جدل الرؤية على المكعب.عندالتشكيلي هاشم حنون..
• هاشم تايه
حرص التشكيليّ هاشم حنون، بين عدد قليل من أقرانه، على تطوير خطابه التشكيلي من داخل تجربته الفنيّة، وبمقتضى منطقها الداخلي الخاص فأضحت تنتمي إليه شكلاً ومحتوى بفضل دأبه على تنميتها بتدرج طبيعي سمح لها بأن تنتظم في سياق متصل متصاعد يعكس ما أصابها من تطوّر، وغدا بإمكان المراقب أن يضع يده على خطّها الصاعد باطّراد..
وبينما جرى آخرون خلف إغراءات الشكل بتطرف وبتهويل هما، في الغالب، نتاجا أثر خارجي جعل تجاربهم تتغرّب عنهم، فضّل هو الإقامة في أرضه مجتهداً في استخلاص ثمراتها بأداته التي اكتملت بجهده الخاصّ، وكأنّه كافح ليكون هو من دون سواه، ولا يعني هذا أنه يعيش داخل قمقم تجربته، ولكن يعني أن فناننا أراد بانفتاحه على الإرث التشكيلي الهائل أن يسهّل على نفسه، عبر تمثّله السليم، ما يكفل له إخراج ما يجده في كيانه الشخصي، وما يشير إليه، ويفصح عنه، ولهذا فهاشم حنون ماثل في لوحته بمزاجه، وذائقته، وطباع روحه التي تعلن عنه..
إنّ أعماله كلّها تكشف، فور معاينتها، المنطقة التي تنطلق منها وتتحرّك على أرضها، منطقة الإحساس، فالعناصر التشكيلية لديه تجد تمظهراتها وفضاءاتها على السطح التصويري بدفعٍ من استجابتها لنمط من العلائق يخلقه الإحساس الجمالي وحده.. وفي كلّ لوحة تتكفّل قوى الإحساس بالتقاط العلاقات الجمالية بين الأشياء، وتقوم بتحويلها إلى علاقات بين عناصر الفنّ...
إنّ المراقب يجد في أعمال هاشم حنون مستويين من الأداء،
• مستوى يغلب عليه حسّ شعبيّ بنزوع تزيينيّ، ورؤية قائمة على فكرة امتلاء الوجود وخلوّه من الفراغ، وأعمال الفنان، في هذا المستوى، تستعير المظهر التزييني للبُسُط والسجاجيد وتعيد إنتاجه كخلاصة لونية باذخة، فتغدو لوحاته سطوحاً موشّاة بطبقات لونيّة مستطيلة في الغالب تتجاور أفقيّاً أو عموديّاً وتستقبل جذاذات ألوان تضادها، أو تُشتَقّ منها، وهي تترك انطباعاً لدى المتأمل بأنّها أعمال مرتجلة تمّ إنجازها سريعاً لإطفاء إحساس ضاغط منفعل أو التنفيس عنه، ويبقى نجاح أيّ منها بيد الصدفة الحسنة وما تنتجه خلال العمل، كما أن بعضها يعاني من الإسراف في استخدام المادة اللونية إسرافاً قد يبلغ حدّ بعثرة الألوان هنا وهناك لملء السطح التصويري ذي المساحة الكبيرة بشكل خاص... ولشدة افتتانه بالسجاجيد كلّف هاشم حنون حائكاً مصرياً في عمّان فحوّل له إحدى لوحاته إلى سجادة يحتفظ بها في مشغله هناك.
• مستوى يرتفع فيه الأداء بحسّ فنّي معاصر يعنى عناية فائقة بمعالجة السطح التصويري بأكثر من مادة للعمل، وتتشكّل عناصره في بناء يمتثل لنظام من علاقات، وتغدو فيه العلاقات اللونية غايته الكبرى، فيجري اعتماد اللّون كطاقة تحويليّة مهيمنة تتولّى إدارة العمل وتكييفه وإخراجه بشكله النهائي، طاقة تمحو معالم الأشياء وتزيل عنها حدودها الخارجية وتختزلها في كتل لونية مسطّحة في أسلوب يعتمد تشظية مادته وتفتيتها إلى وحدات لونية كما لو أنّها طبيعة تعرّضت لانفجار شظّى عناصرها.. وفي كل عمل من أعمال هاشم حنون تمسك الألوان بزمام الفعل الخالق وتديره لحساب حاجاته إلى الانسجام وإنشاء عالم متناغم خالٍ من التعقيد ذي مظهر احتفالي مشرق بإيقاع غنائي جاذب لا تمتلك إلاّ الرغبة في الانشداد إليه، بسبب انفتاحه وبساطته وتعرّيه وخلوّه من كلّ ما يكدّر الإحساس أو يثقل على الوعيّ. ووراء كلّ هذا تقف رؤية الفنان لوظيفة ما ينتجه وحرصه على الاستجابة لنمط من ذائقة ترى في العمل الفني مستراحاً لها من عناء يومها...
وبين مستويي الأداء آنفي الذكر تضيع، أو تكاد، فرصة العين في أن تعثر على مركز يستقطبها لتحلّ فيه وتنطلق منه على مساحة السطح التصويري، ممّا يضطرها إلى القفز من موقع شظيّة لونية إلى أخرى في دوّامة من التهويم..
في مبادرة تقوم على الرغبة في تأسيس طريقة ديناميكية توسّع مديات تلقّي أعماله وقراءتها بوضعها مجموعةً تحت تصرّف مشاهدها أقدم الفنان هاشم حنون على إنجاز أعماله بالرسم على أوجه أربعة لمكعب تمّ ثقبه من سطحيْه العلوي والسفلي ثقباً يسمح بسلكه في قضيب معدني يدور حوله المكعب كما تدور الرحى حول قطبها، واختار الفنان أن يدخل كل أربعة مكعبات في قضيب واحد فيكون مجموع اللوحات المرسومة على أوجه هذه المكعبات المتراكبة على بعضها التي يمكن تحريكها باليد ست عشرة لوحة.
إنّ هذا الإجراء قد نجمت عنه نتائج متعددة:
فإذا كان زائرو المعارض الشخصية قد اعتادوا رؤية لوحات الرسم منفصلة عن بعضها في وضع أفقي على الجدار وفي حال من السكون ومن الثبات بمواجهتها واحدة بعد أخرى من أمام وقراءتها بترتيب تعاقبي تقليدي فإن هاشم حنون، بإجرائه هذا، قد أخرج أعماله من إطار هذه الرؤية التقليديّة إلى فضاء رؤية جديدة تقوم على الجدل واضعا في يد مشاهدها فرصا متعددة لقراءتها بكيفيّات منفتحة كثيرة يقترحها بإرادته ويتحكّم فيها متحرّرا من جمودها على الجدار ومن جموده بمواجهتها عليه، منتجاً لوحته من مجموعة لوحات الفنان. وكان من نتائج هذا الإجراء:
• أنّه حرّر اللوحة من مظهرها النهائي الأوحد بجعلها تتحرّك مدمجة ومتداخلة أفقيّاً وعموديّاً مع غيرها من اللوحات، فأتاح، بهذا، لعناصر كلّ لوحة أن تخرج من إطارها وأن تلتقي عناصر بقية اللوحات فتؤثّر فيها وتتلقّى تأثيرها.. وهذا الوضع خلق لكلّ عنصر تشكيليّ القدرة على السياحة الحرّة في فضاء مجموعة لوحات وأسمعه صداه وترجيعه فيها.
• تخلّصت اللوحات من مظهر تسطّحها على الجدار، وقيّض لها أن تكون في الفضاء بمظهر نحتي، وأن يتجاور فيها الرسم والنحت منتجيْن جدلاً من العلاقات التشكيلية.
• أتاح الفنان لأعماله إمكانية أن تتداخل كنصوص تشكيليّة وأن تلتحم في نصّ تشكيليّ موحّد له قابلية التعدّد والظهور بأكثر من وجه بمجرد تحريك أيّ مكعب من المكعبات الأربعة التي تحمل اللوحات من اليمين إلى اليسار وبالعكس بدرجات متباينة من التحريك يتحكّم فيها المشاهد وتتمخّض عنها ولادات عديدة لشكل أيّ عمل منها.
لكن الملاحظ أن هاشم حنون وقد أخرج أعماله في الرسم في سياق عرض متحرّك جديد لم يراع وضعها الجديد فيعيد إنتاجها في ضوء آلية العرض الجديدة وبالاستجابة إلى ممكناتها، بل بقيت هي نفس أعماله المعروفة أخرجها من إطاراتها المغلقة وألصقها على أوجه مكعباته، وأظنّ أن خطوته القادمة ستولد داخل محاولته استثمار إجرائه الجديد في أقصى مدياته الممكنة.
يقول هاشم حنون عن مكعباته: " وهي أعمال تتحرّك من اليسار إلى اليمين، وبالعكس تجمع الرسم والنحت والريليف، وهي تحت عنوان (تحية إلى اسماعيل فتاح الترك) وقد أنجزتها عام وفاته، ولم أعرضها إلى الآن ".
الفنان والناقد التشكيلي هاشم تايه المقال