الفيزياء الصوفية
أ.د. سمر الديوب*
جامعة البعث- حمص- سورية
في العدد 81 من مجلة الإمارات الثقافية
يسعى هذا المقال إلى دراسة الفيزياء الصوفية، انطلاقاً من أن "أنا" الصوفي جزء صغير جداً من كوننا المتماسك، الذي لا يوجد فيه استقلال، فالكون كليّة متواشجة، ونستطيع تعرُّفه من أصغر وحدة فيه، وتقوم العلاقات فيه على التبادل، ويعني هذا الكلام أن العالم الفيزيائي يعتمد على العالم الشعري، ولا يقوم الشعر من غير مبادئ فيزيائية. إنها طبيعة الأشياء الكونية المترابطة. وقد أدرك الفيزيائيون الحديثون كلّية العلاقات الكونية بدءاً بالكوارك -عالم ما دون الذرة- إلى المجرات الكونية، فثمة شبكة من العلاقات الكونية القائمة على التبادل بين جزيئات الكون، والإنسان جزء بسيط في هذا التدفق الأبدي للطاقة.
وقد رتّب الشاعر الصوفي الكون ترتيباً شعرياً؛ لذا نفترض وجود تماثلات بين الفيزياء والشعر الصوفي؛ لأن الشاعر غدا جزيئاً متفاعلاً مع الكون بأبعاده، ونفترض أنه قد وصل بالحدس والتأمل إلى ما وصل إليه الفيزيائي بالفكر والتجربة.
ولا تختلف النظرة الفيزيائية عن النظرة الشعرية، والتضاد بينهما مدعاة للتكامل، فالفيزياء علم الطبيعة الكامل الشامل، وقد أُطلق على الفيزياء تسمية "فلسفة الطبيعة"، فللفيزياء علاقة بما هو طبيعي، فالنظرة الفيزيائية نظرة فلسفية حسية، ويرتبط الشعر بالرؤيا والجانب العاطفي؛ لذا نفترض أنه يستطيع الإفادة من الفيزياء، وتوسلها طريقة لرؤية العالم.
وللصوفي عالمه الخاص، عالم معرفة، ربط بين الكون والأنا، وقلب الاهتمام من الخارج إلى الداخل بهدف الوصول إلى عالم النور: المعرفة التي لا تكون إلا بالمحبة.
وقد تمكن الشاعر الصوفي من جعل الشعر فلسفة، والفلسفة شعراً، وتتكامل العلوم في الإطار العام لها: الفلسفة، فينطلق هذا الشعر من طبيعة ميتافيزيقية؛ لذا يحيل إلى الفيزياء الحديثة؛ الميتافيزياء، فهو شعر عرفاني يغوص في الرمزية.
إن قوانين الفيزياء أقرب إلى الشعر؛ لأنها مسائل فيزيقية وميتافيزيقية، وللشعر علاقة بالميتافيزيقا.
وتثار في هذا المقام جملة أسئلة من قبيل: ما حدود العلاقة بين الفيزياء والشعر الصوفي؟ هل تستقل قوانين الفيزياء الحديثة عن العالم؟ وهل لها وجود في ذاتها فقط؟ هل الزمان حقيقة ذاتية تخص الإنسان أو حقيقة موضوعية خارجة عنه؟ هل أعادت الفيزياء الحديثة اكتشاف الصوفية القديمة؟ وهل يمكن للإنسان بالتأمل أن يتوصل إلى ما يتوصل إليه الفيزيائي بالتجربة؟ إن الفيزيائي والشاعر الصوفي يستخدمان العقل والحدس استخداماً مفرطاً، وكلّ من الطرفين يتمم الآخر.
- ثنائيتا العلم/ المعرفة، العقل/ الحدس
يقابل البحث في الإنسانيات البحثَ في الطبيعيات، ويلتقيه، فتتكامل العلوم، ويعدّ كل فرع منها ضرورياً للعلوم الأخرى، ولا يوجد علم مستقل في ذاته؛ لأن المعرفة واحدة، لا تتجزأ.
وإذ تقوم الإنسانيات على أساس متواضع من العلم يقوم العلم على الخيال الذي يعدّ شرطاً لوجود الإنسانيات، فثمة وحدة في النظام الكوني.
إن ثمة نوعين من المعرفة: معرفة عقلية، ومعرفة حدسية، وللمعرفتين طبيعة تكاملية، فهما طرفا ثنائية ضدية، والمعرفة العقلية معرفة محدودة بمعطيات العلم، ويهتم الشاعر الصوفي بالإدراك الحدسي، وهو أرفع من التفكير العقلاني، فلا تعتمد معرفته على التصنيفات العقلية، وهذه سمة مائزة لكل تجربة صوفية؛ لذا يعجز الصوفي عن وصف المطلق بالكلمات، فيلجأ إلى الرمز، فالمعرفة الحدسية معرفة غير عقلية للواقع، معرفة تأملية صوفية، وتبنى المعرفة العقلية على معارف سابقة، قد تنقضها، وقد تعدّل فيها. أما المعرفة الحدسية فثابتة.
إن ثمة فيزياء صوفية، وصوفية فيزيائية، فليست الفيزياء مستقلة عن الطبيعة، بل هي متأصلة فيها، فثمة جانب حدسي في العلم، وجانب عقلي في الشعر الصوفي، فالمعارف متداخلة، وحين قال النفَّري: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" لمّح إلى عجز اللغة عن التعبير عن البعد الأعلى من بعدنا الفيزيائي، وأكّد أن الرؤية لدى الصوفي أساس المعرفة، وتستحيل المعرفة من غير رؤية، وتعني الرؤية المعرفة الميتافيزيقية؛ ذلك لأن تجربة الصوفي تجربة غير حسية.
يعني الكلام السابق أن للتصوف علاقة بالحدس، وللفيزياء علاقة بالتفكير العقلاني، لكن الجانبين قطبان لحقيقة واحدة متحدة، لا يمكن فصل أحد جانبيها عن الآخر، وحين يصل التفكير العقلاني إلى الذروة يتراجع لصالح التفكير الحدسي، والعكس صحيح.
وتعد الفيزياء الحديثة أعلى درجات التفكير العقلاني، ويعني ذلك أن لها علاقة بالتفكير الحدسي تبعاً لقاعدة الثنائيات الضدية السابقة. ويمكن القول إن أشد أنواع التقارب بين العلوم الطبيعية والإنسانية يتجلى في الفيزياء الحديثة والشعر، ولا سيما الشعر الصوفي، فثمة تشابه كبير بين التصوّف الحدسي والفيزياء العقلية؛ لذا يمكن أن تكون الفيزياء الحديثة: الميتا فيزياء وسيلة لفهم المعرفة الروحانية الصوفية.
لقد انقسمت الفيزياء الكلاسيكية إلى ثنائية: مادة/ عقل، فالإنسان جسد وروح، وهو تقسيم ديكارتي، وقالت إن الذرة أبسط أشكال المادة. أما فلسفة الشعر الصوفي فترد الظواهر الكونية إلى كلّ متحد متناغم، وهذا فهم مضاد للمفاهيم الكلاسيكية القديمة.
وبما أن الأجزاء ترتد إلى الكل الواحد، فكل ما ندركه بالحواس يرتبط بعضه ببعض، ويرتد إلى الحقيقة المطلقة. ولا يرى الشاعر الصوفي العقل مصدراً للمعرفة، بل يراه وسيلة تفسير وتحليل فقط. ويقضي الفيزيائي مراحل تدريب طويلة في حين يحتاج الصوفي إلى مجاهدة للوصول إلى رتبة أعلى، فيلجم عقله، ويُعمِل حدسه بوصفه وسيلة للوعي. فكلا التجربتين: الصوفية والفيزيائية تحتاج إلى تدريب، يتخطى الصوفي تجربته بالتأمل العميق، وينقل الوعي من الطريقة العقلية إلى الطريقة الحدسية وفي التأمل العميق يكون العقل شديد التيقظ.
إن العلم يقوم على العقل، ولا يرى العقل سوى الحدود، في حين يعرف الحدس الذي يقوم عليه التصوف الدربَ المختلف. فإن كانت الأذن تعشق قبل العين أحياناً فإن الحدس يعرف قبل العقل أحياناً.
ويستند العلم إلى أفكار الآخرين، أما المعرفة فتستند إلى مجاهدة النفس لدى الصوفي، ويقيد الفكر العالِم، أما العبور فيقوم على الإفراغ، فيتضاءل الحجاب بالمعرفة، ولكي يتم التدرج من العلم إلى المعرفة ثمة حاجة إلى جهد؛ لذا يمكن للغة أن تستوعب العلم، لا المعرفة.
إن عقل الصوفي عقل قابل للكشف، لا عقل مرتبط بالبعد Demission الفيزيائي، فينتج خياله معرفة، لا فكراً، لكن ذلك لا يمنع قراءة نتاجه بالفكر العلمي، إنه يقدم فكره بالرمز؛ لأن اللغة عاجزة عن التعبير بلغتنا عن المطلق.
إن التصوف معرفة عقلية فائقة، ويكشف الحدس الصوفي البعد الميتافيزيقي بطريقة فردية تتخطى حدود مادية النوع البشري، والصحوة غير العقل، ذلك أن العقل يجب ألا يكتنز معلومات سابقة لكي تعمل الصحوة، ويبقى فيزياء الجسد والروحي تجليين لحقيقة واحدة، فتحيل ثنائية المظهر المتجلي والمظهر اللامتعين إلى حقيقة واحدة.
-ثنائية الفيزياء/الميتا فيزياء والتصوف
ننظر إلى الفيزياء الكلاسيكية على أنها النظريات القابلة للاختبار، أما الميتا فيزياء فهي النظريات غير القابلة للاختبار، وتظهر العلاقة بين الميتا فيزياء والشعر الصوفي بنظريتي الكم والنظرية النسبية.
والفيزياء كلمة يونانية تعني محاولة رؤية الطبيعة الجوهرية للأشياء ويرى الفيزيائيون أن الكون حافل بالمادة الحية، وهي النظرة التي تماثل نظرة الشاعر الصوفي إلى الكون، فهو حافل بالروح. ويحكم الفيزياء الكلاسيكية السبب والنتيجة في حين تتجرد منهما الميتا فيزياء، وتصف الفيزياء الحوادث، وتفسرها، وقد تتنبأ بها، فنحن نستطيع تعريف الضوء لكننا عاجزون عن تفسيره بوصفه ظاهرة. ويحاول الميتا فيزيائي بناء عالم تخيلات خاص به، مسوّغاً ذلك بأن ثمة حقائق لا تُدرك بالحواس.
وتعدّ النظرية الكوانتية -ميكانيكا الكم- نظرية تقوم على الريبة Uncertainty Principle وعدم التعيين، فيتم التحول إلى الميتا فيزياء، فتقول الفيزياء إن تفسير العالم أمر ممكن في حقل ميتا فيزيائي، فالقوانين الفيزيائية أصداء للعقل البشري.
والميتا فيزياء هي الأصل للفيزياء، وكلاهما طالب معرفة، يؤمن بالتجربة. فلا تجد الفيزياء معناها إلا في الميتا فيزياء، وتطبق القوانين الفيزيائية في نمط معين نحوزه، فهي محكومة بالزمان والمكان خلاف الميتا فيزياء، ويمكن القول إن ثمة طبيعة ميتا فيزيائية للفيزياء، فيربط الفيزيائيون الأمور بموضوعات معينة، ويبحث الميتا فيزيائيون عن نهج معرفي تسقط منه الموضوعية.
ويتعامل الفيزيائيون مع الأجزاء ضمن إطار توحيد الكون، ويتعامل الميتا فيزيائيون مع الكل المتضمن الأجزاء في إطار توحيد الكون، فالتجربة الفيزيائية تجربة ميتا فيزيائية؛ ذلك أن هموم الفيزياء تحولت إلى شجون ميتا فيزيائية، فثمة طبيعة ميتا فيزيائية للقوانين الفيزيائية، فالأفكار الميتا فيزيائية ضرورية للفيزياء، وهي ليست تجريبية.
وترى الفيزياء الحديثة أن التغير الدائم سمة الكون الدينامي، كالزمن وغيره من التغيرات، ويرى الصوفي الكون كلاً واحداً، لا انفصال فيه، حركته دائمة روحية ومادية. والحركة التي هي سمة الكون موجودة في الأشياء، لا خارجها، فيقوم الفكر الصوفي على خلفية فلسفية تماثل الخلفية الفلسفية الفيزيائية الحديثة، فيرى الميتا فيزيائي في العالم ما دون الذري أن هذا العالم نظام من العناصر غير المنفصلة كالصوفي الذي يرى الكون وحدة متواشجة.
إن الفيزياء الحديثة تقودنا إلى نظرة قريبة جداً من نظرة الشاعر الصوفي، ويمكن القول إن النظرة الفيزيائية تعود إلى أصول صوفية؛ إذ تعود الفيزياء في أصولها إلى زمن قديم لم يكن العلم فيه منفصلاً عن الفلسفة والدين.
ولا يشترط أن يكون الشاعر متصوفاً، لكن كل صوفي شاعر بمعنى ما؛ لأنه يمتح من لغة رمزية بعيدة عن التصريح، ويعد الحدس ركيزة أساسية في التصوف، والعقل ركيزة أساسية في العلم، وكلاهما يلجأ إلى لغة الرمز، وكلا اللغتين قاصرة عن التعبير عن واقع ميتا فيزيائي؛ لأن الرؤية واسعة والعبارة محدودة.
-رأي
إن التماثلات بين التصوف والفيزياء الحديثة موجودة، والسؤال لماذا؟ إن في الحياة مسارات متعددة المسارب، موحدة الغايات، فالعلم والتصوف يكتشفان واقعاً مختفياً وراء الواقع المادي، كلاهما يراقب، ويعانق الكون، يبدأ الفيزيائي بالعالم الخارجي، ويبدأ الصوفي بالعالم الداخلي، وكلاهما يرتد إلى واقع واحد. ولشدة ظهور هذه التماثلات نسأل: هل تقوم الفيزياء الحديثة اليوم باكتشاف ما توصل إليه الصوفي في الأمس؟
إن العلم والتصوف ثنائية ضدية تحيل إلى التكامل، وتحيل إلى ثنائية عقل/ حدس، وربما يحق لنا أن ندعو إلى فيزياء صوفية في الحقل العلمي، وصوفية فيزيائية في الحقل الأدبي.
أ.د. سمر الديوب*
جامعة البعث- حمص- سورية
في العدد 81 من مجلة الإمارات الثقافية
يسعى هذا المقال إلى دراسة الفيزياء الصوفية، انطلاقاً من أن "أنا" الصوفي جزء صغير جداً من كوننا المتماسك، الذي لا يوجد فيه استقلال، فالكون كليّة متواشجة، ونستطيع تعرُّفه من أصغر وحدة فيه، وتقوم العلاقات فيه على التبادل، ويعني هذا الكلام أن العالم الفيزيائي يعتمد على العالم الشعري، ولا يقوم الشعر من غير مبادئ فيزيائية. إنها طبيعة الأشياء الكونية المترابطة. وقد أدرك الفيزيائيون الحديثون كلّية العلاقات الكونية بدءاً بالكوارك -عالم ما دون الذرة- إلى المجرات الكونية، فثمة شبكة من العلاقات الكونية القائمة على التبادل بين جزيئات الكون، والإنسان جزء بسيط في هذا التدفق الأبدي للطاقة.
وقد رتّب الشاعر الصوفي الكون ترتيباً شعرياً؛ لذا نفترض وجود تماثلات بين الفيزياء والشعر الصوفي؛ لأن الشاعر غدا جزيئاً متفاعلاً مع الكون بأبعاده، ونفترض أنه قد وصل بالحدس والتأمل إلى ما وصل إليه الفيزيائي بالفكر والتجربة.
ولا تختلف النظرة الفيزيائية عن النظرة الشعرية، والتضاد بينهما مدعاة للتكامل، فالفيزياء علم الطبيعة الكامل الشامل، وقد أُطلق على الفيزياء تسمية "فلسفة الطبيعة"، فللفيزياء علاقة بما هو طبيعي، فالنظرة الفيزيائية نظرة فلسفية حسية، ويرتبط الشعر بالرؤيا والجانب العاطفي؛ لذا نفترض أنه يستطيع الإفادة من الفيزياء، وتوسلها طريقة لرؤية العالم.
وللصوفي عالمه الخاص، عالم معرفة، ربط بين الكون والأنا، وقلب الاهتمام من الخارج إلى الداخل بهدف الوصول إلى عالم النور: المعرفة التي لا تكون إلا بالمحبة.
وقد تمكن الشاعر الصوفي من جعل الشعر فلسفة، والفلسفة شعراً، وتتكامل العلوم في الإطار العام لها: الفلسفة، فينطلق هذا الشعر من طبيعة ميتافيزيقية؛ لذا يحيل إلى الفيزياء الحديثة؛ الميتافيزياء، فهو شعر عرفاني يغوص في الرمزية.
إن قوانين الفيزياء أقرب إلى الشعر؛ لأنها مسائل فيزيقية وميتافيزيقية، وللشعر علاقة بالميتافيزيقا.
وتثار في هذا المقام جملة أسئلة من قبيل: ما حدود العلاقة بين الفيزياء والشعر الصوفي؟ هل تستقل قوانين الفيزياء الحديثة عن العالم؟ وهل لها وجود في ذاتها فقط؟ هل الزمان حقيقة ذاتية تخص الإنسان أو حقيقة موضوعية خارجة عنه؟ هل أعادت الفيزياء الحديثة اكتشاف الصوفية القديمة؟ وهل يمكن للإنسان بالتأمل أن يتوصل إلى ما يتوصل إليه الفيزيائي بالتجربة؟ إن الفيزيائي والشاعر الصوفي يستخدمان العقل والحدس استخداماً مفرطاً، وكلّ من الطرفين يتمم الآخر.
- ثنائيتا العلم/ المعرفة، العقل/ الحدس
يقابل البحث في الإنسانيات البحثَ في الطبيعيات، ويلتقيه، فتتكامل العلوم، ويعدّ كل فرع منها ضرورياً للعلوم الأخرى، ولا يوجد علم مستقل في ذاته؛ لأن المعرفة واحدة، لا تتجزأ.
وإذ تقوم الإنسانيات على أساس متواضع من العلم يقوم العلم على الخيال الذي يعدّ شرطاً لوجود الإنسانيات، فثمة وحدة في النظام الكوني.
إن ثمة نوعين من المعرفة: معرفة عقلية، ومعرفة حدسية، وللمعرفتين طبيعة تكاملية، فهما طرفا ثنائية ضدية، والمعرفة العقلية معرفة محدودة بمعطيات العلم، ويهتم الشاعر الصوفي بالإدراك الحدسي، وهو أرفع من التفكير العقلاني، فلا تعتمد معرفته على التصنيفات العقلية، وهذه سمة مائزة لكل تجربة صوفية؛ لذا يعجز الصوفي عن وصف المطلق بالكلمات، فيلجأ إلى الرمز، فالمعرفة الحدسية معرفة غير عقلية للواقع، معرفة تأملية صوفية، وتبنى المعرفة العقلية على معارف سابقة، قد تنقضها، وقد تعدّل فيها. أما المعرفة الحدسية فثابتة.
إن ثمة فيزياء صوفية، وصوفية فيزيائية، فليست الفيزياء مستقلة عن الطبيعة، بل هي متأصلة فيها، فثمة جانب حدسي في العلم، وجانب عقلي في الشعر الصوفي، فالمعارف متداخلة، وحين قال النفَّري: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" لمّح إلى عجز اللغة عن التعبير عن البعد الأعلى من بعدنا الفيزيائي، وأكّد أن الرؤية لدى الصوفي أساس المعرفة، وتستحيل المعرفة من غير رؤية، وتعني الرؤية المعرفة الميتافيزيقية؛ ذلك لأن تجربة الصوفي تجربة غير حسية.
يعني الكلام السابق أن للتصوف علاقة بالحدس، وللفيزياء علاقة بالتفكير العقلاني، لكن الجانبين قطبان لحقيقة واحدة متحدة، لا يمكن فصل أحد جانبيها عن الآخر، وحين يصل التفكير العقلاني إلى الذروة يتراجع لصالح التفكير الحدسي، والعكس صحيح.
وتعد الفيزياء الحديثة أعلى درجات التفكير العقلاني، ويعني ذلك أن لها علاقة بالتفكير الحدسي تبعاً لقاعدة الثنائيات الضدية السابقة. ويمكن القول إن أشد أنواع التقارب بين العلوم الطبيعية والإنسانية يتجلى في الفيزياء الحديثة والشعر، ولا سيما الشعر الصوفي، فثمة تشابه كبير بين التصوّف الحدسي والفيزياء العقلية؛ لذا يمكن أن تكون الفيزياء الحديثة: الميتا فيزياء وسيلة لفهم المعرفة الروحانية الصوفية.
لقد انقسمت الفيزياء الكلاسيكية إلى ثنائية: مادة/ عقل، فالإنسان جسد وروح، وهو تقسيم ديكارتي، وقالت إن الذرة أبسط أشكال المادة. أما فلسفة الشعر الصوفي فترد الظواهر الكونية إلى كلّ متحد متناغم، وهذا فهم مضاد للمفاهيم الكلاسيكية القديمة.
وبما أن الأجزاء ترتد إلى الكل الواحد، فكل ما ندركه بالحواس يرتبط بعضه ببعض، ويرتد إلى الحقيقة المطلقة. ولا يرى الشاعر الصوفي العقل مصدراً للمعرفة، بل يراه وسيلة تفسير وتحليل فقط. ويقضي الفيزيائي مراحل تدريب طويلة في حين يحتاج الصوفي إلى مجاهدة للوصول إلى رتبة أعلى، فيلجم عقله، ويُعمِل حدسه بوصفه وسيلة للوعي. فكلا التجربتين: الصوفية والفيزيائية تحتاج إلى تدريب، يتخطى الصوفي تجربته بالتأمل العميق، وينقل الوعي من الطريقة العقلية إلى الطريقة الحدسية وفي التأمل العميق يكون العقل شديد التيقظ.
إن العلم يقوم على العقل، ولا يرى العقل سوى الحدود، في حين يعرف الحدس الذي يقوم عليه التصوف الدربَ المختلف. فإن كانت الأذن تعشق قبل العين أحياناً فإن الحدس يعرف قبل العقل أحياناً.
ويستند العلم إلى أفكار الآخرين، أما المعرفة فتستند إلى مجاهدة النفس لدى الصوفي، ويقيد الفكر العالِم، أما العبور فيقوم على الإفراغ، فيتضاءل الحجاب بالمعرفة، ولكي يتم التدرج من العلم إلى المعرفة ثمة حاجة إلى جهد؛ لذا يمكن للغة أن تستوعب العلم، لا المعرفة.
إن عقل الصوفي عقل قابل للكشف، لا عقل مرتبط بالبعد Demission الفيزيائي، فينتج خياله معرفة، لا فكراً، لكن ذلك لا يمنع قراءة نتاجه بالفكر العلمي، إنه يقدم فكره بالرمز؛ لأن اللغة عاجزة عن التعبير بلغتنا عن المطلق.
إن التصوف معرفة عقلية فائقة، ويكشف الحدس الصوفي البعد الميتافيزيقي بطريقة فردية تتخطى حدود مادية النوع البشري، والصحوة غير العقل، ذلك أن العقل يجب ألا يكتنز معلومات سابقة لكي تعمل الصحوة، ويبقى فيزياء الجسد والروحي تجليين لحقيقة واحدة، فتحيل ثنائية المظهر المتجلي والمظهر اللامتعين إلى حقيقة واحدة.
-ثنائية الفيزياء/الميتا فيزياء والتصوف
ننظر إلى الفيزياء الكلاسيكية على أنها النظريات القابلة للاختبار، أما الميتا فيزياء فهي النظريات غير القابلة للاختبار، وتظهر العلاقة بين الميتا فيزياء والشعر الصوفي بنظريتي الكم والنظرية النسبية.
والفيزياء كلمة يونانية تعني محاولة رؤية الطبيعة الجوهرية للأشياء ويرى الفيزيائيون أن الكون حافل بالمادة الحية، وهي النظرة التي تماثل نظرة الشاعر الصوفي إلى الكون، فهو حافل بالروح. ويحكم الفيزياء الكلاسيكية السبب والنتيجة في حين تتجرد منهما الميتا فيزياء، وتصف الفيزياء الحوادث، وتفسرها، وقد تتنبأ بها، فنحن نستطيع تعريف الضوء لكننا عاجزون عن تفسيره بوصفه ظاهرة. ويحاول الميتا فيزيائي بناء عالم تخيلات خاص به، مسوّغاً ذلك بأن ثمة حقائق لا تُدرك بالحواس.
وتعدّ النظرية الكوانتية -ميكانيكا الكم- نظرية تقوم على الريبة Uncertainty Principle وعدم التعيين، فيتم التحول إلى الميتا فيزياء، فتقول الفيزياء إن تفسير العالم أمر ممكن في حقل ميتا فيزيائي، فالقوانين الفيزيائية أصداء للعقل البشري.
والميتا فيزياء هي الأصل للفيزياء، وكلاهما طالب معرفة، يؤمن بالتجربة. فلا تجد الفيزياء معناها إلا في الميتا فيزياء، وتطبق القوانين الفيزيائية في نمط معين نحوزه، فهي محكومة بالزمان والمكان خلاف الميتا فيزياء، ويمكن القول إن ثمة طبيعة ميتا فيزيائية للفيزياء، فيربط الفيزيائيون الأمور بموضوعات معينة، ويبحث الميتا فيزيائيون عن نهج معرفي تسقط منه الموضوعية.
ويتعامل الفيزيائيون مع الأجزاء ضمن إطار توحيد الكون، ويتعامل الميتا فيزيائيون مع الكل المتضمن الأجزاء في إطار توحيد الكون، فالتجربة الفيزيائية تجربة ميتا فيزيائية؛ ذلك أن هموم الفيزياء تحولت إلى شجون ميتا فيزيائية، فثمة طبيعة ميتا فيزيائية للقوانين الفيزيائية، فالأفكار الميتا فيزيائية ضرورية للفيزياء، وهي ليست تجريبية.
وترى الفيزياء الحديثة أن التغير الدائم سمة الكون الدينامي، كالزمن وغيره من التغيرات، ويرى الصوفي الكون كلاً واحداً، لا انفصال فيه، حركته دائمة روحية ومادية. والحركة التي هي سمة الكون موجودة في الأشياء، لا خارجها، فيقوم الفكر الصوفي على خلفية فلسفية تماثل الخلفية الفلسفية الفيزيائية الحديثة، فيرى الميتا فيزيائي في العالم ما دون الذري أن هذا العالم نظام من العناصر غير المنفصلة كالصوفي الذي يرى الكون وحدة متواشجة.
إن الفيزياء الحديثة تقودنا إلى نظرة قريبة جداً من نظرة الشاعر الصوفي، ويمكن القول إن النظرة الفيزيائية تعود إلى أصول صوفية؛ إذ تعود الفيزياء في أصولها إلى زمن قديم لم يكن العلم فيه منفصلاً عن الفلسفة والدين.
ولا يشترط أن يكون الشاعر متصوفاً، لكن كل صوفي شاعر بمعنى ما؛ لأنه يمتح من لغة رمزية بعيدة عن التصريح، ويعد الحدس ركيزة أساسية في التصوف، والعقل ركيزة أساسية في العلم، وكلاهما يلجأ إلى لغة الرمز، وكلا اللغتين قاصرة عن التعبير عن واقع ميتا فيزيائي؛ لأن الرؤية واسعة والعبارة محدودة.
-رأي
إن التماثلات بين التصوف والفيزياء الحديثة موجودة، والسؤال لماذا؟ إن في الحياة مسارات متعددة المسارب، موحدة الغايات، فالعلم والتصوف يكتشفان واقعاً مختفياً وراء الواقع المادي، كلاهما يراقب، ويعانق الكون، يبدأ الفيزيائي بالعالم الخارجي، ويبدأ الصوفي بالعالم الداخلي، وكلاهما يرتد إلى واقع واحد. ولشدة ظهور هذه التماثلات نسأل: هل تقوم الفيزياء الحديثة اليوم باكتشاف ما توصل إليه الصوفي في الأمس؟
إن العلم والتصوف ثنائية ضدية تحيل إلى التكامل، وتحيل إلى ثنائية عقل/ حدس، وربما يحق لنا أن ندعو إلى فيزياء صوفية في الحقل العلمي، وصوفية فيزيائية في الحقل الأدبي.