استوقفت مُذيعة فى القناة التلفزيونية الأولى فى الولايات المتحدة الأمريكية الرجل المجنون الذى صادفتهُ خارجاً من إحدى المقاهى فى واشنطن العاصمة.
ـ»Excuse me…Excuse me Sir…
«. تلحق بهِ منادية.
وقف الرجل المجنون مكانهُ، التفت نحوها مُستفسراً، فسألتهُ:
ـ» ماذا تقول فى حضارةِ الولايات المتحدةِ الأمريكية ؟».
ثم مدت المايكرفون الصغيرَ صوب فمهِ:
ـ « ليست هناك حضارة تُسمى بحضارة الولايات المتحدة يا آنسة، بل هناك حضارة تُسمى حضارة الإنسان، والولايات المتحدة الأمريكية تُمثل أحد نماذجها الحالية لا أكثر!».
بهذا أجابها، ثم عدّل حقيبتهُ المخلاة فوق كتفهِ.. وهمّ مُغادراً.
ـ « ولكن..!( تسألهُ المذيعة وهى تَلحق بهِ) هل تتفقُ مع فرانسيس فوكياما بأن النموذجَ الليبرالى فى الولايات المتحدة الآن هو فعلاً يمكن أن يكون نهايةَ التاريخ؟».
وقف ثانيةً، ثم قال لها مُبتسماً:
ـ « هل تعلمين يا سيدتى أن مفردة ـ النهاية ـ ذاتها هى خللٌ منهجى عند فوكياما نفسهُ فى التعاطى مع حركة التاريخ والقيم. بل إنهُ لم يفهم أبداً أن اهتمام الشعب الأمريكى المبالغ فيهِ بالكلاب والقطط هو فِعل تعويضٍ عاطفى لتناقضات هذه الحضارة نفسها، والتى اعتبرَها هو ختاماً لصيرورة الحركةِ الاجتماعيةِ والمعرفيةِ فى التاريخ !».
ـ «عفواً سيدى لم أفهم ما تقصد، فهل يمكن أن توضحَ ذلك أكثر إذا تكرمت؟». تسألهُ الصحفية باستغرابٍ، يجيبها وهو يُمعن النظر فى عينيها:
ـ « أعنى يا سيدتى أن شفتيكِ الرفيعتين، ليستا أجمل من شفاهِ الزنجى الأسود الضخمةِ، إلا داخل إطار التصنيف المعيارى الذى خلقهُ الرجلُ الأبيض المُنتمى لذات الثقافةِ.
لأن مُشاط شعر (فاطمة) مثلاً فى شرق إفريقيا لا يقل جمالاً ـ بأى حال ـ عن تصفيف شعر المُغنيات الذى يقلدنهُ فتيات العالم المُتحضر فى العصر الحديث، لأن فاطمة لا تعيش فى واقعٍ أقلِ حضارةٍ منكِ، بل فى واقعٍ مختلفٍ حضارياً عنكِ!».
ـ «ولكن، كيف يكون ذلك؟»..سألتهُ المذيعة وهى تغمضُ عينيها وتفتحها تعجبا..
ـ « حسناً!.. «. يُجيب المجنون، ثم يُوضح قائلاً:
ـ» بين المُشاط والشعر الأشقر المفرود ثمة مُعادلة، إذ لا يمكن لكاثي مثلاً أن تنسجم ومشهد أن تشحذ الطايوق* من جارتها من فوق حائط الجالوص فى ذات صباح، بيد أن ذات المشهدِ يتسقُ وفاطمة، بل يمنح المُشاط بُعداً أجمل إن كانت هى من وقفتْ طالبةً الطايوق من علي حائط الجالوص القصير.
فلا يمكن (لكاثي) أن تكون جميلة سوى في كازينوهاتها المُموعنة بالمعايير/ الانطباع، ولكن القهوة تُمثل بعداً شاعرياً أكثر في الراكوبة مع (فاطمة) فى بيتها الريفى، وهنا يمكن أن يكون للمشلعيبِ *قيمةً، تفوق جمال المزهريات الأصيص على أرصفة بنما سيتى فى فلوردا.
ولكن هى الميديا ووَهم السيادة لديكم يا آنسة، ومصلحة الفئة. البزنسة هى القيمة المتجاوزة للآنسة والدولار هو المعيار. السستم الاقتصادى فى تناقضاتهِ هو مَن دفعَكِ لهذا اللقاءِ معى كصفقةٍ صحفيةٍ عائدُها أضخم، لا بحثَكِ عن الحقيقةِ وتعريةِ ما نظر له فوكياما فى نهايةِ التاريخ!.
فلا تُحرجى شفافيةَ الإعلامِ أكثرَ، لأنه سيغدو لا فرقَ بين كفيْكِ الرقيقتين ويدِ المُلاكم محمد على كلاى.
إذْ إن الهدفَ واحدٌ يغدو وإن اختلفت الصفاتُ!».
ـ" ولكنْ، يقول بعضُ المُحللين إنك شيوعى، فماذا تقولُ فى هذا الاتهامِ ؟».
ـ»الشيوعيةُ حركةٌ ثوريةٌ تُجاوز التاريخَ أدواتُها، وهذا بالضرورة لا ينسفُ مُصافحةَ عقليةِ ماركس لما قدمتهُ للمعرفةِ». أجابها المجنون، ثم واصلَ وعلى وجههِ ابتسامتُه الساخرةُ تلك:
ـ» وهذا يعنى أن اتهامَهم لى بأنى شيوعي، يعادلهُ تماماً اتهامُ الشيوعيين لى بأنى ليبرالي مُتعاطفٌ، فالاتهامُ دائماً هو أسهلُ أنواعِ الدفاعِ عن الذات والعجزِ يا آنسة «.
ثم ولى المجنون ظهرَهُ للكاميرا مُغادراً، تاركاً المذيعةَ مُغسولةً فى ذهولِها، وتتتبعهُ بالنظراتِ حتى غابَ خَلف كشكٍ لبيعِ الجرائد فى ناصيةِ الطريقِ !..
* مقتطفة من رواية :
"
هكذا .. صرخ المجنون