حين يفيضُ الحبُّ، وتشعُّ العيونُ فرحًا، ويتقاطرُ المحبّون مهما كان وضعُهم الاجتماعي إلى الاهتمام بك كالأهل، ورعاية كلّ تفاصيل إقامتك، فاعلَم أنَّك في دمشق. وحين تدورُ النقاشاتُ على خلفية صوت السيّدة فيروز، حول صعوبةِ الوضع الاقتصاديّ الحالي للناس، وأملِهم رغم الفقر بأن تخرج غزّة من إبادتها مرفوعةَ الرأس، فأنت حتمًا في دمشق.
مرّت سنواتٌ عديدة لم أزرها، كثُر المتملّقون على الطريق صوبها بعد أن خرجت من الحرب واستعادت شيئًا فشيئًا أنفاسَها، لكن دمشقَ، كعروسٍ ذكيّة، صقلتها الحضاراتُ المتعاقبة على أرضها، وشحذت ذكاءَها دروسُ التاريخ الذي غالبًا ما كان صعبًا،تعرفُ بفراستِها وفروسيّتها، من هو العاشق الحقيقيّ ومَن هم المتطفّلون.
حين اتصل بي رئيسُ اتحاد الكتّاب العرب الصديق الصدوق، والمثقّف العربي الأصيل والمدير الحيوي د.محمد الحوراني، مُقترِحًا ندوةً لي في مقرّ الاتحاد لتوقيع كتابي الجديد " تدمير العالم العربي" (مع إضافة قسمٍ عن غزّة فيه)، تردّدتُ قليلاً، اعتقادًا منّي بأنَّ حربَ غزّة أسرع من كلّ ما يُقال حولها، وأعمق من كلِّ التحليلات، واعتقادًا أيضًا بأنَّ المواطن السوري الغارقَ اليومَ بهمومه اليوميّة بعد أن جارَ قانون قيصر حتّى على لقمة خبر الفقراء، لن يوفّرا فرصةً حقيقة لنقاش كتابٍ قد يكون في آخر اهتمامات الناس حاليًّا.
لكن دمشق، تمامًا كعروسٍ أصيلة، تعرفُ كيف تمسح دمعتَها، وتعضّ على الجرح، وتكبت ألمَها، وتبتسم من قلب القلب لزائرها المُحبّ. فكان اللقاء أجمل مما توقّعت، ومحبة الناس أعمق مما انتظرت، والحضور أكثر مما فكّرت.
ها هو المبدعُ الكبير بسّام كوسا، الذي لا يوازي إبداعه، الا جمال روحه وعمق حديثه، يتصدّر الصف الأمامي، مجاورًا سفير البرازيل الذي تابع الندوة والنقاش حرفًا حرفا بفضل سيدة سورية متقنة للغات وسريعة البديهة، وإلى جانبه السفير الصديق الصدوق الأديب والشاعر علي عبد الكريم علي، ثم السفير الجزائري الواسع الثقافة والإنتاج السياسي والفكري والأدبي كمال بو شامة، فسفير موريتانيا الحبيبة الدائمة سيدي ولد دومان، ورئيس الدائرة السياسيّة لمنظمة التحرير من فلسطين الجريحة والأبيّة الصديق أنور عبد الهادي، وسفراء ودبلوماسيون آخرون من فنزويلا وتونس والجزائر وغيرها، إضافة الى قيادات حزبية عريقة. وعلى يمين الصف الأمامي، كان المبدع الصديق مصطفى الخاني الذي غمرني بمحبته ودعاني إلى منزله الجميل كجمال ذوقه برفقة أصدقاء وصلوا بخبرتهم إلى أن يزرعوا وينتجوا " المتة" في الأرجنتين.
كان الأحبّة جميعًا هنا من أصدقاء يثبتون مرة بعد أخرى أن الحياة ما زالت تتسع للمحبّة الصادقة والوفاء الحقيقي، وفي مقدمهم المايسترو الكبير عميد المعهد الموسيقي والمبدع رغم شباب العُمر عدنان فتح الله، والصديقة التي تُشعرك بالأخوة منذ اللقاء الأول حتى اللقاء الألف، المبدعة الكبيرة ليندا بيطار، وهما صامدان في بلادهما رغم إغراءات الخارج يضمدان جروح الحرب بموسيقى راقية وصوت استثنائي وكلمات صافية كساقية في ليلة ربيع. كان هناك أيضًا الصديقان الصدوقان د عقيل محفوض الذي لا يوازي ثقافته الواسعة سوى تواضعه الجم ومحبته العميقة، والعميدة العروبية الأصيلة التي توجّهت الى الابداع الشعري بعد أن خدمت وطنها طويلاً كأرفع رتبة لسيدة في الجيش، والعميد الصديق تركي الحسن الذي يختصر لك الواقع السوري وما يحيطه بعرض استراتيجي دقيق بلا مجاملة، والقومي الأصيل ذوي الثقافة الواسعة طارق الأحمد وزوجته الغالية رفيف وابنهم الواعد جبران، وشيخ العشيرة الشاب والمحب مُضر شيخ إبراهيم، والناشر الذي جعل دارَه طليعيًّا بين دور النشر العربية بحيويّته وتفانيه إياد حسن الذي جاء خصيصًا من اللاذقية يرافقنا في رحلتنا الدمشقيّة، والحزبي العتيق والرافع لواء القدس د. خلف المفتاح . والدبلوماسي والحزبي الناقد للكثير من الموروثات والتحليلات الجامدة د. مهدي دخل الله ،والصديق المحب رجل الأعمال أحمد هدايا الذي يسارع مع عائلته العزيزة إلى حجز أول عشاءٍ بمجرد علمه بوصولي، والنائب مجيب الرحمن الدندن الذي يفاجئك بصراحة حديثه وعمق معرفته خصوصًا بالشرق السوري. والدكتورة الصيدلانية رنا التي مع رفاقها ما زالوا ينتجون 80 % من الأدوية السوريّة، حيث الطبابة والتعليم ما زالا مجّانيّين رغم الحرب والحصار. وحضر كثيرٌ من المحبّين لا يتّسع المقام هنا لذكرهم جميعًا، كانت عيونهم تعكس ما في أرواحهم من محبة وسعادة باللقاء. وهي سعادة انعكست على روحي فكان ثمة سحرٌ خاص يُنثر على اللقاءات كياسمين دمشق.
عرضتُ في الندوة بعضًا من كتابي الجديد، وشرحت ضرورة الاّ نقرا ما حصل في غزة من تاريخ 7 أكتوبر فحسب، بل أن نعود إلى جذور الصراع وتفرعاته، وضرورة الإفادة من هذه اللحظة التاريخية الفريدة من تطورات عسكرية وانقسامٍ دولي حاد، بُغية صياغةِ مشروعٍ جديد ومساندةِ فلسطين في الحصول على دولة.
كان معظم الإعلام هُناك، ونُشر الخبر سريعًا في معظم الوسائل، وفرحت بلقاء بعض الزملاء الذين لم أرهم منذ سنوات وفي مقدمهم الزميلان هناء الصالح وزوجها نزار الفرّا، وهم كانوا وما زالوا يجاهدون ليس فقط للحصول على لقمة عيشهم بكرامة، بل أيضًا للاستمرار وسط التقلبات الكثيرة التي عرفها الإعلام السوري في سنوات الجمر والرماد من قبل خبراء أو متطفّلين، فلم يهدأ هاتفي طيلة ثلاثة أيام، هذا يدعوني إلى مائدته، وذاك الى فنجان قهوة، وثالث لرحلة ليلية في حَواري دمشق القديمة التي تختزن تحت كلّ حجر، موروثًا هائلاً من الحضارات والثقافات. كان العتبُ على الغياب عاكسًا محبّة قلّ نظيرُها.
سأكتب قريبًا بتفصيلٍ أكثر عن الحوارات واللقاءات، وودت هنا فقط شكر الصديق دكتور محمد الحوراني على الدعوة وكل هذا الاهتمام، وشكر لولب النشاطات الثقافية الصديق الصدوق ملهم الصالح، وكذلك كل من حضر الندوة أو النقاشات التي استمرت ليومين.... شعرت كالمعتاد أني بين أهلٍ وأحبةٍ وأشقاء.
شكرًا لكم جميعًا من قلب القلب، وعسى سورية تعود أجمل مما كانت فهي تستحقُّ حياةً كريمة عزيزة، والعروس دمشق تستحق ابتسامة من القلب لا فوق الجرح والألم.