الكيمياء
يقصد بالكيمياء الدراسة العلمية لخصائص المادة وتركيبها وبنيتها، والتغيرات التي تحدث في بنية المادة وتكوينها، والتغيرات المصاحبة في الطاقة. اختلف مؤرخو العلوم حول أصل هذه الكلمة فمنهم من ردها إلى أصل مصري ومنهم من ردها إلى أصل يوناني ومنهم من قال إنّ أصلها عبريّ، بينما أكَّد كثيرون أن أصلها عربي اشتق من كَمى يَكْمي بمعنى أخفى أو ستر ؛ وفي ذلك إشارة لما كان يكتنف الكيمياء من غموض وسرّية. وكان المبدأ في ذلك كما نقل عن الجلدكي ؛ أنه من المفترض على المشتغلين بالكيمياء "كتمان هذا العلم وتحريم إذاعته لغير المستحق… لأن في إذاعته خراب العالم".
كان العرب يطلقون على هذا العلم أسماء كثيرة بعضها يشير إلى طبيعة العلم، والآخر يشير إلى منهج البحث لديهم، ومن ذلك علم الصنعة، وعلم التدبير، و علم الحجر، وعلم الميزان. وهناك رأي يقول : إن الكيمياء كانت نقلة تلت الصنعة، وحدث ذلك لأن الكيمياء العربية تأثرت في طورها المبكر بالخيمياء اليونانية والسريانية التي لم تكن ذات قيمة. ★ تَصَفح: الخيمياء. حيث اعتمد الإغريق والسريان آنذاك على الفرضيات والتحليلات الفكرية، إذ إن الخيمياء تلجأ إلى الرؤية الوجدانية في تعليل الظواهر والخوارق في التفسير، وترتبط بالسحر وهو ما سمّاه العرب علم الصنعة الذي كان يسعى منذ قديم الزمن إلى بلوغ هدفين بعيدين: أولاً تحويل المعادن الخسيسة كالحديد والنحاس والرصاص والقصدير إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة من خلال التوصل إلى حجر الفلاسفة. وثانيًا: تحضير إكسير الحياة ليكون بمثابة علاج يقضي على متاعب الإنسان وما يصيبه من آفات وأمراض، ويطيل حياته وحياة الكائنات الحية الأخرى. ولذلك نستطيع القول إن الكيمياء بدأت مع علوم السحر والوهميات المبهمة لارتباط ذلك بالتنجيم ؛ فعلى سبيل المثال كانت الشمس تمثل الذهب، والفضة تمثل القمر، والزئبق عطارد، والحديد المريخ، والقصدير هرميز، والنحاس الزهرة. وكان هذا هو الاعتقاد السائد في أوروبا إبان القرون الوسطى، حيث كان علماؤها يدَّعون أن علم الكيمياء جزء لا يتجزأ من علم السحر.
وصلت الصنعة إلى العرب بوساطة الإسكندرانيين عندما استقدم خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ، 704م) بعض الأقباط المتحدثين بالعربية مثل مريانوس، وشمعون، وإصطفان الإسكندري، وطلب إليهم نقل علوم الصنعة إلى العربية. وتعلم خالد بن يزيد هذه الصنعة بهدف تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وبذا يكون أول من نقل الكيمياء واشتغل بها. وهكذا نجد أن هذه الصنعة وصلت إلى العرب. وقد تخلل ما كُتب فيها كثير من الأضاليل والطلاسم والأوهام، وكان هدفها تحقيق غايات وهمية لا تمت إلى الكيمياء الحقيقية بصلة ؛ إذ إن الأخيرة ترتكز على قواعد وقوانين علمية.
الكيمياء العربية:
في بادئ الأمر انتقلت الخيمياء بمفهومها الخاطئ إلى العلم العربي، فاعتقد المشتغلون بها من العلماء المسلمين مثل اعتقاد اليونان والسريان النسطوريين أن أصل جميع المعادن واحد: الماء، والهواء والنّار، والتراب. وأن طبائعها قابلة للتحويل ويعود سبب اختلافها فيما بينها إلى اختلاف نسب العناصر المكونة لها، وما على من يرغب في الحصول على الذهب مثلاً إلا أن يعيد تركيب هذه العناصر من جديد بنسب صحيحة بعد تحليل المعدن إلى عناصره الأساسية. وعلى الرغم من أنه لم يتوصل أحد لذلك، سواء من العرب أو من سبقهم، إلا أن سعي العلماء المسلمين للوصول إلى هذا الهدف جعلهم يكتشفون مواد جديدة ـ عن طريق المصادفة ـ ويتوصلون إلى قوانين جديدة عديدة ؛ مما مكنهم في النهاية من الانتقال من الخيمياء إلى الكيمياء.
بعد أن نقل العرب والمسلمون ما لدى الآخرين من علم الخيمياء، وبعد أن تعمقوا في الصنعة وتوصلوا رويدًا رويدًا إلى اكتشافات جديدة، نجد أنه بحلول أواخر القرن الثالث للهجرة وأوائل الرابع قام عالَمٌ كيميائي عربي يختلف في رؤيته للتفصيلات والجزئيات عما سبقه نصًا وروحاً. فبإدخال التجربة العلمية والمشاهدات الدقيقة أضفى العلماء المسلمون على هذا العلم أصالة البحث العلمي التجريبي ؛ لذا يوجد شبه إجماع لدى كثير من الباحثين على أن العرب هم مؤسسو علم الكيمياء التجريبي. وهم الذين أظهروا دراساته من السّريّة والغموض والطلاسم، التي عرفها بها الآخرون، واختطوا لها منهجًا استقرائيًا سليمًا يقوم على الملاحظة الحسيّة والتجربة العلمّية التي أطلقوا عليها في كتاباتهم اسم الدّربة والتجربة.
وعن طريق التجارب وصلوا إلى مركبات وأحماض لم تكن معروفة من قبل واستفادوا منها في حقلي الطب والصيدلة على وجه الخصوص. كما استطاعوا أن يوظِّفوا هذه المعارف في الصناعات المختلفة أو ما يمكن أن نطلق عليه في العصر الحديث الكيمياء الصناعية. وتوصل العلماء المسلمون إلى كثير من العمليات الأساسية في الكيمياء ووصفوها وصفًا دقيقًا وبينوا الهدف من إجرائها.
وكان منهجهم العلمي وتعبيرهم عن التغيرات التي تطرأ على المادة واضحين ؛ ومثال ذلك نهج الكندي (ت 260هـ، 873م) في تحضير الفولاذ بمزج الحديد المطاوع بالحديد الصلب وصهرهما للحصول على حديد يحتوي على نسبة لا تقل عن 0,5% من الكربون ولا تزيد على 1,5%، وهي طريقة لا تختلف كثيرًا عما كان يُحضَّر من الفولاذ حتى مطلع القرن العشرين.
كما عمد الكيميائيون العرب إلى تصنيف الأجسام الكيميائية مراعين تشابه الخواص فيها، فصنفوها إلى معدنية ونباتية وحيوانية ومولَّدة (مشتقة). ولم يقف تصنيفهم عند هذا الحد، بل تعداه إلى تقسيمات فرعية أخرى أصغر لهذه الأجسام. فعلى سبيل المثال، قسموا الأجسام المعدنية إلى ست فئات أخرى هي 1ـ الأرواح ؛ كالزئبق، 2ـ الأجساد (العناصر الفلزية) ؛ كالذهب، 3ـ الأحجار ؛ كالتوتياء، 4 ـ الزاج ؛ كالزاج الأحمر والشب، 5ـ البورق ؛ كالنطرون، 6 ـ الملح ؛ كالملح المر (كبريتات المغنسيوم). واستخدموا في التجارب أدوات لم تعرف عند غيرهم وكانت النواة لبعض الأدوات البسيطة الحالية ومنها: القرعة، والإبريق، والقارورة، والمدق (الهون)، والملعقة، والمقراض، والمرجل، والمبرد، والحوض، والمكسر، وأجهزة التقطير، وكرة السحق، والأنبوب، والقرن، والصفارة، والكلاب، والمثقب، والكور، والقالب، والمثقال، والموقد ، والفرن، والماشق (الماسك)، والقمع، والمنجل، والراووق، وآلة التكليس، والميزان، والقطارة، والصَّدَفة، والمنفخ، والبوطقة، والبرنية (إناء فخاري)، والقدح، والإنبيق، وقد وصف الرازي وحده في سر الأسرار أكثر من 20 جهازًا استخدمها في تجاربه منها الزجاجي والمعدني والفخاري.
المنهج العلمي الجديد. انتقلت الكيمياء إلى العرب من خلال مدرسة الإسكندرية التي كانت تقول بإمكان تحويل العناصر. وانتقل إليهم مع هذه الكيمياء فيض من الفلسفة الهيلينية والآراء النظرية ؛ نظرية أرسطو في تكوين الفلزات، وهي فرع عن نظريته الأساسية في العناصر الأربعة الماء والهواء والتراب والنار. إلا أن العلماء المسلمين ـ بعد أن توطدت أقدامهم في العلم ـ انتقدوا ما ذهب إليه أرسطو من إمكان إيجاد عنصرين آخرين دخاني ينتج عن تحويل التراب إلى النار ومائي ينتج عن تحويل الماء إلى الهواء وباتحادهما تحدث الفلزات في باطن الأرض.
وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي للعلماء المسلمين كان في بادئ الأمر ذات الهدف الذي شغل الكيميائيين الذين سبقوهم ؛ أي تحوُّل ماهية معدن إلى معدن آخر، إلا أن هذا السبب نفسه هو الذي قادهم إلى إخضاع هذا العلم ليكون علمًا قائمًا على التجربة والملاحظة ؛ إذ إنهم لم يجدوا إلى معرفة ماهيات المعادن من سبيل، إنما كان الممكن وزنها وقياسها فحسب. وتناسب المواد إلى بعضها لا يكون إلا بنسبة عددية، وليس من سبيل للوصول إلى ذلك إلا عن طريق التجربة. كما صرَّح بذلك جابر بن حيان: "إن كمال الصنعة العمل والتجربة، فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء أبدًا" و "الدربة تخرج ذلك. فمن كان دربًا كان عالمًا حقًا… وحسبك بالدربة (التجربة) في جميع الصنائع".
وكان إخضاع الكيمياء للعلم أهم محاولة قامت في القرون المزدهرة للمسلمين لدراسة الطبيعة دراسة علمية تطبيقية فاحصة. وقد أخضع كل من أتوا بعد عصر ابن حيان من الكيميائيين العرب أبحاثهم للتجربة. وباختصار نجد أن الكيمياء لم تصبح علمًا حقيقيًا إلا بعد أن آل أمرها للمسلمين، وقد خرجوا بها من إطار النظرية التي نقلوها عن اليونان إلى التجربة والملاحظة والاستنتاج ؛ وكان نتاج ذلك ذخيرة قيمة لم يحجبوها عن العالم، بل قدَّموها لمن خلفهم في العلم فبنوا على أساسها صرح الكيمياء الحديثة وكان العرب دعامة ذلك الصّرح وركيزته.
لم يمنع تقدم العرب في هذا المجال أن يقعوا في بعض الأخطاء التي صححها من أتى بعدهم، فهذه سنة العلم تمامًا كما صحح العرب من قبل نظريات من نقلوا عنهم من الإغريق. من ذلك نظرية جابر بن حيان في تكوين العناصر، حيث قال بأن جميع المواد المشتعلة تحتوي على عنصر الاشتعال الذي هو صورة من صور الكبريت. إلا أن شتال (ت 1144هـ، 1731م) نقض ما قاله جابر بما سُمّي بنظرية الفلوجستون. وعلى الرغم من أن لافوزيه قد دحض بدوره نظرية الفلوجستون عام 1188هـ، 1774م وأبان خطأها، إلا أنها كانت مفتاحًا للتعدين والحصول على بعض الفلزات من أكاسيدها. ويُعزى اعتقاد جابر إلى أسباب عدة منها: 1ـ إن أغلب العناصر التي عرفت حتى ذلك الوقت كان يتم الحصول عليها من كبريتاتها عن طريق التشوية (التحميص) كما ذكر جابر ذلك بنفسه، وينبعث غاز ثاني أكسيد الكبريت وغيره أثناء التعدين. 2ـ إن السبب الرئيسي الذي يتبادر إلى الذهن هو الاعتقاد بأن الكبريت موجود في كل العناصر. وقد قام بدراسة صور الكبريت كلها 3 ـ إن وضعه الزئبق كأحد عنصرين رئيسيين في تكوين المعادن، يعود إلى أنه يتحد مع كل العناصر تقريبًا من خلال تكوين الآصرة المعدنية التي لم تعرف إلا في القرن العشرين.