كارل بوبر "Karl Popper" رمز لثراء الفكر ومثال حي لخصوبة الفلسفة (لوسيدندا دوغلاس مونزيس)
علم وفلسفة.. وعقول موسوعية معاصرة24/4/2024
تبدو حقيقة أنّنا كائنات مصيرها الانطفاء في النهاية، مهما طال بنا الزمن أو قصر، سببا كافيا لاهتمامنا الفائق بقراءة كتب السيرة الذاتية والمذكرات أو حتى تدوينها، فالفترة الممتدة بين صرخة الميلاد وزفرة الانطفاء فترة تحوي صراعات وتحولات فكرية ومفاهيمية لا يمكن إدراكها إلا بشق الأنفس، خاصة إن تعلقت بشخصيات تركت بصمة في هذا العالم من طراز ليوناردو دافنشي، كارل ساغان، فريدريك سانغر أو لايبنتز. وليس من المنطقي أو المعقول تركها تذبل وتذوي في قعر النسيان مع غياب صاحبها عن مسرح الوجود البشري. وتدوين سيرة ذاتية بهذا السياق هي عملية منعشة للعقل ونوعٌمن محاولة تمرير خبرة جاهزة إلى الآخرين حتى توفّر عليهم بعضا من الأثمان الفكرية التي يمكن تجاوزها. وهي أيضا نوع مباح من إشباع الفضول البشري للتلصص بطريقة مشروعة على التفاصيل الصغيرة لحياة بعض البشر المميزين ممّن يستحقون أن تروى حكاياتهم بالتفاصيل التي يسمحون بإتاحتها للآخرين.
إن أردت الوقوف عند اسم من موسوعيي العصر المعاصر اليوم، فسأبدأ دون شك بالعالم الذي صنعته الفلسفة، كارل بوبر (Karl Popper) رمز لثراء الفكر ومثال حي لخصوبة الفلسفة، عرف كشخصية موسوعية لاتساع مجال اهتمامه ونطاق تأثيره
لكن قد يتساءل الواحد منا، هل مازلنا نشهد عقولا موسوعية حذقة في عالمنا المعاصر كتلك التي نقرأ عن تواريخها في الأدبيات المنشورة؟ إجابة عن سؤال كهذا تبدو محاكمة يشوبها الكثير من القصور الفكري إن نحن قسنا شخصيات اليوم بنظائر سابقة لها في عصر النهضة والتنوير؛ فعصرنا اليوم يختلف عن عصر النهضة، القوانين الحاكمة مختلفة، وكذا طبيعة النظم السياسية والاقتصادية والفكرية والفلسفية، ما يجعل مخرجاته تختلف عن سابقه. لربما الخيط الجامع الوحيد بين السابقين واللاحقين هو الاشتغال المعرفي متعدد الجبهات، والشغف الفكري والفلسفي غير المحدود. ولعلها المساحة التي ماتزال بِكرا لم يدنسها مبدأ السوق ولا الأفكار التجارية البراقة التي تجعل من الفكرة مسخا من علم يحتكره أصحاب المال لا أصحاب الحاجة، فقد تبلغ بجاهك ومالك مناصب ما كنت ببالغها بهشاشة علمك، لكن لن يملكك أحد عقلا موسوعيا وفكرا فذا ما لم تشتغل أنت على نفسك.
وإن أردت الوقوف عند اسم من موسوعيي العصر المعاصر اليوم، فسأبدأ دون شك بالعالم الذي صنعته الفلسفة، كارل بوبر (Karl Popper) رمز لثراء الفكر ومثال حي لخصوبة الفلسفة، عرف كشخصية موسوعية لاتساع مجال اهتمامه ونطاق تأثيره، فقد درس الرياضيات والفيزياء والتاريخ والموسيقى، وبرز في فلسفة العلوم، فكان من أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين، خاصة بوضعه مبدأ قابلية الدحض (Refutability)، وقابلية التكذيب (Falsifiability)، وهما المبدآن اللذان يميزان كل معرفة علمية حقيقية عن معرفة زائفة. وبشكل غير مسبوق في تاريخ الممارسة العلمية، شهد العالم كبار العلماء وأفذاذهم يتدافعون إلى مائدته ويتسابقون على التهام أعماله الإبستمولوجية والعلمية والاجتماعية واستلهامها، ويفيدون من مناهجه واستبصاراته في نشاطهم الفعلي.
أعترف أن قراءة سيرة بوبر الذاتية "بحث لم ينته: سيرة ذاتية فكرية"، بترجمتها الصادرة منذ سنتين عن دار المدى، عمل شاق عسير على البلوغ بمثل ما هي فعل باذخ المتعة العقلية، لأنها نتاج عقل فلسفي رصين، يندهشُ قارئها من شخصية بوبر الفكرية المتعشقة الاهتمامات، ولعل بوبر ارتأى أن يوزعها على موضوعات قصيرة في أربعين جزءا، بعناوين محددة غير مترابطة بحيث يمكنك أن تختار ما تشاء من أجزاء من غير ترتيب ومن غير توجس من ضياع تسلسله الفكري حتى لا يثقل كاهل القارئ غير الصبور وليخفف عنه التعقيد المفاهيمي الذي قد يصيبه بالسأم.
يشير بوبر في فصل "التأثيرات المبكرة" إلى البيئة الثقافية التي نشأ فيها والتي ساهمت في تشكل شخصيته: «كان الجو الذي نشأت فيه مليئا بالكتب. فقد كان والدي الدكتور سيمون سيغموند كارل بوبر، مثل شقيقيه، دكتورا في القانون في جامعة فيينا ولديه مكتبة كبيرة، وثمة كتب في كل مكان باستثناء غرفة الطعام، حيث كان هناك بيانو حفلات ضخم… كان هناك العديد من أعمال باخ وهايدن وبيتهوفن وشوبرت وبرامز… اهتم والدي اهتماما كبيرا بالفلسفة؛ فما زلت أمتلك من مكتبته أعمال أفلاطون وبيكون وديكارت وسبينوزا ولوك وكانت وشوبنهاور… كانت الكتب جزءاً من حياتي قبل وقت طويل من قدرتي على قراءتها..».
يعتبر نوربرت فاينر من بين أبرز العقول الفذة التي أثرت في تطور الفكر العلمي والتكنولوجي في القرن العشرين. اشتهر بأعماله في مجال نظرية الأنظمة والرياضيات التطبيقية.
تعليق