"تحول الحيوان" وجهات نظر بديلة لإنتاج معرفة جديدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "تحول الحيوان" وجهات نظر بديلة لإنتاج معرفة جديدة

    "تحول الحيوان" وجهات نظر بديلة لإنتاج معرفة جديدة


    الحيوانات يمكنها صناعة المعرفة مثل البشر.
    الخميس 2024/06/06

    الحيوان ليس أقل قيمة من الإنسان (لوحة للفنان باسم دحدوح)

    باتت من الضرورة اليوم إعادة فهمنا بشكل مغاير للكثير من عناصر الحياة، ولعل أهمها الحيوانات، التي نعتبرها بصفتنا بشرا أقل مستوى منا، ونستغلها بشكل بشع في أحيان كثيرة، بينما يدعو الكثير من الباحثين إلى تغيير مفهومنا ورؤيتنا للحيوانات بنظرة تساوي بيننا وبينها.

    يشهد علم سرد الحيوان اهتماما أكاديميا موجها بشكل حثيث نحو دراسة العلاقة بين الإنسان والحيوان وهي بالعموم معقدة ولا تخلو من تناقضات ومفارقات، ولها صلات بالمجتمعات الصناعية والزراعية.

    وصحيح أن ثمة أنظمة علمية في التعامل مع الحيوان بيد أنها في الواقع لا تُعنى بما للحيوان من رأي أو هوية أو شعور وإنما هي معنية بما يعود بالنفع على الإنسان من الناحية الإنتاجية أو من ناحية حل المشكلات الاقتصادية والأزمات البيئية كانقراض أنواع معينة من الحيوانات مثلا.

    بسبب التاريخ الطويل الذي قطعته علاقة الإنسان بالحيوان بكل ما فيها من تعقيد وتشابك، تغدو الحاجة ماسة إلى دراسة طبيعة الحيوان بوصفه جزءا من أي مجتمع إنساني. وما يساعد في ذلك اتباع المنهجية متعددة التخصصات، إذ إن فيها يمكن لتقاطع وجهات النظر المختلفة أن تكون منتجة سواء كان ذلك بابتكار برامج بحث جماعية أو بعقد المؤتمرات وإقامة الحلقات أو بعمل السلاسل والدوريات.

    ولا شك في أن متغيرات العصر الاجتماعية والعلمية والبيئية والأكاديمية وضرورة الاستجابة لها، هي التي تجعل الحاجة ملحة إلى وضع رؤى فكرية وتصورات ثقافية متنوعة وجديدة في دراسة الحيوان. ومن تلك الرؤى ما سمي بـ”تحول الحيوان” (Animal Turn) وهو عبارة عن مشروع بحثي تبنته مجموعة من الدارسين بإشراف إريكا أندرسون من معهد بوفندورف للدراسات العليا في لوند بالسويد.

    وواحدة من نتائج هذا المشروع كتاب “استكشاف تحول الحيوان في العلاقة بين الإنسان والحيوان: العلم، المجتمع، الثقافة” وحررته إريكا أندرسون واشترك في تأليفه مجموعة من المتخصصين في مجالات أدبية وإعلامية وتربوية وفكرية وعلمية كعلم الآثار وعلم الاجتماع وعلم الأحياء.

    وترى أندرسون أن ما من مجال حياتي إلا وللحيوان فيه مكان (سواء على المستوى الحياتي العملي بوجود الحيوان في المنازل وأماكن العمل والأسواق، أو على مستوى ما موجود داخل أجسامنا من كائنات دقيقة صديقة وغير صديقة، أو في شكل لحوم مهضومة أو على مستوى أدبي، فيه الحيوان مجاز من المجازات الثقافية في ما تنطوي عليه الأساطير أو رمز من رموز صنع الهوية والتعبير عن المخاوف والرغبات).
    وجهات نظر بديلة



    ◙ العلاقة بين الإنسان والحيوان ليست بريئة بل على العكس من ذلك تثير باستمرار أسئلة أخلاقية


    وما من سبيل لفهم العلاقات الاجتماعية والثقافية والنفسية للحيوان سوى بتسليط الضوء على طبيعة تعامل الإنسان معه، فـ”العلاقة بين الإنسان والحيوان ليست علاقة بريئة، بل على العكس من ذلك، تثير باستمرار أسئلة أخلاقية، موجهة نحو الاستدامة، وتتطلب المزيد من المعرفة المتكاملة لما هو أفضل”.

    وتدور فصول الكتاب حول ثلاثة محاور رئيسة هي: أولا دور العلوم الطبيعية في مواجهة الخطابات الاجتماعية والأخلاقية المتعلقة بالإنسان والحيوان. ثانيا الانقسام بين الإنسان والحيوان وانعكاسات هذا الانقسام على الممارسات الاجتماعية والثقافية والعلمية. ثالثا تمثيل مصالح الحيوانات في الأنشطة والفعاليات المؤسساتية التجارية منها والسياسية.

    وتشير إريكا أندرسون إلى أن تغاير الاهتمامات البحثية والمنهجية بموضوعة الحيوان لم يحل دون وجود أرضية مشتركة من ناحية النقد الأدبي وصلاته بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، كما أن الفضول هو الآخر إحساس مشترك يدفع نحو فهم صور “تحول الحيوان” فطرائق التواصل مع العالم ليست كلها بشرية، بل ثمة مجموعات فرعية صغيرة ينبغي أخذها في الاعتبار وهي مهمة بالنسبة إلى أي متخصص أكاديمي. ومن ثم يمكن لـ”تحول الحيوان” أن يأتي بوجهات نظر بديلة لإنتاج معرفة جديدة تضع الحيوان في مركز الصدارة بوصفه فاعلا رئيسا في عدد لا يحصى من الأنشطة الحياتية وأنماط العيش وفهم العالم.

    وما تسعى إليه المجموعة البحثية هو إدراك ماهية الحيوان وتحليل دوره المجازي في الوعي الجمعي، وأثر ثقافة الطبيعة المستدامة أخلاقيا وبيئيا في الحيوان، والاعتراف بحقيقة أن للحيوان ثقافته وبيولوجيته وعالمه الحياتي الخاص الذي به يصبح ذا تأثير كبير في إنتاج المعرفة.

    وأول دراسة تضمنها الكتاب هي “إنتاج المعرفة في ‘التحول الحيواني’: تعددية صور الفكر والتعاطف والعدالة” لهيلينا بيدرسون واعتمدت بشكل أساس على طروحات سارة صالح الباحثة النسوية النباتية التي ترى أن إنتاج المعرفة هو في دراسة الحيوان دراسة نقدية تفكك المعرفة بدلا من أن تقوم بإنتاجها فعدم المعرفة هو شكل من أشكال المعرفة. وتصف معرفة الجهل بأنها المسافة الفاصلة بين انهيار اليقين الذاتي بالعالم وبين الاطمئنان التام إليه، وأن إزاحة الإنسان عن مركزيته ستسمح للحيوان بالظهور كموضوع من موضوعات البحث العلمي.

    وترى الباحثة بيدرسون أن من الواجب علينا أن نسأل أنفسنا إلى أي مدى يمكن لنا أن نتواصل مع الحيوانات وأجسادها وعوالم حياتها. وهو أمر يمكن بلوغه بخطوة معرفية تنطلق من أخلاقيات البحث وما تنتهجه من مسارات تمنح الحيوان احتراما وتعطي لحياته استقلالية.

    ◙ لفهم العلاقات الاجتماعية والثقافية والنفسية للحيوان يجب تسليط الضوء على طبيعة تعامل الإنسان معه

    وحين يصبح الاحترام والاستقلال واضحين في “تحول الحيوان” يكون التقارب مع الإنسان قد بدأ، وتغدو طبيعة إنتاج المعرفة متغيرة الحدود، وبذلك ينخرط البحث النقدي في مواقف الحياة الفعلية. وهذا يعني أن الحيوان ليس مجرد حالة يتم التعامل معها بمنفعية مثل أي شيء يتم تسليعه أو كوسيلة من وسائل رفع معدلات النمو الرأسمالي والاستثمار المنهجي لأشكال الحياة على الأرض، بل الحيوان قضية فكرية بوصفه رمزا وذاتا لها قيمة وتملك هوية ونصا له تمثيلات.

    وبهذا الفهم يكون “تحول الحيوان” نظرية لا تُدرس بمعزل عن الوضع الحياتي الفعلي، بقصد تطوير قاعدة معرفية لمنظور يجعل الحيوان داخلا في برامج العمل ونظم التواصل فيكون له موقع وفاعلية في المجتمع البشري. ومتى ما كان التحول في العلاقات بين الإنسان والحيوان جذريا ومتعددا، فسيغدو المجتمع أكثر تصالحا وخلوا من الاستغلال والظلم وقد تعلم الإنسان كيف يحافظ على مسافة محترمة بينه وبين الحيوان.

    من الدراسات التي تضمنها الكتاب أعلاه “الرعاية الحيوانية والقيمة الأخلاقية للحيوان غير البشري” لغاري فرانسيوني، ويقصد بالحيوان غير البشري النوع الأليف الذي يشارك البشر حياتهم بشكل مباشر. ويبدأ الباحث دراسته بنفي فكرة أن الحيوانات غير البشرية أشياء لا قيمة أخلاقية لها ولا مكان تحتله في نظم المعرفة وقوانينها. ويتبنى فكرة مضادة وهي أن الحيوان ليس أقل قيمة من الإنسان، ومن غير المقبول أخلاقيا استغلاله موردا من موارد خدمة الإنسان.

    وطالما أننا نعامل الحيوانات “بإنسانية” ولا نسبب لها معاناة، تكون القيمة الأخلاقية متجسدة في كل مكان وهو أمر يتطلب فرض قوانين خاصة تلزم بعقوبات جنائية على من يعامل الحيوانات “غير البشرية” معاملة قاسية، مؤكدا أن فرض العقوبات على من ينتهك هذه القوانين أمر مقبول أخلاقيا على نطاق واسع وغير مثير للجدل بالعموم. ومن المسائل التي ناقشها فرانسيوني ملكية الفرد للحيوان وأن الغرض منها ليس المتعة، بل المعاملة الإنسانية غير القاسية التي تمنع استغلال الحيوان بشكل كامل.

    ويؤكد الباحث أن قوانين رعاية الحيوان وحدها ليست كافية كونها لا توفر سوى مستوى ضئيل من الحماية للحيوانات غير البشرية وإنما هو إحساس الإنسان بأن لحياة الحيوان قيمة أخلاقية. من هنا ينتقد علماء أخلاقيات الحيوان الوضع الراهن بسبب ما فيه من استغلال للحيوان ومعاملته بطريقة غير إنسانية.
    الحيوان غير البشري



    ◙ ما من سبيل لفهم العلاقات الاجتماعية والثقافية والنفسية للحيوان سوى بتسليط الضوء على طبيعة تعامل الإنسان معه


    ويتتبع وجهة النظر الأخلاقية إزاء الحيوان، ليجد أنها ليست جديدة بل هي معروفة في نظرية الرفاهية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، ومفادها أن حياة الحيوان الأليف لها قيمة أخلاقية كحياة البشر. لكن هذا الرأي كان يوصف وقتذاك بأنه تعسفي وغير مبرر ولكنه الآن يعد مهما ويقتضي الدفاع عن المساواة الأخلاقية بين الحياة البشرية وغير البشرية وبالشكل الذي يطور نظرية في حقوق الحيوان، كانت تسمى في القرن التاسع عشر “الرفق بالحيوان”.

    ولكي يدعم فرانسيوني وجهة نظره، وقف عند فيلسوفين من فلاسفة الأخلاق هما جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل اللذان تبنيا مبدأ المنفعة، وأكدا أن التقييم بالصواب أو الخطأ يعتمد على عواقب الفعل هل يؤدي إلى ضرر أو نفع أو متعة. وأن الحياد في وجهة النظر يحقق المساواة بين جميع الكائنات بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الانتماء أو القدرات الفكرية أو الجسدية، وما إلى ذلك.

    وينحاز أصحاب مبدأ المنفعة إلى حقوق الحيوان من منطلق أن النظر المحايد للأهمية الأخلاقية يشترط عدم تحديد نوع الكائن الحي أو عرقه ولأن الحيوان واع بذاته، يصبح ما يتعرض له من اضطهاد ومعاناة أمرا ذا أهمية أخلاقية. فالحصان أو الكلب مكتمل النمو وهو عاقل لأنه أقدر على التواصل من الطفل ومن ثم ليس السؤال: هل يمكن للحيوان أن يفكر؟ ولا هل يمكنه التحدث؟ بل هل يمكنه أن يشعر ويعاني؟

    يقول فرانسيوني “صحيح أن البشر والحيوانات غير البشرية مختلفان في الكثير من النواحي، لكنهما متشابهان بشكل وثيق من زاوية أنهما واعيان ويملكان إدراكا حسيا يقدران به على الشعور بتجربة الألم واللذة”. وليست في مثل هذه الآراء غرابة إذا علمنا أن الفلاسفة الأخلاقيين كانوا من أشد المدافعين عن إلغاء العبودية. ورأوا تشابها بين العبودية واستغلال الحيوانات.

    وبحسب فرانسيوني، فإن جون ستيوارت ميل الأكثر معارضة للعبودية القائمة على العرق والتي كانت شائعة في زمانه كونها تنتهك مبدأ المساواة وتحقق المتعة أو السعادة للبيض في حين تجعل العبيد يعانون من استغلال البيض الذين يعاملونهم والحيوانات كأشياء لا إحساس لها وما من أخلاق في التعامل معها، بل إن الأبيض إذا ما عتق العبد وتخلى عن ملكيته فإنه لا يعوضه عن العذاب الذي سببه له. ويرى فرانسيوني أن مثلما أن العرق لا يبرر تجاهل مبدأ المساواة كذلك النوع البشري لا يبرر تجاهلنا لمعاناة الحيوان. أما القول إن الحيوان غير عاقل أي أنه لا يملك عقلا مثل عقل الإنسان فلا يعطينا الحق في أن نفعل بالحيوان ما نريد وما دمنا نعامل الحيوان بشكل جيد، فإن من غير المقبول أخلاقيا استغلاله وقتله لأغراض بشرية.


    نادية هناوي
    ناقدة وأكاديمية عراقية
يعمل...
X