فندق فيكتوريا
.........................
شُيد بدمشق على مرِّ العصور القديمة العديد من الخانات لتقوم بوظيفة الفنادق في عصرنا الحالي، ومن ثم بدأت تظهر النزل (فندق صغير محدود الخدمات والمساحة) ومع التطور الذي شهدته دمشق وازدياد الأعداد الكبيرة من زوارها وسائحيها من عرب وأجانب، وبخاصة الملوك والرؤساء، بدأت الفنادق الحديثة على الطراز الأوربي تنتشر بدمشق وكان أول هذه الفنادق فندق "فيكتوريا"..
.
أطلق عليه اسم فندق أو نزل أو أوتيل فيكتوريا أو فندق "بسراوي الكبير"، ثم أصبح اسمه فندق "قصر الرشيد"
.
ولنتوقف عند تسميته "بسراوي" فهي كلمة غريبة لا نعرف لها معنى وقد وردت هذه التسمية لدى البديري الحلاق في كتابه "حوادث دمشق اليومية"، وأشار لها أيضاً الشهابي دون أن يعطي تفسيراً لها.
كان الفندق يقع في نهاية الزاوية اليمنى لضفة نهر بردى، ويحدد المرحوم الدكتور "قتيبة الشهابي" زمن بنائه ما بين عامي (1879– 1890)
وتعود تسميته نسبة إلى "الكساندرينا فيكتوريا" ملكة بريطانيا وأيرلندا والهند،..
.
فحين عزمت هذه الملكة على زيارة دمشق، أخذت دمشق تطلق اسمها على العديد من الأماكن احتفاء بها فكان جسر فيكتوريا ومشفى فيكتوريا (الزهراوي حالياً) وفندق فيكتوريا الذي أعدّ لاستقبالها فأخذ اسمها، ولم يعرف قبل ذلك اسماً له!؟
(يقول قتيبة الشهابي: أما تسميته فتعود إلى ما ذكر من أن صاحبه "الخواجة بترو" أعده لاستقبال "الملكة فكتوريا")،
.
من كلام الشهابي نستدل أن الفندق كان قائماً قبل عزم الملكة على زيارة دمشق التي لم تتم، ولكن لم يُعرف زمن دقيق لبناء الفندق..
.
وقيل إن من أشاده أحمد عزت العابد (1855– 1924) المستشار الخاص للسلطان عبد الحميد الثاني العثماني ووالد أول رئيس للجمهورية السورية عام 1932 محمد علي العابد،
وقتيبة الشهابي يقول إن صاحبه "الخواجة بترو" ولكن لم يحدد الزمن الذي كان "بترو" هو صاحب هذا الفندق.
.
أقيم في ذلك الزمن فندق فيكتوريا على ضفة نهر بردى في منطقة مهمة فهو قريب من محطة القنوات (محطة القطار في ساحة الحجاز) بجوار دار الحكومة (وزارة الداخلية اليوم) ودار بلدية دمشق (هدمت)،
إضافة لكونه قريباً من ساحة المرجة التي تتوفر فيها كل متطلبات الزائر والسائح، خاصة محطة الديليجانس (العربات)
.
وكانت تلك المنطقة التي شُيد فيها الفندق بين البساتين الغضّة حيث يجتمع إلى منظر المياه الجميل منظر الازهار والأشجار المثمرة ..
وأكثر ما يكون ذلك في الربيع حيث كان يُقبل السياح على دمشق إقبالاً عظيماً قادمين من أقاصي البلدان للتمتع بمسرات الحياة في هذا النعيم الأرضي المنقطع النظير.
.
وصف الفندق:
.........................
دون أدنى شك كان فندق فيكتوريا من أهم وأعظم الفنادق في ذلك الوقت، تكلم عنه، تحدث عنه، وصَفه، الكتاب والصحفيون والباحثون والسياسيون العرب والأجانب، وكان على درجة عالية من التنظيم، ومجهزاً بأحدث معدات الفنادق الأوربية الحديثة آنذاك،
.
كان الفندق مؤلفاً من ثلاثة طوابق، ذا سقف هرمي ضخم مبني من القرميد الأحمر، وله شرفة كبيرة (تراس).
.
وطراز عمارة الفندق طراز أوروبي ..اما عمارته من الداخل فطرازها شرقي بسيط يتركز في السقف المزخرف بالتزيينات المبسطة، ويحتوي على الزخارف والتزيينات العربية، وكذلك الأقواس العربية والأعمدة، وله نوافذ كثيرة منها النوافذ المرتفعة حتى حدود السقف.
.
اشتهر الفندق بجودته ونظافته وبحسن بنائه الصحي وتوفر جميع أسباب الراحة والرفاهية فيه . كما أن فرشه وأثاثه فاخر ممتاز على الطراز الشرقي والأوربي،
وكان ذائع الصيت بخدمته الممتازة ومطبخه، كما تضمن قسماً خاصاً فُرش فرشاً متقناً وجُعل خصيصاً للحفلات الكبيرة والليالي الراقصة (حسب تعبير ذلك الزمان).
كان على إدارة هذا الفندق عام 1930 الخواجة "ندرة الوف"، وفي عام 1943م كان يديره "ميشيل ساريكاكي" الذي شهد له الكثيرون بطول الباع بهذه المهنة.
هؤلاء زوار الفندق:
...........................
استقطب فندق فيكتوريا علية القوم عرباً وأجانب، وأقيمت فيه أهم الاحتفالات والحفلات الخاصة والعامة، وكان مقراً لانعقاد العديد من المؤتمرات العربية والإسلامية كما كان مركزاً سياسياً وعسكرياً على مرِّ الأيام والسنين، ومما شهده هذا الفندق من أحداث وزوار:
• الإمبراطور الألماني "غليوم الثاني" حين جاء دمشق بزيارة رسمية مع زوجته الإمبراطورة "أوغوستا فيكتوريا" في السابع من تشرين الثاني عام 1898م، نزل في فندق فيكتوريا حسبما تشير عدد من المصادر، ((ولكن يعتقد إن الإمبراطور وزوجته نزلا في دائرة "المشيرية"، وكان موقعها مكان قصر العدل اليوم، وهي واسعة، ويبلغ طولها نحو ثلاثمئة ذراع وعرضها كذلك وقد استغرق إعدادها خمسة عشر يوماً لتكون صالحة لاستقبال الإمبراطور وزوجته، وإنما حاشية الإمبراطور ومرافقوه هم من نزلوا فندق فيكتوريا..))
• وصل إلى دمشق عام 1902م (أو عام 1905م) المهندس المعماري الإسباني "فرناندو دي "قادماً من إسطنبول، ومكث في فندق فيكتوريا، وفيه عرف زوجته الأولى "زنوبيا سيريكاكيس"، وهذا المعماري كان له الأيادي البيضاء في إشادة العديد من الأبنية الرائعة بدمشق.
• كما نزل فيه الحاكم العسكري العثماني لدمشق "أحمد جمال باشا" الملقب بـ«السفاح» وذلك عام 1916، وبقي فيه طوال إقامته في دمشق.
.
• وكذلك "جمال باشا المرسيني" الملقب بـ«الصغير» الذي خلف "أحمد جمال باشا" وبقي فيه حتى شهر أيلول من عام 1918 وكان مقراً للقيادة العسكرية العثمانية طيلة فترة الحرب العالمية الأولى.
• دخل الجنرال البريطاني "إدموند اللنبي" إلى دمشق عام1918 وهو راكب سيارة مكشوفة، عند دخول القوات الإنكليزية دمشق مع الأمير "فيصل بن الحسين" فنزل في (فندق فيكتوريا) فأسرع "اللنبي" يستدعي إليه قائد الخيالة الأسترالي الجنرال "شوفيل" وطلب منه أن يبعث بسيارة ليأتي بالأمير "فيصل" إلى فندق فيكتوريا ليلتقي معه، اتسّمت هذه المقابلة بين الرجلين بشيء من التوّتر وحضرها "لورانس العرب" كمترجم، كما حضرها "نوري السعيد" والقائد الأسترالي "شوفيل" وعدد من الضباط الإنكليز.
• جاء اللورد "بلفور" في شهر نيسان من عام 1925 الى دمشق ونزل في فندق "فيكتوريا" ومكث فيه فقط 19 ساعة لم يبرح غرفته، فقد احتشد الدمشقيون شباباً وشيوخاً يحملون الشعارات السوداء وهم يهتفون بسقوط "بلفور" وحصلت مصادمات مع قوات الانتداب الفرنسي آنذاك سقط خلالها أكثر من 50 جريحاً، مما اضطر "بلفور" للهرب من دمشق.
• عقد في ردهات الفندق المؤتمر النسائي الأول الذي عقد في دمشق عام 1930 وكانت "نور حمادة" رئيسة المؤتمر وأقامت في نفس الفندق.
• الممثل الهزلي الشهير "شارلي شابلن" (١٨٨٩-١٩٧٧) نزل في فندق "فيكتوريا" في زيارته لدمشق عام 1931 لحضور عرض فيلمه الصامت "أضواء المدينة".
• نزل الكاتب الأيرلندي الساخر "جورج برنارد شو" (1856- 1950) في فندق فيكتوريا عند زيارته لدمشق في آذار من عام 1931 (وقيل نزل في فندق خوام).
• وأيضا أقامت فيه القيادة البريطانية العسكرية مع دخول الديغوليين إلى دمشق عام 1941م.
وبعد:
هذا غيض من فيض عن فندق فيكتوريا؛ ذلك المكان الذي كانت تعبق بين أحجاره وزواياه ونوافذه.. قصص وحكايا دمشق، كانت هناك ذاكرة دمشق، وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي قضينا على سجل تاريخي هام من سجلات الوطن حين هدمنا فندق فيكتوريا تنفيذاً لمخطط المهندس الفرنسي الشهير صاحب الأسى في حياة الدمشقيين، "ميشيل إيكوشار"، الذي سعى من خلال مخططه التنظيمي لدمشق إلى محو الذاكرة الوطنية والهوية الوطنية، بهدف تشويه دمشق ومحو هويتها وتراثها.
.
أزيل الفندق نهائيا عام 1955م، حين شُيد في مكانه مبنى تجاري إسمنتي ضم مكاتب ومحلات كثيرة، هو بناء الحايك، ففي عام 1953 تم البدء في إشادة بناء الحايك ككتلة إسمنتية مكان أهم أبنية دمشق التاريخية والتراثية، وانتهى إشادة بناء الحايك في العام 1955.ثم اصبح فندق "سميراميس"..
.
ويبقى الفندق حاضراً في ذاكرة السوريين أفراداً مسنين ممن عاصروه ومؤرخين يسعون للحفاظ عن ذاكرة المكان.
.
الأماكن التي نمر بها أو نسكنها، لها تفاصيلها الخاصة من "جدران وأبواب ونوافذ"، تنثر عبقاً ينفذ داخل مسام أجسادنا.. لتصبح محملة بذاكرة المكان، وبدلاً من أن نسكن نحن الأماكن.. تصبح هي من تسكننا.
بقلم شمس الدين العجلاني