سميحة التميمي شاعرة منحة نحو الماء الذلال وروائية مسكونة بوهج التنوير
وإنسانيّةِ الإنسان!
[خاص بكتابي الموسوم "تجليات الخيال - الجزء الخامس"].
صبري يوسف - ستوكهولم
المبدعة الأردنيّة الخلّاقة سميحة التَّميمي، تَتَوغَّلينَ في مرامي الزَّمنِ برؤيةٍ بانوراميّةٍ شامِخةٍ شُموخَ الكلمةِ المنبثقةِ مِنْ رؤيةٍ استبطانيَّةٍ عَميقةٍ، وتُمْعنينَ النَّظرَ في السِّنينِ القادِمةِ، فلا ترينَ إلَّا التِّيهَ المُخيَّمَ على دُنيانا المُثخَّنِ بالجراحِ، تُرحِّبينَ بما يَموجُ حولَكِ مِنِ انكساراتٍ، وتفتَحينَ كوَّةَ الصَّمْتِ مِنْ أوسعِ رِحَابِها، وتجدينَ مِساحةً فَسيحةً مِنَ الجَمالِ في مَرامي فَضاءِ الصَّمْتِ وأنْتِ تَغوصينَ عَميقاً في سَبْرِ مَنابِعِكِ الدَّاخليّةِ المُرفرِفةِ فوقَ آفَاقِ فَضاءِ الرُّوحِ، وتَسبُرينَ في أوجِ غوصِكِ أغوارَ يَمِّكِ المُجنَّحةَ نحوَ عُذوبةِ المَاءِ الزُّلالِ. تكتشفينَ ما فاتَنا مِنْ آفاقٍ رهيفةٍ في جُموحِ الحَرفِ، يزهو انبعاثُكِ ألقاً في بِحارِ الغوصِ في إشراقةِ هِلالاتِ التَّجلِّي. تَمتلكينَ بَوحاً ورُؤيةً شاهِقةً في شَهْوةِ الانبعاثِ بأصفى آفاقِ العُبورِ إلى مَكنوناتِ جُموحِ الرُّوحِ. مَسكونةٌ في عَرينِ حَرْفٍ مُكتَنِزٍ بأزهى خَميلةِ الانبعاثِ ومُزدانٍ بصورٍ طافحةٍ بأريجِ الورْدِ، وتدفُّقاتِ وَهْجِ الشِّعرِ المُتناغِمِ مَعَ أصفى حَالاتِ التَّجلِّي، وأزهى انبلاجِ الحِبرِ في سَماءِ البَوحِ على مِساحَاتِ جُموحِ الخَيالِ.
ترتسمُ أمامَكِ إشراقةُ الحَرفِ وأنْتِ في أوْجِ صَفائِكِ الذِّهني، كأنَّكِ في رحلةِ بحثٍ عَنْ دُرَرِ الحياةِ. رؤاكِ متوَّجةٌ برحيقِ الشِّعرِ الخلَّاقِ، وأريجِ الأزاهيرِ المُعبّقةِ في حَنايا القلبِ، تُرفرفينَ عالياً فوقَ غَمامِ اللَّيلِ، تَموجُ في كينونَتِكِ شهقةُ انبهارٍ لِما للحرفِ مِنْ طاقةِ انبعاثٍ فَوقَ أجنحةِ الرُّوحِ، فينسابُ حنينُكِ إلى رُبوعِ الطُّفولةِ، ومرافئِ الصِّبا وأنقى حُبورِ الشَّبابِ، تقطفينَ مِنْ فَضاءِ الطُّفولةِ صَفاءَ البراءَةِ وخيوطَ الحَنينِ في وئامِ الأمِّ، وترسُمينَ مِنْ مَعابرِ الصِّبا بسمةَ الحَياةِ، ومِنْ اخضرارِ الشَّبابِ أملَ الإنسانِ إلى أبهى ما في كينونَةِ الكَونِ. تتوغَّلينَ عَميقاً في مَرامي العُمرِ، لا تجدينَ أجدى مِنْ أجنحةِ الحَرفِ تفرشينَهُ سَرداً متدفِّقاً فوقَ مَنارةِ الحياةِ، فهو الأبقى في دُنيا مُرصرَصةٍ بالغبارِ والقُبْحِ، لعلَّهُ يُخفِّفُ قليلاً بَلْ كثيراً مِنْ ضَراوةِ الانحدارِ. تَحبُكينَ فضَاءَاتِ سَردِكِ بمَهارةٍ مُجنَّحَةٍ نحوَ أرقى آفاقِ التَّجلّي، لِمَا لديكِ مِنْ خيالٍ شَاهِقٍ في رِحابِ الانبعاثِ.
خيالُكِ مُزدانٌ بحبرٍ مُصفّى مِنْ حَبقِ السَّماءِ المتناثرِ مَعَ رَذاذاتِ المَطرِ في ليلةٍ مَصحوبةٍ بأحلامِ الزَّمنِ الآتي. أحلامُكِ مُجذّرةٌ بأشهى ما في خُصوبةِ الأرضِ، وأزهى ما في صَفاءِ السَّماءِ، تمتلكينَ رؤيةً مُعبّقةً بمذاقِ الرَّبيعِ، ومُنبعثةً مِنْ خصوبةِ النَّدى في صَباحٍ مُبلَّلٍ باندلاقِ تَهاطُلاتِ الحَرفِ، وفي أوجِ جُموحِكِ ترينَ أنَّ الصَّمْتَ في الكثيرِ مِنَ الأحيانِ أبلغُ اللُّغاتِ، وردٌّ صافعٌ على شراهةِ القُبحِ وخلخلةِ أجنحةِ الحقِّ والعدالةِ، عِندما يتضمَّنُ الصَّمتُ حِكمةً مُضْمَرةً وشاهقةً في مراميها، تُخفِّفُ مِنْ لَهيبِ الاشتعالِ المتناثرِ حولَ أصفى شواطئِ الحَنينِ. الحياةُ تتضمَّنُ مُفارقاتٍ غَيرَ قابلةٍ للفهمِ في بعضِ الأحيانِ، لِما فيها مِنْ تصارُعاتٍ وتنافراتٍ بنفسِ الوقتِ لموقفٍ ما، وتحملُ المسافاتُ أحياناً بينَ ثناياها بُغضاً دَفيناً، وأحياناً أخرى يتهادَى على مراميها حُبورُ الرُّوحِ ويَستريحُ بِكُلِّ بهاءٍ فوقَ شَواطئِ القلبِ، كَمْ يبدو اللِّقاءُ بَهيجاً بَينَ رِحابِ الرُّوحِ ومَرافئِ القلبِ في هُدوءِ اللَّيلِ، وما أجملَهُ وأبهاهُ عِندما يُصبِحُ هذا اللِّقاءُ كأنَّهُ أريكةٌ مُريحةٌ لانبعاثِ أرقى تَجلِّياتِ بَوحِ القَصائدِ. ويزدهي الشَّوقُ لِمَا يَموجُ في مِخيالِكِ مِنْ تجلِّياتِ سَردٍ في عَوالِمِ الحِكاياتِ الّتي تَنسجينَها على وجنةِ الزَّمَنِ، كأنَّها رسالةٌ مُنبَجسةٌ مِنْ فضاءَاتِها الأولى وتزدادُ تلألؤاً في رِحابِ جُموحِ البوحِ. تُشبهينَ شهقةَ حَرفٍ معرَّشٍ في خميلةِ الأحلامِ، تحلِّقينَ فوقَ بساتينِ المحبّةِ، وأنتِ تنثرينَ رؤاكِ بشغفٍ عارمٍ، شوقاً إلى الأماسي المكلَّلةِ بالأغاني الموشَّحةِ بروحِ الأصالةِ ووشائجِ الانبهارِ!
تمرُّ الأيَّامُ والشُّهورُ والسُّنونَ بطيئةً فوقَ جَسدِ العُمرِ، كأنَّها حُلُمٌ خاطفٌ مُندَلِقٌ مِنْ دُكنَةِ اللَّيلِ، كيفَ يتحمَّلُ الإنسانُ كلَّ ما يصادفُهُ مِنِ انزلاقاتٍ وانكساراتٍ في دروبِ الحياةِ، ويظلُّ رافعاً مَنارةَ الحَرفِ بحثاً عَنْ خصوبةِ الإبداعِ رَغمَ ما يعتريهِ مِنْ شوائبَ مُتشابكةٍ في تلاطماتِ الجفاءِ؟! تقفينَ بكلِّ ثباتٍ وتسيرينَ في مَسارِ مُرورِ شَهقاتِ العُمرِ، لا تَهابينَ الأوجاعَ وتشظِّياتِ الأوضاعِ الَّتي تصادِفُكِ، تلتقطينَ دقائقَ الزَّمنِ برهافَةِ دقَّاتِ القَلبِ، تحوِّلينها إلى نصوصٍ مُجنّحةٍ نحوَ أصفى مَرامي الإبداعِ، يَتوقُ حَرفُكِ إلى ضِياءِ النُّجومِ، وسُطوعِ الخَيالِ في أوجِ تجلِّياتِ الابتهالِ، تَتدفَّقينَ ألقاً شاهِقاً مِثلَ شلَّالِ فَرحٍ مُتهاطِلٍ مِنْ مَآقي سُفوحِ الجِبَالِ، تكتبينَ حَرفاً مُندلقاً مِنْ رَفرفاتِ خفقةِ الشَّجَنِ، مُستوحيةً مِنْ لَهيبِ الاشتعالِ مَنارةَ شِعرٍ، مَكسوٍّ باخضرارِ الرُّوحِ، فتولَدُ القصيدةُ مَوشومةً بِما يَموجُ في أغوارِ البِحارِ، ومُسربلةً بأسرارِ الأزمنةِ الغابرةِ، ومذاقِ الحضاراتِ، ومتوَّجَةً بالأشواقِ التَّوّاقَةِ إلى أهدابِ السَّماءِ!
أيَّتُها المُبدعةُ الشَّامِخةُ شُموخَ السَّنديانِ في فضاءِ انبلاجِ القلمِ، المبلَّلةُ بِحِبرٍ مُكتنفٍ بآفاقِ السُّموِّ، تُشرِقينَ ألقاً مِنْ مَذاقِ نَسيمِ الصَّباحِ. تُغدِقينَ علينا بَوحاً مَمْهوراً بيراعِ الخَلاصِ، حرفُكِ مندَّى بأحلامِ الصَّباحِ تَستلهمينَ فضاءَكِ مِنْ رَحيقِ السَّنابلِ المُمْتدَّةِ على خَميلةِ الحُلمِ، ومِنْ لُجينِ العُمرِ الطَّافحِ بأغصانِ الزَّيتونِ، تَجمَحينَ عبرَ كتاباتِكِ الرَّصينةِ نحوَ بواطنِ الزَّمنِ، مُتوغِّلةً في تيجانِ الحَرفِ، كي تنتشلي غُضارَ الحياةِ مصفّى مِنْ سُمومِ الغَدرِ والأشواكِ المتناثرةِ حَولَنا في رحلةِ عُبورِنا في وِهادِ مُنعرجاتِ هذا الزَّمانِ، تبرينَ قلمَكِ بَرْيَاً حادَّاً وتَغوصينَ في أعماقِ حَرفٍ مُرفرَفٍ في كُنوزِ الحَضارَاتِ، وتُزيلينَ ما تراكمَ عليهِ مِنْ أتربةِ الزَّمنِ، إلى أنْ يصبحَ ساطعاً سطوعَ حنينِ الرُّوحِ إلى صَفاءِ الصَّباحِ!
الحياةُ رِحلةٌ عابرةٌ فوقَ مَآقي الزَّمنِ، نسمةٌ معبَّقةُ بشهوةِ الشِّعرِ، ونحنُ العابرونَ فوقَ طِينِ الحياةِ، لسنا أكثرَ مِنْ كينوناتٍ مُتناثرةٍ مِنْ رَذاذاتِ أملٍ مُتطايرةٍ فوقَ وجهِ الدُّنيا، نكتبُ هواجِسَنا على أنغامِ حُلُمٍ هاربٍ مِنْ جلاوزةِ هذا الزَّمان، نحلِّقُ عالياً على أنغامِ تغاريدِ البلابلِ وزقزقاتِ العَصافيرِ، نريدُ العبورَ في صَفاءِ السَّماءِ، لكنَّنا نتدحرجُ رويداً رويداً في دهاليزِ الحَياةِ المغلَّفةِ بالعتمةِ، غيرَ مُبالينَ بِما ينتظرُنا في مُستقبلِ الأيَّامِ مِنْ تناحراتٍ وتصادُماتٍ بينَ البشرِ، ولا نعي ما ينتظرُنا مِنْ اندثارٍ يقودُنا إلى كومةٍ مِنْ رمادٍ، لأنَّنا لَمْ نفهمْ حتَّى الآنَ لُغةَ الانتظارِ الَّتي تُصاحِبُ البشرَ مُنذُ الأزلِ، كَمْ نحنُ بعيدونَ عَنْ ماهيةِ الحياةِ، وعَنْ جوهرِ ما يجبُ أنْ نسيرَ عليهِ، يطحنُنا الزَّمَنُ فوقَ دروبِ العبورِ في حَنايا الحياةِ دونَ أنْ ندري، وينثرُنا في وضحِ النَّهارِ مَعَ هبوبِ هديرِ الرِّيحِ.
عمرُنا شهقةُ أسىً محصورةٌ بينَ أنيابِ الحياةِ، بوحٌ مفعمٌ بتساؤلاتٍ لا تخطرُ على بالٍ، نادراً ما نتلمَّسُ خصوبةَ الإجاباتِ، ولا نرسمُ أبعادَ خُطانا نحوَ خميلةِ العُمرِ بكلِّ ما فيها مِنْ جَمالٍ خلّاقِ، بعيدونَ كُلَّ البُعدِ عَنْ ذواتِنا الخفيّةِ، تباعدَتْ ذواتُنا عَنْ جوهرِ وجودِنا فوقَ طينِ الحياةِ، تزدادُ ذواتُنا هروباً مِنْ جَوهرِ الحياةِ، نسيرُ فوقَ القشرةِ الخارجيّةِ مِنْ حُبورِ الحياةِ، نزدادُ تيهاً، نَشهقُ شهقةَ أنينٍ مَصحوبةً بأوجاعِ الانكسارِ، نتوهُ في خضمِّ الحياةِ، كأنَّنا نسيرُ في جوفِ العراءِ، نتلظّى في صحارى حارقةٍ على مِساحاتٍ مفتوحةٍ على بوَّاباتِ الأسى والأنينِ، نحنُ ضحايا تناحُراتِ هذا الزَّمنِ الأحمقِ، نبتعدُ عَنْ ضياءِ الصَّباحِ وعَنْ إشراقةِ الشَّمْسِ، نَزدادُ توغُّلاً في سراديبَ مُعشَّشةٍ بالوطاويطِ ورفرفاتِ أجنحةِ الغُربانِ، يبتعدُ عنَّا نسيمُ الصَّباحِ المندّى بحنينِ البحارِ إلى أرخبيلاتِ الفرحِ.
حياتُنا شهقةٌ عابرةٌ فوقَ خميلةِ الأرضِ. نحنُ حُلُمٌ خاطفٌ فوقَ جَبينِ الوجودِ، لا نرى ما يجبُ أنْ نراهُ، لأنَّنا مُصابون بعَمى الألوانِ، وعَمى التَّجلِّي، وعَمى الغوصِ في لُبِّ الحياةِ، ورغمَ غوصِنا العميقِ، لا نرى سوى القشرةِ الخارجيّةِ مِنْ كينونتِنا، غائبونَ عَنِ الوعي، وعَنِ الشَّهيقِ العَميقِ، وعَنْ رؤيةِ الأزاهيرِ الفوّاحةِ في أبهى البَساتينِ. يأتي الإنسانُ إلى الحياةِ على أجنحةِ هُبوبِ النَّسيمِ في صَباحٍ مُسربلٍ بوهجِ الإشراقِ، ثمَّ يغوصُ رويداً رويداً في مَرامي التِّيهِ، يتدحرجُ نحوَ شفيرِ الغدرِ، ومُنزلقاتِ القُبْحِ، حياتُنا سلسلةٌ مفخَّخةٌ بمساراتٍ غارقةٍ في الاعوجاجِ، مُحاصرونَ بتراكمِ سَماكاتِ الضَّجرِ. ضجرٌ في صَباحِ العيدِ، في مَساءِ العيدِ، ضجرٌ في أوائلِ الرَّبيعِ في مساءَاتِ الشِّتاءِ، ضجرٌ على مدى رحابةِ الفصولِ.
نحنُ مَن نحنُ؟! رحلةٌ مكتظَّةٌ بالشَّراهاتِ، متشدِّقونَ بأهدافٍ غارقةٍ في التِّيهِ عَنْ جوهرِ الحياةِ. خرجَ الإنسانُ عَنْ مألوفيّاتِهِ، عَنْ صفاءِ الحياةِ، انزلقَ في دهاليزِ المَتاهاتِ، تماهى عَميقاً في ضَراوةِ الافتراسِ واقترافِ أشرهِ المُوبقاتِ كأنَّهُ خرِّيجُ أعتى الغاباتِ، لا يشبعُ حتَّى مِنْ "كمشاتِ" التُّرابِ، داسَ في جوفِ الذِّئابِ وحشيَّةً، كأنَّهُ مِنْ فصيلةِ الضِّباعِ، ومِنْ أشرسِ أنواعِ الوُحوشِ، يَعيشُ على هامِشِ الحَياةِ، يرحلُ بعيداً عَنْ نسائمِ الصَّباحِ، يرحلُ في أوجِ هُبوبِ العواصفِ، كأنَّ الطَّبيعةَ تنتقمُ مِنهُ ومِنْ وحشيّتِهِ الضَّاريةِ.
يعيشُ الإنسانُ سواءَ عُمراً مَديداً أو قصيراً، ولا يعي كيفَ يُعانِقُ بهجةَ الحياةِ، كأنَّهُ غائصٌ في سديمِ السَّرابِ، ولا يُدركُ سرَّ إشراقةِ الشَّمْسِ فوقَ خدودِ الأرضِ، ولا يتلمَّسُ نِعَمَ أشهى ثِمارِ الكونِ، ولا يُجيدُ إنشادَ ما يُهدهدُ هِلالاتِ الابتهالِ، كأنَّهُ خارجٌ عَنْ ربوعِ كينونةِ الكونِ وانبلاجِ مُهجةِ الشَّفقِ، فيسرقُهُ الزَّمَنُ مِنْ أصفى ما في لُجينِ العُمرِ مِنْ هناءٍ وبهاءٍ، كأنَّهُ في رحلةِ تيهٍ عَنْ أشهى ما في رحيقِ الشَّهيقِ، لا يرى سوى شهقاتِ البُكاءِ، وتفاقُماتِ الأحزانِ، واكتظاظِ شفيرِ الحروبِ، تقمِّطُهُ ضراوةُ العُبورِ في مِحرابِ الحياةِ فوقَ منارةِ العمرِ، وينجرفُ إلى فضاءِ الحُروبِ والاقتتالِ كما ينجرفُ لهيبُ النّارِ إلى يباسِ الخَشبِ، نراهُ في حالةِ اشتعالٍ مُتواصلٍ. حياتُنا خرافةٌ مُتطايرةٌ في مَهبِّ الرِّيحِ، مَتى سيفهمُ الإنسانُ أنَّهُ مِنْ أسمى المخلوقاتِ على وجهِ الدُّنيا، وعليهِ أنْ يُنشِدَ دونَ وجلٍ أنشودةَ السَّلامِ وينشرَ أريجَ الوئامِ فوقَ أجنحةِ الحياةِ، ويرسمَ أجملَ الفضائلِ وأرقى العطاءَاتِ فوقَ خميلةِ الأرضِ، كي يرحلَ بَعدَ عُمرٍ قصيرٍ أو طويلٍ، مرتاحَ البالِ، تاركاً خلفَهُ أجملَ ما يمكنُ أنْ يقدِّمَهُ المرءُ لمرامي الأرضِ، ويحلِّقَ في رُبوعِ الأعالي مِثلَ طيورٍ جذلى مِنْ بركاتِ النَّعيمِ وهو في أوجِ ابتهالاتِ الرُّوحِ وانتعاشِها لمُعانقةِ زُرقةِ السَّماءِ؟!
يضمُّ صوتُكِ لُغةً مُسربلةً بفضَاءَاتٍ صُوفيّةٍ روحانيّةٍ باذخةٍ، تَنسابُ مِثلَ ينابيعِ الفرحِ، لغتُكِ متوَّجةٌ بأسئلةٍ تلامِسُ لُبَّ الحياةِ، كأنَّها مُنبعثةٌ مِنْ رِحابِ الأعالي على أجنحةِ باشقٍ مُتعانِقٍ مَعَ وَميضِ البَرْقِ. تكتبينَ بوحَكِ على إيقاعِ أنغامِ حُلُمٍ مُنفلشٍ مِنْ هُبوبِ النَّسيمِ، تغوصينَ عَميقاً في قصيدَتِكِ "لا تنتظرْها" في مَعاني الانتظارِ، بكلِّ ما تحملُهُ هذهِ العوالمُ مِنْ دلالاتٍ رَحْبةٍ، وفيها الكثيرُ مِنْ المَرامي الرَّمزيّةِ والتَّاريخيّةِ في أبعادِ الخَلاصِ، ويُحيلُنا رأيُكِ إلى أبعادٍ روحيّةٍ وفلسفيّةٍ ومِساحاتٍ رحبةٍ مِنَ الآمالِ الكامِنةِ في أعماقِنا مِمَّا ينتظرُنا في الأعالي وما يخبِّئهُ حاضرُنا ومستقبلُنا الآتي عَبرَ مَحطَّاتِ رحلتِنا فوقَ هِضابِ الحَياةِ، وتوحي الشَّاعرةُ عبرَ فضاءَاتِ نصِّها ما هو مُضمرٌ في ذواتِنا التَّائِهةِ في خِضمِّ الحياةِ، كي تُقدِّمَ لنا رؤيةً جديدةً في فضاءِ الانتظارِ المفتوحِ على مدلولاتٍ متعدِّدةٍ لا تبدو للعيانِ للوهلةِ الأولى لِما فيها مِنْ آفاقٍ مُوغلةٍ في الاستِهامَاتِ والأفكارِ المجنّحةِ نحوَ فضاءَاتٍ تتماهى مَعَ حنينِ الرُّوحِ إلى واحاتِ خيالٍ مُمْتدٍّ على مِساحاتِ العمرِ، فتولدُ القصيدةُ بكلِّ آفاقِ انبلاجِها فوقَ فضاءِ اللَّيلِ، مُجسِّدةً آهاتٍ حبيسةً في أعماقِنا الدَّفينةِ، المكلَّلَةِ ببهاءِ القَرَنفُلِ.
المبدعة سميحة التَّميمي شاعرةٌ وروائيّةٌ مجنّحةٌ نحوَ فضاءِ الفكرِ الإنساني والرُّؤيةِ المسبوكةِ على مَساراتِ الحقيقةِ والحُرّيّةِ والسُّموِّ، مُركِّزةً على آفاقِ التَّأمُّلِ والرُّوحانيّةِ الصُّوفيّةِ، وسلّطَتْ مِبضعَها على أنيابِ الحروبِ، راغبةً أنْ تستأصلَ السُّمومَ المستشريةَ فوق صُدغِ الحياةِ، فلا ترى أجدى مِنَ الفكر التَّنويري في مواجهةِ الحروبِ وكلِّ أنواعِ العنفِ والاقتتالِ، كي تستعيدَ للإنسانِ الحياةَ الكريمةَ والهنيئةَ، وتحقِّقَ إنسانيّةَ الإنسانِ!
ستوكهولم: نيسان (ابريل) 2024
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
وإنسانيّةِ الإنسان!
[خاص بكتابي الموسوم "تجليات الخيال - الجزء الخامس"].
صبري يوسف - ستوكهولم
المبدعة الأردنيّة الخلّاقة سميحة التَّميمي، تَتَوغَّلينَ في مرامي الزَّمنِ برؤيةٍ بانوراميّةٍ شامِخةٍ شُموخَ الكلمةِ المنبثقةِ مِنْ رؤيةٍ استبطانيَّةٍ عَميقةٍ، وتُمْعنينَ النَّظرَ في السِّنينِ القادِمةِ، فلا ترينَ إلَّا التِّيهَ المُخيَّمَ على دُنيانا المُثخَّنِ بالجراحِ، تُرحِّبينَ بما يَموجُ حولَكِ مِنِ انكساراتٍ، وتفتَحينَ كوَّةَ الصَّمْتِ مِنْ أوسعِ رِحَابِها، وتجدينَ مِساحةً فَسيحةً مِنَ الجَمالِ في مَرامي فَضاءِ الصَّمْتِ وأنْتِ تَغوصينَ عَميقاً في سَبْرِ مَنابِعِكِ الدَّاخليّةِ المُرفرِفةِ فوقَ آفَاقِ فَضاءِ الرُّوحِ، وتَسبُرينَ في أوجِ غوصِكِ أغوارَ يَمِّكِ المُجنَّحةَ نحوَ عُذوبةِ المَاءِ الزُّلالِ. تكتشفينَ ما فاتَنا مِنْ آفاقٍ رهيفةٍ في جُموحِ الحَرفِ، يزهو انبعاثُكِ ألقاً في بِحارِ الغوصِ في إشراقةِ هِلالاتِ التَّجلِّي. تَمتلكينَ بَوحاً ورُؤيةً شاهِقةً في شَهْوةِ الانبعاثِ بأصفى آفاقِ العُبورِ إلى مَكنوناتِ جُموحِ الرُّوحِ. مَسكونةٌ في عَرينِ حَرْفٍ مُكتَنِزٍ بأزهى خَميلةِ الانبعاثِ ومُزدانٍ بصورٍ طافحةٍ بأريجِ الورْدِ، وتدفُّقاتِ وَهْجِ الشِّعرِ المُتناغِمِ مَعَ أصفى حَالاتِ التَّجلِّي، وأزهى انبلاجِ الحِبرِ في سَماءِ البَوحِ على مِساحَاتِ جُموحِ الخَيالِ.
ترتسمُ أمامَكِ إشراقةُ الحَرفِ وأنْتِ في أوْجِ صَفائِكِ الذِّهني، كأنَّكِ في رحلةِ بحثٍ عَنْ دُرَرِ الحياةِ. رؤاكِ متوَّجةٌ برحيقِ الشِّعرِ الخلَّاقِ، وأريجِ الأزاهيرِ المُعبّقةِ في حَنايا القلبِ، تُرفرفينَ عالياً فوقَ غَمامِ اللَّيلِ، تَموجُ في كينونَتِكِ شهقةُ انبهارٍ لِما للحرفِ مِنْ طاقةِ انبعاثٍ فَوقَ أجنحةِ الرُّوحِ، فينسابُ حنينُكِ إلى رُبوعِ الطُّفولةِ، ومرافئِ الصِّبا وأنقى حُبورِ الشَّبابِ، تقطفينَ مِنْ فَضاءِ الطُّفولةِ صَفاءَ البراءَةِ وخيوطَ الحَنينِ في وئامِ الأمِّ، وترسُمينَ مِنْ مَعابرِ الصِّبا بسمةَ الحَياةِ، ومِنْ اخضرارِ الشَّبابِ أملَ الإنسانِ إلى أبهى ما في كينونَةِ الكَونِ. تتوغَّلينَ عَميقاً في مَرامي العُمرِ، لا تجدينَ أجدى مِنْ أجنحةِ الحَرفِ تفرشينَهُ سَرداً متدفِّقاً فوقَ مَنارةِ الحياةِ، فهو الأبقى في دُنيا مُرصرَصةٍ بالغبارِ والقُبْحِ، لعلَّهُ يُخفِّفُ قليلاً بَلْ كثيراً مِنْ ضَراوةِ الانحدارِ. تَحبُكينَ فضَاءَاتِ سَردِكِ بمَهارةٍ مُجنَّحَةٍ نحوَ أرقى آفاقِ التَّجلّي، لِمَا لديكِ مِنْ خيالٍ شَاهِقٍ في رِحابِ الانبعاثِ.
خيالُكِ مُزدانٌ بحبرٍ مُصفّى مِنْ حَبقِ السَّماءِ المتناثرِ مَعَ رَذاذاتِ المَطرِ في ليلةٍ مَصحوبةٍ بأحلامِ الزَّمنِ الآتي. أحلامُكِ مُجذّرةٌ بأشهى ما في خُصوبةِ الأرضِ، وأزهى ما في صَفاءِ السَّماءِ، تمتلكينَ رؤيةً مُعبّقةً بمذاقِ الرَّبيعِ، ومُنبعثةً مِنْ خصوبةِ النَّدى في صَباحٍ مُبلَّلٍ باندلاقِ تَهاطُلاتِ الحَرفِ، وفي أوجِ جُموحِكِ ترينَ أنَّ الصَّمْتَ في الكثيرِ مِنَ الأحيانِ أبلغُ اللُّغاتِ، وردٌّ صافعٌ على شراهةِ القُبحِ وخلخلةِ أجنحةِ الحقِّ والعدالةِ، عِندما يتضمَّنُ الصَّمتُ حِكمةً مُضْمَرةً وشاهقةً في مراميها، تُخفِّفُ مِنْ لَهيبِ الاشتعالِ المتناثرِ حولَ أصفى شواطئِ الحَنينِ. الحياةُ تتضمَّنُ مُفارقاتٍ غَيرَ قابلةٍ للفهمِ في بعضِ الأحيانِ، لِما فيها مِنْ تصارُعاتٍ وتنافراتٍ بنفسِ الوقتِ لموقفٍ ما، وتحملُ المسافاتُ أحياناً بينَ ثناياها بُغضاً دَفيناً، وأحياناً أخرى يتهادَى على مراميها حُبورُ الرُّوحِ ويَستريحُ بِكُلِّ بهاءٍ فوقَ شَواطئِ القلبِ، كَمْ يبدو اللِّقاءُ بَهيجاً بَينَ رِحابِ الرُّوحِ ومَرافئِ القلبِ في هُدوءِ اللَّيلِ، وما أجملَهُ وأبهاهُ عِندما يُصبِحُ هذا اللِّقاءُ كأنَّهُ أريكةٌ مُريحةٌ لانبعاثِ أرقى تَجلِّياتِ بَوحِ القَصائدِ. ويزدهي الشَّوقُ لِمَا يَموجُ في مِخيالِكِ مِنْ تجلِّياتِ سَردٍ في عَوالِمِ الحِكاياتِ الّتي تَنسجينَها على وجنةِ الزَّمَنِ، كأنَّها رسالةٌ مُنبَجسةٌ مِنْ فضاءَاتِها الأولى وتزدادُ تلألؤاً في رِحابِ جُموحِ البوحِ. تُشبهينَ شهقةَ حَرفٍ معرَّشٍ في خميلةِ الأحلامِ، تحلِّقينَ فوقَ بساتينِ المحبّةِ، وأنتِ تنثرينَ رؤاكِ بشغفٍ عارمٍ، شوقاً إلى الأماسي المكلَّلةِ بالأغاني الموشَّحةِ بروحِ الأصالةِ ووشائجِ الانبهارِ!
تمرُّ الأيَّامُ والشُّهورُ والسُّنونَ بطيئةً فوقَ جَسدِ العُمرِ، كأنَّها حُلُمٌ خاطفٌ مُندَلِقٌ مِنْ دُكنَةِ اللَّيلِ، كيفَ يتحمَّلُ الإنسانُ كلَّ ما يصادفُهُ مِنِ انزلاقاتٍ وانكساراتٍ في دروبِ الحياةِ، ويظلُّ رافعاً مَنارةَ الحَرفِ بحثاً عَنْ خصوبةِ الإبداعِ رَغمَ ما يعتريهِ مِنْ شوائبَ مُتشابكةٍ في تلاطماتِ الجفاءِ؟! تقفينَ بكلِّ ثباتٍ وتسيرينَ في مَسارِ مُرورِ شَهقاتِ العُمرِ، لا تَهابينَ الأوجاعَ وتشظِّياتِ الأوضاعِ الَّتي تصادِفُكِ، تلتقطينَ دقائقَ الزَّمنِ برهافَةِ دقَّاتِ القَلبِ، تحوِّلينها إلى نصوصٍ مُجنّحةٍ نحوَ أصفى مَرامي الإبداعِ، يَتوقُ حَرفُكِ إلى ضِياءِ النُّجومِ، وسُطوعِ الخَيالِ في أوجِ تجلِّياتِ الابتهالِ، تَتدفَّقينَ ألقاً شاهِقاً مِثلَ شلَّالِ فَرحٍ مُتهاطِلٍ مِنْ مَآقي سُفوحِ الجِبَالِ، تكتبينَ حَرفاً مُندلقاً مِنْ رَفرفاتِ خفقةِ الشَّجَنِ، مُستوحيةً مِنْ لَهيبِ الاشتعالِ مَنارةَ شِعرٍ، مَكسوٍّ باخضرارِ الرُّوحِ، فتولَدُ القصيدةُ مَوشومةً بِما يَموجُ في أغوارِ البِحارِ، ومُسربلةً بأسرارِ الأزمنةِ الغابرةِ، ومذاقِ الحضاراتِ، ومتوَّجَةً بالأشواقِ التَّوّاقَةِ إلى أهدابِ السَّماءِ!
أيَّتُها المُبدعةُ الشَّامِخةُ شُموخَ السَّنديانِ في فضاءِ انبلاجِ القلمِ، المبلَّلةُ بِحِبرٍ مُكتنفٍ بآفاقِ السُّموِّ، تُشرِقينَ ألقاً مِنْ مَذاقِ نَسيمِ الصَّباحِ. تُغدِقينَ علينا بَوحاً مَمْهوراً بيراعِ الخَلاصِ، حرفُكِ مندَّى بأحلامِ الصَّباحِ تَستلهمينَ فضاءَكِ مِنْ رَحيقِ السَّنابلِ المُمْتدَّةِ على خَميلةِ الحُلمِ، ومِنْ لُجينِ العُمرِ الطَّافحِ بأغصانِ الزَّيتونِ، تَجمَحينَ عبرَ كتاباتِكِ الرَّصينةِ نحوَ بواطنِ الزَّمنِ، مُتوغِّلةً في تيجانِ الحَرفِ، كي تنتشلي غُضارَ الحياةِ مصفّى مِنْ سُمومِ الغَدرِ والأشواكِ المتناثرةِ حَولَنا في رحلةِ عُبورِنا في وِهادِ مُنعرجاتِ هذا الزَّمانِ، تبرينَ قلمَكِ بَرْيَاً حادَّاً وتَغوصينَ في أعماقِ حَرفٍ مُرفرَفٍ في كُنوزِ الحَضارَاتِ، وتُزيلينَ ما تراكمَ عليهِ مِنْ أتربةِ الزَّمنِ، إلى أنْ يصبحَ ساطعاً سطوعَ حنينِ الرُّوحِ إلى صَفاءِ الصَّباحِ!
الحياةُ رِحلةٌ عابرةٌ فوقَ مَآقي الزَّمنِ، نسمةٌ معبَّقةُ بشهوةِ الشِّعرِ، ونحنُ العابرونَ فوقَ طِينِ الحياةِ، لسنا أكثرَ مِنْ كينوناتٍ مُتناثرةٍ مِنْ رَذاذاتِ أملٍ مُتطايرةٍ فوقَ وجهِ الدُّنيا، نكتبُ هواجِسَنا على أنغامِ حُلُمٍ هاربٍ مِنْ جلاوزةِ هذا الزَّمان، نحلِّقُ عالياً على أنغامِ تغاريدِ البلابلِ وزقزقاتِ العَصافيرِ، نريدُ العبورَ في صَفاءِ السَّماءِ، لكنَّنا نتدحرجُ رويداً رويداً في دهاليزِ الحَياةِ المغلَّفةِ بالعتمةِ، غيرَ مُبالينَ بِما ينتظرُنا في مُستقبلِ الأيَّامِ مِنْ تناحراتٍ وتصادُماتٍ بينَ البشرِ، ولا نعي ما ينتظرُنا مِنْ اندثارٍ يقودُنا إلى كومةٍ مِنْ رمادٍ، لأنَّنا لَمْ نفهمْ حتَّى الآنَ لُغةَ الانتظارِ الَّتي تُصاحِبُ البشرَ مُنذُ الأزلِ، كَمْ نحنُ بعيدونَ عَنْ ماهيةِ الحياةِ، وعَنْ جوهرِ ما يجبُ أنْ نسيرَ عليهِ، يطحنُنا الزَّمَنُ فوقَ دروبِ العبورِ في حَنايا الحياةِ دونَ أنْ ندري، وينثرُنا في وضحِ النَّهارِ مَعَ هبوبِ هديرِ الرِّيحِ.
عمرُنا شهقةُ أسىً محصورةٌ بينَ أنيابِ الحياةِ، بوحٌ مفعمٌ بتساؤلاتٍ لا تخطرُ على بالٍ، نادراً ما نتلمَّسُ خصوبةَ الإجاباتِ، ولا نرسمُ أبعادَ خُطانا نحوَ خميلةِ العُمرِ بكلِّ ما فيها مِنْ جَمالٍ خلّاقِ، بعيدونَ كُلَّ البُعدِ عَنْ ذواتِنا الخفيّةِ، تباعدَتْ ذواتُنا عَنْ جوهرِ وجودِنا فوقَ طينِ الحياةِ، تزدادُ ذواتُنا هروباً مِنْ جَوهرِ الحياةِ، نسيرُ فوقَ القشرةِ الخارجيّةِ مِنْ حُبورِ الحياةِ، نزدادُ تيهاً، نَشهقُ شهقةَ أنينٍ مَصحوبةً بأوجاعِ الانكسارِ، نتوهُ في خضمِّ الحياةِ، كأنَّنا نسيرُ في جوفِ العراءِ، نتلظّى في صحارى حارقةٍ على مِساحاتٍ مفتوحةٍ على بوَّاباتِ الأسى والأنينِ، نحنُ ضحايا تناحُراتِ هذا الزَّمنِ الأحمقِ، نبتعدُ عَنْ ضياءِ الصَّباحِ وعَنْ إشراقةِ الشَّمْسِ، نَزدادُ توغُّلاً في سراديبَ مُعشَّشةٍ بالوطاويطِ ورفرفاتِ أجنحةِ الغُربانِ، يبتعدُ عنَّا نسيمُ الصَّباحِ المندّى بحنينِ البحارِ إلى أرخبيلاتِ الفرحِ.
حياتُنا شهقةٌ عابرةٌ فوقَ خميلةِ الأرضِ. نحنُ حُلُمٌ خاطفٌ فوقَ جَبينِ الوجودِ، لا نرى ما يجبُ أنْ نراهُ، لأنَّنا مُصابون بعَمى الألوانِ، وعَمى التَّجلِّي، وعَمى الغوصِ في لُبِّ الحياةِ، ورغمَ غوصِنا العميقِ، لا نرى سوى القشرةِ الخارجيّةِ مِنْ كينونتِنا، غائبونَ عَنِ الوعي، وعَنِ الشَّهيقِ العَميقِ، وعَنْ رؤيةِ الأزاهيرِ الفوّاحةِ في أبهى البَساتينِ. يأتي الإنسانُ إلى الحياةِ على أجنحةِ هُبوبِ النَّسيمِ في صَباحٍ مُسربلٍ بوهجِ الإشراقِ، ثمَّ يغوصُ رويداً رويداً في مَرامي التِّيهِ، يتدحرجُ نحوَ شفيرِ الغدرِ، ومُنزلقاتِ القُبْحِ، حياتُنا سلسلةٌ مفخَّخةٌ بمساراتٍ غارقةٍ في الاعوجاجِ، مُحاصرونَ بتراكمِ سَماكاتِ الضَّجرِ. ضجرٌ في صَباحِ العيدِ، في مَساءِ العيدِ، ضجرٌ في أوائلِ الرَّبيعِ في مساءَاتِ الشِّتاءِ، ضجرٌ على مدى رحابةِ الفصولِ.
نحنُ مَن نحنُ؟! رحلةٌ مكتظَّةٌ بالشَّراهاتِ، متشدِّقونَ بأهدافٍ غارقةٍ في التِّيهِ عَنْ جوهرِ الحياةِ. خرجَ الإنسانُ عَنْ مألوفيّاتِهِ، عَنْ صفاءِ الحياةِ، انزلقَ في دهاليزِ المَتاهاتِ، تماهى عَميقاً في ضَراوةِ الافتراسِ واقترافِ أشرهِ المُوبقاتِ كأنَّهُ خرِّيجُ أعتى الغاباتِ، لا يشبعُ حتَّى مِنْ "كمشاتِ" التُّرابِ، داسَ في جوفِ الذِّئابِ وحشيَّةً، كأنَّهُ مِنْ فصيلةِ الضِّباعِ، ومِنْ أشرسِ أنواعِ الوُحوشِ، يَعيشُ على هامِشِ الحَياةِ، يرحلُ بعيداً عَنْ نسائمِ الصَّباحِ، يرحلُ في أوجِ هُبوبِ العواصفِ، كأنَّ الطَّبيعةَ تنتقمُ مِنهُ ومِنْ وحشيّتِهِ الضَّاريةِ.
يعيشُ الإنسانُ سواءَ عُمراً مَديداً أو قصيراً، ولا يعي كيفَ يُعانِقُ بهجةَ الحياةِ، كأنَّهُ غائصٌ في سديمِ السَّرابِ، ولا يُدركُ سرَّ إشراقةِ الشَّمْسِ فوقَ خدودِ الأرضِ، ولا يتلمَّسُ نِعَمَ أشهى ثِمارِ الكونِ، ولا يُجيدُ إنشادَ ما يُهدهدُ هِلالاتِ الابتهالِ، كأنَّهُ خارجٌ عَنْ ربوعِ كينونةِ الكونِ وانبلاجِ مُهجةِ الشَّفقِ، فيسرقُهُ الزَّمَنُ مِنْ أصفى ما في لُجينِ العُمرِ مِنْ هناءٍ وبهاءٍ، كأنَّهُ في رحلةِ تيهٍ عَنْ أشهى ما في رحيقِ الشَّهيقِ، لا يرى سوى شهقاتِ البُكاءِ، وتفاقُماتِ الأحزانِ، واكتظاظِ شفيرِ الحروبِ، تقمِّطُهُ ضراوةُ العُبورِ في مِحرابِ الحياةِ فوقَ منارةِ العمرِ، وينجرفُ إلى فضاءِ الحُروبِ والاقتتالِ كما ينجرفُ لهيبُ النّارِ إلى يباسِ الخَشبِ، نراهُ في حالةِ اشتعالٍ مُتواصلٍ. حياتُنا خرافةٌ مُتطايرةٌ في مَهبِّ الرِّيحِ، مَتى سيفهمُ الإنسانُ أنَّهُ مِنْ أسمى المخلوقاتِ على وجهِ الدُّنيا، وعليهِ أنْ يُنشِدَ دونَ وجلٍ أنشودةَ السَّلامِ وينشرَ أريجَ الوئامِ فوقَ أجنحةِ الحياةِ، ويرسمَ أجملَ الفضائلِ وأرقى العطاءَاتِ فوقَ خميلةِ الأرضِ، كي يرحلَ بَعدَ عُمرٍ قصيرٍ أو طويلٍ، مرتاحَ البالِ، تاركاً خلفَهُ أجملَ ما يمكنُ أنْ يقدِّمَهُ المرءُ لمرامي الأرضِ، ويحلِّقَ في رُبوعِ الأعالي مِثلَ طيورٍ جذلى مِنْ بركاتِ النَّعيمِ وهو في أوجِ ابتهالاتِ الرُّوحِ وانتعاشِها لمُعانقةِ زُرقةِ السَّماءِ؟!
يضمُّ صوتُكِ لُغةً مُسربلةً بفضَاءَاتٍ صُوفيّةٍ روحانيّةٍ باذخةٍ، تَنسابُ مِثلَ ينابيعِ الفرحِ، لغتُكِ متوَّجةٌ بأسئلةٍ تلامِسُ لُبَّ الحياةِ، كأنَّها مُنبعثةٌ مِنْ رِحابِ الأعالي على أجنحةِ باشقٍ مُتعانِقٍ مَعَ وَميضِ البَرْقِ. تكتبينَ بوحَكِ على إيقاعِ أنغامِ حُلُمٍ مُنفلشٍ مِنْ هُبوبِ النَّسيمِ، تغوصينَ عَميقاً في قصيدَتِكِ "لا تنتظرْها" في مَعاني الانتظارِ، بكلِّ ما تحملُهُ هذهِ العوالمُ مِنْ دلالاتٍ رَحْبةٍ، وفيها الكثيرُ مِنْ المَرامي الرَّمزيّةِ والتَّاريخيّةِ في أبعادِ الخَلاصِ، ويُحيلُنا رأيُكِ إلى أبعادٍ روحيّةٍ وفلسفيّةٍ ومِساحاتٍ رحبةٍ مِنَ الآمالِ الكامِنةِ في أعماقِنا مِمَّا ينتظرُنا في الأعالي وما يخبِّئهُ حاضرُنا ومستقبلُنا الآتي عَبرَ مَحطَّاتِ رحلتِنا فوقَ هِضابِ الحَياةِ، وتوحي الشَّاعرةُ عبرَ فضاءَاتِ نصِّها ما هو مُضمرٌ في ذواتِنا التَّائِهةِ في خِضمِّ الحياةِ، كي تُقدِّمَ لنا رؤيةً جديدةً في فضاءِ الانتظارِ المفتوحِ على مدلولاتٍ متعدِّدةٍ لا تبدو للعيانِ للوهلةِ الأولى لِما فيها مِنْ آفاقٍ مُوغلةٍ في الاستِهامَاتِ والأفكارِ المجنّحةِ نحوَ فضاءَاتٍ تتماهى مَعَ حنينِ الرُّوحِ إلى واحاتِ خيالٍ مُمْتدٍّ على مِساحاتِ العمرِ، فتولدُ القصيدةُ بكلِّ آفاقِ انبلاجِها فوقَ فضاءِ اللَّيلِ، مُجسِّدةً آهاتٍ حبيسةً في أعماقِنا الدَّفينةِ، المكلَّلَةِ ببهاءِ القَرَنفُلِ.
المبدعة سميحة التَّميمي شاعرةٌ وروائيّةٌ مجنّحةٌ نحوَ فضاءِ الفكرِ الإنساني والرُّؤيةِ المسبوكةِ على مَساراتِ الحقيقةِ والحُرّيّةِ والسُّموِّ، مُركِّزةً على آفاقِ التَّأمُّلِ والرُّوحانيّةِ الصُّوفيّةِ، وسلّطَتْ مِبضعَها على أنيابِ الحروبِ، راغبةً أنْ تستأصلَ السُّمومَ المستشريةَ فوق صُدغِ الحياةِ، فلا ترى أجدى مِنَ الفكر التَّنويري في مواجهةِ الحروبِ وكلِّ أنواعِ العنفِ والاقتتالِ، كي تستعيدَ للإنسانِ الحياةَ الكريمةَ والهنيئةَ، وتحقِّقَ إنسانيّةَ الإنسانِ!
ستوكهولم: نيسان (ابريل) 2024
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم