بقاياه
كان يتكلم وكل الآذان إليه صاغية،كل الحواس مشدودة كسهم في وتر .
وهو كنجم في مسرح يقصُّ ويشرح ،صوته ينقل إلينا شحنات الألم ،فتتلون الوجوه بتعابير خوف وقلق ورهبة .
" في ليل هجرته نحومه، وبرد كانون يجمد كل شيء حي ،كنا نستطلع المكان ،أمامنا الدواعش يفصلنا عنهم وادي فقط،نحن في أعلى التلة ،سمعنا صوت مجنزرات على الطريق .
كل الإشارات بين قادتي مقطوعة ،بدا الخوف يزحف كأفعوان إلى قلبي،كيف أخبر رفاقي بالأمر ،ماذا جرى ،وكيف تركنا وحدنا ؟
الكتبة انسحبت وتركنا لقدرنا.
فجأة بدأ القصف علينا من ثلاث جهات ،يالله نحن محاصرون.نيران كثيفة ونحن وسطها ،
نظرت ماذا أفعل دبابة بمدفع وعناصر الحرس بسلاح خفيف كيف نقاوم،وكيف ننجو ."
بين الصمت المطبق على المستمعين الذي تتخلله كلمات الأسف والأسى وبعض الآهات،كان صوته يعلو حينا ويخفت أخرى،
وأنا أراقب وجهه الذي قسته هذه الحرب الملعونة ،وأبدلت الفرح في عينيه متاهة من حزن .
" لا طريقاً للخلاص إلا انسحابا عبر الوادي ياشباب ،والخروج من عنق الزجاجة قبل احكام الطوق علينا ، بسرعة لاوقت لدينا."
كمن يفر من قدره بدأنا الانسحاب .
لم أشعر بيدي وهي تقود الدبابة عبر الوادي ،غريزة البقاء تقودني، بين القذائف كبهلوان أمشي ،جعلني الخوف خفيفاً فقدت الاحساس بجسدي وعيوني فقط على طريق الخلاص.
أصيب أحمد على يميني أمسكت يده ،وبالأخرى أقود،لا أعرف كم من الوقت مر ،عندما وصلت عمق الوادي وابتعد صوت القذائف ،استعدت بعض وعيٍ وبصرخة فزع
،حركت يدي التي كانت تمسك يد أحمد فقط ،لاشباب يامحمد لم يبق أحد على الدبابة فقط يد أحمد ."
خنقت صوته العبرات ،وتصعيرة ألم علت قسمات وجهه .
آه ياصديقي الحرب القذرة أخذت براءتنا وعفويتنا،حقنت قلوبنا حقدا وغلاً ،من يصدق أن هذا الرجل هو محمد المرح الذي يحب الحياة ويلاقيك بابتسامتة وحركتة التي لاتهدأ ،مشاغباته في العمل،وخفة دمه.
هرمت يامحمد وأصابت قلبك الكهولة باكرا .
" كل الشباب فقدوا أو ماتوا ،ركعت على الأرض وبكيت ،ثم دفنت يد أحمد وهمت على وجهي ميتاً حي إلى أن أثبت إحداهما ."
أنهى كلامه والجزع يسم محياه،تنفس الجمع الصعداء وقالوا له الحمد لله على السلامة أنت حيٌ وبيننا ،لكنني كنت أراى فيه شيء مات أو انكسر.
تمت.