"لن نرحل": اشتباك مع جريمة العصر
غسان مفاضلة
تشكيل
شارك هذا المقال
حجم الخط
من فوق ركام جدارٍ كان يحوّط بالأمس القريب، واحدًا من عشرات آلاف المباني التي أوغل فيها الاحتلال الإسرائيلي خرابًا ودمارًا على امتداد قطاع غزة، سحبت الفنانة سهى شومان عبارة "لن نرحل" التي خُطت على حطام ذلك الجدار، إلى ناصية عملها الفنّي، لتصبح العبارة نفسها، بمحمولاتها الواقعيّة والتعبيريّة، عنوانًا لسرديّات العمل، ومدخلًا لتوثيقاته التي تُعاين فصولًا من التغريبة الفلسطينيّة المتواصلة منذ أزيد من سبعة عقود في مغالبة الخُرافة وزيف التاريخ.
لم تكن عبارة "لن نرحل" وهي "تؤسطر" لحظتها الراهنة من فوق أنقاض جدار المبنى الذي صار أثرًا بعد عين، مجرّد مدخلٍ للتعرّف على فصول حرب الإبادة ومآلاتها في غزة فقط، بل راحت عبْر واجهات العمل بمحتوياته ومكوّناته ووسائطه المتعدّدة، تسرد من خلال وقع "مجزرة العصر" حكاية فلسطين مع جرائم قطعان العصابات الصهيونيّة منذ النكبة الأولى، وحتى آخر جُملةٍ في الدّرس المفتوح على سبات الضمير وليله الطويل.
ولئن كانت عبارة "لن نرحل" التي رمت بظلالها على نسيج العمل الفني، تقترح طرائقها ومداخلها في معاينة جرائم الاحتلال وتوثيق فصولها السوداء، فإن استراتيجية العمل برمّته، سرعان ما تُحيل إلى المعنى الراسخ الذي تنطوي عليه تلك العبارة؛ معنى التجذّر المكاني الموغل في أحوال الزمان وتقلباته. وسواء أكانت العبارة مخطوطة على بقايا جدار، أم كانت طالعة من صوتٍ مكتوم ٍ تحت الأنقاض؛ فإنها على أرض الواقع وفي مقارباتها الفنيّة، لا تكفّ عن تجسيد معنى التشبث بوطنٍ لم يفلح عُتاة الإجرام في محوه من الذاكرة، أو نفيه من الوجدان.
ومن المعنى ذاته، وعلى مقربة من تلك المسافة التي تكاد تذوب معها الفروقات بين الواقع والاستعارة، تطالعنا ركائز السرديّة الفلسطينيّة في مواجهة جرائم التطهير والتهجير عَبْر عنوانها العريض "لن نرحل" بعد استعارته من موقعه على الجدار في فلسطين، ليحلّ بوسائطه البصريّة المتنوّعة في فضاء صالة "المختبر" وعلى جدرانها في "دارة الفنون" بعمّان؛ عملًا فنيًّا معاصرًا بوسائطه وتوجهاته التي تقاطعت مع مادة التوثيق، بوصفها محور الإنشاء والتركيب.
ثلاثة عناصر تآلفت، من دون عُسرٍ أو إقحام، في تشييد البناء الذي نهض عليه العمل الفني، وأفضت إلى توجيه منطلقاته البصريّة والتفاعليّة: اللون والوسائط، ونظام التوزيع والتشبيك بين العناصر نفسها، والتي أفضت جميعها، على نحو انشائي- اختزالي، إلى تظهير الصورة الحقيقية لمقْتلة العصر على خشبة مسرحها المعاصر. انطلاقًا من العنصر الأول في مجموعة الألوان الثلاثية "الأبيض والأحمر والأسود" نتعرّف على الّلون الأبيض الذي شكّل مدخلًا رمزيًا لجداريات العمل/ المتجاورة والمتقابلة/ في فضاء صالة العرض؛ فاحتضن بنصاعته ورحابته، النصّ الذي أوجز المسيرة كلّها عبْر مقتطفٍ من قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر"، واختزلتها الفنانة على جداريْن متقابليْن؛ هما "المبتدأ والخبر" في المرويّة الفلسطينيّة من دون زيادةٍ أو نقصان.
بعد التعريج على جداريّة درويش، والمرور من أمام واجهتها البيضاء التي جاورت بين النص الشعري وبين صوت الشاعر وصورته، وهما يخمّران العجينة الفلسطينيّة بأسباب الحياة؛ تطالعنا جداريّة توثيقيّة بالّلون الأحمر على خلفيةٍ سوداء، وهي جدارية "تصريحات قادة إسرائيل" الممهورة بلون الدم ونزيفه المتواصل منذ بواكير النكبة الأولى، حتى آخر مجزرة في سجلات النازي الجديد.
لا تترك الجداريّة، بمقارباتها التوثيقيّة "البصريّة والنصيّة"، مجالًا للشك ّبوحدة خطاب العنصريّة القاتلة لدى قادة الاحتلال. فالتصريحات الأخيرة لوزير دفاع جيش الكيان غالانت منذ بداية المقتلة في غزة، بأن "إسرائيل تحارب حيوانات بشريّة" لم تكن بمعزلٍ عن سياقها الدمويّ الذي لازم غطرسة الاحتلال منذ تصريح بن غوريون في العام 1948 بتبرير "أي فعل لضمان عدم عودة الفلسطينيين"، إضافة إلى التصريحات والانتهاكات المتواصلة منذ تأسيس الكيان، والتي أفضت جميعها إلى ارتكاب جريمة العصر في غزّة، تحت عنوان الإبادة الجماعيّة عن سابق نيّة وإصرار.
وفي الجهة المقابلة تمامًا لجداريّة "تصريحات قادة إسرائيل"، تواجهنا مباشرةً، جداريّة "حرب على الفن والثقافة" التي تشكّل، إلى جانب العموديْن الرئيسيين في منتصف صالة العرض، المحور التركيبي للعمل الفني، مرفوعًا بفاعلية الدور الثقافي وأهميته في مواجهة جرائم الاحتلال.
وحين توثّق الجدارية أسماء فنانين ومنسقي معارض ونشطاء ثقافيين وصحافيين تم استهدافهم أو إسكاتهم بسبب تضامنهم ودعمهم للحق الفلسطيني، أو بسبب اتخاذهم مواقف ضد قمع الصوت الفلسطيني، بالإضافة إلى توثيق المواقع الثقافية والأثرية والتراثية التي تعرّضت للتدمير خلال الحرب على غزة؛ فإنها توثّق في الوقت نفسه، الرعب الصهيوني من الصوت الحقيقي للثقافة والفنون، وإمكاناته في تقويض مشروعه المحمول على أعمدة الخرافة والأباطيل.
تشترك الجداريّتان المتقابلتان "تصريحات قادة إسرائيل" و"حرب على الثقافة والفنون" بخصائص بصرية واحدة: المساحة المتماثلة، والتوثيق الذي يسجّل وقائعه على الجداريتيْن باللون الأحمر على خلفيّة سوداء. لم يكن استدعاء الخصائص المشتركة بين الجداريتيْن لأغراض التركيب الفني فقط، وإنما جاءت، إضافةً إلى ذلك، بفعل تساوقها مع المحتوى التوثيقي وخلاصته على واجهة الجداريتيْن؛ فتصريحات قادة إسرائيل العنصرية، لا تبتعد كثيرًا عن مساعيهم المحمومة والممنهجة لإقصاء الهويّة الفلسطينيّة من الذاكرة والتاريخ. وفي الجداريتين معًا، يتكفّل نزيف الدم، كما هي الحال في الواقع، بتوثيق جرائم الاحتلال، وطمس صفحاته بالسواد.
وعلى مقربةٍ من الجداريتين السوداويتين، يتوسّط عمودان أسودان صالة العرض، ليشكّلا بموقعهما المركزي الذي يحتلانه في الصالة، وبما يحملانه من وسائط بصريّة بمحتويات ثقافيّة، الدعامة المحوريّة التي يستند عليها تركيب العمل الفني، تمامًا مثلما يشكّلان في الواقع، الدعامة الرئيسيّة لِمعمار الصالة التي تحتضن العمل. وهما يعملان في الوقت نفسه، بسبب دورهما المحوري، على التشبيك بين وسائط العمل وهي تتنافذ مع بعضها في فضاء الصالة وعلى جدرانها.
اشتملت واجهات الأعمدة الوسطيّة والجانبيّة على العديد من الوسائط والمواد التوثيقيّة: حملت واجهة أحد الأعمدة شاشة تعرض محاضرة للمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، فيما تعرض واجهةٌ أخرى جانبًا من تدمير الاحتلال للمواقع الأثريّة والتراثيّة، ويسرد الجانب الآخر من العمود نفسه، أسماء العديد من تلك المواقع، بينما يعرض عمودٌ آخر رقميًا، صفحات من كتاب "فلسطين الشهيدة" الذي يصوّر جانبًا من فظائع الإنكليز واليهود بين عامي 1920 و1921.
ومن بين جداريتي "تصريحات قادة إسرائيل" و"الحرب على الثقافة والفنون" المتقابلتيْن في صالة "المختبر" وبمحاذاتهما مباشرةً، تواجهنا جداريّةٌ أُخرى تُغطي مساحة الحائط الرئيسي للصالة. وهي الجدارية التي توزّعت توثيقاتها باللون الأسود على خلفيّة حمراء، على خلاف ما هي عليه الجداريتان السابقتان، بين ثلاثة توثيقات، توسطتها "الحرب على غزّة على لسان جنرالاتها" ممهورة بثلاث عبارات بارزة "أزِل من الوجود" و"اقتلع من الجذور" و"دمّر تدميرًا"، فيما حمل أحد التوثيقيْن على جانبي الجداريّة صيغة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" بلسان إلينور روزفلت، السيدة الأولى للولايات المتحدة الأميركية في الفترة من عام 1933 إلى عام 1945، بالتزامن مع شاشة توثّق انتهاكات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني منذ تأسيس مستعمرة الكيان. وعلى الجانب الآخر من الجدارية نفسها، نتعرّف على خريطة "بلوكات الموت" التي تدحض أكذوبة المناطق الآمنة في قطاع غزّة، مثلما تدحض انتهاكاته وجرائمه التي قام عليها منذ تأسيسه، شرعيّة وجوده الملطّخ بكل أسباب الموت والخراب.
"لن نرحل"... ليس مجرّد عمل فني يروم المعاينة والرصد وتوثيق جرائم الاحتلال فقط، وإنما يشكّل أيضًا، بأدواته وطرائقه في الإنشاء والتركيب، مساحةً مفتوحةً على اختبار إمكانات الفن المعاصر في أن يكون شاهدًا على عصره، وملتحمًا مع قضاياه الكبرى.
غسان مفاضلة
تشكيل
شارك هذا المقال
حجم الخط
من فوق ركام جدارٍ كان يحوّط بالأمس القريب، واحدًا من عشرات آلاف المباني التي أوغل فيها الاحتلال الإسرائيلي خرابًا ودمارًا على امتداد قطاع غزة، سحبت الفنانة سهى شومان عبارة "لن نرحل" التي خُطت على حطام ذلك الجدار، إلى ناصية عملها الفنّي، لتصبح العبارة نفسها، بمحمولاتها الواقعيّة والتعبيريّة، عنوانًا لسرديّات العمل، ومدخلًا لتوثيقاته التي تُعاين فصولًا من التغريبة الفلسطينيّة المتواصلة منذ أزيد من سبعة عقود في مغالبة الخُرافة وزيف التاريخ.
لم تكن عبارة "لن نرحل" وهي "تؤسطر" لحظتها الراهنة من فوق أنقاض جدار المبنى الذي صار أثرًا بعد عين، مجرّد مدخلٍ للتعرّف على فصول حرب الإبادة ومآلاتها في غزة فقط، بل راحت عبْر واجهات العمل بمحتوياته ومكوّناته ووسائطه المتعدّدة، تسرد من خلال وقع "مجزرة العصر" حكاية فلسطين مع جرائم قطعان العصابات الصهيونيّة منذ النكبة الأولى، وحتى آخر جُملةٍ في الدّرس المفتوح على سبات الضمير وليله الطويل.
ولئن كانت عبارة "لن نرحل" التي رمت بظلالها على نسيج العمل الفني، تقترح طرائقها ومداخلها في معاينة جرائم الاحتلال وتوثيق فصولها السوداء، فإن استراتيجية العمل برمّته، سرعان ما تُحيل إلى المعنى الراسخ الذي تنطوي عليه تلك العبارة؛ معنى التجذّر المكاني الموغل في أحوال الزمان وتقلباته. وسواء أكانت العبارة مخطوطة على بقايا جدار، أم كانت طالعة من صوتٍ مكتوم ٍ تحت الأنقاض؛ فإنها على أرض الواقع وفي مقارباتها الفنيّة، لا تكفّ عن تجسيد معنى التشبث بوطنٍ لم يفلح عُتاة الإجرام في محوه من الذاكرة، أو نفيه من الوجدان.
ومن المعنى ذاته، وعلى مقربة من تلك المسافة التي تكاد تذوب معها الفروقات بين الواقع والاستعارة، تطالعنا ركائز السرديّة الفلسطينيّة في مواجهة جرائم التطهير والتهجير عَبْر عنوانها العريض "لن نرحل" بعد استعارته من موقعه على الجدار في فلسطين، ليحلّ بوسائطه البصريّة المتنوّعة في فضاء صالة "المختبر" وعلى جدرانها في "دارة الفنون" بعمّان؛ عملًا فنيًّا معاصرًا بوسائطه وتوجهاته التي تقاطعت مع مادة التوثيق، بوصفها محور الإنشاء والتركيب.
ثلاثة عناصر تآلفت، من دون عُسرٍ أو إقحام، في تشييد البناء الذي نهض عليه العمل الفني، وأفضت إلى توجيه منطلقاته البصريّة والتفاعليّة: اللون والوسائط، ونظام التوزيع والتشبيك بين العناصر نفسها، والتي أفضت جميعها، على نحو انشائي- اختزالي، إلى تظهير الصورة الحقيقية لمقْتلة العصر على خشبة مسرحها المعاصر. انطلاقًا من العنصر الأول في مجموعة الألوان الثلاثية "الأبيض والأحمر والأسود" نتعرّف على الّلون الأبيض الذي شكّل مدخلًا رمزيًا لجداريات العمل/ المتجاورة والمتقابلة/ في فضاء صالة العرض؛ فاحتضن بنصاعته ورحابته، النصّ الذي أوجز المسيرة كلّها عبْر مقتطفٍ من قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر"، واختزلتها الفنانة على جداريْن متقابليْن؛ هما "المبتدأ والخبر" في المرويّة الفلسطينيّة من دون زيادةٍ أو نقصان.
بعد التعريج على جداريّة درويش، والمرور من أمام واجهتها البيضاء التي جاورت بين النص الشعري وبين صوت الشاعر وصورته، وهما يخمّران العجينة الفلسطينيّة بأسباب الحياة؛ تطالعنا جداريّة توثيقيّة بالّلون الأحمر على خلفيةٍ سوداء، وهي جدارية "تصريحات قادة إسرائيل" الممهورة بلون الدم ونزيفه المتواصل منذ بواكير النكبة الأولى، حتى آخر مجزرة في سجلات النازي الجديد.
"نتعرّف على خريطة "بلوكات الموت" التي تدحض أكذوبة المناطق الآمنة في قطاع غزّة، مثلما تدحض انتهاكات الاحتلال وجرائمه التي قام عليها منذ تأسيسه، شرعيّة وجوده الملطّخ بكل أسباب الموت والخراب" |
وفي الجهة المقابلة تمامًا لجداريّة "تصريحات قادة إسرائيل"، تواجهنا مباشرةً، جداريّة "حرب على الفن والثقافة" التي تشكّل، إلى جانب العموديْن الرئيسيين في منتصف صالة العرض، المحور التركيبي للعمل الفني، مرفوعًا بفاعلية الدور الثقافي وأهميته في مواجهة جرائم الاحتلال.
وحين توثّق الجدارية أسماء فنانين ومنسقي معارض ونشطاء ثقافيين وصحافيين تم استهدافهم أو إسكاتهم بسبب تضامنهم ودعمهم للحق الفلسطيني، أو بسبب اتخاذهم مواقف ضد قمع الصوت الفلسطيني، بالإضافة إلى توثيق المواقع الثقافية والأثرية والتراثية التي تعرّضت للتدمير خلال الحرب على غزة؛ فإنها توثّق في الوقت نفسه، الرعب الصهيوني من الصوت الحقيقي للثقافة والفنون، وإمكاناته في تقويض مشروعه المحمول على أعمدة الخرافة والأباطيل.
تشترك الجداريّتان المتقابلتان "تصريحات قادة إسرائيل" و"حرب على الثقافة والفنون" بخصائص بصرية واحدة: المساحة المتماثلة، والتوثيق الذي يسجّل وقائعه على الجداريتيْن باللون الأحمر على خلفيّة سوداء. لم يكن استدعاء الخصائص المشتركة بين الجداريتيْن لأغراض التركيب الفني فقط، وإنما جاءت، إضافةً إلى ذلك، بفعل تساوقها مع المحتوى التوثيقي وخلاصته على واجهة الجداريتيْن؛ فتصريحات قادة إسرائيل العنصرية، لا تبتعد كثيرًا عن مساعيهم المحمومة والممنهجة لإقصاء الهويّة الفلسطينيّة من الذاكرة والتاريخ. وفي الجداريتين معًا، يتكفّل نزيف الدم، كما هي الحال في الواقع، بتوثيق جرائم الاحتلال، وطمس صفحاته بالسواد.
وعلى مقربةٍ من الجداريتين السوداويتين، يتوسّط عمودان أسودان صالة العرض، ليشكّلا بموقعهما المركزي الذي يحتلانه في الصالة، وبما يحملانه من وسائط بصريّة بمحتويات ثقافيّة، الدعامة المحوريّة التي يستند عليها تركيب العمل الفني، تمامًا مثلما يشكّلان في الواقع، الدعامة الرئيسيّة لِمعمار الصالة التي تحتضن العمل. وهما يعملان في الوقت نفسه، بسبب دورهما المحوري، على التشبيك بين وسائط العمل وهي تتنافذ مع بعضها في فضاء الصالة وعلى جدرانها.
اشتملت واجهات الأعمدة الوسطيّة والجانبيّة على العديد من الوسائط والمواد التوثيقيّة: حملت واجهة أحد الأعمدة شاشة تعرض محاضرة للمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، فيما تعرض واجهةٌ أخرى جانبًا من تدمير الاحتلال للمواقع الأثريّة والتراثيّة، ويسرد الجانب الآخر من العمود نفسه، أسماء العديد من تلك المواقع، بينما يعرض عمودٌ آخر رقميًا، صفحات من كتاب "فلسطين الشهيدة" الذي يصوّر جانبًا من فظائع الإنكليز واليهود بين عامي 1920 و1921.
ومن بين جداريتي "تصريحات قادة إسرائيل" و"الحرب على الثقافة والفنون" المتقابلتيْن في صالة "المختبر" وبمحاذاتهما مباشرةً، تواجهنا جداريّةٌ أُخرى تُغطي مساحة الحائط الرئيسي للصالة. وهي الجدارية التي توزّعت توثيقاتها باللون الأسود على خلفيّة حمراء، على خلاف ما هي عليه الجداريتان السابقتان، بين ثلاثة توثيقات، توسطتها "الحرب على غزّة على لسان جنرالاتها" ممهورة بثلاث عبارات بارزة "أزِل من الوجود" و"اقتلع من الجذور" و"دمّر تدميرًا"، فيما حمل أحد التوثيقيْن على جانبي الجداريّة صيغة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" بلسان إلينور روزفلت، السيدة الأولى للولايات المتحدة الأميركية في الفترة من عام 1933 إلى عام 1945، بالتزامن مع شاشة توثّق انتهاكات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني منذ تأسيس مستعمرة الكيان. وعلى الجانب الآخر من الجدارية نفسها، نتعرّف على خريطة "بلوكات الموت" التي تدحض أكذوبة المناطق الآمنة في قطاع غزّة، مثلما تدحض انتهاكاته وجرائمه التي قام عليها منذ تأسيسه، شرعيّة وجوده الملطّخ بكل أسباب الموت والخراب.
"لن نرحل"... ليس مجرّد عمل فني يروم المعاينة والرصد وتوثيق جرائم الاحتلال فقط، وإنما يشكّل أيضًا، بأدواته وطرائقه في الإنشاء والتركيب، مساحةً مفتوحةً على اختبار إمكانات الفن المعاصر في أن يكون شاهدًا على عصره، وملتحمًا مع قضاياه الكبرى.