فنّ العدوان على غزة: بين الترِند والمقاوَمة
مليحة مسلماني
تشكيل
"شكرًا جنوب أفريقيا":من الصور المنتشرة على مواقع التواصل
شارك هذا المقال
حجم الخط
لعل الفنون البصرية تبقى، في زمن الثورات والحروب بخاصة، الأسرع لحاقًا بالأحداث والأكثر انتشارًا والأقوى تعبيرًا، وذلك مقارنةً بأشكال إبداعية أخرى، كالشعر والأدب والمسرح، التي قد تحتاج زمنًا أطول لصياغة تجربة الحرب أو الثورة، وإعادة إنتاجها ضمن عوالم إبداعية. ناهيك عن سرعة وحجم التفاعل مع الصورة وسهولة انتشارها، لما تملكه من قدرة على اختزال كثيرٍ من المعاني والرسائل داخل إطارها.
وبذلك، وبالموازاة مع عملية "طوفان الأقصى" منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، انبثق ما يمكن اعتباره ثورة فنية بصرية، اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي والمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين حول العالم، لتضمّ رسومات وأعمالًا وتصاميم وكاريكاتيرات، تتناول مختلف المسائل المتعلقة بالقضية الفلسطينية بعامّة، والعدوان على غزة بخاصة: كمظاهر الاحتلال، من إبادةٍ حاصلةٍ وحصارٍ ودمارٍ في غزة، وقمعٍ واعتقالٍ في الضفة الغربية والقدس، وتمجّد مظاهر مقاومة الفلسطينيين بمختلف أشكالها، وتحرّض على المقاطعة الاقتصادية وأشكالها المتعددة الأخرى، إضافة إلى تناولها مواقف الشعوب والدول المختلفة من الأحداث، وغيرها من المواضيع.
ولا شك في أن برامج التصميم والذكاء الاصطناعي ساهمت بشكل كبير في إنتاج هذا الكمّ الهائل من الأعمال البصرية المتعلقة بالأحداث، لما تتيحه هذه البرامج، للفنانين والهواة، من إمكانية إنجاز أعمالهم خلال فترة زمنية قصيرة جدًا قد لا تتجاوز دقائق، فمنحتهم بالتالي الفرصة للتعليق سريعًا على الأحداث، كما يفعل رسامو الكاريكاتير. وبذلك، أصبح المتلقّي أمام كمّ ضخم من الأعمال البصرية، والذي يشارك في إنتاجه عدد كبير من المصمّمين والرسامين والفنانين، من هواة ومحترفين، خاصة وأن استخدام هذه البرامج متاح للجميع وليس على درجة كبيرة من الصعوبة.
الفن بين الشعبية والترند
وبالاطلاع على الأعمال البصرية المنتجة خلال الحرب على غزة، من الواضح أن كثيرًا منها يتم إنتاجه على يد هواة وليس محترفين، ما يعطي الحراك البصري الحاصل صفة الفن الشعبيّ المقاوِم، الذي يمارسه فنانون وهواة كثيرون من ثقافات مختلفة. وكثيرًا ما لا يُعرف صاحب العمل، إضافة إلى التفاوت الكبير بين مستويات الأعمال الفنية.
لكن هذا الإنتاج البصري، ولكونه اتخذ مواقع التواصل الاجتماعي جدران عرضٍ دائمة له، يأخذ أيضًا سمة "الترند"، وما يتبعها من تفاعل مستخدمي هذه المواقع مع الموضوع أو الحدث السائد أو المسيطر، والذي يشمل كذلك تفاعل فنانين وهواة ومصمّمين مع الحدث الفلسطيني، أو مع فكرة بصرية معينة أُنتجت في سياقه، فتحظى بإعجاب المتابعين، ما يستحثّ فنانين آخرين على إعادة إنتاجها ضمن أعمال بصرية كثيرة. ويمكن ملاحظة سمة التأثر بالترند في كثير من الأعمال البصرية المنتجة خلال الحرب على غزة، كالرسومات التي تحوي مشابَهات بصرية بين الفلسطينيين والشعوب الأصلية في أميركا (الهنود الحمر)، وتلك التي تعيد إنتاج رسم البطيخ، ما سيتعرض له المقال لاحقًا. ولعل كثيرًا من الناشطين، المنتجين للأعمال البصرية خلال العدوان، هم من مستخدمي برامج الذكاء الاصطناعي والتصميم حديثًا، وهؤلاء لم يمتلكوا القدرة الاحترافية على التوظيف الجيد لهذه الأدوات للموضوع وللرسائل التي يريدون إيصالها عبر أعمالهم. إضافة إلى ذلك، من الواضح أن كثيرًا من الهواة، ليسوا على درايةٍ كافيةٍ بتعقيدات القضية الفلسطينية وتاريخ نضالها ضد الاحتلال، وهو أمرٌ على درجة كبيرة من الأهمية؛ فهذه الدراية تعمل كخلفية معرفية وثقافية ضرورية لأي مبدع يريد أن ينتج عملًا فنيًا متعلقًا بالقضية وصراعها مع الاحتلال، وحتى لو كان موضوعه يتعلق بحدثٍ مؤقت أو مرحليّ فيها، كالحرب الحالية، لكن لهذه الحرب امتداد تاريخيّ يصل إلى ما قبل عام 1948، ولا شك في أنه لا بد للفنان، فلسطينيًا كان أو عربيًا أو أجنبيًا، من الاطلاع على هذا التاريخ وعلى الثقافة الفلسطينية بعامة.
نتيجة لما سبق من معطيات، افتقد كثير من الأعمال المنتَجة خلال العدوان على غزة إلى شمولية الرؤية، ما ألقى بظلاله على مضمون رسائل العمل الفني واتجاهاتها وأثرها في الوعي الجمعي؛ ذلك أن الرسالة هي خلاصة العمل الفني، وهي التي تؤدي فعلَها في تحريك الوجدان وتشكيل الوعي والذاكرة. تعرّضت للنقد أيضًا الأساليب التي سيطرت على بعض الأعمال التي تصور الأحداث والشخوص في غزة، وأسلوب العمل الفني لا ينفصل عن مضمونه، إذ يعمل الفنان على خلق التناغم بينهما من أجل تكامل العمل ونُضجِ رسالته.
بين التجميل والأيقونة
من بين هذه الأعمال تلك التي تبدو وكأنها تحوي "عمليات تجميل" أُجْرِيَت على المكان والشخوص في غزة؛ أطفال ورجال ونساء بوجوه وعيون لامعة ومشرقة، تبدو كأنها بلاستيكية، رسمت بألوان برّاقة وقوية وزاهية تسيطر على العمل الفني، وبعض هذه الأعمال يصور شخوصًا من غزة بأسلوب كرتوني ما يعطي العمل بعدًا طفوليًا. يرى البعض أن مثل تلك الأعمال تُخرج شخصيات غزة من واقعيتها ومأوسايتها، عبر المبالغة بتجميلها وواقعها بالذكاء الاصطناعي، وهي بالتالي، وبالتراكم البصري والمعرفيّ الذي تُحدِثه، تفرغ المأساة الغزّية، في الوعي الجمعي، من مضمونها، وتفصلها عن واقعها.
فسّر البعض هذا التجميل بالذكاء الاصطناعي لشخوص غزة من أطفال ونساء ورجال، على أنه تعبير لاشعوري، أو لاواعٍ، عن عدم القدرة على احتمال الواقع الحقيقي المحيط بهؤلاء الشخوص. وفي المقابل، يجدر القول إنه تحدث عبر هذه الرسومات عملية تحويل شخوص غزة إلى أيقونات. ومع ذلك، فإن عملية إنتاج الأيقونة عبر الفن يجب ألا تُخرجها عن أصالتها، المستمَدّة بدورها من حكاية صاحب الأيقونة ذاته. الهنود الحمر والإبادة
من الأفكار البصرية التي انتشرت بكثرة وأعيد إنتاجها في أعمال عديدة، تلك التي تستند إلى مشابَهات بصرية بين الفلسطينيين والسكان الأصليين في أميركا (الهنود الحمر)؛ يصور أحد هذه الأعمال فلسطينيًا ملثّمًا بالكوفية، وفي مقابله هنديّ أحمر، وكلاهما يرتدي زيّه التقليدي الخاص، ويرقصان على سلكٍ شائك. بينما يمزج تصميم آخر بين الهويتيْن، فيصوّر شخصًا، من زاوية جانبية، ملثمًا بالكوفية، بينما رأسه مزيّن بالريش الملوّن على طريقة الهنود الحمر. والحقيقة أن هذه المشابَهات لا تستند إلى وقائع لعدم وجود تشابه بين الثقافة الفلسطينية وثقافة الأميركيين الأصليين، سواء في المعتقدات، أو في الزيّ، أو الرقص الشعبي، وهو الدبكة عند الفلسطينيين. والمشترك الأساس والأبرز، بين الفلسطينيين والسكان الأميركيين الأصليين، هو التاريخ الاستعماري لبلادِ أصحابِ الأرض، والذي يشترك به الشعب الفلسطيني مع الكثير من الشعوب الأخرى.
صحيحٌ أن الفن مفتوح على حرية الخيارات، ويمكن أن يخلق مشابَهات ومقارنات بصرية بين مختلف العوالم والثقافات، ولكن توقيت انتشار هذه الرسومات ــ خلال العدوان على غزة حيث تُرتَكب عشرات المجازر يوميًا- أثار حفيظة معارضين لها، الذين يستندون إلى مبدأ رفض الإبادة، وعدمِ قبولها حتى لو كانت فكرةً عبر رسمٍ لم يقصدها صاحبه. ويستندون كذلك إلى حقيقة مفادها أن هناك مقاومة فلسطينية ممتدة منذ عقود من أجل أن لا يكون مصير الهوية والوجود الفلسطينييْن هو الإبادة، كما كانت الحال مع السكان الأصليين في أميركا.
كتب المخرج المصري باسل رمسيس على صفحته على "فيسبوك": "الفلسطينيون مش هنود حمر، وأساس المعركة الحالية أن مصيرهم ما يكونش مصير الهنود الحمر". أيضًا، يرى البعض أن هذه الرسومات تعمل على برمجة الوعي على تقبّل عمليات الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، خاصة وأنه يتم تداولها بالتزامن مع جرائم العدوان. في المقابل، يرى آخرون، أن هذه الرسومات تدقّ ناقوس الخطر، إذ هي تحذّر من الإبادة ومن مصيرٍ مشابه بحق الفلسطينيين.
ترند البطيخ
ومن الظواهر البصرية التي تبدو أشبه بموجة ترند فنية على مواقع التواصل الاجتماعي، رسوم البطيخ الذي يُشار به فيها إلى العلم الفلسطيني. واستخدام البطيخ "كرمز" هو ظاهرةٌ حديثة، نشأت بالأساس في سياق تضامنيّ واحتجاجيّ بعيد عن الثقافة والجغرافيا الفلسطينيّتيْن. ويتم تداول "الرمز" بكثرة بين المصمّمين والفنانين، العرب والأجانب بخاصة، باعتباره "رمزًا فلسطينيًا متجذّرًا"، وهي معلومة خاطئة تبنّاها متضامنون عرب وأجانب، ومن بينهم الفنانون. عزّز من انتشار هذه المعلومات تقارير إعلامية كثيرة، تتحدث، دون الاستناد إلى مصادر أو وقائع، عن استخدام الفلسطينيين للبطيخ كبديل عن العلم الفلسطيني في مراحل تاريخية خلال مسيرة نضالهم. والحقيقة أن البطيخ لم يكن رمزًا وطنيًا لدى الشعب الفلسطيني، ولا في أي مرحلة في تاريخه النضالي ضد الاحتلال[1].
أما الإشكالية الأكبر المحيطة بالبطيخ فهي الاستبدالية، أي استخدامه في التظاهرات وأشكال الاحتجاج، وفي الفنون البصرية، كرمز بديل عن العلم الفلسطيني، ما أثار حفيظة ناشطين وفنانين فلسطينيين، الذين بدأوا ينتقدون الظاهرة، ويطالبون المتضامنين والفنانين باستخدام واستلهام الرموز الفلسطينية الأصيلة، كالزيتون وحنظلة والكوفية والعلم الفلسطيني وغيرها.
انتزاع الحدث من إطاره الشمولي
من الرسومات والتصميمات التي تعرضت للنقد، تلك التي تناولت موضوع تحرير الأسرى الإسرائيليين، إذ تفاعل مصمّمون وفنانون مع الصور ومقاطع الفيديو التي بثّتها فصائل المقاومة لعمليات التحرير خلال فترة الهدنة. ولعل هؤلاء أرادوا الإشادة بالمقاومة والترويج لأخلاقياتها، ولكن المبالغة أخذت أعمالهم إلى مساحات معرفيّة أخرى إشكاليّة وجدليّة، بل ومرفوضة لدى الكثيرين، خاصة أن وموضوعها كان "أسيرة إسرائيلية مقابل مقاوم فلسطيني"؛ في أحد الرسوم يقدم المقاوم زهرة وردية اللون للأسيرة الإسرائيلية المحرَّرة، وربما هي التي تقدمها له. وفي تصميم آخر تظهر أميرة، هي شخصية كرتونية من ديزني، مصابة تجلس على سرير طبي ورديّ، بينما يأخذ مقاوم فلسطيني بيدها، وفي الخلفية، كُتبت بالإنكليزية جملة معناها "هل هذا حُبّ"؟، مع تضخيم كلمة "حُبّ".
تنزع هذا الرسومات الفلسطيني، والإسرائيلي أيضًا، من سياق الصراع الطويل بينهما، كمستعمَر مقابل مستعمِر، وتجمّدهما داخل لحظة ضمن حدث، وهي لحظة تحرير الأسرى ضمن أحداث ما بعد السابع من أكتوبر، ليتحول الأمر إلى ما يشبه علاقة "ودّية" بل و"عاطفية" بين الطرفين، وبذلك بدت وكأنها رسوم تطبيعية دون أن يقصد أصحابها التطبيع؛ فبينما كان هدف فصائل المقاومة إثبات تفوّقها الأخلاقي على الاحتلال، في مواجهة الدعاية التي روّجها حول عناصرها "كحيوانات بشرية يقومون بالذبح والاغتصاب"، أخذت التعليقات على عمليات تحرير الأسرى الإسرائيليين على مواقع التواصل الاجتماعي، والرسومات والتصاميم ذات العلاقة، أبعادًا بعيدة عن هذا الهدف، بل ومناقضة لأهداف هذه الفصائل في مقاومة الاحتلال، ليُختزل الموضوع في علاقة "إنسانية ودّية" تنطوي على إيحاءات عاطفية.
بدورها، أثارت هذه التعليقات والرسومات والتصاميم ردّ فعل الطرف الآخر، المستعمِر، الذي لا ينفك يلوّح بالتهديد بالاغتصاب ويرتكبه أصلًا. وقد كتب الباحث خالد عودة الله على صفحته على "فيسبوك" أنه ردًا على "ترند العرب المراهق"، المحتفي بنظرات الأسيرة الإسرائيلية للملثّم أثناء الإفراج عنها، بدأ جنود الاحتلال باقتناص صور لفلسطينيات على الحواجز، ونشرِها على مواقع التواصل الاجتماعي، مصحوبةً بذاتِ مفرداتِ "المراهقين العرب" كما أسماهم، كما يذكر أنه سيكون لهذه الصور تأثير سلبي على الفلسطينيات في "مجتمعنا المحافظ".
أخيرًا، لا شك في أن الحراك الفني البصري، الموازيّ للحراك العالمي المؤيد للقضية الفلسطينية، يبقى على درجة كبيرة من الأهمية، فهو أحد أشكال التضامن والاحتجاج والمقاومة، ويساهم بشكل فعّال ومؤثر في صياغة الحكاية الفلسطينية، حكاية أصحاب الأرض، في مواجهة البروباغندا الصهيونية، وينقل عبر التصاميم والرسومات ما يجري في غزة وفلسطين بعامّة، كما يقوم بفعل التحريض، عبر توليد أو تثوير المشاعر وصياغة الوعي الجمعي. كل ذلك تفعله الصورة/ اللوحة بلا شك.
ولكن من الضروري أيضًا أن يكون في مقابل هذا الكمّ الهائل والسريع من المخرَجات البصرية نقدٌ ثقافيّ وطنيّ، لا يهتم بالقيمة فحسب، أي قيمة العمل الفني من الناحية البصرية، بل يهتم بشكل رئيس بكيفية توظيف الأساليب والأدوات المستخدمة، كبرامج الذكاء الاصطناعي والتصميم، في تناول الموضوعات المختلفة، والأهم هو ضرورة نقاش ونقد الكيفيات التي تُطرح بها هذه الموضوعات، والرسائل المصاحبة لها في العمل الفني.
هوامش:
[1] تناولت الكاتبة موضوع "البطيخ" في مقال مستقل. ينظر: مليحة مسلماني، "البطيخ علمًا لفلسطين... خيال ضابط إسرائيلي"، فسحة ثقافية، 4/12/2023، https://bit.ly/3v5lt2G
مليحة مسلماني
تشكيل
"شكرًا جنوب أفريقيا":من الصور المنتشرة على مواقع التواصل
شارك هذا المقال
حجم الخط
لعل الفنون البصرية تبقى، في زمن الثورات والحروب بخاصة، الأسرع لحاقًا بالأحداث والأكثر انتشارًا والأقوى تعبيرًا، وذلك مقارنةً بأشكال إبداعية أخرى، كالشعر والأدب والمسرح، التي قد تحتاج زمنًا أطول لصياغة تجربة الحرب أو الثورة، وإعادة إنتاجها ضمن عوالم إبداعية. ناهيك عن سرعة وحجم التفاعل مع الصورة وسهولة انتشارها، لما تملكه من قدرة على اختزال كثيرٍ من المعاني والرسائل داخل إطارها.
وبذلك، وبالموازاة مع عملية "طوفان الأقصى" منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، انبثق ما يمكن اعتباره ثورة فنية بصرية، اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي والمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين حول العالم، لتضمّ رسومات وأعمالًا وتصاميم وكاريكاتيرات، تتناول مختلف المسائل المتعلقة بالقضية الفلسطينية بعامّة، والعدوان على غزة بخاصة: كمظاهر الاحتلال، من إبادةٍ حاصلةٍ وحصارٍ ودمارٍ في غزة، وقمعٍ واعتقالٍ في الضفة الغربية والقدس، وتمجّد مظاهر مقاومة الفلسطينيين بمختلف أشكالها، وتحرّض على المقاطعة الاقتصادية وأشكالها المتعددة الأخرى، إضافة إلى تناولها مواقف الشعوب والدول المختلفة من الأحداث، وغيرها من المواضيع.
ولا شك في أن برامج التصميم والذكاء الاصطناعي ساهمت بشكل كبير في إنتاج هذا الكمّ الهائل من الأعمال البصرية المتعلقة بالأحداث، لما تتيحه هذه البرامج، للفنانين والهواة، من إمكانية إنجاز أعمالهم خلال فترة زمنية قصيرة جدًا قد لا تتجاوز دقائق، فمنحتهم بالتالي الفرصة للتعليق سريعًا على الأحداث، كما يفعل رسامو الكاريكاتير. وبذلك، أصبح المتلقّي أمام كمّ ضخم من الأعمال البصرية، والذي يشارك في إنتاجه عدد كبير من المصمّمين والرسامين والفنانين، من هواة ومحترفين، خاصة وأن استخدام هذه البرامج متاح للجميع وليس على درجة كبيرة من الصعوبة.
الفن بين الشعبية والترند
وبالاطلاع على الأعمال البصرية المنتجة خلال الحرب على غزة، من الواضح أن كثيرًا منها يتم إنتاجه على يد هواة وليس محترفين، ما يعطي الحراك البصري الحاصل صفة الفن الشعبيّ المقاوِم، الذي يمارسه فنانون وهواة كثيرون من ثقافات مختلفة. وكثيرًا ما لا يُعرف صاحب العمل، إضافة إلى التفاوت الكبير بين مستويات الأعمال الفنية.
لكن هذا الإنتاج البصري، ولكونه اتخذ مواقع التواصل الاجتماعي جدران عرضٍ دائمة له، يأخذ أيضًا سمة "الترند"، وما يتبعها من تفاعل مستخدمي هذه المواقع مع الموضوع أو الحدث السائد أو المسيطر، والذي يشمل كذلك تفاعل فنانين وهواة ومصمّمين مع الحدث الفلسطيني، أو مع فكرة بصرية معينة أُنتجت في سياقه، فتحظى بإعجاب المتابعين، ما يستحثّ فنانين آخرين على إعادة إنتاجها ضمن أعمال بصرية كثيرة. ويمكن ملاحظة سمة التأثر بالترند في كثير من الأعمال البصرية المنتجة خلال الحرب على غزة، كالرسومات التي تحوي مشابَهات بصرية بين الفلسطينيين والشعوب الأصلية في أميركا (الهنود الحمر)، وتلك التي تعيد إنتاج رسم البطيخ، ما سيتعرض له المقال لاحقًا. ولعل كثيرًا من الناشطين، المنتجين للأعمال البصرية خلال العدوان، هم من مستخدمي برامج الذكاء الاصطناعي والتصميم حديثًا، وهؤلاء لم يمتلكوا القدرة الاحترافية على التوظيف الجيد لهذه الأدوات للموضوع وللرسائل التي يريدون إيصالها عبر أعمالهم. إضافة إلى ذلك، من الواضح أن كثيرًا من الهواة، ليسوا على درايةٍ كافيةٍ بتعقيدات القضية الفلسطينية وتاريخ نضالها ضد الاحتلال، وهو أمرٌ على درجة كبيرة من الأهمية؛ فهذه الدراية تعمل كخلفية معرفية وثقافية ضرورية لأي مبدع يريد أن ينتج عملًا فنيًا متعلقًا بالقضية وصراعها مع الاحتلال، وحتى لو كان موضوعه يتعلق بحدثٍ مؤقت أو مرحليّ فيها، كالحرب الحالية، لكن لهذه الحرب امتداد تاريخيّ يصل إلى ما قبل عام 1948، ولا شك في أنه لا بد للفنان، فلسطينيًا كان أو عربيًا أو أجنبيًا، من الاطلاع على هذا التاريخ وعلى الثقافة الفلسطينية بعامة.
نتيجة لما سبق من معطيات، افتقد كثير من الأعمال المنتَجة خلال العدوان على غزة إلى شمولية الرؤية، ما ألقى بظلاله على مضمون رسائل العمل الفني واتجاهاتها وأثرها في الوعي الجمعي؛ ذلك أن الرسالة هي خلاصة العمل الفني، وهي التي تؤدي فعلَها في تحريك الوجدان وتشكيل الوعي والذاكرة. تعرّضت للنقد أيضًا الأساليب التي سيطرت على بعض الأعمال التي تصور الأحداث والشخوص في غزة، وأسلوب العمل الفني لا ينفصل عن مضمونه، إذ يعمل الفنان على خلق التناغم بينهما من أجل تكامل العمل ونُضجِ رسالته.
بين التجميل والأيقونة
من بين هذه الأعمال تلك التي تبدو وكأنها تحوي "عمليات تجميل" أُجْرِيَت على المكان والشخوص في غزة؛ أطفال ورجال ونساء بوجوه وعيون لامعة ومشرقة، تبدو كأنها بلاستيكية، رسمت بألوان برّاقة وقوية وزاهية تسيطر على العمل الفني، وبعض هذه الأعمال يصور شخوصًا من غزة بأسلوب كرتوني ما يعطي العمل بعدًا طفوليًا. يرى البعض أن مثل تلك الأعمال تُخرج شخصيات غزة من واقعيتها ومأوسايتها، عبر المبالغة بتجميلها وواقعها بالذكاء الاصطناعي، وهي بالتالي، وبالتراكم البصري والمعرفيّ الذي تُحدِثه، تفرغ المأساة الغزّية، في الوعي الجمعي، من مضمونها، وتفصلها عن واقعها.
فسّر البعض هذا التجميل بالذكاء الاصطناعي لشخوص غزة من أطفال ونساء ورجال، على أنه تعبير لاشعوري، أو لاواعٍ، عن عدم القدرة على احتمال الواقع الحقيقي المحيط بهؤلاء الشخوص. وفي المقابل، يجدر القول إنه تحدث عبر هذه الرسومات عملية تحويل شخوص غزة إلى أيقونات. ومع ذلك، فإن عملية إنتاج الأيقونة عبر الفن يجب ألا تُخرجها عن أصالتها، المستمَدّة بدورها من حكاية صاحب الأيقونة ذاته. الهنود الحمر والإبادة
من الأفكار البصرية التي انتشرت بكثرة وأعيد إنتاجها في أعمال عديدة، تلك التي تستند إلى مشابَهات بصرية بين الفلسطينيين والسكان الأصليين في أميركا (الهنود الحمر)؛ يصور أحد هذه الأعمال فلسطينيًا ملثّمًا بالكوفية، وفي مقابله هنديّ أحمر، وكلاهما يرتدي زيّه التقليدي الخاص، ويرقصان على سلكٍ شائك. بينما يمزج تصميم آخر بين الهويتيْن، فيصوّر شخصًا، من زاوية جانبية، ملثمًا بالكوفية، بينما رأسه مزيّن بالريش الملوّن على طريقة الهنود الحمر. والحقيقة أن هذه المشابَهات لا تستند إلى وقائع لعدم وجود تشابه بين الثقافة الفلسطينية وثقافة الأميركيين الأصليين، سواء في المعتقدات، أو في الزيّ، أو الرقص الشعبي، وهو الدبكة عند الفلسطينيين. والمشترك الأساس والأبرز، بين الفلسطينيين والسكان الأميركيين الأصليين، هو التاريخ الاستعماري لبلادِ أصحابِ الأرض، والذي يشترك به الشعب الفلسطيني مع الكثير من الشعوب الأخرى.
صحيحٌ أن الفن مفتوح على حرية الخيارات، ويمكن أن يخلق مشابَهات ومقارنات بصرية بين مختلف العوالم والثقافات، ولكن توقيت انتشار هذه الرسومات ــ خلال العدوان على غزة حيث تُرتَكب عشرات المجازر يوميًا- أثار حفيظة معارضين لها، الذين يستندون إلى مبدأ رفض الإبادة، وعدمِ قبولها حتى لو كانت فكرةً عبر رسمٍ لم يقصدها صاحبه. ويستندون كذلك إلى حقيقة مفادها أن هناك مقاومة فلسطينية ممتدة منذ عقود من أجل أن لا يكون مصير الهوية والوجود الفلسطينييْن هو الإبادة، كما كانت الحال مع السكان الأصليين في أميركا.
كتب المخرج المصري باسل رمسيس على صفحته على "فيسبوك": "الفلسطينيون مش هنود حمر، وأساس المعركة الحالية أن مصيرهم ما يكونش مصير الهنود الحمر". أيضًا، يرى البعض أن هذه الرسومات تعمل على برمجة الوعي على تقبّل عمليات الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، خاصة وأنه يتم تداولها بالتزامن مع جرائم العدوان. في المقابل، يرى آخرون، أن هذه الرسومات تدقّ ناقوس الخطر، إذ هي تحذّر من الإبادة ومن مصيرٍ مشابه بحق الفلسطينيين.
ترند البطيخ
ومن الظواهر البصرية التي تبدو أشبه بموجة ترند فنية على مواقع التواصل الاجتماعي، رسوم البطيخ الذي يُشار به فيها إلى العلم الفلسطيني. واستخدام البطيخ "كرمز" هو ظاهرةٌ حديثة، نشأت بالأساس في سياق تضامنيّ واحتجاجيّ بعيد عن الثقافة والجغرافيا الفلسطينيّتيْن. ويتم تداول "الرمز" بكثرة بين المصمّمين والفنانين، العرب والأجانب بخاصة، باعتباره "رمزًا فلسطينيًا متجذّرًا"، وهي معلومة خاطئة تبنّاها متضامنون عرب وأجانب، ومن بينهم الفنانون. عزّز من انتشار هذه المعلومات تقارير إعلامية كثيرة، تتحدث، دون الاستناد إلى مصادر أو وقائع، عن استخدام الفلسطينيين للبطيخ كبديل عن العلم الفلسطيني في مراحل تاريخية خلال مسيرة نضالهم. والحقيقة أن البطيخ لم يكن رمزًا وطنيًا لدى الشعب الفلسطيني، ولا في أي مرحلة في تاريخه النضالي ضد الاحتلال[1].
أما الإشكالية الأكبر المحيطة بالبطيخ فهي الاستبدالية، أي استخدامه في التظاهرات وأشكال الاحتجاج، وفي الفنون البصرية، كرمز بديل عن العلم الفلسطيني، ما أثار حفيظة ناشطين وفنانين فلسطينيين، الذين بدأوا ينتقدون الظاهرة، ويطالبون المتضامنين والفنانين باستخدام واستلهام الرموز الفلسطينية الأصيلة، كالزيتون وحنظلة والكوفية والعلم الفلسطيني وغيرها.
انتزاع الحدث من إطاره الشمولي
من الرسومات والتصميمات التي تعرضت للنقد، تلك التي تناولت موضوع تحرير الأسرى الإسرائيليين، إذ تفاعل مصمّمون وفنانون مع الصور ومقاطع الفيديو التي بثّتها فصائل المقاومة لعمليات التحرير خلال فترة الهدنة. ولعل هؤلاء أرادوا الإشادة بالمقاومة والترويج لأخلاقياتها، ولكن المبالغة أخذت أعمالهم إلى مساحات معرفيّة أخرى إشكاليّة وجدليّة، بل ومرفوضة لدى الكثيرين، خاصة أن وموضوعها كان "أسيرة إسرائيلية مقابل مقاوم فلسطيني"؛ في أحد الرسوم يقدم المقاوم زهرة وردية اللون للأسيرة الإسرائيلية المحرَّرة، وربما هي التي تقدمها له. وفي تصميم آخر تظهر أميرة، هي شخصية كرتونية من ديزني، مصابة تجلس على سرير طبي ورديّ، بينما يأخذ مقاوم فلسطيني بيدها، وفي الخلفية، كُتبت بالإنكليزية جملة معناها "هل هذا حُبّ"؟، مع تضخيم كلمة "حُبّ".
"أثارت هذه التعليقات والرسومات والتصاميم ردّ فعل الطرف الآخر، المستعمِر، الذي لا ينفك يلوّح بالتهديد بالاغتصاب ويرتكبه أصلًا" |
بدورها، أثارت هذه التعليقات والرسومات والتصاميم ردّ فعل الطرف الآخر، المستعمِر، الذي لا ينفك يلوّح بالتهديد بالاغتصاب ويرتكبه أصلًا. وقد كتب الباحث خالد عودة الله على صفحته على "فيسبوك" أنه ردًا على "ترند العرب المراهق"، المحتفي بنظرات الأسيرة الإسرائيلية للملثّم أثناء الإفراج عنها، بدأ جنود الاحتلال باقتناص صور لفلسطينيات على الحواجز، ونشرِها على مواقع التواصل الاجتماعي، مصحوبةً بذاتِ مفرداتِ "المراهقين العرب" كما أسماهم، كما يذكر أنه سيكون لهذه الصور تأثير سلبي على الفلسطينيات في "مجتمعنا المحافظ".
أخيرًا، لا شك في أن الحراك الفني البصري، الموازيّ للحراك العالمي المؤيد للقضية الفلسطينية، يبقى على درجة كبيرة من الأهمية، فهو أحد أشكال التضامن والاحتجاج والمقاومة، ويساهم بشكل فعّال ومؤثر في صياغة الحكاية الفلسطينية، حكاية أصحاب الأرض، في مواجهة البروباغندا الصهيونية، وينقل عبر التصاميم والرسومات ما يجري في غزة وفلسطين بعامّة، كما يقوم بفعل التحريض، عبر توليد أو تثوير المشاعر وصياغة الوعي الجمعي. كل ذلك تفعله الصورة/ اللوحة بلا شك.
ولكن من الضروري أيضًا أن يكون في مقابل هذا الكمّ الهائل والسريع من المخرَجات البصرية نقدٌ ثقافيّ وطنيّ، لا يهتم بالقيمة فحسب، أي قيمة العمل الفني من الناحية البصرية، بل يهتم بشكل رئيس بكيفية توظيف الأساليب والأدوات المستخدمة، كبرامج الذكاء الاصطناعي والتصميم، في تناول الموضوعات المختلفة، والأهم هو ضرورة نقاش ونقد الكيفيات التي تُطرح بها هذه الموضوعات، والرسائل المصاحبة لها في العمل الفني.
هوامش:
[1] تناولت الكاتبة موضوع "البطيخ" في مقال مستقل. ينظر: مليحة مسلماني، "البطيخ علمًا لفلسطين... خيال ضابط إسرائيلي"، فسحة ثقافية، 4/12/2023، https://bit.ly/3v5lt2G