أرزاق
قصة قصيرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ ثلاثة أيام ولم يظهر جاد الله الشحاذ على ناصية الشارع حيث اعتاد أن يجلس فاردا ساقه الوحيد ومادا يده للرائح والغادي وملاحقا المارة بنداءاته التي لا تتوقف عسى أن يحسنوا إليه.
اصابه مرض هد حيله فجأة وأقعده في البيت، فظل يهري وينكد في نفسه منتظرا اليوم الذي يخف فيه من المرض ليعود إلى الشحاتة والكسب.
وكان يتخانق مع مراته وعياله في اليوم أربعين خناقة من ضيقته، يسألهم عن الفطار فينظروا له لائمين على السؤال، ويظلون جميعا بلا فطار أو غداء أو عشاء فيدب بيده على المرتبة في عجز وغضب.
طلبت منه بنته تذهب هي وأمها مكانه، إلا أنه رفض وبشدة. وقال في غضب: وأفرضي حد من زمايلك في الجامعة شافك يبقى حالك عامل أزاي بقى وقتها؟ يلا في داهية الأكل، هما يعني اللي ما أكلوش ماتوا؟
وأبتعد بعينيه عنهم.. وظل يفكر في الأولاد.. إنهم يجب أن يأكلوا.. يتقوتوا.. عندهم دراسة.. ولابد تكون معدتهم مليانة، المخ يشتغل لما المعدة تكون شبعانة. هكذا يعرف وهو الذي لم يتعلم..
وفكر أن ينزل رغم التعب، لكن التعب هذه المرة فعلا شديد. والحركة نفسها مؤلمة كأنك تغرز في جسمه قطع زجاج مكسور..
وزاره صاحب له، قهوجي في قهوة الشارع الذي يشحت فيه، كثيرا ما كان يمنحه كوب شاي بلا مقابل، بل بمقابل: دعوة لصاحب القهوة وأبنه وله هو بالصحة وطولة العمر.
قال بعد أن شرب الشاي:
- يا راجل مكانوش شوية برد..
- والنبي دة ما برد دي حاجة أسخم، خايف أروح أكشف ألاقي عندي حاجة كبيرة..
- روح وما تتأخرش على نفسك..
وتجاذبا الحديث حتى وصلا للشارع وأحواله، وأنتفض جسد وكيان جاد الله حين سمع ضيفه يقول:
- الولية مسعدة بقت تشحت دلوقت على الناصية.
مسعدة!!.. يعرفها.. ولا يطيقها.. عجوز لها عين مفقوعة.. ونحيلة الجسد لا تكاد ترى.. تشحذ في الشارع المجاور.. وطالما كان ينظر لها في حسد.. تكسب أكثر منه.. والناس بطبعهم يتعاطفون مع النساء..
- بنت الكلاب! هي راسمة ع الشارع من بدري..
وضع ضيفه في جيبه خمسين جنيها، ثم استأذن ليمشي..
ودعه أحد الأبناء حتى الباب.. ثم عاد بعد أن ناداه أبوه، وطلب منه أن يشتري للبيت عشاء، فتناول الولد الخمسين جنيها وقبلها وش وظهر، وطار نحو الباب والشارع.
وظل جاد الله يهري وينكد في نفسه.. ويفكر في مسعدة التي خطفت مكانه أثناء غيبته.. ويردد: بنت الكلاب استغلت الفرصة..
وتذكر كيف استقر في مكانه بالشارع بعد صبر طويل إلى أن مات الشحات الذي كان فيه فجاء مكانه.. والشارع حلو.. ناسه نضيفة.. دكاترة ومهندسين ومحامين.. أيديهم فرطة.. عرفهم وعرفوه.. لا يبخلون عليه أبدا.. في الأعياد يعطوه لحمة.. وقبل الدراسة يعطوه كتب أولادهم القديمة ليذاكر فيها عياله.. والنساء طيبات يتنازلن عن ملابسهن القديمة لزوجته.. هل يترك كل ذلك لمسعدة؟
هتف في غضب: والله لأجيب خبرها..
يعلم أنه لو تركها لاحتلت المكان.. وترفض أن تتزحزح عنه..
لم ينم ليلته.. وخرج في الصباح بالعصا التي يتعكز عليها، وتوجه للشارع..
أثناء السير كان يتوعد مسعدة، ويقول أنه لو أحس منها بلؤم سيكسر رأسها بعصاه..
وكان يحيي الناس أثناء سيره، إلا أنه كان يحس منهم ببرود.. هل فعلتها وسحبتهم منه؟!
لكنه تذكر أن هذه هي طريقة الناس في الصباح.. مكفهرين الوجوه.. لا يطيق الواحد منهم أن ينطق حرفا.. حتى ساعة الصبح ساعة منحوسة.. لا أحد يمنحه فيها شيئا.. كلهم يوفرون النقود ليومهم الطويل.. ساعة المغرب هي الساعة التي تكثر فيها الحسنات.
وتذكر المرة الوحيدة التي دار فيها كلام بينه وبين مسعدة.. كانت حن ظهرت للمرة الأولى في الشارع الذي تشحذ فيه... بدأت بخناقة أيضا.. كان يريد أن يفرض عليها أرضية.. رفضت.. وكادت تصرخ.. وأرعبته بعينها المفقوعة.. فأحس بالفشل أن يكون ريسا.. فسكت عنها.. ولأجل أن ينهي الموضوع جلب له ولها كوبايتين شاي.
حكت له أن من فقع عينها زوجها.. وأنه أخد منها الولد الكبير وهرب.. ترك لها البنت.. هي الآن عروسة.. عمرها عشرين سنة ودخلت الكلية.. مثل ابنته.. لا تعرف أن أمها شحاتة.. تخبرها أنها تعمل في مصنع.
وحكت له أنها في أول يوم لها في الشحاتة هفتها عربية طيرت لها رجلها اليمين.. وأن المستشفى الحكومي رفضت أن تبيت عندهم بعد قطع الرجل.. فأخرجوها بالقوة ورموها في الشارع.. بعد أن أخذوا من دمها أكياس وأكياس مقابلا للعملية..
وصل للشارع.. ورآها...
كانت تستعد للجلوس.. فرشت شوالا على الأرض.. وألقت بعصاها.. وفردت كم كيس مناديل ورق أمامها.. كانت تعطيه ظهرها.. ولم تلمحه.. ولما جلست رأته.. فتحت فمها الذي لا توجه فيه سنة واحدة مبتسمة وقالت:
- أزيك يا أبو خديجة؟ عامل أيه يا أخويا؟ حمد الله على السلامة...
تسمر أمامها ولم يعرف ماذا يقول.. لم يعرف لما تذكر ما جرى بينهما أول مرة.. إنها غلبانة مثله.. وربما أكثر غلبا.. هو رجل وياما تحمل.. وهي ست.. وعاجزة.. وعندها بنت في الجامعة مثله.. ثم أنه هل ينوي فعلا أن يضرب ست؟! شعر بالهم، وطقطق بلسانه..
أحس بها فهمت ما جاء لأجله.. لمح وجهها يتغير.. وأحنت رأسها.. وهي تقول:
- يا اخويا مكانك محفوظ.. أنا بس قلت آجي يومين كدة لحد ما ترجع.
وبدأت تلملم حاجاتها من على الأرض.. كانت متسربعة.. وخائفة.. مثله تعلم ان لقمة العيش صعبة.
مرة واحدة هتف بها:
- خليكي.. خليكي.. أنا جاي لواحد هنا آخد منه قرشين سلف على ما أخف وأقدر أرجع تاني.. خليكي يا أم هبة...
ولم يجد في نفسه القدرة على مواجهة عينيها الدامعتين، وولى وجهه ومضى يتعكز على عصاه مبتعدا عنها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
كتبت في مارس 2024 .
قصة قصيرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ ثلاثة أيام ولم يظهر جاد الله الشحاذ على ناصية الشارع حيث اعتاد أن يجلس فاردا ساقه الوحيد ومادا يده للرائح والغادي وملاحقا المارة بنداءاته التي لا تتوقف عسى أن يحسنوا إليه.
اصابه مرض هد حيله فجأة وأقعده في البيت، فظل يهري وينكد في نفسه منتظرا اليوم الذي يخف فيه من المرض ليعود إلى الشحاتة والكسب.
وكان يتخانق مع مراته وعياله في اليوم أربعين خناقة من ضيقته، يسألهم عن الفطار فينظروا له لائمين على السؤال، ويظلون جميعا بلا فطار أو غداء أو عشاء فيدب بيده على المرتبة في عجز وغضب.
طلبت منه بنته تذهب هي وأمها مكانه، إلا أنه رفض وبشدة. وقال في غضب: وأفرضي حد من زمايلك في الجامعة شافك يبقى حالك عامل أزاي بقى وقتها؟ يلا في داهية الأكل، هما يعني اللي ما أكلوش ماتوا؟
وأبتعد بعينيه عنهم.. وظل يفكر في الأولاد.. إنهم يجب أن يأكلوا.. يتقوتوا.. عندهم دراسة.. ولابد تكون معدتهم مليانة، المخ يشتغل لما المعدة تكون شبعانة. هكذا يعرف وهو الذي لم يتعلم..
وفكر أن ينزل رغم التعب، لكن التعب هذه المرة فعلا شديد. والحركة نفسها مؤلمة كأنك تغرز في جسمه قطع زجاج مكسور..
وزاره صاحب له، قهوجي في قهوة الشارع الذي يشحت فيه، كثيرا ما كان يمنحه كوب شاي بلا مقابل، بل بمقابل: دعوة لصاحب القهوة وأبنه وله هو بالصحة وطولة العمر.
قال بعد أن شرب الشاي:
- يا راجل مكانوش شوية برد..
- والنبي دة ما برد دي حاجة أسخم، خايف أروح أكشف ألاقي عندي حاجة كبيرة..
- روح وما تتأخرش على نفسك..
وتجاذبا الحديث حتى وصلا للشارع وأحواله، وأنتفض جسد وكيان جاد الله حين سمع ضيفه يقول:
- الولية مسعدة بقت تشحت دلوقت على الناصية.
مسعدة!!.. يعرفها.. ولا يطيقها.. عجوز لها عين مفقوعة.. ونحيلة الجسد لا تكاد ترى.. تشحذ في الشارع المجاور.. وطالما كان ينظر لها في حسد.. تكسب أكثر منه.. والناس بطبعهم يتعاطفون مع النساء..
- بنت الكلاب! هي راسمة ع الشارع من بدري..
وضع ضيفه في جيبه خمسين جنيها، ثم استأذن ليمشي..
ودعه أحد الأبناء حتى الباب.. ثم عاد بعد أن ناداه أبوه، وطلب منه أن يشتري للبيت عشاء، فتناول الولد الخمسين جنيها وقبلها وش وظهر، وطار نحو الباب والشارع.
وظل جاد الله يهري وينكد في نفسه.. ويفكر في مسعدة التي خطفت مكانه أثناء غيبته.. ويردد: بنت الكلاب استغلت الفرصة..
وتذكر كيف استقر في مكانه بالشارع بعد صبر طويل إلى أن مات الشحات الذي كان فيه فجاء مكانه.. والشارع حلو.. ناسه نضيفة.. دكاترة ومهندسين ومحامين.. أيديهم فرطة.. عرفهم وعرفوه.. لا يبخلون عليه أبدا.. في الأعياد يعطوه لحمة.. وقبل الدراسة يعطوه كتب أولادهم القديمة ليذاكر فيها عياله.. والنساء طيبات يتنازلن عن ملابسهن القديمة لزوجته.. هل يترك كل ذلك لمسعدة؟
هتف في غضب: والله لأجيب خبرها..
يعلم أنه لو تركها لاحتلت المكان.. وترفض أن تتزحزح عنه..
لم ينم ليلته.. وخرج في الصباح بالعصا التي يتعكز عليها، وتوجه للشارع..
أثناء السير كان يتوعد مسعدة، ويقول أنه لو أحس منها بلؤم سيكسر رأسها بعصاه..
وكان يحيي الناس أثناء سيره، إلا أنه كان يحس منهم ببرود.. هل فعلتها وسحبتهم منه؟!
لكنه تذكر أن هذه هي طريقة الناس في الصباح.. مكفهرين الوجوه.. لا يطيق الواحد منهم أن ينطق حرفا.. حتى ساعة الصبح ساعة منحوسة.. لا أحد يمنحه فيها شيئا.. كلهم يوفرون النقود ليومهم الطويل.. ساعة المغرب هي الساعة التي تكثر فيها الحسنات.
وتذكر المرة الوحيدة التي دار فيها كلام بينه وبين مسعدة.. كانت حن ظهرت للمرة الأولى في الشارع الذي تشحذ فيه... بدأت بخناقة أيضا.. كان يريد أن يفرض عليها أرضية.. رفضت.. وكادت تصرخ.. وأرعبته بعينها المفقوعة.. فأحس بالفشل أن يكون ريسا.. فسكت عنها.. ولأجل أن ينهي الموضوع جلب له ولها كوبايتين شاي.
حكت له أن من فقع عينها زوجها.. وأنه أخد منها الولد الكبير وهرب.. ترك لها البنت.. هي الآن عروسة.. عمرها عشرين سنة ودخلت الكلية.. مثل ابنته.. لا تعرف أن أمها شحاتة.. تخبرها أنها تعمل في مصنع.
وحكت له أنها في أول يوم لها في الشحاتة هفتها عربية طيرت لها رجلها اليمين.. وأن المستشفى الحكومي رفضت أن تبيت عندهم بعد قطع الرجل.. فأخرجوها بالقوة ورموها في الشارع.. بعد أن أخذوا من دمها أكياس وأكياس مقابلا للعملية..
وصل للشارع.. ورآها...
كانت تستعد للجلوس.. فرشت شوالا على الأرض.. وألقت بعصاها.. وفردت كم كيس مناديل ورق أمامها.. كانت تعطيه ظهرها.. ولم تلمحه.. ولما جلست رأته.. فتحت فمها الذي لا توجه فيه سنة واحدة مبتسمة وقالت:
- أزيك يا أبو خديجة؟ عامل أيه يا أخويا؟ حمد الله على السلامة...
تسمر أمامها ولم يعرف ماذا يقول.. لم يعرف لما تذكر ما جرى بينهما أول مرة.. إنها غلبانة مثله.. وربما أكثر غلبا.. هو رجل وياما تحمل.. وهي ست.. وعاجزة.. وعندها بنت في الجامعة مثله.. ثم أنه هل ينوي فعلا أن يضرب ست؟! شعر بالهم، وطقطق بلسانه..
أحس بها فهمت ما جاء لأجله.. لمح وجهها يتغير.. وأحنت رأسها.. وهي تقول:
- يا اخويا مكانك محفوظ.. أنا بس قلت آجي يومين كدة لحد ما ترجع.
وبدأت تلملم حاجاتها من على الأرض.. كانت متسربعة.. وخائفة.. مثله تعلم ان لقمة العيش صعبة.
مرة واحدة هتف بها:
- خليكي.. خليكي.. أنا جاي لواحد هنا آخد منه قرشين سلف على ما أخف وأقدر أرجع تاني.. خليكي يا أم هبة...
ولم يجد في نفسه القدرة على مواجهة عينيها الدامعتين، وولى وجهه ومضى يتعكز على عصاه مبتعدا عنها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
كتبت في مارس 2024 .