الستينيت بأن إحدى غاياتهم هي إبداع شعر “إنشادي ملتزم” عوض شعر الصنعة الشعرية المتكلفة، فإن من الصعوبة بمكان التعاطي النقدي مع أغلب هذا الشعر الذي لا يمكن الحكم عليه إلا في ضوء النظرية الجمالية السوداء وبعيدا عن أيّ تفاعل جماهيري واسع النطاق.
ولأنه شعر كتب بقصد تأديته أداء دراميا فوق خشبة المسرح، فقد كان الشعراء يلقون قصائدهم على وقع الطبول وإيقاعات موسيقى الجاز، ما جعل لهذا الشعر تأثيره البارز في الأداء المسرحي والموسيقي على المستوى الدرامي، لكنه كان يخلو من أيّ تقويم فكري متروّ لمحتواه أو لخصائصه التعبيرية والإيحائية، فالاتكاء على الاستجابة الانفعالية للجمهور وحدها هي إحدى وسائل التهرب من أيّ تقويم نقدي جاد وعميق، ولهذا فإن النظر إلى القصائد السوداء التي تمت كتابتها على نحو غير معهود شعريا، باعتبارها تفتقر إلى المواصفات الجمالية الفنية الحقيقية يجد سنده ومبرره القوي، لأن النقاد لا يمكنهم تناولها عبر الوسائط النقدية التحليلية التقليدية.
ويؤكد أن الأشعار الناطقة باسم النظرية الجمالية السوداء في عقد الستينات أخفقت في تحقيق التواصل والانتشار بين الجماهير السوداء في أميركا في حقبة السبعينات نظرا إلى تخبط أفكارها وتشوش قوالبها، وما إن تمت تسوية النزاع العنصري، وتم طي ملفه في الولايات المتحدة حتى فقد الشعر الأسود الستيني قدرته على التواصل إلا في نطاق نفر محدود من النخبة السوداء، ولكن ذلك لا يعني أن هذا الضرب من الشعر كان هو الشعر الأوحد المهيمن على الصعيد الشعري الأميركي الأسود في عقد الستينات من القرن العشرين.
إن ولع شعراء سود من أمثال دون لي، جيوڤاني، سانشيز، باستخدام أشكال شعرية مبتدعة، وبنيات لغوية مستحدثة، ونماذج ترتيب لغوي غير مألوفة، وتعابير بذيئة، وأنماط من الترقيم والإيقاعات المستوحاة من الموسيقى الزنجية الأميركية، فضلا عن تنصلهم من الرموز التقليدية واستخدامهم الهزلي الهازئ لأبطال الموروث الشعبي الزنجي الأميركي، كل ذلك أفضى إلى تعقيد أشعارهم وإلغازها، ما جعل الجمهور الزنجي يعرض عنها.
لقد كان لاستخدام أولئك الشعراء قوالب شعرية غريبة غير معهودة وصورا غير مألوفة ورموزا غريبة وتقنيات شعرية مبتدعة – علاوة على موقف هذا الشعر العدائي تجاه شرائح بعينها من المجتمع الزنجي الأميركي – كبير الأثر في انصراف متذوقي الشعر بين المتعلمين السود عن شعراء الجماليات السوداء، ومن هنا يحتج لروي جونز في مقدمته لكتاب “حقائق صادمة”، فيرى أن أولئك السود المتعلمين الذين تشبعوا بالأشكال التقليدية للشعر، هم أحوج الناس للارتقاء بذائقتهم الشعرية، ويضيف لروي إلى ذلك قوله “لقد حان الوقت لتلقي فن أشد تأثيرا وأكثر نفاذا والتزاما بالجماهير الشعبية الإنسانية العريضة”.
يلفت جوهر إلى أن الجماهير العريضة الزنجية التي تلقت أدنى قدر من التعليم لا تقرأ الشعر عادة، ولكنها تقبل على مشاهدة برامج الإعلام التلفزيونية عوض قراءة الأعمال الأدبية. إضافة إلى إخفاقهم المنهجي في توظيف الأفكار والرموز والأساليب التي تقنع الطبقة الوسطى السوداء وترتبط بعالمها، فإن شعراء الجماليات السوداء الستينيين أبدعوا نتاجا شعريا مشوشا مختلطا شكلا وموضوعا، فلا هو اتصل برجل الشارع الزنجي العادي، ولا هو أثّر في وجدان الذين هم في أمسّ الحاجة “للارتقاء بذائقتهم الزنجية”، من متعلمي الطبقة الوسطى، وعلى الصعيد العقائدي الفكري، توصل بعض الشعراء الستينيين، ممن تنصلوا في حقبة السبعينات من مواقفهم السياسية والفنية السابقة من أمثال دون لي، ونيكي جيوڤاني، وسونيا سانشيز إلى ضرورة تغيير مواقفهم السياسية والفنية.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
الشعر الأسود في الستينات لم يحرر زنوج أميركا.
الأربعاء 2024/06/12
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الشعر والفنون أخفقا في دفع الجماهير نحو التغيير
انتهى صراع الأدباء الزنوج ذوي الأصول الأفريقية مع الحكومة الأميركية إبان الستينات من القرن الماضي في سبيل الحصول على حقوقهم المشروعة في ظل نظام عنصري بغيض، بفشل المشروع النضالي الزنجي، لأن الزنوج المدافعين عن حقوقهم لم يتوحدوا ولم يتقنوا أساليب إدارة الصراع مع عدو شرس اعتاد خوض المعارك على كافة المستويات وتفنن في إدارة الصراعات بشكل حرفي.
عوامل عديدة أفضت إلى انهيار المشروع النضالي الزنجي المناوئ للسياسات العنصرية الأميركية ضد الزنوج، وأدى إلى الموافقة على الشروط التي وضعها الرجل الأبيض للمصالحة بين الطرفين.
هذا الكتاب “تمرد زنوج الجيتو على رعاة البقر.. ” الصادر أخيرا عن دار الجديد بالقاهرة للناقد والأكاديمي صديق محمد جوهر يناقش هذا الصراع وهذا المشروع الزنجي المناهض للعنصرية والطامح إلى تحقيق العدالة، وذلك الذي يستجلي فيه الجوانب المختلفة في شكل الشعر الثوري ومحتواه لدى كوكبة من كبار الشعراء الزنوج الأميركيين – الذين قادوا حركة التمرد والاحتجاج الثوري ضد الحكومة الأميركية – إضافة إلى أدباء آخرين شاركوا في حركة التمرد على السياسات الأميركية العنصرية المناهضة للزنوج إبان حقبة الستينات من القرن الماضي.
إخفاق الشعراء السود
المشروع الزنجي المناهض للعنصرية والطامح إلى تحقيق العدالة
يؤكد جوهر أن جهود جيل شعراء الستينات السود آلت إلى نهاية جدباء، فلا هم بلغوا غاياتهم السياسية، ولا هم حققوا جماهيرية وشعبية عريضة، نظرا إلى اعتمادهم على الشفرات السرية الأيديولوجية المستغلقة على الجمهور الزنجي، وعلى الخطاب الحماسي الملتهب، والأفكار العاطفية عوض التصوير والتعبير الفني ذي الأسس الجمالية.
وبالرغم من الفشل الذي منيت به جهودهم على الأصعدة الجمالية والأيديولوجية والمنهجية كحاملي ألوية النظرية الجمالية السوداء، فإن هذا القصور ذاته ساعد على بيان العلاقة بين الشعر والسياسة، وبات جليا أنه من الصعوبة بمكان توظيف الشعر لخدمة غايات سياسية حين تحتضن أطره الفنية صورا وأفكارا تنم عن عنصرية وكراهية وبذاءة لا تعكس نظرة إنسانية متوازنة، فلقد أخفق جيل الستينيات من الشعراء السود في تشكيل وعي جماهيري زنجي/أفروأميريكي جديد حين اعتمدوا مفهوما دعائيا فجا للفن والشعر، وحين أسقطوا من حسابهم التطلعات والأماني الشخصية لأفراد الشعب الزنجي الأميركي، وحين تجاهلوا العوامل التاريخية التي تحكم تطور مجتمع الزنوج الأميركيين.
ويوضح “لأنهم شعراء هواة، فقد وقعوا في وهم أن الشعر كفيل بتغيير المجتمع، غافلين عن كون السياسة هي العامل الحاسم في أيّ تغيير مجتمعي، فعجزوا عن ضفر الشعر والسياسة في جديلة واحدة تعبّر عن الوعي الجمعي الزنجي الأميركي، ويدل هذا الفشل في تحقيق أهدافهم السياسية على أن الشعر والفنون الأخرى ليست الوسائل الناجعة في دفع الجماهير نحو التغيير في مجتمع تظل فيه الغلبة للكثير والكثير من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، ولأنهم ألحوا على طرح المشكلات المتعلقة بالعلاقة بين السياسة والفن عوض طرح موضوع الفن/الشعر والسياسة، فإنهم أخفقوا في النفاذ الحقيقي إلى أعماق الوجدان والفكر، على مستوى الجماعة الزنجية الأميركية بما تنطوي عليه طبقات هذا الوجدان من قلق وتوتر وعواطف ومعاناة وإحباطات”.
كما أن هؤلاء الشعراء فشلوا في نقل خبرات السود الأميركيين عبر لغة السود، وهي اللغة التي تصفها ساره ويبستر فابيو على النحو التالي “إنها لغة تقيم تواصلا مباشرا مبدعا كيّسا بين الجماعة السوداء تقوم على الواقع المشترك والوعي المشترك والتفهم المشترك بما يولد التفاعل الاجتماعي، وهي تعطي أولوية مطلقة للتعبير بالصور والأحوال المزاجية على تنوعها، تلكم الخصائص الأسلوبية المتبلورة، في لهجة ذات رؤية اندماجية لا تفرق بين لون ولون من ألوان البشر، وهي قرينة معرفة صادرة من اقتران الأحاسيس بحقائق الواقع المعاش”.
ويرى جوهر أنه “على خلاف الشعراء الأفروأميركيين/السود في عشرينات القرن الماضي الذين أخذوا الشعر مأخذ الجد، عجز شعراء نظرية الجماليات السوداء – في الستينات- عن إبداع شعر ذي قيمة وبال بالنسبة إلى الزنوج الأميركيين، ولمّا كان هؤلاء الشعراء قد أخفقوا في الإفادة من الخبرات التاريخية والاجتماعية والنفسية الأصيلة للشعب الأسود في كليتها في أميركا البيضاء، وحصروا نظرتهم في الجوانب السلبية القاتمة منها، فقد عوّضوا ذلك بمحاولة توصيل شعرهم إلى هذا النفر القليل ممن آمنوا بثورية النظرية الجمالية السوداء، وقدرتها على التغيير الاجتماعي والسياسي”.
النهج العقائدي والفني المتعسف لشعراء الستينات السود يختلف في الكثير من جوانبه عن نهج الزنوجة ومفهومها
ويرى أن حصر الخبرة الاجتماعية والتاريخية والنفسية للسود في هذا الحيز الضيق، وعلى هذا النحو المغلق، لم يسمح بتأسيس جماليات فنية ذات بال تقنع معشر السود ومعهم البشرية كلها وتغريهم على تذوقها وتبنيها خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون في مجتمعات متعددة الأعراق والألوان والثقافات.
ويتابع “هذا ما أدى إلى مجيء إبداعهم لنصوص شعرية خارج السياقات السياسية والعرقية المعيشة، محاولة منهم لتأسيس هوية قومية سوداء إيجابية، وتوظيفا للفن كأداة لإعادة تنظيم الوعي الاجتماعي للسود وترتيبه، إلا أن افتقارهم للآليات الفنية الصحيحة التي من شأنها تمكينهم من النفاذ إلى قلب الموروث الثقافي الفريد للجماعة الأميركية السوداء، وإعادة اكتشاف ما فيها من ثراء وتنوع وكذا انكبابهم الملحوظ على النهج السياسي الداعي لانفصال السود عن أميركا البيضاء كقومية سوداء مستقلة، آل بهم إلى العجز الظاهر عن تنمية وتطوير نماذج شعرية فاعلة تعبر تعبيرا صادقا عن أعمق نوازع وتطلعات الشعب الأسود الأميركي، وهكذا يبرهن إخفاق الشعراء السود من جيل الستينات في إبداع شعر يجسد التطلعات الروحية للشعب الأسود الأميركي، شعر قادر على تبرير نظريتهم الجمالية السوداء، على أن الشعر – والفنون جميعها – في حاجة إلى ذلك التوازن الدقيق بين الشكل والمحتوى”.
يشير جوهر إلى أن جيل الستينات من الشعراء السود، الذين اعتمدوا النظرية الجمالية السوداء كإطار مرجعي نظري لأشعارهم، قد أخفقوا في تحقيق مراميهم، لأنهم حاولوا دمج السياسة والشعر في بنية واحدة عبر الوسيط الشعري، ومن ثم تراجع حسهم الإبداعي، وتحول ذلك الحس بصورة تثير السخرية إلى حس شخصي ضيّق عوض أن يكون حسا ذا أفق إنساني اجتماعي شامل بسبب اتكائهم على نسق أيديولوجي يفرض على المجتمع الأسود منظومة من الأساطير وحسا تاريخيا جديدا، وقد ظهر ذلك في لجوئهم إلى الفكرة الأفريقية كعنصر من عناصر موقفهم الأيديولوجي في إطار الجماليات السوداء.
وبغض النظر عن مدى توفيقهم في تنفيذ ذلك بصورة فنية، فإن تلك الفكرة لم تجد طريقها إلى وجدان الكثيرين من أفراد الشعب الأسود الأميركي، ولم تحدث الأثر الوجداني المنشود، صحيح أن ثمة نفرا قليلا من السود الأميركيين شجعوا البعد الأفريقي في النظرية الجمالية السوداء، لكنهم لم يكونوا من فقراء السود، ولا من الجماهير السوداء التي لم تحظ بأيّ قسط من التعليم، والتي تجهل أفريقيا تماما، ولا هم كانوا من الطبقة الوسطى الأميركية، التي لم تنشد سوى الاندماج في المجتمع الأميركي القائم.
الشعراء السود من جيل الستينات أخفقوا لأنهم حاولوا دمج السياسة والشعر في بنية واحدة عبر الوسيط الشعري
وهكذا يختلف النهج العقائدي والفني المتعسف لشعراء الستينات السود في الكثير من جوانبه عن نهج الزنوجة ومفهومها، والتي يرى دعاتها أن القيم الفنية ينبغي أن تنبثق من روح الشعب وواقعه، وأن للشعر والأدب وظائف عملية نفعية، ولئن كان من الصحيح أن الشعر الأسود في الستينات كان ملتزما بكفاح الزنوج الأميركيين من أجل التحرر القومي، فإن السؤال يظل مطروحا عن مدى تمثيل هذا الشعر لروح الأمة السوداء كلها، وعن مدى أدائه واجبه تجاه واقع الشعب الأسود الأميركي.
ويضيف جوهر “من الواضح إذن، أن الشعر الأسود في الستينات قد فشل في أداء دوره المزعوم عن الوصول بزنوج أميركا إلى بر الحرية والاستقلال، كما أخفق في مسعاه لأن يكون شعر الأمة الزنجية، حين أعرض الشعب الأسود عن نظرية الجماليات السوداء التي نظّر لها هؤلاء الشعراء، وقد أعلن أحد غلاة الداعين للجماليات السوداء، وهو الشاعر لروي جونز، فشل هذه النظرية في سبعينات القرن الماضي حين قرر في مقدمته لكتاب “حقائق صادمة” ما يلي “في البداية نهلت قصائدنا من بركان الوطنية الزنجية الذي كان في حالة فوران، وكانت قصائدنا ترسل حمم الغضب والصراخ في وجه البيض الأميركيين باعتبارهم الأعداء الأزليين للشعب الأسود والمسؤولين عمّا نعانيه من تمزق وقهر، وقد أفضت هذه النزعة الذاتية الغامضة إلى نهج لاعقلاني، إلى تصورات شديدة التجريد وأوهام متشنجة، راحت تشتبك مع حقائق الواقع الأميركي على الأرض، ومع نزعة وطنية رجعية متطرفة لم تكن تخدم سوى مصالح النخبة البيروقراطية السوداء الصاعدة والبورجوازية الصغيرة الصاعدة.
ويلفت إلى أن عقيدة القومية السوداء انطوت – فيما انطوت عليه- على التطلع إلى شعر وأدب يتناغم وينسجم مع المتطلبات الروحية والوجدانية والتاريخية للجماهير الزنجية الأميركية، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي سفن شعراء هذه الأيديولوجيا، فقد أخفقت أشعار جيل الستينات هذا في تحقيق آمال الشعب الأسود وتطلعاته، وعلى المستوى ذاته، عجز هذا الجيل عن إيقاظ وتحفيز وجدان وفكر وخيال الأمة الزنجية الأميركية إلا على نحو عابر وغير ذي بال، وحتى عندما أتاحت الظروف لشعراء من أمثال دون لي، وسونيا سانشيز، وراب براون، وجيرالد باراكس أن يلقوا أشعارهم من فوق خشبة المسرح، أو أن يرددوه إنشادا مصحوبا بأداء تعبيري، فإنهم أغرقوا في الأداء الميلودرامي والانفعالية الزائدة عوض القيام بفعاليات على الأرض تؤكد ما يدعون إليه نظريا وإبداعيا في ثنايا النظرية الجمالية السوداء، إضافة إلى كمّ الالتباس والإبهام الكبيرين اللذين اكتنفا أفكارهم حول ترك الفراغات على الصفحة المطبوعة، والتي طالما شكلت جزءا لا يتجزأ من التقنية الشعرية لديهم، باعتبار ذلك يمثل عاملا يساعد على تجديد الأصوات وإبرازها كأصوات متخلصة من طابعها المكتوب المقروء أو توسيع نطاق المعنى الذي يقصده الشاعر، كما لم تتمكن أشعارهم في أغلب الأحوال من تجسيد غايات النظرية الجمالية السوداء.
أسباب الفشل
صديق محمد جوهر: جيل الستينات من الشعراء السود أخفقوا في تحقيق مراميهم
يلاحظ جوهر أنه بالرغم من زعم الشعراء السود من جيل الستينيت بأن إحدى غاياتهم هي إبداع شعر “إنشادي ملتزم” عوض شعر الصنعة الشعرية المتكلفة، فإن من الصعوبة بمكان التعاطي النقدي مع أغلب هذا الشعر الذي لا يمكن الحكم عليه إلا في ضوء النظرية الجمالية السوداء وبعيدا عن أيّ تفاعل جماهيري واسع النطاق.
ولأنه شعر كتب بقصد تأديته أداء دراميا فوق خشبة المسرح، فقد كان الشعراء يلقون قصائدهم على وقع الطبول وإيقاعات موسيقى الجاز، ما جعل لهذا الشعر تأثيره البارز في الأداء المسرحي والموسيقي على المستوى الدرامي، لكنه كان يخلو من أيّ تقويم فكري متروّ لمحتواه أو لخصائصه التعبيرية والإيحائية، فالاتكاء على الاستجابة الانفعالية للجمهور وحدها هي إحدى وسائل التهرب من أيّ تقويم نقدي جاد وعميق، ولهذا فإن النظر إلى القصائد السوداء التي تمت كتابتها على نحو غير معهود شعريا، باعتبارها تفتقر إلى المواصفات الجمالية الفنية الحقيقية يجد سنده ومبرره القوي، لأن النقاد لا يمكنهم تناولها عبر الوسائط النقدية التحليلية التقليدية.
ويؤكد أن الأشعار الناطقة باسم النظرية الجمالية السوداء في عقد الستينات أخفقت في تحقيق التواصل والانتشار بين الجماهير السوداء في أميركا في حقبة السبعينات نظرا إلى تخبط أفكارها وتشوش قوالبها، وما إن تمت تسوية النزاع العنصري، وتم طي ملفه في الولايات المتحدة حتى فقد الشعر الأسود الستيني قدرته على التواصل إلا في نطاق نفر محدود من النخبة السوداء، ولكن ذلك لا يعني أن هذا الضرب من الشعر كان هو الشعر الأوحد المهيمن على الصعيد الشعري الأميركي الأسود في عقد الستينات من القرن العشرين.
إن ولع شعراء سود من أمثال دون لي، جيوڤاني، سانشيز، باستخدام أشكال شعرية مبتدعة، وبنيات لغوية مستحدثة، ونماذج ترتيب لغوي غير مألوفة، وتعابير بذيئة، وأنماط من الترقيم والإيقاعات المستوحاة من الموسيقى الزنجية الأميركية، فضلا عن تنصلهم من الرموز التقليدية واستخدامهم الهزلي الهازئ لأبطال الموروث الشعبي الزنجي الأميركي، كل ذلك أفضى إلى تعقيد أشعارهم وإلغازها، ما جعل الجمهور الزنجي يعرض عنها.
لقد كان لاستخدام أولئك الشعراء قوالب شعرية غريبة غير معهودة وصورا غير مألوفة ورموزا غريبة وتقنيات شعرية مبتدعة – علاوة على موقف هذا الشعر العدائي تجاه شرائح بعينها من المجتمع الزنجي الأميركي – كبير الأثر في انصراف متذوقي الشعر بين المتعلمين السود عن شعراء الجماليات السوداء، ومن هنا يحتج لروي جونز في مقدمته لكتاب “حقائق صادمة”، فيرى أن أولئك السود المتعلمين الذين تشبعوا بالأشكال التقليدية للشعر، هم أحوج الناس للارتقاء بذائقتهم الشعرية، ويضيف لروي إلى ذلك قوله “لقد حان الوقت لتلقي فن أشد تأثيرا وأكثر نفاذا والتزاما بالجماهير الشعبية الإنسانية العريضة”.
يلفت جوهر إلى أن الجماهير العريضة الزنجية التي تلقت أدنى قدر من التعليم لا تقرأ الشعر عادة، ولكنها تقبل على مشاهدة برامج الإعلام التلفزيونية عوض قراءة الأعمال الأدبية. إضافة إلى إخفاقهم المنهجي في توظيف الأفكار والرموز والأساليب التي تقنع الطبقة الوسطى السوداء وترتبط بعالمها، فإن شعراء الجماليات السوداء الستينيين أبدعوا نتاجا شعريا مشوشا مختلطا شكلا وموضوعا، فلا هو اتصل برجل الشارع الزنجي العادي، ولا هو أثّر في وجدان الذين هم في أمسّ الحاجة “للارتقاء بذائقتهم الزنجية”، من متعلمي الطبقة الوسطى، وعلى الصعيد العقائدي الفكري، توصل بعض الشعراء الستينيين، ممن تنصلوا في حقبة السبعينات من مواقفهم السياسية والفنية السابقة من أمثال دون لي، ونيكي جيوڤاني، وسونيا سانشيز إلى ضرورة تغيير مواقفهم السياسية والفنية.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري