وعي الكتابة الروائية وتحولاتها في رواية «الكوخ
عبدالرقيب مرزاح
بعد سنوات عدة من إصدار روايتها «يا مالكًا قلبي» تطل الروائية اليمنية سهير علوي على المشهد الثقافي برواية مالكا قلبي» في سياق تحول فكري، وذهني للشخصية «سارة» بعد الإخفاق المدوي في تجربة عاطفية ساخنة، أعطت لأجلها كل شيء، ولم تنل منها سوى الخذلان والخيبة، وهذا الاستنتاج لن يتوصل إليه القارئ العادي بسهولة، إلا من تمكن من قراءة الروايتين تباعا، وإلا فإنه قد يغدو من الصعب عليه اكتشاف ذلك، غير أن ذلك لن يشكل عائقا حقيقيا أمام القراء، قد يحرمهم من قراءة رواية «الكوخ» بمعزل عن الرواية الأولى «يا مالكا قلبي» وذلك لسبب بسيط يرجع إلى أن الكاتبة رغم حرصها الشديد على تدعيم روابط الروايتين من حيث تطور الأحداث ونمو الشخصيات وتنامي الصراع في بناء متتابع، وتحول القناعات، إلا أنها سعت في المقابل إلى إيجاد إطار خارجي محكم، وبتشييد بناء هندسي يتصل ببناء روايتها «يا مالكا قلبي» وينفصل عنه في الآن ذاته، وبوعي بنائي يمكّن القراء من قراءة رواية «الكوخ» بمعزل تام عن روايتها «يا مالكا قلبي». وقد استعانت في سبيل تحقيق ذلك، بجملة من التقنيات والوسائط، ولعل من أهمها، البداية الساخنة للحدث، التي تجذب القارئ وتشده إلى عمق الأحداث الآتية مع تهيئة مبطنة تحفزه لاستيعاب كل التحولات المعلنة والمضمرة على حد سواء.
إذن سيكون القارئ وجها لوجه أمام شخصية «سارة» في حدث ساخن، تهرب فيه «سارة» ليلا من قرية ريفية في أقاصي اليمن، بعد معرفتها بارتباط زوجها «عمر» بامرأة أخرى، نزولا عند رغبة والدته المتسلطة التي لم تقبل منذ البدايات بفكرة زواج ابنها من فتاة شيعية، مشهد الهروب الليلي في زمن الاحتراب، لفتاة غريبة عن المكان وحامل في الوقت نفسه، تريد قطع مسافات جبلية وعرة، حتى تصل إلى عدن، ومن ثم السفر إلى تركيا، كفيل بزج القارئ في أحداث رواية «الكوخ» وإغرائه للانسياق وراء أحداثها المتصاعدة حتى النهاية.
«الكوخ» رواية ذهنية:
يمكنني القول إن رواية « الكوخ» رواية ذهنية، تقدم كاتبتها الروائية سهير علوي، فكرة ذهنية تؤمن بها، وتريد أن يؤمن الآخرون بها، ولذا سعت للتعبير عنها في قالب روائي، تكون هذه الفكرة الذهنية النسوية، هي مغزاها ومضمونها أوالهدف الرئيسي الذي تشير إليه، أو تحاول تسريب قيمها عبر أنساق مختلفة.
مغزى الخطاب الروائي
يهدف الخطاب الروائي المتصاعد في رواية «الكوخ» إلى تعزيز قيم الانتصار لقضايا المرأة، وتحفيز إرادتها الكامنة، بقصد البحث المبكر عن الذات والتحرر من قبضة الذل المفروضة عليها، من خلال خطاب المجتمعات الذكورية المتسلطة، كما يحرض خطاب الرواية المرأة من أجل الانعتاق الكلي من مظاهر التسلط الذكوري، المتمثلة في العادات والتقاليد القمعية لإرادة المرأة التي تفرض عليها قيودا ثقيلة لا نهائية. يتخذ خطاب الرواية منحى رافضا للخطاب الذكوري، ابتداء من استقلالية قرار الشخصية الرئيسية/ سارة إذ تقول: « أصبحت الآن امرأة حرة، ببساطة لأني تخليت عن الحب بكامل إرادتي، أعلنت حريتي، من قبضة الذل، محلقة صوب عالم الحرية.. لا أريد العودة إلى عائلتي، لأنني لا أستحق أن أكون ابنتهم، ولا أريد العودة إلى عمر، لأنه لا يستحقني». أو من خلال علاقة الشخصية الرئيسية مع الشخصيات النسوية في الرواية كـ» أمل ـ صوفيا» ، إذ تظهر «سارة» تعاطفا جادا مع «أمل» الفتاة السورية التي خسرت أهلها في الحرب السورية، ما اضطرها للهجرة إلى تركيا، ومن ثم فقدانها للعمل في صالون صوفيا؛ بسبب تغيب «سارة» عن القيام بالمهمة، ما أدى إلى الاستغناء عن خدمتهن في صالون صوفيا، ومن ثم العمل على تحقيق حلم «أمل» بالهجرة إلى أوروبا إيمانا بضرورة البدء بحياة جديدة منقطعة الصلة عن الماضي، أو من خلال تفهم ما يظهره خطاب الرواية من مؤشرات الشك والارتياب الناجمة عن علاقة الشخصية الرئيسية بالشخصيات الذكورية في الرواية مع كل من «معين ـ متين ـ ناجي ـ أبوالريف ـ عمر».
التحول في الأحداث الروائية وزمانها:
الحدث: هو جملة المواقف والانكسارات والانتصارات المتعاقبة التي تتكون منها الرواية، تتجلى وفق أركانها الثلاثة بداية، ووسط، ونهاية، فالأحداث في رواية «الكوخ» هي سلسلة من الوقائع المسرودة سردا فنيا مقنعا ومتعاقبا يتجلى ارتباطها بالشخصيات على هيئة ارتباط العلة بالمعلول، أو السبب بالنتيجة، ومن أجل ذلك فقد استعانت الكاتبة بالسرد للانتقال بالأحداث في الرواية من صورتها الواقعية إلى صورتها اللغوية. وقد أسهم الحدث في رسم الشخصيات في الرواية، من حيث رصد مشاعرها وانفعالاتها رسما دقيقا، وترابطت الأحداث وتنوعت ما أكسب الرواية حيوية، الأمر الذي مكنها من أن تخوض بالقراء في قراءة الرواية، كما لم تظهر معايير معينة، أو أشكال محددة، تقيد بناء الحدث في الرواية، فقد كان للكاتبة مطلق الحرية في اختيار الحدث، الذي تبدأ تحركاتها منه، أو الأحداث التي تعمل على استدعائها من أجل خدمة مقصد معين تريده في سبيل الدفع بأحداث الرواية إلى الأمام.
تستخدم الروائية سهير علوي الزمن الماضي والحاضر في روايتها من خلال المزاوجة بين الزمنين، وبما أن نظام الزمن الخطاب لا يمكن أن يكون موازيا تماما لزمن المحكي «زمن المتخيل» نظرا للاختلافات بين الزمنين من جهة طبيعتهما، فإنها تلجأ بالضرورة إلى خلق نوع من التصرف في «ما قبل» و»ما بعد» فاستحالة التوازي تدفع الكاتبة إلى الخلط الزمني، الذي تميز فيه بين نوعين رئيسيين «الاسترجاع والاستباق» بمعنى أننا سنكون أمام نوعين من الزمن، زمن يمضي بنا خطيا إلى الأمام، ويتمثل في الحاضر والمستقبل، وزمن يعود بنا إلى الوراء زمن الذاكرة، حسب تعبير ميشال بيتور.
الشخصيات الروائية: دوافع وغايات تحولها
تعد الشخصيات واحدة من أهم عناصر العمل الروائي، من حيث مساهمتها في صياغة الأحداث ونموها، وعادة ما يرتبط وجودها وعددها بموضوع الرواية، وتعرف الشخصية بأنها «الكيان الإنساني الذي يتحرك في سياق الأحداث». ويمكننا القول إن «الشخصيات هي المشجب الذي تعلق عليه كل تفاصيل العناصر الأخرى، وهي التي تبث عنصر الحركة والحيوية في مسار الحدث». وتستمد الروائية شخصياتها، أو بعضا منها من الواقع المعيش، وتنجح في ذلك إلى حد إقناعنا بأن عالمها عالم حقيقي، وأرضها صلبة وبشرها من لحم ودم، ومن هنا فقد تنوعت شخصياتها الروائية بين:
ـ الشخصية الرئيسية المحورية وهي تلك الشخصيات التي يتحرك بها ومعها الكاتب، حتى يبرز غايته من العمل الروائي، كما أنها هي من تقوم ببناء الحدث، وتتولى وظيفة السرد، وهذه الشخصيات في رواية الكوخ هي: «سارة ـ معين ـ أمل».
ـ الشخصية الثانوية، وهي التي تظهر في مرحلة من مراحل التطور الروائي، ثم يتخلى عنها بعد أداء دورها، وهي التي تخدم الشخصية/ الشخصيات الرئيسية، ويمكن تحديد هذه الشخصيات في رواية الكوخ بـ»معين ـ ناجي ـ صوفيا ـ عمرـ أبو الريف».
وقد تظهر الشخصيات على توزيع آخر، من حيث تكوينها فتكون على النحو الآتي:
ـ الشخصيات النامية المتطورة، لا تظهر للقارئ من أول وهلة، لكنها تنمو وتتطور بنمو الأحداث.. ميزتها في صراع دائم سواء مع الآخرين أو مع الذات.. تفاعلها دائم مع الأحداث.
ـ الشخصيات المسطحة، تقوم هذه الشخصيات حول فكرة واحدة معينة، تظهر في كل مواقف الرواية في صورة واحدة لا تتغير، لا تؤثر فيها الحوادث، ولا تكاد طبيعتها تتغير من بداية الرواية إلى آخرها، أي لا تأخذ منها شيئا ولا تعطيها أو تزيدها
****&&&&*****
وقد تتأثر هذه الشخصيات الروائية التي تستخدمها الكاتبة، بمجموعة كبيرة من التغيرات الإيجابية أو السلبية، ما يجعلها عرضة للتحول على المستويين الشخصي والدرامي. فما مصير الشخصية داخل القراءة؟ أو كيف يقاربها القارئ ولأي غاية؟ وللإجابة على السؤال السابق، سنقوم برصد تحولات الشخصيات الروائية، مع إيضاح دوافعها وغايات تحولها.
ـ تحول الشخصية المحورية «سارة» من فتاة حالمة عاشقة تؤمن بالقلب والحب، إلى فتاة صارمة جادة تكفر بالمشاعر والمال والرجال، ومن فتاة تضحي بكل شيء في سبيل الحب، إلى شخصية ربوبية تعتني بنفسها وتكفر بكل ما هو بشري، كما في حوارها مع متين، وحين نتأمل دوافع ذلك التحول، سنجد أن من أهم أسبابه محاولة الاستقلال بالنفس طلبا للحرية، وهربا من قبضة الذل ومصادرة الشخصيات المتسلطة المتمثلة في تسلط فريدة/ أم عمر، وتجاهل عمر وضعفه في الآن ذاته.
ـ تحول الشخصية الثانوية «معين» من طور الشاب الوديع المتعاون، إلى شخصية العدائي المتسلط، الذي يسعى إلى التضييق على «سارة» وفرض وصاية ذكورية على تحركاتها، وليس بخاف أن دوافع هذا التحول دوافع داخلية، تأتي من الأنانية وحب الاستغلال، بقصد التقرب من سارة واستمالتها إليه.
ـ تحول الشخصية الثانوية «ناجي» الشخصية البوهيمية والمضطربة التي تفرض نفسها في علاقات آنية، وتسقط وراء مشاعرها اللحظية، وتحولها إلى شخصية القاتل، يقتل رجلا يتحرش بزوجته التي يدعي أنه لا يحبها.
ـ تحول الشخصية الثانوية «صوفيا» من سيدة لطيفة ومتعاونة إلى شخصية متسلطة وقمعية، لا تغفر أخطاء الآخرين ولا تتفهم ظروفهم، ودوافع هذا التحول التفكير بالمصلحة وحب الاستزادة.
ـ تحول الشخصية الرئيسية «أمل» من فتاة صامتة وهادئة، تعمل بصمت ولا تثير الضجيج، إلى شخصية معدمة وقلقة عديمة الحيلة، تبحث عن كتف تستند إليه وتستعين به من أجل تحقيق حلمها في الهجرة إلى البلاد الأوروبية.
ـ تحول الشخصية الثانوية «عمر» من شخصية المحب الضعيف المصر على استرجاع «سارة» إلى شخصية المتخاذل المستجيب لتنفيذ كل ما يملى عليه، ولعل دوافع ذلك تأكده من فقدان «سارة» للجنين في ظروف صحية طارئه.
ـ تحول الشخصية الرئيسية «متين» من شخصية العاشق المغامر إلى شخصية العاشق المبادر، وتتجلى دوافع تحوله دوافع ذاتية داخلية تدفعه من أجل الاحتفاظ بـ»سارة». وإقناعها بالزواج منه.
المكان والفضاء الروائي
يعد المكان عنصرا أساسيا وفعالا في العمل السردي الروائي، بل يراه الكثير الهيكل الذي تقوم عليه باقي العناصر السردية التي يحملها ويشكل وجودها، رئيسيا كان أم ثانويا، فيقدم الكاتب للمتلقي أحداثا زمنية وشخوصا مشكلة للعمل وغيرها من العناصر التي يبنيها الهيكل، ويحدث وجودها.
ومن المعلوم أن المكان الروائي غير الفضاء الروائي، وللنقاد طرائق شتى في التفريق بينهما، وضبط العلاقة الممتدة بينهما، فالمكان ينفتح على مجال تخييلي مقيد، بينما الفضاء الروائي يتسع إلى حد تتبع مسار الشخصيات في تنقلاتها من مكان إلى آخر، بواسطة الفضاء الروائي نستطيع رصد علاقة الأمكنة ببعضها بعضا وعلاقتها ببقية عناصر الرواية.
فالمكان في الرواية هو»الكوخ» المأوى الأخير الذي تلجأ إليه «سارة» بعد اتخاذ قرارها في التحرر من قبضة الذل والتسلط المفروض عليها، مقررة عدم العودة إلى عائلتها، وكذلك عدم الرجوع إلى «عمر» لأنه ببساطة لا يستحقها ولا يستحق أدنى تضحياتها، و»الكوخ» هو المكان ذاته الذي تزوجت فيه «سارة» من «عمر» أثناء دراسته في تركيا، فالحديث عن «المكان/ الكوخ» محدود في الرواية، ويفترض دائما توقفا زمنيا لسيرورة الحدث، وبهذا يلتقي وصف المكان مع الانقطاع الزمني، والزمن العائد بنا إلى الوراء وهو زمن الذاكرة.
أما الفضاء الروائي، فهو مجموع الأمكنة التي تتنقل فيها «سارة» وتتوالى فيها الأحداث، ويفترض دائما تصور الحركة داخله، أي يفترض الاستمرارية الزمنية، وفيه يمضي بنا الزمن خطيا إلى الأمام، ويتمثل في الحاضر والمستقبل، ويتسع الفضاء الروائي باتساع مجموع الأمكنة التي دارت فيها الأحداث، منها أماكن مفتوحة كـ»أحياء تركيا ـ أسواقها ـ معالمها ـ الشاطئ ـ الحقول الخضراء ـ جداول المياه» أو أماكن مغلقة كـ»صالون صوفيا للتجميل، مزرعة متين، حافلات النقل الجماعي، ونزل أبي الريف، معرض بيع الأزياء النسائية» وبالإمكان رصد العلاقات الممتدة بين مجموع هذه الأمكنة.
كاتب يمني