"بعض حياة وشعر" سيرة وقصائد لشاعرة روسية أنهى حياتها اليأس
مارينا تسفيتايفا شاعرة واثقة كان يحركها الحب.
الجمعة 2024/05/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
كانت تعيش الشعر وتكتبه بمثابرة وإصرار
في ظل تصاعد الأنظمة القمعية في مختلف أنحاء العالم لا بد لنا من التذكير بما اقترفته أنظمة سابقة مماثلة خاصة في حق المبدعين والمثقفين، مثل ما اقترفه النظام السوفيتي في حق العديد من الأدباء، رغم ما خطوه من تجارب تجاوزت المحلية إلى العالمية، لكنهم ماتوا كمدا مثل الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا.
جاءت الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا (1892ـ1941) إلى عالم الشعر في لحظة تاريخية تمثل ذروة التنافس بين شعراء بطرسبورغ ألكساندر بلوك، نيكولاي فوميليوف وزوجته آنا أخماتوفا، ميخائيل كوزمين من جهة، وشعراء موسكو فاليري بريوسوف ومجلة “الميزان” الخاضعة للرمزيين والقريبين منهم، وكان يتولى تنظيمها أندريه بيلي من جهة أخرى.
وقد فضلت مارينا تسفيتايفا النأي بنفسها عن اتباع أي من التيارات الأدبية التي عاصرتها، وعن الالتزام بتقاليد التراث الشعري الروسي (ما نسميه بالأصالة)، كما عن تيار التجديد الذي تمثله الحداثة الشعرية بأشكالها العديدة أيامذاك. لقد اختارت تسفيتايفا أن تعبر بصوتها الخاص المتميز والمستقل.
هذا الكتاب “حياة وشعر” تقديم وترجمة الناقد نوفل نيوف، الصادر عن دار التنوير، يقدم رؤية متكاملة لسيرة حياة وشخصية وشعر تسفيتايفا بين موسكو والقرم وبراغ وبرلين وباريس.. إلخ، وعلاقاتها بالشعراء والمثقفين ورؤاها وأفكارها حول الشعر والثقافة في روسيا، مؤكدا أنها تندرج في عداد الكوكبة الألمع بين شعراء “العصر الفضي” الروسي: فاليري بريوسوف، فياتشيسلاف، ميخائيل كوزمين، مكسيميان فولوشن، ألكساندر بلوك، أندريه بيلي، نيكولاي فوميليوف، آنا أخماتوفا، إيغر سيفيربانن، بوريس باسترناك، أوسيب ماندلشتام، سيرغي يسينين، فلاديمير ماياكوفسكي.. وآخرين.
يوضح نيوف أن العصر الفضي يغطي الفترة (1890ـ1930) ويعد مرحلة ظل معظمها حتى وقت قريب شديد الغموض والتعقيد. وقد جاء المصطلح للإشارة إلى ولادة نهضة ثانية، توازيا مع نهضة “العصر الذهبي” (الثلث الأول من القرن التاسع عشر) في تاريخ الشعر الروسي.
سيرة مؤلمة
◙ كتاب "حياة وشعر" يقدم رؤية متكاملة لسيرة حياة وشخصية وشعر تسفيتايفا بين موسكو والقرم وبراغ وبرلين وباريس
كتبت تسفيتايفا سيرة ذاتية شديدة التكثيف والإيجاز. وقد اتسعت هذه الخطاطة لعشرات الكتب ومئات البحوث والمقالات عن حياتها وشعرها، ولا يزال الباب مفتوحا. حيث تمتلئ سيرتها بالأحداث المؤلمة والمعاناة الشديدة نتيجة مواقفها ومواقف أسرتها السياسية والاجتماعية في فترة عصيبة على المثقفين من تاريخ روسيا. عائلتها كانت واحدة من أكثر العائلات تعليما في موسكو. والدها أستاذ فقه اللغة، مؤسس متحف بوشكين الحكومي للفنون الجميلة إيفان فلاديميروفيتش تسفيتايفا. أما والدتها فكانت عازفة البيانو.
يقول هنري تروايا “والحق إن تسفيتايفا لم تتبع حتى لنفسها. فكثيرا ما كان يخيل لها أنها ليست هي من يكتب الشعر، وكأن الكلمات التي تقطر من رأس ريشتها إنما تأتي من مكان ما في عالم آخر، كأن كل ما كتبته أعطي لها، وأملي عليها”. فهي تصرح بما لا يزيد “مصدر” إلهامها هذا إلا غموضا، إذ تقول “دائما كنت أعرف كل شيء، وذلك منذ الطفولة. دائما كانت عندي معرفة فطرية”.
كانت تؤمن بأن الإلهام يوحي به إليها. ومنذ سن مبكرة كانت تعرف أن “الأرض ليست كل شيء”. وحين تسأل عما إذا كانت تؤمن بالله، كانت تجيب دائما “أنا لست مؤمنة ـ أنا عارفة”. ويلفت نيوف إلى أنه لم يكن لأي نقد أن يجرح تسفيتايفا، إذ كانت شديدة الثقة بموهبتها، تريد لشعرها ـ منذ البداية ـ أن يكون صرخة قلب تلامس قلوب من لم يستطع كتم هذه الصرخة في نفسه، لقد تشكلت رؤيتها للشعر وطبيعته باكرا. فكانت ترفض أن يطالبها أحد بأي فضيلة في الشعر غير فضيلة الصدق الخالص، التعبير عن مشاعرها بصدق وجرأة وإخلاص.
حتى الأخطاء التي يمليها عليها الولع، والخروج أحيانا على الأوزان الشعرية.. كل ذلك كان غاليا عليها، ترى فيه شاهدا على الحالة الشعرية الآسرة التي تعيشها وهي تكتب قصائدها: إنها لن تضحي بالشعر من أجل النظم، من أجل قافية أو تفعيلة أو قاموس. لقد عبرت عام 1913 وهي في كوكتيل (في شبه جزيرة القرم) عن ثقتها الراسخة بموهبتها الشعرية.
وبعد هذا التاريخ بسنوات طويلة عادت تسفيتايفا لتؤكد في يومياتها بجلاء ويقين “إن ثقتي بأشعاري لا تتزعزع”. ولم يكن ذلك غرورا أو تعاليا، إذ كان الشعر عالمها وشغلها الوحيد الذي لم تخنه أو تتخل عنه في ظل أي ظروف. كان كل شيء في حياتها (العشق والحب والأفكار والأمومة والصداقة والأحلام وحصار الروح والجوع والغربة والهموم اليومية…) شعرا ومادة للشعر، حتى عندما تنسجه نثرا.
ويضيف “كانت تعيش الشعر وتكتبه بمثابرة وإصرار، غير مبالية إن كانت هناك فرصة لنشره أم لا. لم تكن قادرة على ألا تكتب، كانت كلها هنا، مهما حلقت وماجت. وكانت تراهن على الزمن هنا، على هذه الأرض”.
ينقل نيوف عن الشاعر يوسف برودسكي في حديثه لسولومون فولكوف، قوله “إن تسفيتايفا أحد أكثر الشعراء تنوعا إيقاعيا. الشعراء الأثرياء والأسخياء إيقاعيا. على أن السخي مقولة نوعية. دعنا لا نستخدم إلا المقولات الكمية، أليس كذلك؟ إن الزمن يتكلم مع الأفراد بأصوات مختلفة. للزمن طبقة صوته العالية (باص)، وطبقة صوته الخفيضة (تينور). عنده الصوت الخادع. إذا شئت. إن تسفيتايفا هي صوته الخادع. إنها الصوت الذي يتجاوز حدود نوتة السلم الموسيقي. هذا الصوت المأساوي.. ففي الأخير إن الزمن ذاته يعرف كنه نفسه. يجب عليه أن يفهم وأن يعلن عن نفسه. من هنا، من وظيفة الزمن هذه، تظهر لنا تسفيتايفا”.
◙ لم يبق من أثر للشاعرة مارينا تسفيتايفا إلا ما خلفته في تجربتها الأدبية من كتب ومخطوطات ويوميات ضمها هذا الكتاب
ويقول نيوف إن الإعلان عن بداية الحرب العالمية الأولى (يوم 16 يوليو 1914) نقطة التحول المصيري الأكبر في حياة تسفيتايفا وأسرتها ووطنها روسيا. وقد اتخذت تسفيتايفا موقفا من تلك الحرب معاديا ولا مباليا أول الأمر. إلا أن ألمانيا لم تلبث أن أعلنت الحرب على روسيا بعد أيام قليلة على ذلك التاريخ. وعندئذ، وفي ذروة ما ولده ذلك من مشاعر متضاربة بين رعب وعصبية وطنية وضياع.. تغير موقف تسفيتايفا من معاداة الحرب واللامبالاة بها إلى انحياز صريح إلى ألمانيا التي كانت مغرمة بأدبها وفلسفتها وموسيقاها. وهذا ما عبرت عنه بوضوح وشجاعة شديدين في قصيدة طويلة، منها “ومن أين لي برجاحة العقل”، “العين بالعين، والدم بالدم”/ ألمانيا أنت جنوني/ ألمانيا أنت حبي”. لقد كانت هذه الشجاعة تهورا أو استفزازا في ظروف الحرب، إلا أن تسفيتايفا (ويا للغربة! كما يقول هنري تروايا) أفصحت عن موقفها هذا في الكثير من الأمسيات الأدبية الخاصة من غير أن يوجه أحد إليها اللوم.
ويوضح “أحيانا كان يزورها في بيتها بالقرم الشبيه بوكر للفئران بعض الأصدقاء بينهم مؤيدون للثورة الشيوعية، مثل فلاديمير ماياكوفسكي وإيليا إرنبورغ اللذين لم تكن تتردد لحظة في الإفصاح أمامهما عن أسفها على النظام القيصري البائد، قائلة إن تحمل فساده وغبائه أهون عليها من فظاعات النظام البلشفي، وكانا ينصتان إلى كلامها الغاضب مبتسمين، يمنعهما احترام موهبتها الشعرية والشفقة على فقرها من الرد والخصام. في تلك المرحلة تكتب تسفيتايفا في يومياتها ‘لا أكره الشيوعيين.. بل أكره الشيوعية'”.
ويتابع “في يوم 3 فبراير من عام 1920 فقدت تسفيتايفا طفلتها الثانية إيرينا قبيل بلوغها الثالثة من العمر، حيث ماتت من الجوع والضعف في مأوى للأطفال بالقرب من موسكو. وإذ تلوم تسفيتايفا نفسها على تقصيرها الكبير بحق طفلتها المتوفاة، ثم تحاول تخفيف ذنبها بالقول إنها كانت وحيدة، ليس بقربها زوج أو أب أو ابن، فإنها تعترف مخاطبة ابنتها أريادنا ‘فلتعرفي أني أنقذتك أنت، إذ لم أستطع أن أنقذكما كلتيكما. لقد اخترتك أنت.. وقد نجوت على حساب إيرينا'”.
الحب محرك شعري
في هذه الظروف، وفقا للمترجم، تعود تسفيتايفا إلى المشاركة في قراءات شعرية أمام الجمهور ليس من أجل قروش زهيدة هي في أمس الحاجة إليها، بقدر ما هو للهرب من مصابها ومما هي فيه من مشقة وبؤس. ويشير إلى أنه في بداية عام 1921 أكملت تسفيتايفا مجموعتها “معسكر البجع” كنشيد لتمجيد الجيش الأبيض كتبته ابتداء من الثورة الشيوعية وحتى نهاية الحرب الأهلية. وعندما انتهت في العام نفسه من تنقيح مجموعتيها الشعريتين الأخريين “فراسخ1″ و”فراسخ2” كان إيليا إرنبورغ قد حصل من السلطة السوفيتية على جواز سفر ومهمة للسفر إلى الخارج (مارس 1921)، فوعد تسفيتايفا بأن يبحث لها سرا عن مصير زوجها الغائب منذ أربع سنوات والمقطوعة أخباره منذ سنتين.
◙ سيرة الشاعرة تمتلئ بالأحداث المؤلمة والمعاناة الشديدة نتيجة مواقفها ومواقف أسرتها السياسية والاجتماعية في فترة عصيبة
لم يمض وقت طويل حتى طرق بابها فجأة ذات مساء من يوليو 1921 كاتب كانت تراه في الأمسيات الأدبية هو بوريس باسترناك، حاملا رسالة من إرنبورغ يخبرها فيها بأن زوجها سيرجي إفرون موجود في براغ، ومنذ تلك اللحظة بات همها الوحيد هو اللحاق بزوجها، إلا أن المثقفين كانوا حينها يعيشون أسوأ الأوضاع وأشدها خطرا. فقد اعتقل الشاعر نيكولاي غوميليوف زوج آنا أخماتوفا سابقا، وأعدم رميا بالرصاص بعد أيام على اعتقاله، وقبل ذلك توفي الشاعر ألكساندر بلوك وهو ممنوع من السفر إلى الخارج طلبا للعلاج.
ويكشف نيوف أن مراسلات تمت بين تسفيتايفا وبوريس باسترناك “عقب استقرارها في برلين استلمت تسفيتايفا أول رسالة من باسترناك عبر فيها عن إعجابه العميق بمجموعتها “الفراسخ”، وكانت بداية لمراسلات نادرة ورفيعة القيمة والمستوى امتدت 14 عاما (1922 ـ 1936)، ضمها كتاب صدر في موسكو عام 2016 يقع في 650 صفحة.
ومن جانب آخر يكشف نيوف عن أثر الحب في حياة تسفيتايفا ناقلا عنها ما جاء في رسالة لها لألكساندر بلوك “ليس للحياة كل شيء عندي ـ حريق! أستطيع أن أقيم عشر علاقات معا (يا “للعلاقات”!)، وأن أؤكد لكل واحد من أعمق أعماقي أنه ـ الوحيد. ولكني لا أتحمل أقل التفاتة رأس عني. هذا يؤلمني، هل تعلم؟ أنا إنسان ممزق، أما أنتم فمدرعون جميعا. عندكم كلكم: الفن، البروز الاجتماعي، الصداقات، التسليات، الأسرة، الواجب، في العمق، لا شيء. كل شيء يسقط، مثل الجلد، ولكن تحت الجلد لحما حيا أو نارا: أنا، الروح. لا يتسع لي أي شكل ـ حتى أشد أشكال شعري اتساعا! لا أستطيع أن أعيش. لا شيء عندي كما عند الناس. لا أستطيع أن أعيش إلا في الحلم الذي يراه النائم.. إني لا أحكي حكايات، أحلم في نومي أحلاما ساحرة ورهيبة، فيها حب، وفيها موت، هذه حياتي الحقيقية، بدون مصادفات، مميتة، يتحقق فيه كل شيء.. ماذا ـ أفعل بهذه؟! ـ في الحياة؟”.
ويضيف “كثيرون أشاروا إلى أن الحب عند تسفيتايفا كان دائما الدافع والوقود الروحي الذي ينضج فيها الشعر ويفجره. والكثير من غرامياتها كان ينحصر في مراسلات من دون لقاءات شخصية، وهي نفسها تقول في أواخر حياتهها “كل ما في الأمر هو أن نحب، أن ينبض القلب فينا ـ ولو تحطم نثرات! إنني دائما أتحطم نثرات، وما أشعاري كلها إلا نثرات قلبي الفضية بالذات”. على أن هناك نقطة جوهرية في فلسفة الحب عند تسفيتايفا تتمثل في قولها “ليس الجسد في الحب غاية، بل هو وسيلة”.
قبيل رحيل تسفيتايفا كتبت “أعيش تحت غيمة الرحيل. أشعر أن حياتي تنكسر نصفين، وهذه نهايتها الأخيرة. سواء غدا أو بعد عام، فأنا لم أعد هنا.. ولا أعيش. إني خائفة على مخطوطاتي. فنصفها لا يجوز نقله! كذلك على كتبي ـ نصفها لا ينقل! فماذا أخذ وماذا أبقى؟ لم يهبني الله العمى! كم أتنفس بصعوبة، أعيش (لا ـ أعيش)”، إلى أن تخلص في مكان آخر من القول”أستطيع أن أستغني عن روسيا، أما عن دفاتري فلا”.
أما عن رحيل تسفيتايفا فقد “اختارت قطعة حبل مما كانت تحزم به أغراضها وعَقدتها أنشوطة. وعلقت خرقة تستر بها كوّة في الجدار. ثم أقدمت على الانتحار وكأنه أمر إلهيّ. عاد الجيران فرأوها مشنوقة وقدماها تكادان تلامسان الأرض.. شيع الجيران وعدد قليل من الناس جثمان مارينا تسفيتايفا إلى مثواه الأخير. لم يلق أحد عليها كلمة وداع، لم تنشر أي جريدة خبر وفاتها، لم توضع شاهدة على قبرها تحمل اسمها وتاريخ الولادة والوفاة، لم يسوّر القبر بحجر أو خشب أو علامات، لم يبق من أثر للشاعرة مارينا تسفيتايفا إلا ما خلفته من كتب ومخطوطات ويوميات.. ضمّها هذا الكتاب”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
مارينا تسفيتايفا شاعرة واثقة كان يحركها الحب.
الجمعة 2024/05/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
كانت تعيش الشعر وتكتبه بمثابرة وإصرار
في ظل تصاعد الأنظمة القمعية في مختلف أنحاء العالم لا بد لنا من التذكير بما اقترفته أنظمة سابقة مماثلة خاصة في حق المبدعين والمثقفين، مثل ما اقترفه النظام السوفيتي في حق العديد من الأدباء، رغم ما خطوه من تجارب تجاوزت المحلية إلى العالمية، لكنهم ماتوا كمدا مثل الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا.
جاءت الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا (1892ـ1941) إلى عالم الشعر في لحظة تاريخية تمثل ذروة التنافس بين شعراء بطرسبورغ ألكساندر بلوك، نيكولاي فوميليوف وزوجته آنا أخماتوفا، ميخائيل كوزمين من جهة، وشعراء موسكو فاليري بريوسوف ومجلة “الميزان” الخاضعة للرمزيين والقريبين منهم، وكان يتولى تنظيمها أندريه بيلي من جهة أخرى.
وقد فضلت مارينا تسفيتايفا النأي بنفسها عن اتباع أي من التيارات الأدبية التي عاصرتها، وعن الالتزام بتقاليد التراث الشعري الروسي (ما نسميه بالأصالة)، كما عن تيار التجديد الذي تمثله الحداثة الشعرية بأشكالها العديدة أيامذاك. لقد اختارت تسفيتايفا أن تعبر بصوتها الخاص المتميز والمستقل.
هذا الكتاب “حياة وشعر” تقديم وترجمة الناقد نوفل نيوف، الصادر عن دار التنوير، يقدم رؤية متكاملة لسيرة حياة وشخصية وشعر تسفيتايفا بين موسكو والقرم وبراغ وبرلين وباريس.. إلخ، وعلاقاتها بالشعراء والمثقفين ورؤاها وأفكارها حول الشعر والثقافة في روسيا، مؤكدا أنها تندرج في عداد الكوكبة الألمع بين شعراء “العصر الفضي” الروسي: فاليري بريوسوف، فياتشيسلاف، ميخائيل كوزمين، مكسيميان فولوشن، ألكساندر بلوك، أندريه بيلي، نيكولاي فوميليوف، آنا أخماتوفا، إيغر سيفيربانن، بوريس باسترناك، أوسيب ماندلشتام، سيرغي يسينين، فلاديمير ماياكوفسكي.. وآخرين.
يوضح نيوف أن العصر الفضي يغطي الفترة (1890ـ1930) ويعد مرحلة ظل معظمها حتى وقت قريب شديد الغموض والتعقيد. وقد جاء المصطلح للإشارة إلى ولادة نهضة ثانية، توازيا مع نهضة “العصر الذهبي” (الثلث الأول من القرن التاسع عشر) في تاريخ الشعر الروسي.
سيرة مؤلمة
◙ كتاب "حياة وشعر" يقدم رؤية متكاملة لسيرة حياة وشخصية وشعر تسفيتايفا بين موسكو والقرم وبراغ وبرلين وباريس
كتبت تسفيتايفا سيرة ذاتية شديدة التكثيف والإيجاز. وقد اتسعت هذه الخطاطة لعشرات الكتب ومئات البحوث والمقالات عن حياتها وشعرها، ولا يزال الباب مفتوحا. حيث تمتلئ سيرتها بالأحداث المؤلمة والمعاناة الشديدة نتيجة مواقفها ومواقف أسرتها السياسية والاجتماعية في فترة عصيبة على المثقفين من تاريخ روسيا. عائلتها كانت واحدة من أكثر العائلات تعليما في موسكو. والدها أستاذ فقه اللغة، مؤسس متحف بوشكين الحكومي للفنون الجميلة إيفان فلاديميروفيتش تسفيتايفا. أما والدتها فكانت عازفة البيانو.
يقول هنري تروايا “والحق إن تسفيتايفا لم تتبع حتى لنفسها. فكثيرا ما كان يخيل لها أنها ليست هي من يكتب الشعر، وكأن الكلمات التي تقطر من رأس ريشتها إنما تأتي من مكان ما في عالم آخر، كأن كل ما كتبته أعطي لها، وأملي عليها”. فهي تصرح بما لا يزيد “مصدر” إلهامها هذا إلا غموضا، إذ تقول “دائما كنت أعرف كل شيء، وذلك منذ الطفولة. دائما كانت عندي معرفة فطرية”.
كانت تؤمن بأن الإلهام يوحي به إليها. ومنذ سن مبكرة كانت تعرف أن “الأرض ليست كل شيء”. وحين تسأل عما إذا كانت تؤمن بالله، كانت تجيب دائما “أنا لست مؤمنة ـ أنا عارفة”. ويلفت نيوف إلى أنه لم يكن لأي نقد أن يجرح تسفيتايفا، إذ كانت شديدة الثقة بموهبتها، تريد لشعرها ـ منذ البداية ـ أن يكون صرخة قلب تلامس قلوب من لم يستطع كتم هذه الصرخة في نفسه، لقد تشكلت رؤيتها للشعر وطبيعته باكرا. فكانت ترفض أن يطالبها أحد بأي فضيلة في الشعر غير فضيلة الصدق الخالص، التعبير عن مشاعرها بصدق وجرأة وإخلاص.
حتى الأخطاء التي يمليها عليها الولع، والخروج أحيانا على الأوزان الشعرية.. كل ذلك كان غاليا عليها، ترى فيه شاهدا على الحالة الشعرية الآسرة التي تعيشها وهي تكتب قصائدها: إنها لن تضحي بالشعر من أجل النظم، من أجل قافية أو تفعيلة أو قاموس. لقد عبرت عام 1913 وهي في كوكتيل (في شبه جزيرة القرم) عن ثقتها الراسخة بموهبتها الشعرية.
وبعد هذا التاريخ بسنوات طويلة عادت تسفيتايفا لتؤكد في يومياتها بجلاء ويقين “إن ثقتي بأشعاري لا تتزعزع”. ولم يكن ذلك غرورا أو تعاليا، إذ كان الشعر عالمها وشغلها الوحيد الذي لم تخنه أو تتخل عنه في ظل أي ظروف. كان كل شيء في حياتها (العشق والحب والأفكار والأمومة والصداقة والأحلام وحصار الروح والجوع والغربة والهموم اليومية…) شعرا ومادة للشعر، حتى عندما تنسجه نثرا.
ويضيف “كانت تعيش الشعر وتكتبه بمثابرة وإصرار، غير مبالية إن كانت هناك فرصة لنشره أم لا. لم تكن قادرة على ألا تكتب، كانت كلها هنا، مهما حلقت وماجت. وكانت تراهن على الزمن هنا، على هذه الأرض”.
ينقل نيوف عن الشاعر يوسف برودسكي في حديثه لسولومون فولكوف، قوله “إن تسفيتايفا أحد أكثر الشعراء تنوعا إيقاعيا. الشعراء الأثرياء والأسخياء إيقاعيا. على أن السخي مقولة نوعية. دعنا لا نستخدم إلا المقولات الكمية، أليس كذلك؟ إن الزمن يتكلم مع الأفراد بأصوات مختلفة. للزمن طبقة صوته العالية (باص)، وطبقة صوته الخفيضة (تينور). عنده الصوت الخادع. إذا شئت. إن تسفيتايفا هي صوته الخادع. إنها الصوت الذي يتجاوز حدود نوتة السلم الموسيقي. هذا الصوت المأساوي.. ففي الأخير إن الزمن ذاته يعرف كنه نفسه. يجب عليه أن يفهم وأن يعلن عن نفسه. من هنا، من وظيفة الزمن هذه، تظهر لنا تسفيتايفا”.
◙ لم يبق من أثر للشاعرة مارينا تسفيتايفا إلا ما خلفته في تجربتها الأدبية من كتب ومخطوطات ويوميات ضمها هذا الكتاب
ويقول نيوف إن الإعلان عن بداية الحرب العالمية الأولى (يوم 16 يوليو 1914) نقطة التحول المصيري الأكبر في حياة تسفيتايفا وأسرتها ووطنها روسيا. وقد اتخذت تسفيتايفا موقفا من تلك الحرب معاديا ولا مباليا أول الأمر. إلا أن ألمانيا لم تلبث أن أعلنت الحرب على روسيا بعد أيام قليلة على ذلك التاريخ. وعندئذ، وفي ذروة ما ولده ذلك من مشاعر متضاربة بين رعب وعصبية وطنية وضياع.. تغير موقف تسفيتايفا من معاداة الحرب واللامبالاة بها إلى انحياز صريح إلى ألمانيا التي كانت مغرمة بأدبها وفلسفتها وموسيقاها. وهذا ما عبرت عنه بوضوح وشجاعة شديدين في قصيدة طويلة، منها “ومن أين لي برجاحة العقل”، “العين بالعين، والدم بالدم”/ ألمانيا أنت جنوني/ ألمانيا أنت حبي”. لقد كانت هذه الشجاعة تهورا أو استفزازا في ظروف الحرب، إلا أن تسفيتايفا (ويا للغربة! كما يقول هنري تروايا) أفصحت عن موقفها هذا في الكثير من الأمسيات الأدبية الخاصة من غير أن يوجه أحد إليها اللوم.
ويوضح “أحيانا كان يزورها في بيتها بالقرم الشبيه بوكر للفئران بعض الأصدقاء بينهم مؤيدون للثورة الشيوعية، مثل فلاديمير ماياكوفسكي وإيليا إرنبورغ اللذين لم تكن تتردد لحظة في الإفصاح أمامهما عن أسفها على النظام القيصري البائد، قائلة إن تحمل فساده وغبائه أهون عليها من فظاعات النظام البلشفي، وكانا ينصتان إلى كلامها الغاضب مبتسمين، يمنعهما احترام موهبتها الشعرية والشفقة على فقرها من الرد والخصام. في تلك المرحلة تكتب تسفيتايفا في يومياتها ‘لا أكره الشيوعيين.. بل أكره الشيوعية'”.
ويتابع “في يوم 3 فبراير من عام 1920 فقدت تسفيتايفا طفلتها الثانية إيرينا قبيل بلوغها الثالثة من العمر، حيث ماتت من الجوع والضعف في مأوى للأطفال بالقرب من موسكو. وإذ تلوم تسفيتايفا نفسها على تقصيرها الكبير بحق طفلتها المتوفاة، ثم تحاول تخفيف ذنبها بالقول إنها كانت وحيدة، ليس بقربها زوج أو أب أو ابن، فإنها تعترف مخاطبة ابنتها أريادنا ‘فلتعرفي أني أنقذتك أنت، إذ لم أستطع أن أنقذكما كلتيكما. لقد اخترتك أنت.. وقد نجوت على حساب إيرينا'”.
الحب محرك شعري
في هذه الظروف، وفقا للمترجم، تعود تسفيتايفا إلى المشاركة في قراءات شعرية أمام الجمهور ليس من أجل قروش زهيدة هي في أمس الحاجة إليها، بقدر ما هو للهرب من مصابها ومما هي فيه من مشقة وبؤس. ويشير إلى أنه في بداية عام 1921 أكملت تسفيتايفا مجموعتها “معسكر البجع” كنشيد لتمجيد الجيش الأبيض كتبته ابتداء من الثورة الشيوعية وحتى نهاية الحرب الأهلية. وعندما انتهت في العام نفسه من تنقيح مجموعتيها الشعريتين الأخريين “فراسخ1″ و”فراسخ2” كان إيليا إرنبورغ قد حصل من السلطة السوفيتية على جواز سفر ومهمة للسفر إلى الخارج (مارس 1921)، فوعد تسفيتايفا بأن يبحث لها سرا عن مصير زوجها الغائب منذ أربع سنوات والمقطوعة أخباره منذ سنتين.
◙ سيرة الشاعرة تمتلئ بالأحداث المؤلمة والمعاناة الشديدة نتيجة مواقفها ومواقف أسرتها السياسية والاجتماعية في فترة عصيبة
لم يمض وقت طويل حتى طرق بابها فجأة ذات مساء من يوليو 1921 كاتب كانت تراه في الأمسيات الأدبية هو بوريس باسترناك، حاملا رسالة من إرنبورغ يخبرها فيها بأن زوجها سيرجي إفرون موجود في براغ، ومنذ تلك اللحظة بات همها الوحيد هو اللحاق بزوجها، إلا أن المثقفين كانوا حينها يعيشون أسوأ الأوضاع وأشدها خطرا. فقد اعتقل الشاعر نيكولاي غوميليوف زوج آنا أخماتوفا سابقا، وأعدم رميا بالرصاص بعد أيام على اعتقاله، وقبل ذلك توفي الشاعر ألكساندر بلوك وهو ممنوع من السفر إلى الخارج طلبا للعلاج.
ويكشف نيوف أن مراسلات تمت بين تسفيتايفا وبوريس باسترناك “عقب استقرارها في برلين استلمت تسفيتايفا أول رسالة من باسترناك عبر فيها عن إعجابه العميق بمجموعتها “الفراسخ”، وكانت بداية لمراسلات نادرة ورفيعة القيمة والمستوى امتدت 14 عاما (1922 ـ 1936)، ضمها كتاب صدر في موسكو عام 2016 يقع في 650 صفحة.
ومن جانب آخر يكشف نيوف عن أثر الحب في حياة تسفيتايفا ناقلا عنها ما جاء في رسالة لها لألكساندر بلوك “ليس للحياة كل شيء عندي ـ حريق! أستطيع أن أقيم عشر علاقات معا (يا “للعلاقات”!)، وأن أؤكد لكل واحد من أعمق أعماقي أنه ـ الوحيد. ولكني لا أتحمل أقل التفاتة رأس عني. هذا يؤلمني، هل تعلم؟ أنا إنسان ممزق، أما أنتم فمدرعون جميعا. عندكم كلكم: الفن، البروز الاجتماعي، الصداقات، التسليات، الأسرة، الواجب، في العمق، لا شيء. كل شيء يسقط، مثل الجلد، ولكن تحت الجلد لحما حيا أو نارا: أنا، الروح. لا يتسع لي أي شكل ـ حتى أشد أشكال شعري اتساعا! لا أستطيع أن أعيش. لا شيء عندي كما عند الناس. لا أستطيع أن أعيش إلا في الحلم الذي يراه النائم.. إني لا أحكي حكايات، أحلم في نومي أحلاما ساحرة ورهيبة، فيها حب، وفيها موت، هذه حياتي الحقيقية، بدون مصادفات، مميتة، يتحقق فيه كل شيء.. ماذا ـ أفعل بهذه؟! ـ في الحياة؟”.
ويضيف “كثيرون أشاروا إلى أن الحب عند تسفيتايفا كان دائما الدافع والوقود الروحي الذي ينضج فيها الشعر ويفجره. والكثير من غرامياتها كان ينحصر في مراسلات من دون لقاءات شخصية، وهي نفسها تقول في أواخر حياتهها “كل ما في الأمر هو أن نحب، أن ينبض القلب فينا ـ ولو تحطم نثرات! إنني دائما أتحطم نثرات، وما أشعاري كلها إلا نثرات قلبي الفضية بالذات”. على أن هناك نقطة جوهرية في فلسفة الحب عند تسفيتايفا تتمثل في قولها “ليس الجسد في الحب غاية، بل هو وسيلة”.
قبيل رحيل تسفيتايفا كتبت “أعيش تحت غيمة الرحيل. أشعر أن حياتي تنكسر نصفين، وهذه نهايتها الأخيرة. سواء غدا أو بعد عام، فأنا لم أعد هنا.. ولا أعيش. إني خائفة على مخطوطاتي. فنصفها لا يجوز نقله! كذلك على كتبي ـ نصفها لا ينقل! فماذا أخذ وماذا أبقى؟ لم يهبني الله العمى! كم أتنفس بصعوبة، أعيش (لا ـ أعيش)”، إلى أن تخلص في مكان آخر من القول”أستطيع أن أستغني عن روسيا، أما عن دفاتري فلا”.
أما عن رحيل تسفيتايفا فقد “اختارت قطعة حبل مما كانت تحزم به أغراضها وعَقدتها أنشوطة. وعلقت خرقة تستر بها كوّة في الجدار. ثم أقدمت على الانتحار وكأنه أمر إلهيّ. عاد الجيران فرأوها مشنوقة وقدماها تكادان تلامسان الأرض.. شيع الجيران وعدد قليل من الناس جثمان مارينا تسفيتايفا إلى مثواه الأخير. لم يلق أحد عليها كلمة وداع، لم تنشر أي جريدة خبر وفاتها، لم توضع شاهدة على قبرها تحمل اسمها وتاريخ الولادة والوفاة، لم يسوّر القبر بحجر أو خشب أو علامات، لم يبق من أثر للشاعرة مارينا تسفيتايفا إلا ما خلفته من كتب ومخطوطات ويوميات.. ضمّها هذا الكتاب”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري