"الأشجار تمشي في الإسكندرية".. محاولة للإفلات مما يريدنا الواقع أن نسلّم به
علاء الأسواني يحرك شخصياته بعناية لينسج توليفته الإبداعية.
الخميس 2024/05/30
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عودة إلى تاريخ متخيل في الإسكندرية
لا يجافي القول بأن الأعمال الروائية متشابهة في ثيماتها ومواضيعها المنطق السليم، وليس الغرض من هذا الكلام التلميح إلى نهاية الرواية، أو الوصول إلى مطافها الأخير، بل التذكير بأن الموجات الإبداعية لا تنفي ما سبقها ولا تستمد قيمتها من إلغاء آلية التواصل مع النصوص الأخرى.
ما يضعه المؤلف ضمن برنامجه هو البحث عن التوليفة التي تمنح عمله تماسكا وتؤجل باستمرار رنين جرس إنذار القارئ الذي يكون مسموعا عندما لا يستسيغ الحراك في حلبة الفضاء الروائي.
ويتحقق هذا الهدف ويتم تقيد المتلقي فعليا في منطقة التوقع والانتظار من خلال التحرك في مساحة أوسع تماما، كما تفعل ذلك الروائية التشيلية إيزابيل الليندي أو ليناردو دي بادورا. وبالطبع قد يبادر الكثير من الروائيين باختبار هذا الطريق، لكن لا ينجح من بينهم إلا من لا يستخف بمطبات الأمتار الأخيرة، مشخصا العلامات التي تقوم عليها متانة النص الروائي ونبرته الإقناعية. وهو المبدأ الذي حدد بموجبه الكاتب المصري علاء الأسواني خطوط روايته الجديدة “الأشجار تمشي في الإسكندرية”.
تعدين الشخصية
الرواية تحفل بشخصيات من خلفيات سياسية وثقافية وإثنية متعددة تتقاطع مصائرها في البعد المكاني الذي بناه الكاتب بدقة
يشرك صاحب “عمارة يعقوبيان” القارئ في مناخ الرواية من الرمية الأولى. إذ يختار الراوي ضمير المخاطب في افتتاحية السرد، مشيرا إلى البعدين الزمني والمكاني في آن واحد. وما إن يمضي السرد لمسافة أبعد حتى يتخذ منحى وصفيا، وهذا يتسق مع ما ذهب إليه جيرار جينيت بأنه من المحتمل أن يكون السرد بداية للوصف ولا يكتم من التماعاته.
ويعلن الراوي منذ البداية عن المكان الذي سيصبح منطلقا للحلقات السردية إذ تتجه العدسة نحو مطعم “أرتينوس” كاشفة عن عمقه التاريخي والتحولات التي ألقت بظلالها على هذا المكان. ويكثف الراوي كليّ العلم أزمنة ممتدة بالإشارة إلى استبدال صورة الملك فاروق الذي زار أرتينوس عندما كان متربعا على العرش بصورة لأعضاء مجلس قيادة الثورة إلى أن ينفرد أحد أعضاء المجلس بالسلطة وفي غضون هذه المدة يتوفى صاحب المطعم “جورج أرتينوس”، وتحل ابنته “ليدا” مكانه في إدارة المطعم وتبادر بتعليق صورة عبدالناصر، وإزاحة غيره، وبذلك يكون الخط الزمني للرواية واضحا قبل أن تدخل الشخصيات إلى دائرة السرد.
تقوم القوة الإقناعية للرواية على الشخصيات المعدنة للأدوار المحددة، قد يتوسل المؤلف بتقنية الوصف أو الحدث الفرعي لتمطيط مرويته، وينطلي ذلك على المتلقي، ولكن الشخصية الروائية لا تتمثل وظيفتها في زيادة كسب المساحة السردية إنما تتبين البصمة الإبداعية في تناوب الشخصيات على المشهد وانتظامها في صياغة الخطاب السردي.
وإذا كان آلان روب جرييه قد أعلن نهاية رواية الشخصيات فإن هناك من يعتقد بأن العمل الروائي هو في الأساس فن نحت الشخصية التي تنهض عليها تفاصيل التشكيلة الروائية بأكملها. وتحفل “الأشجار تمشي في الإسكندرية” بشخصيات من خلفيات سياسية وثقافية وإثنية متعددة تتقاطع مصائرها في البعد المكاني وهو مدينة الإسكندرية التي تراها في تركيبة العتبة الأولى. ولا تفك مغاليق العنوان إلا مع الحوار المتبادل بين شخصيتي ليدا وأنس وما يرشح من ملفوظات الاثنين يحيل إلى الترابط بين جملة العنوان النبوئية ومتن النص.
والمعروف عن إستراتيجية الأسواني في تحبيكه الروائي هو تسمية أعماله بأسماء الأمكنة. والغرض من هذه اللازمة هو الإيهام بالواقعية. في روايته الأولى “عمارة يعقوبيان” يسند إلى موقع البناية وظيفة الإطار للشخصيات التي تنفصل عن البؤرة وتكتمل مستوياتها الذهنية والنفسية والجسمانية، متنقلة بين أمكنة أخرى، أما في عمله الجديد فيكون المطعم مجسدا لهذه الوظيفة.
يكشف تموضع الراوي بأن وظيفته إدارية على الأغلب إذ تتواتر المعلومات بشأن المكان من منظوره لافتا إلى المبادئ التي سنها جورج أرتينوس للعاملين في المطعم من حيث الاهتمام بالزبون، والاحتفاء به. إن الشعور بالتميز هو ما يشد الناس إلى أرتينوس الذي تغلق أبوابه بعد منتصف الليل. قبل أن يصل السرد إلى الزاوية التي تضم مجموعة من الأصدقاء الذين أطلق عليهم القنصل الأميركي وهو كان جليسهم لقب الكوكاس.
ترصد عين الراوي شخصية كارلو الذي يماثل نجوم السينما بمواصفاته وغرامياته الحميمية. يتسلسل السرد في التعريف بالشخصيات بدءا من عباس القوصي وزوجته نهى الشواربي ابنة أحد وزراء العهد الملكي مرورا بالفنان التشكيلي أنس وتوني كازان صاحب مصنع الشكولاتة وصولا إلى شانتال التي لم تغادر المدينة، وأفلتت من قرار الترحيل الذي أعلن عنه بعد العدوان الثلاثي. توزعت حياتها بين الإشراف على مكتبة بلزاك التي ذاع صيتها لدى المثقفين المغرمين بالمجلات والكتب الفرنسية، وبين لقائها بجماعة كوكاس. وهي تثير جدلا بالخبر الذي تنقله للأصدقاء عن اعتقال الشرطة لكل رجل تكون عيناه جميلتين.
من هذه النقطة يدور الحوار بين الشخصيات التي تتفاوت أدوارها في الملعب السردي بين الثانوية والرئيسية، ويحدد مجال مشاركة نهى بالإشارة إلى تنكيل سلطة العسكر بوالدها على الرغم من أن الأخير قد رفض كل العروض التي تلقاها في فرنسا وعاد إلى بلده مسديا الخدمات لمصر من موقعه كوزير العدل. لكن ذلك كله لا يشفع له، إذ يلقى القبض عليه وتتم مصادرة الأموال التي ورثها من أجداده، وما يسمع من كلامها هو نبرة الحنين إلى العهد الملكي والاستخفاف بالتهم التي فبركت للملك الفاروق وما شاع بأنه قد مات في إيطاليا بسبب الإفراط في الطعام.
يذكر أن ما تقوله نهى عن الجماهير وسيكولوجيتهم المتقلبة في سرعة الانسياق مع الطرف الأقوى يتكرر في الحلقات السردية اللاحقة، منها ما تستعيده لحظة احتفال الجماهير في الشوارع بزيارة الملك إلى الإسكندرية، كما تستشف الحس الانتقادي في انقياد العمال لقرار تأميم مصنع الشكولاتة وتكليف بدوي بإدارته بدلا من صاحبه توني كازان، الذي يعيد إلى الأذهان المصلح الانجليزي روبرت آوين لكن بنسخة مصرية.
ما يضيف تميزا لتشكيلة الأسواني هو تفوقه في الانتقال الرشيق بالحزام السردي نحو الكيانات المكانية المتنوعة. نادي السيارات، المصنع، المكتبة، شارع هليوبوليس، مقر الاتحاد الاشتراكي، إدارة التوجيه المعنوي، المقهى. هذا عدا عن أماكن للهو وهي مسكونة بأنفاس الهامش وطينة القاع المجتمعي أمثال شخصية عدلي وسلوى التي تغير اسمها إلى نعمت. وبالطبع إن عدسة الراوي تجوس في زوايا جديدة بالتزامن مع إضافة شخصيات أخرى إلى حلبة السرد.
عبر الإعلان عن الحدث يظهر مؤلف “شيكاغو” ألمعيته في تشبيك المكونات السردية الثلاثة “المكان، الشخصية، الحدث” ويمرر الأسئلة في كلام شخصية عن شخصية مقابلة ساعيا بذلك إلى عدم مصادرة صوت الراوي لهوية الشخصيات. وما تسمعه على لسان توني في حوار متبادل مع كارلو من سؤاله للأخير عن سبب مطاردته للنساء المتزوجات. ومن ثم الإبانة عن حقيقة هذه الرغبة لاحقا خلال صرف الأضواء نحو التكوين الأسري لكارلو وعقدته مع الأم مارتا التي كانت ضحية لاختيارات زوجها يبرز البعد الفني للعمل ويضفي عليه الحركية.
والأهم في شبكة شخصيات الرواية أنها لا تبدو معلقة خارج الجسم النصي بل يتألف إيقاع المادة المروية من التواصل الانسيابي بين الشخصيات الأمر الذي يحيل إلى ما يؤكده روجر ب.هينكل “الأسس المترابطة في الرواية، أو مناطق التركيز فيها، هي الانعكاسات والتطورات التي تتجسد في شخصية أو مجموعة من الشخصيات”.
المعادلة الروائية
ما يضيف تميزا إلى تشكيلة الأسواني هو تفوقه في الانتقال الرشيق بالحزام السردي نحو الكيانات المكانية المتنوعة
تضاهي كتابة الرواية في تصميمها والبحث عن النغمة الجامعة بين أجزائها صياغة المعادلة الرياضية. كما أن زيادة أو نقصان أيّ علامة في الرياضيات لا تسفر عنها سوى الأخطاء، كذلك الأمر في النص الروائي لا ينتهي انتفاخه بالتفاصيل المملة وحشده بالمعلومات الموغلة في القدم إلا بالتعثر.
صحيح لا توجد رواية مكتملة وخالية من الهفوات، ولا شك أن “الأشجار تمشي في الإسكندرية” مشمولة بهذا الحكم، فما يرد على لسان شخصية أريج زوجة أحد السياسيين في دولة خليجية، وهي تستهويها العلاقات الغرامية مع الأجانب، عن التناقض الشاخص في بلدها بين الطفرة العمرانية والعقلية البدوية إسقاط للحاضر على الماضي لأنه في ستينات القرن السابق لم تشهد تلك البلدان المد العمراني الناجم من الفوران النفطي.
ولا يفوت المتلقي إلى ما يضمر الخطاب من الربط بين التحضر والانتماء إلى الأرستقراطية. لكن هذا لا يبدل من خط الرواية عامة لأن الأسواني تمكن فعليا من الفصل بين زمنه الذاتي وزمن شخصياته دون أن يثقل النص بالأحداث التي تخللت تلك المدة الزمنية التي تغطيها الرواية. واكتفى على هذا المستوى بالومضات المحيلة إلى حرب اليمن وفشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا ويكون ذلك في السياق الذي يخدم الهوية الإبداعية للنص.
ليس مطلوبا من الرواية أن تكون مكملة أو بديلا للخطاب التاريخي بل تضع الظواهر الكاشفة للمزاج العام تحت المجهر كما يفعل ذلك علاء الأسواني إذ يشير إلى ما ساد في الإسكندرية من كتابة عبارة “إنه لا يفلح الظالمون” على أتوبيسات النقل، وهذا المقتبس الديني المضمر بالوعيد يعد خرقا للأجواء “الأورويلية” (نسبة إلى جورج أورويل) المشحونة بالتعبئة العاطفية.
يدس المؤلف خبر اعتقال الجاسوس الألماني لوتز وما أثاره من اللغط على المنابر الإعلامية في تلافيف الرواية وعلى ضوء هذا الحدث يتحول مصير الشخصيات وتتنكر المدينة لطابعها الكوزموبولوتاني ويخلو المطعم من رواده وما إن يدرك المتلقي هذا التحول حتى يستعيد العنوان ومغزاه الذي يشرحه أنس الفنان لحبيبته “ليدا” عندما يسرد للأخيرة قصة زرقاء اليمامة وشهرتها بقوة بصر خارقة إذ تبلغ القوم بأنها ترى الأشجار تمشي وسخر منها الناس حتى تبين في الأخير أن الأعداء غطوا أنفسهم بالأشجار مهاجمين قومها.
وعلى غرار زرقاء اليمامة يلمح أنس الأشجار تمشي في الإسكندرية ويذكر ليدا بنبوءته عندما تطالها تهمة العلاقة بالجاسوس الألماني، لأن لوتز كان يرتاد مطعمهم. ربما لا يبارح طيف رواية “ميرامار” ذهن المتابع لأقسام “الأشجار تمشي في الإسكندرية” وما يتضمنه عن استغلال موضوعة الجنس في ملف المخابرات يذكر بـ”الكرنك”، لكن هذا لا يعني بأن رواية الأسواني لا تملك صوتها الخاص بل يشهد للكاتب إمساكه بخيوط الشخصيات ومستويات اللغة المتسقة مع أبعادها الفكرية وموقعها الاجتماعي. أكثر من ذلك نجح الأسواني في إبعاد قبضة النمطية عن روايته فما يسرده ليس شكلا احتجاجيا ولا لونا بوليسيا أو رومانسية مبتذلة أو رميا بالأفكار الثقيلة في الوعاء أو تلذذا بالكابوسية بل محاولة للإفلات مما يريد الواقع منا أن نسلّم به.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
كه يلان محمد
كاتب عراقي
علاء الأسواني يحرك شخصياته بعناية لينسج توليفته الإبداعية.
الخميس 2024/05/30
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عودة إلى تاريخ متخيل في الإسكندرية
لا يجافي القول بأن الأعمال الروائية متشابهة في ثيماتها ومواضيعها المنطق السليم، وليس الغرض من هذا الكلام التلميح إلى نهاية الرواية، أو الوصول إلى مطافها الأخير، بل التذكير بأن الموجات الإبداعية لا تنفي ما سبقها ولا تستمد قيمتها من إلغاء آلية التواصل مع النصوص الأخرى.
ما يضعه المؤلف ضمن برنامجه هو البحث عن التوليفة التي تمنح عمله تماسكا وتؤجل باستمرار رنين جرس إنذار القارئ الذي يكون مسموعا عندما لا يستسيغ الحراك في حلبة الفضاء الروائي.
ويتحقق هذا الهدف ويتم تقيد المتلقي فعليا في منطقة التوقع والانتظار من خلال التحرك في مساحة أوسع تماما، كما تفعل ذلك الروائية التشيلية إيزابيل الليندي أو ليناردو دي بادورا. وبالطبع قد يبادر الكثير من الروائيين باختبار هذا الطريق، لكن لا ينجح من بينهم إلا من لا يستخف بمطبات الأمتار الأخيرة، مشخصا العلامات التي تقوم عليها متانة النص الروائي ونبرته الإقناعية. وهو المبدأ الذي حدد بموجبه الكاتب المصري علاء الأسواني خطوط روايته الجديدة “الأشجار تمشي في الإسكندرية”.
تعدين الشخصية
الرواية تحفل بشخصيات من خلفيات سياسية وثقافية وإثنية متعددة تتقاطع مصائرها في البعد المكاني الذي بناه الكاتب بدقة
يشرك صاحب “عمارة يعقوبيان” القارئ في مناخ الرواية من الرمية الأولى. إذ يختار الراوي ضمير المخاطب في افتتاحية السرد، مشيرا إلى البعدين الزمني والمكاني في آن واحد. وما إن يمضي السرد لمسافة أبعد حتى يتخذ منحى وصفيا، وهذا يتسق مع ما ذهب إليه جيرار جينيت بأنه من المحتمل أن يكون السرد بداية للوصف ولا يكتم من التماعاته.
ويعلن الراوي منذ البداية عن المكان الذي سيصبح منطلقا للحلقات السردية إذ تتجه العدسة نحو مطعم “أرتينوس” كاشفة عن عمقه التاريخي والتحولات التي ألقت بظلالها على هذا المكان. ويكثف الراوي كليّ العلم أزمنة ممتدة بالإشارة إلى استبدال صورة الملك فاروق الذي زار أرتينوس عندما كان متربعا على العرش بصورة لأعضاء مجلس قيادة الثورة إلى أن ينفرد أحد أعضاء المجلس بالسلطة وفي غضون هذه المدة يتوفى صاحب المطعم “جورج أرتينوس”، وتحل ابنته “ليدا” مكانه في إدارة المطعم وتبادر بتعليق صورة عبدالناصر، وإزاحة غيره، وبذلك يكون الخط الزمني للرواية واضحا قبل أن تدخل الشخصيات إلى دائرة السرد.
تقوم القوة الإقناعية للرواية على الشخصيات المعدنة للأدوار المحددة، قد يتوسل المؤلف بتقنية الوصف أو الحدث الفرعي لتمطيط مرويته، وينطلي ذلك على المتلقي، ولكن الشخصية الروائية لا تتمثل وظيفتها في زيادة كسب المساحة السردية إنما تتبين البصمة الإبداعية في تناوب الشخصيات على المشهد وانتظامها في صياغة الخطاب السردي.
وإذا كان آلان روب جرييه قد أعلن نهاية رواية الشخصيات فإن هناك من يعتقد بأن العمل الروائي هو في الأساس فن نحت الشخصية التي تنهض عليها تفاصيل التشكيلة الروائية بأكملها. وتحفل “الأشجار تمشي في الإسكندرية” بشخصيات من خلفيات سياسية وثقافية وإثنية متعددة تتقاطع مصائرها في البعد المكاني وهو مدينة الإسكندرية التي تراها في تركيبة العتبة الأولى. ولا تفك مغاليق العنوان إلا مع الحوار المتبادل بين شخصيتي ليدا وأنس وما يرشح من ملفوظات الاثنين يحيل إلى الترابط بين جملة العنوان النبوئية ومتن النص.
والمعروف عن إستراتيجية الأسواني في تحبيكه الروائي هو تسمية أعماله بأسماء الأمكنة. والغرض من هذه اللازمة هو الإيهام بالواقعية. في روايته الأولى “عمارة يعقوبيان” يسند إلى موقع البناية وظيفة الإطار للشخصيات التي تنفصل عن البؤرة وتكتمل مستوياتها الذهنية والنفسية والجسمانية، متنقلة بين أمكنة أخرى، أما في عمله الجديد فيكون المطعم مجسدا لهذه الوظيفة.
يكشف تموضع الراوي بأن وظيفته إدارية على الأغلب إذ تتواتر المعلومات بشأن المكان من منظوره لافتا إلى المبادئ التي سنها جورج أرتينوس للعاملين في المطعم من حيث الاهتمام بالزبون، والاحتفاء به. إن الشعور بالتميز هو ما يشد الناس إلى أرتينوس الذي تغلق أبوابه بعد منتصف الليل. قبل أن يصل السرد إلى الزاوية التي تضم مجموعة من الأصدقاء الذين أطلق عليهم القنصل الأميركي وهو كان جليسهم لقب الكوكاس.
ترصد عين الراوي شخصية كارلو الذي يماثل نجوم السينما بمواصفاته وغرامياته الحميمية. يتسلسل السرد في التعريف بالشخصيات بدءا من عباس القوصي وزوجته نهى الشواربي ابنة أحد وزراء العهد الملكي مرورا بالفنان التشكيلي أنس وتوني كازان صاحب مصنع الشكولاتة وصولا إلى شانتال التي لم تغادر المدينة، وأفلتت من قرار الترحيل الذي أعلن عنه بعد العدوان الثلاثي. توزعت حياتها بين الإشراف على مكتبة بلزاك التي ذاع صيتها لدى المثقفين المغرمين بالمجلات والكتب الفرنسية، وبين لقائها بجماعة كوكاس. وهي تثير جدلا بالخبر الذي تنقله للأصدقاء عن اعتقال الشرطة لكل رجل تكون عيناه جميلتين.
من هذه النقطة يدور الحوار بين الشخصيات التي تتفاوت أدوارها في الملعب السردي بين الثانوية والرئيسية، ويحدد مجال مشاركة نهى بالإشارة إلى تنكيل سلطة العسكر بوالدها على الرغم من أن الأخير قد رفض كل العروض التي تلقاها في فرنسا وعاد إلى بلده مسديا الخدمات لمصر من موقعه كوزير العدل. لكن ذلك كله لا يشفع له، إذ يلقى القبض عليه وتتم مصادرة الأموال التي ورثها من أجداده، وما يسمع من كلامها هو نبرة الحنين إلى العهد الملكي والاستخفاف بالتهم التي فبركت للملك الفاروق وما شاع بأنه قد مات في إيطاليا بسبب الإفراط في الطعام.
يذكر أن ما تقوله نهى عن الجماهير وسيكولوجيتهم المتقلبة في سرعة الانسياق مع الطرف الأقوى يتكرر في الحلقات السردية اللاحقة، منها ما تستعيده لحظة احتفال الجماهير في الشوارع بزيارة الملك إلى الإسكندرية، كما تستشف الحس الانتقادي في انقياد العمال لقرار تأميم مصنع الشكولاتة وتكليف بدوي بإدارته بدلا من صاحبه توني كازان، الذي يعيد إلى الأذهان المصلح الانجليزي روبرت آوين لكن بنسخة مصرية.
ما يضيف تميزا لتشكيلة الأسواني هو تفوقه في الانتقال الرشيق بالحزام السردي نحو الكيانات المكانية المتنوعة. نادي السيارات، المصنع، المكتبة، شارع هليوبوليس، مقر الاتحاد الاشتراكي، إدارة التوجيه المعنوي، المقهى. هذا عدا عن أماكن للهو وهي مسكونة بأنفاس الهامش وطينة القاع المجتمعي أمثال شخصية عدلي وسلوى التي تغير اسمها إلى نعمت. وبالطبع إن عدسة الراوي تجوس في زوايا جديدة بالتزامن مع إضافة شخصيات أخرى إلى حلبة السرد.
عبر الإعلان عن الحدث يظهر مؤلف “شيكاغو” ألمعيته في تشبيك المكونات السردية الثلاثة “المكان، الشخصية، الحدث” ويمرر الأسئلة في كلام شخصية عن شخصية مقابلة ساعيا بذلك إلى عدم مصادرة صوت الراوي لهوية الشخصيات. وما تسمعه على لسان توني في حوار متبادل مع كارلو من سؤاله للأخير عن سبب مطاردته للنساء المتزوجات. ومن ثم الإبانة عن حقيقة هذه الرغبة لاحقا خلال صرف الأضواء نحو التكوين الأسري لكارلو وعقدته مع الأم مارتا التي كانت ضحية لاختيارات زوجها يبرز البعد الفني للعمل ويضفي عليه الحركية.
والأهم في شبكة شخصيات الرواية أنها لا تبدو معلقة خارج الجسم النصي بل يتألف إيقاع المادة المروية من التواصل الانسيابي بين الشخصيات الأمر الذي يحيل إلى ما يؤكده روجر ب.هينكل “الأسس المترابطة في الرواية، أو مناطق التركيز فيها، هي الانعكاسات والتطورات التي تتجسد في شخصية أو مجموعة من الشخصيات”.
المعادلة الروائية
ما يضيف تميزا إلى تشكيلة الأسواني هو تفوقه في الانتقال الرشيق بالحزام السردي نحو الكيانات المكانية المتنوعة
تضاهي كتابة الرواية في تصميمها والبحث عن النغمة الجامعة بين أجزائها صياغة المعادلة الرياضية. كما أن زيادة أو نقصان أيّ علامة في الرياضيات لا تسفر عنها سوى الأخطاء، كذلك الأمر في النص الروائي لا ينتهي انتفاخه بالتفاصيل المملة وحشده بالمعلومات الموغلة في القدم إلا بالتعثر.
صحيح لا توجد رواية مكتملة وخالية من الهفوات، ولا شك أن “الأشجار تمشي في الإسكندرية” مشمولة بهذا الحكم، فما يرد على لسان شخصية أريج زوجة أحد السياسيين في دولة خليجية، وهي تستهويها العلاقات الغرامية مع الأجانب، عن التناقض الشاخص في بلدها بين الطفرة العمرانية والعقلية البدوية إسقاط للحاضر على الماضي لأنه في ستينات القرن السابق لم تشهد تلك البلدان المد العمراني الناجم من الفوران النفطي.
ولا يفوت المتلقي إلى ما يضمر الخطاب من الربط بين التحضر والانتماء إلى الأرستقراطية. لكن هذا لا يبدل من خط الرواية عامة لأن الأسواني تمكن فعليا من الفصل بين زمنه الذاتي وزمن شخصياته دون أن يثقل النص بالأحداث التي تخللت تلك المدة الزمنية التي تغطيها الرواية. واكتفى على هذا المستوى بالومضات المحيلة إلى حرب اليمن وفشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا ويكون ذلك في السياق الذي يخدم الهوية الإبداعية للنص.
ليس مطلوبا من الرواية أن تكون مكملة أو بديلا للخطاب التاريخي بل تضع الظواهر الكاشفة للمزاج العام تحت المجهر كما يفعل ذلك علاء الأسواني إذ يشير إلى ما ساد في الإسكندرية من كتابة عبارة “إنه لا يفلح الظالمون” على أتوبيسات النقل، وهذا المقتبس الديني المضمر بالوعيد يعد خرقا للأجواء “الأورويلية” (نسبة إلى جورج أورويل) المشحونة بالتعبئة العاطفية.
يدس المؤلف خبر اعتقال الجاسوس الألماني لوتز وما أثاره من اللغط على المنابر الإعلامية في تلافيف الرواية وعلى ضوء هذا الحدث يتحول مصير الشخصيات وتتنكر المدينة لطابعها الكوزموبولوتاني ويخلو المطعم من رواده وما إن يدرك المتلقي هذا التحول حتى يستعيد العنوان ومغزاه الذي يشرحه أنس الفنان لحبيبته “ليدا” عندما يسرد للأخيرة قصة زرقاء اليمامة وشهرتها بقوة بصر خارقة إذ تبلغ القوم بأنها ترى الأشجار تمشي وسخر منها الناس حتى تبين في الأخير أن الأعداء غطوا أنفسهم بالأشجار مهاجمين قومها.
وعلى غرار زرقاء اليمامة يلمح أنس الأشجار تمشي في الإسكندرية ويذكر ليدا بنبوءته عندما تطالها تهمة العلاقة بالجاسوس الألماني، لأن لوتز كان يرتاد مطعمهم. ربما لا يبارح طيف رواية “ميرامار” ذهن المتابع لأقسام “الأشجار تمشي في الإسكندرية” وما يتضمنه عن استغلال موضوعة الجنس في ملف المخابرات يذكر بـ”الكرنك”، لكن هذا لا يعني بأن رواية الأسواني لا تملك صوتها الخاص بل يشهد للكاتب إمساكه بخيوط الشخصيات ومستويات اللغة المتسقة مع أبعادها الفكرية وموقعها الاجتماعي. أكثر من ذلك نجح الأسواني في إبعاد قبضة النمطية عن روايته فما يسرده ليس شكلا احتجاجيا ولا لونا بوليسيا أو رومانسية مبتذلة أو رميا بالأفكار الثقيلة في الوعاء أو تلذذا بالكابوسية بل محاولة للإفلات مما يريد الواقع منا أن نسلّم به.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
كه يلان محمد
كاتب عراقي