تاريخ دولة المرابطين ... (9)
--------------------------------------------------------
مقدمات معركة الزلاقة الخالدة
--------------------------------------------------------
بعد سقوط طُلَيْطِلَة بيد ألفونسو، بدا له أن كل شيء ممكن, وعمل على توحيد جهود النصارى، واتفقوا على سحق دولة الإسلام فى الأَنْدَلُس، معتقدين أن قدرتهم تكفيهم لأداء هذه المهمة المقدسة لديهم.
وترك النصارى خصوماتهم الدَّاخلِيَّة، وتوحَّدت مدنهم، وكوَّنوا جيشًا ضخمًا, واحتلوا مدينة«قورية» من بنى الأفطس، ووصلوا إلى ضواحى إشبيلية، وأحرقوا قراها وحقولها،
وسارت فرقة من الفرسان النصارى إلى شذونة، ثم اخترقت جزيرة طريف قرب مضيق جبل طارق، كما حاصر القشتاليون- بمعاونة جند من مملكة أراجون ومملكة قطلونية الذين وضعهم ألفونسو السادس تحت قيادته- قلعة سَرْقُسْطَة المسلمة الحصينة ..
وسقوط سرقسطة يعني وضع منطقة الأبير «ابرة» فى يد النصارى حتمًا، وتصبح الشواطئ الإسبانية المطلَّةُ على البحر الأبيض المتوسط عرضة لغاراتهم،
يقول المؤرخ يوسف أشباخ :
«وأثخن النصارى فى ولاية سَرْقُسْطَة كلها بالنار والسيف، ولم يكن يردُّهم فى الحرب أى اعتبار إنسانى ما دام الأمر متعلقًا بأعداء الدِّين، كما يعتقدون، .....
ولكن الحصون الإسلاميَّة قاومتهم مقاومة شديدة، وتلقى المؤتمن بن هود وعدًا لوصول المدد السريع من إخوانه المُسْلِمِين فى جنوب الجزيرة، ....
بَيْدَ أن النصارى شددوا الضعط على سَرْقُسْطَة يومًا بعد يوم، وخشى المُسْلِمُون سقوط المعقل المنيع، بعد أن أصبحت قواتهم وأحوالهم فى حالة يرثى لها،...
فقد كانت حتمًا دون(*أقل من) قوى النصارى، فتطلعوا إلى عون من الخارج، فاتجهت أبصارهم إلى قوة المرابطين المجاهدة فى المغرب الأقصى» ...(*1).
وأصبح ألفونسو اللعين يضغط على ممالك المُسْلِمِين الكبرى المجاورة له أى مملكتى بطليوس وإشبيلية؛ فأرسل إلى المُتَوَكِّل بن الأفطس صاحب بطليوس يطلب منه أن يُسلِّم إليه القلاع والحصون المجاورة لحدوده مع تأدية الجزية،
وضعُف مسلمو الأَنْدَلُس أمام هذه الضربات الماكرة، وأصبح سقوط الممالك قاب قوسين أو أدنى،
وظل حُكَّام الممالك منغمسين بملذَّاتهم وفسادهم، يحاربون أنفسهم ويحالفون النصارى ضد إخوانهم، ويؤدُّون لهم الجزية مقابل تركهم على عروشهم التى تزعزعت أمام ضرباتهم،
واستخدم ملوك الطوائف المرتزقة من النصارى لحماية أنفسهم بعد أن فقدوا الأمل فى شعوبهم ورعاياهم بسبب ظلمهم وجورهم وتعسُّفهم، وجعل الله بين أمراء الطوائف من التنافس والتدابر والتقاطع والتحاسد والغيرة ما لم يجعله بين الضرائر المترفات والعشائر المتغايرات,...
فلم تصل لهم فى الله يد، ولا نشأ على التعاضد عزم (*2)،
لذلك انهارت الروح المعنوية للشعب الأَنْدَلُسى بعدما رأى من أمرائه التخاذل والخيانة, حتى كاد هذا الشعب الصابر يفقد القدرة على القتال بما كان يرهقه حُكَّامه من الضرائب للتنعم بالعيش الرغيد ودفع الجزية للنَّصَارَى، ...
وأصبحوا بين حاكم مُبتزٍّ وعدوٍّ متربصٍ، فقد ارتقى عرش إسبانيا النصرانية ألفونسو السادس بن فرديناند الذى كان يرغب فى احتلال الجزيرة الإيبرية كلها ، وعادت حرب الاسترداد قوية على يده،
وقد بدأ أعماله الحربية بمدينة طُلَيْطِلَة فحاصرها سبع سنوات حتى سقطت بيده فى 25 آيار 1085م مستهل صفر 478هـ, وقد أحدث سقوطها دويًا هائلاً فى العالم الإسلامى الغربي، وبات المُسْلِمُون فى حال من الضياع التام ..لا يعرفون كيف يتصرفون .. (*3)
وبدأ المسلمون بمغادرة المناطق المتاخمة لألفونسو، وأصبحت مملكة طُلَيْطِلَة خالية من السكان الذين هجروها إلى بطليوس هربًا من الاضطهاد وحفاظًا على دينهم،...
ورأى ألفونسو أن زمام الأَنْدَلُس أصبح فى يده، فضاعف غاراته على جميع البلاد؛ وتساقطت المُدُن والقرى بين يدى ذلك اللعين الحقود ....
وأرسل إلى ابن الأفطس صاحب بطليوس يطلب إليه تسليم بعض الحصون، والقلاع المتاخمة لحدوده مع تأدية الجزية، ويتوعده بشر العواقب إذا رفض، ....
و ردَّ ابن الأفطس برسالة معلنًا تحديه لألفونسو بكل شجاعة ونبل ،...
قال ابن الأفطس (المُتَوَكِّل) :
«.. ولو علم -ألفونسو- أن لله جنودًا أعزَّ بهم كلمة الإسلام, وأظهر بهم دين نبينا مُحَمَّد ﷺ وأعزه على الكافرين ..
وأما تعييرك للمُسْلِمِين فيما وهَى(*ضعف) من أحوالهم فبالذنوب المركوبة،....
ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك أى مصاب أذقناك كما كان أبوك يتجرَعه... وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك أهدى ابنته إليه مع الذخائر التى كانت تفد كل عام عليه» ..... (*4). *يعني هنا الحاجب المنصور بن أبي عامر
وأرسل ابن الأفطس (المُتَوَكِّل) قاضيه العالم الفقيه أبا الوليد الباجى ليطوف على حواضر الأَنْدَلُس يدعو إلى لمِّ الشعث وتوحيد الكلمة، ومدافعة العدو،
ولكن مهمة القاضى لم تُكلل بالنجاح لأن ضعف الأمراء، وانهيار مقومات الدولة، وتخاذل الشعب فرضت على الحُكَّام استرضاء العدو،
عندئذٍ كتب ابن الأفطس إلى الأمير يوسف بن تاشفين ¬(*5)، يصور له محنة الأَنْدَلُس ويستنصره¬(*6)
كتب إليه :
{ لما كان نور الهدى -أيدك الله- دليلك, وسبيل الخير سبيلك، ووضحت فى الصلاح معالمك، ووقفت على الجهاد عزائمك، وصحَّ العلم بأنَّك لدعوة الإسلام أعزُّ ناصر، وعلى غزو الشرك أقدر قادر، ....
(فقد) وجب أن تستدعى لما عضل الداء، وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البلاء، فقد كانت طوائف العدو المطيف بأنحائها عند إفراط تسلُّطها واعتدائها وشدة كلفها واستشرائها تلاطف بالاحتيال، وتستنزل بالأموال، ويخرج لها عن كل ذخيرة، وتسترضى بكل خطيرة، ....
ولم يزل دأبها التشكك والعناد، ودأبها الإذعان والانقياد حتى نفدت المطارف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المنن، وقويت أطماعهم فى افتتاح المدن، واضطرمت فى كلِّ جهة نارهم، ورويت من دماء المُسْلِمِين أسنتهم وشفارهم،....
ومن أخطأه القتل منهم فإنما هم بأيديهم أسارى وسبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا،
وقد هموا بما أرادوه من التوثب، وأشرفوا على ما أملوه من التغلب، فيا الله ويا للمُسْلِمِين ! أيسطو هكذا بالحق الإفكُ، ويغلب التوحيدَ الشرك ُ، ويظهر على الإيمان الكفرُ، ولا يكشف هذه البلية النصرُ، ؟!
ألا ناصر لهذا المهتضم؟ ألا حامى لما استبيح من الحرم؟،
وإنا لله على ما لحق عرشه من ثل، وعزه من ذل، فإنها الرزيَّة التى ليس فيها عزاء، والبلية التى ليس مثلها بلاء،...
ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك – أعزَّك الله – بالنازلة فى مدينة قورية أعادها الله وإنَّها مؤيدة للجزيرة بالخلاء، ومَن فيها من المُسْلِمِين بالجلاء ،...
ثم ما زال التخاذل يتزايد، والتدابر يتساند حتى تخلَّصت القضية وتضاعفت البلية وتحصَّلت فى يد العدو مدينة سرية، وعليها قلعة تجاوزت حد القلاع فى الحصانة والامتناع....
وهى من المدينة كنقطة دائرية تدركها من جميع نواحيها، ويستوى فى الأرض بها قاصيها ودانيها، وما هو إلا نفس خافت وزمر داهق استولى عليها عدو مشترك وطاغية منافق، .....
إن لم تبادروا بجماعتكم عجالاً, وتتداركوها ركبانًا ورجالاً، وتنفروا نحوها خفافًا وثقالا ً، ...
وما أحضكم على الجهاد بما فى كتاب الله فإنَّكم له أتلى، ولا بما فى حديث رسول الله ﷺ فإنكم إلى معرفته أهدى، ...
وكتابى إليكم هذا يحمله الشيخ الفقيه الواعظ يفصِّلها ويشرُحها، ومشتمل على نكتة وهو يبينها ويوضِّحها، فإنه لما توجه نحوك احتسابًا، وتكلف المشقة إليك طالبًا ثوابًا، عوَّلت على بيانه, ووثقت بفصاحة لسانه, والسَّلام } ..(*7).
--------------------------------------------------------------------
ألفونسو والمعتمد بن عباد
لقد وقع المُعْتَمِد بن عَبَّاد فى أخطاء كثيرة ؛ حيث تعاهد مع ألفونسو ضد إخوانه المُسْلِمِين فى طُلَيْطِلَة مقابل أن يسمح له ألفونسو بأخذ الممالك ممن حوله من المسلمين إلاَّ إن النصارى - كما علمت - لا عهود لهم ولا مواثيق، ...
فأراد ألفونسو أن يجد مبررًا لضرب الحصار على إشبيلية, واحتلال قرطبة، فطلب من المُعْتَمِد حصونًا وقرى كان الموت أحبُّ إلى المعتمد من تسليمها, ...
ومارس ألفونسو مع المُعْتَمِد أنواعًا من الإذلال والتجنى لتخرج المُعْتَمِد عن طوره ويلغى الاتفاقية الهزيلة بين الطرفين ويجد ألفونسو والنصارى ما يبرِّر أفعاله الانتقامية والوحشية. ...
فطلب ألفونسو من المُعْتَمِد أن يسمح لزوجته القمطجية أن تلد فى جامع قرطبة بناءً على نصيحة الأساقفة، لأن الطرف الغربى كان موقع كنيسة قرطبة القديمة، وسأله أن تنزل بالزهراء مدينة الخليفة الناصر، لتكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة المزعوم (*8)،
وأرسل إليه بعثة من خمسمائة فارس برئاسة اليهودى ابن شاليب لأخذ الجزية، ..
وتجرأ السفير اليهودي وقلَّ أدبه ، وخرج على العرف الدبلوماسي، وأغلظ فى القول للمُعْتَمِد وقال :
« لا تعتقدونى بسيطًا لأقبل مثل هذه العملة المزيفة, لا آخذ إلا الذهب الصافي، السنة القادمة ستكون مدنًا " .....(*9).
فأخذت المُعْتَمِد النخوة الإسلاميَّة وصلب اليهودي، وقتل البعثة، وبذلك يكون ألفونسو قد تحصل على ما يريده، وكان ألفونسو متجهًا لحصار قرطبة فلمَّا وصل خبر البعثة أقسم بآلهته ليغزون المُعْتَمِد فى إشبيلية، وحرَّك جيوشه نحو غرب الأَنْدَلُس فدمَّر كل القرى والتخوم التى فى طريقه نحو إشبيلية, ....
وخرج فى جيش من طريق آخر يدمِّر ويخرِّب ويقتل ويحرق ويسفك ويسبي، حتى وصل إلى جزيرة طريف أقصى جنوب الأَنْدَلُس على المضيق، وأدخل قوائم فرسه فى البحر قائلاً: «هذا آخر بلاد الأَنْدَلُس قد وطئته» ... (*10).
ومِن هناك أرسل ألفونسو إلى الأمير يوسف بن تاشفين :
{ أمَّا بعد .. فلا خفاء على ذى عينين أنَّك أمير المُسْلِمِين بل الملة الإسلاميَّة، كما أنا أمير الملة النصرانية،...
ولم يخف عليك ما عليه حال رؤساؤكم بالأَنْدَلُس من التخاذل والتواكل، والإهمال للرعية والإخلاد إلى الراحة، وأنا أسومهم الخسف، فأخرب الدِّيار وأهتك الأستار، وأقتل الشبَّان وآسر الولدان، ....
ولا عذر لك فى التخلف عن نصرتهم إن أمكنك معرفة هذا، وأنتم تعتقدون أن الله - تعالى - فرض على واحد منكم عشرة منا، وأن قتلاكم فى الجنة وقتلانا فى النار، ....
ونحن نعتقد أن الله أظفرنا بكم وأعاننا عليكم، ولا تقدرون دفاعًا ولا تستطيعون امتناعًا، وبلغنا عنك وأنَّك فى الاحتفال عن نية الاستقبال فلا يدرى أكان الجبن بك أم التكذيب بما أنزل عليك،.....
فإن كنت لا تستطيع الجواز فابعث إليَّ ما عندك من المراكب نجوز إليك، أناظرك فى أحب البقاع إليك؛ فإن غلبتنى فتلك نعمة جلبت إليك، ونعمة شملت بين يديك، وإن غلبتك كانت لى اليد العليا عليك, واستكملت الإمارة, والله يتم الإرادة }.......(*11).
فكان ردُّ يوسف بن تاشفين – رحمه الله – على ظهر الكتاب ذاته :
{ ما ترى لا ما تسمع إن شاء الله -تعالى- } وأردف :
ولا كتب إلا المشرفية والقنا
ولا رسل إلا الخميس العرمرم¬(*12)
وعاد ألفونسو المغرور المتكبر إلى إشبيلية حيث التقى بجيشه الآخر أمام قصر المُعْتَمِد بن عَبَّاد بضفة النهر، وحاصر المدينة ثلاثة أيام، وكتب إلى المُعْتَمِد يسأله أن يرسل إليه مروحة لطرد الذباب، ولم يتحمل المُعْتَمِد هذه الإهانة فرد َّ:
{ قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك, ..
وسأنظر إليك فى مراوح من الجلود اللمطية تروح
منك ولا تروح عليك }.........(*13).
ترك ألفونسو إشبيلية وسار نحو سَرْقُسْطَة وحاصرها، كانت شبه ضائعة تنتظر مصيرها المؤلم, وصاحبها ابن هود لا يستطيع الدفاع كثيرًا، ثم أخذ بلنسية, وأعطاها القادر بن ذى النون صاحب طُلَيْطِلَة السابق، وهاجم مملكة ألمرية, ووصل القشتاليون إلى نابار قرب غرناطة, ....
كان الخطر على الأَنْدَلُس شديدًا، وقلة الشجاعة وانهيار الروح المعنوية تثبط العزائم، إذ أن ثمانين قشتاليًا هزموا أربعمائة من ألمرية ¬......(*14).
--------------------------------------------------------------------
اجتماع علماء قرطبة
أمام هذا الضياع المفزع الذى وصلت إليه ممالك الأَنْدَلُس؛ اجتمع علماء وفقهاء وزعماء قرطبة للتشاور فيما يجب عمله لإنقاذ مدينتهم، ووصل رأيهم بعد تبادل الآراء والأفكار إلى استدعاء المرابطين .
ورأى المُعْتَمِد أن هذا الرأى فيه صواب ونفاذ بصيرة؛ فجدَّ فى تقوية جيشه ورمم الحصون والقلاع، وقرَّر أن يطلب النجدة من إخوانه المُسْلِمِين، وتشاور فى الأمر مع ابنه الرشيد وزعماء إشبيلية الذين أشاروا عليه بمهادنة ألفونسو والخضوع لشروطه، ......
ولكن هذا الرأى لم يجد هوى فى نفس المُعْتَمِد الذى خلا بابنه الرشيد وكان ولى عهده وقال له:
{ أنا فى هذه الأَنْدَلُس غريب بين بحر مظلم وعدو مجرم، وليس لنا ولي ولا ناصر إلا الله، وإن إخواننا وجيراننا ملوك الأَنْدَلُس ليس فيهم نفع، ولا يُرجَى منهم نصرة، ....
ولا حيلة إن نزل بنا مصاب أو نالنا عدو ثقيل وهو اللعين أذفونش فقد أخذ طُلَيْطِلَة وعادت دار كفر وها هو قد رفع رأسه إلينا ..وإن نزل علينا طُلَيْطِلَة ما يرفع عنا حتى يأخذ إشبيلية،...
ونرى من الرأى أن نبعث إلى هذه الصحراء وملك العدوة نستدعيه للجواز إلينا ليدافع عنا الكلب اللعين إذ لا قدرة لنا على ذلك بأنفسنا، فقد تلف لجاؤنا وتدبرت بل تبردت أجنادنا, وبغضتنا العامة والخاصَّة }....(*15).
فأجابه الرشيد :
{ يا أبت أتدخل علينا فى أَنْدَلُسنا مَن يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟ }
فقال المعتمد : { أى بنى والله لا يسمع عنى أبدًا أنى أعدت الأَنْدَلُس دار كفر ولا تركتها للنصارى فتقوم عليَّ اللعنة من على منابر المُسْلِمِين مثل ما قامت على غيري، والله خُرز الجمال عندى خير من خُرز الخنازير} ......(*16).
ولما انتشر رأى المُعْتَمِد بن عَبَّاد فى الأَنْدَلُس حذره ملوك الطوائف من ذلك وقالوا له :
«الملك عقيم والسيفان لا يجتمعان فى غمد واحد»
و قد عارض بشدة طلب العون من المرابطين : عبد الله بن سكوت والى مالقة الذى كان يرى أن المرابطين أشد خطرًا من النصارى، ويجب الاعتماد على القوة الذاتية للأَنْدَلُسيين¬(*17)،
فأجابهم المُعْتَمِد :
«رعى الجمال خير من رعى الخنازير» ..(*18)
وأضاف : " إن دهينا من مداخلة الأضداد لنا فأهون الشرَّين أمر الملثمين» ....(*19).
وقال للذين لاموه على هذا الرأي :
{ يا قوم إنَّى فى أمرى على حالين: حالة يقين وحالة شك، ولابد لى من أحدهما، أمَّا حالة الشك فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففى الممكن أن يفيا لى ويبقيا عليَّ، ويمكن أن لا يفعلا فهذه حالة شك. ...
وأمَّا حالة اليقين فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين فإنى أرضى الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأى شيء أدع ما يرضى الله وآتى ما يسخطه؟ حينئذٍ قصر أصحابه عن لومه }(*20).
ولما عزَم على طلب النصرة من المرابطين؛ اتصل المُعْتَمِد بالمُتَوَكِّل بن الأفطس صاحب بطليوس، وعبد الله بن بلقين الصنهاجى صاحب غرناطة، وطلب منهما أن يرسل كل منهما قاضى مدينته حتى يكونوا وفدًا إلى المرابطين لمقابلة الأمير يوسف بن تاشفين،...
وتشكَّلت البعثة من :
● قاضى قرطبة ابن أدهم، ● وقاضى بطليوس ابن مقانا, ● وقاضى غرناطة ابن القليعي, ● ومعهم وزير المُعْتَمِد أبو بكر بن زيدون, ..
وأسند المُعْتَمِد إلى القضاة وعظ الأمير يوسف وترغيبه فى الجهاد، وأسند إلى وزيره إبرام العقود، وحملت البعثة معها رسالة مكتوبة من المُعْتَمِد إلى الأمير يوسف مؤرخة 479هـ, وهذا نصُّها :
{ بسم الله الرحمن الرحيم, وصلِّى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.. .
إلى حضرة الإمام أمير المسلمين وناصر الدِّين ومحيى دعوة الخليفة، الإمام أبى يعقوب يوسف بن تاشفين، القائم بعظيم أكبارها، الشَّاكر لأجلالها ، المعظِّم لما عظم الله من كريم مقدارها، اللائذ بحرامها, المنقطع إلى سمُّو مجدها,
المستجير بالله وبطولها ...
سلام كريم يخص الحضرة المعظمة السامية ورحمة الله تعالى وبركاته....
كتب المنقطع مُحَمَّد بن عباد إلى كريم سلطانها من إشبيلية فى غرة جمادى الأولى 479هـ/ 1086م وإنَّه أيَّد الله أمير المُسْلِمِين ونصر به الدِّين،...
فإنَّا - نحن العرب - فى هذه الأَنْدَلُس قد تلفت قبائلنا، وتفرَّق جمعنا، وتغيَّرت أنسابنا بقطع المادة عنا من ضيعتنا؛ فصرنا شعوبًا لا قبائل, وأشتاتًا لا قرابة ولا عشائر، فقلَّ نصرنا، وكثر شُمَّاتُنا، وتولَّى علينا هذا العدو المجرم اللعين ألفونسو وأناخ علينا بطُلَيْطِلَة ووطئها بقدمه، وأسر المُسْلِمِين، وأخذ البلاد والقلاع والحصون،..
ونحن أهل هذه الأَنْدَلُس ليس لأحد منا طاقة على نصرة جاره ولا أخيه، ولو شاءوا لفعلوا إلا أن الهواء والماء منعهم من ذلك، وقد ساءت الأحوال، وانقطعت الآمال،...
وأنت أيدك الله سيد حمير، ومليكها الأكبر، وأميرها وزعيمها، نزعت بهمتى إليك واستنصرت بالله ثم بك، واستغثت بحرمكم لتجوز بجهاد هذا العدو الكافر وتحيون شريعة الإسلام وتدينون على دين مُحَمَّد ﷺ ،...
ولكم عند الله الثواب الكريم على حضرتكم السامية السلام ورحمة الله وبركاته ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلى العظيم} .. ..(*21).
وأرسلت وفود شعبية من الشيوخ والعلماء رسائل تحثُ الأمير ابن تاشفين على إنقاذ الأَنْدَلُس.
وتأثر المرابطون لمُصاب إخوانهم فى الدِّين، وعرض أميرهم قضية مسلمى الأَنْدَلُس على أهل الحلِّ والعَقْد عنده، وأجمعوا على نصرة دينهم وإعزاز كلمة التوحيد،
وكان وزير يوسف ومستشاره أَنْدَلُسى الأصل اسمه عبد الرحمن بن أسبط أو أسباط، فنصحه المستشار بأن يطلب من المُعْتَمِد بن عَبَّاد الجزيرة الخضراء لكى تكون آمنة لعبور الجيش، ولحماية خطوط التموين، ...
وقال له : إن الأمر لله تعالى ولكم، وواجب على كل مسلم إغاثة أخيه المسلم والانتصار له، واقتنع الأمير يوسف برأى وزيره فى طلب الجزيرة الخضراء ليجعل فيها أثقال جيشه وأجناده ويكون الجواز بيده متى شاء، وقال الأمير يوسف لعبد الرحمن: صدقت يا عبد الرحمن, لقد نبهتنى على شيء لم يخطر ببالي, اكتب إليه بذلك.
وكتب ابن أسبط إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد الكتاب التالى نصُّه:
{ بسم الله الرحمن الرحيم, وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلِّم....
من أمير المُسْلِمِين وناصر الدِّين معين دعوة أمير المؤمنين، إلى الأمير أكرم المؤيد بنصرة الله تعالى المُعْتَمِد على الله أبى القاسم مُحَمَّد بن عَبَّاد أدام الله كرامته بتقواه، ووفقه لما يرضاه،...
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد :
فإنه وصل خطابك الكريم، فوقفنا على ما تضمنه من استدعائنا لنصرتك، وما ذكرته من كربتك، وما كان من قلة حماية جيرانك، فنحن يمين لشمالك ومبادرون لنصرتك وحمايتك، وواجب علينا فى الشَّرع, وفى كتاب الله تعالى، ....
وإنَّه لا يمكننا الجواز إلا أن تُسلِّم لنا الجزيرة الخضراء؛ تكون لنا لكى يكون جوازنا إليك على أيدينا متى شئنا، فإن رأيت ذلك فاشهد على نفسك بذلك, وابعث إلينا بعقودها ونحن فى أثر خطابك إن شاء الله تعالى }.
اطلع المُعْتَمِد ابنه الرشيد على خطاب الأمير يوسف فقال له: يا أبت ألا تنظر إلى ما طلب؟
فقال له المُعْتَمِد : يا بنى هذا قليل فى حق نصرة المُسْلِمِين،
ثم جمع المُعْتَمِد القاضى والفقهاء، وكتب عقد هبة الجزيرة الخضراء للأمير يوسف، وتسليمها له بحضورهم، وكان يحكمها يزيد الراضى بن المُعْتَمِد، فبعث إليه أمره بإخلائها وتسليمها للمرابطين لتكون رهناً بتصرف الأمير يوسف¬(*22).
وبعد موافقة المُعْتَمِد تجهَّز يوسف لتلبية نداء إخوانه فى العقيدة راغبًا فى الأجر والمثوبة من الله بتأدية فريضة الجهاد، وكتب أمانًا لأهل الأَنْدَلُس ألا يتعرض لأحد منهم فى بلده وقال :
«أنا أول مُنتَدَبٍ لنصرة هذا الدِّين, لا يتولى الأمر أحد إلا أنا بنفسي»
وأعلن النفير العام فى قوات المرابطين، فأقبلت من مراكش, ومن الصحراء وبلاد الزاب, ومن مختلف نواحى المغرب يتوافدون على قيادتهم الربَّانية، ....
وجهزت السفن لتحمل هذه القوات، وكان أول من نفَّذ أمر العبور قائد المرابطين النابغ داود ابن عائشة, وتمركز فى الجزيرة الخضراء، وتتابعت كتائب المرابطين، وكانت معهم الجمال الكثيرة، وقد أثار وجودها دهشة الأَنْدَلُسيين، لأنَّهم لم يكونوا يعرفونها من قبل، وقد أثَّر وجودها على الخيل فأخذت تجمح لدى رؤيتها....
--------------------------------------------------------------------
(*1) انظر الزلاقة، ص (32).
(*2) انظر: أعلام الأعلام، تحقيق د. عبادي, ص (2411).
(*3) دولة المرابطين، ص (61).
(*4) المصدر السابق، ص (62).
(*5) تاريخ ابن الكردبوس ص (88)، عن كتاب دولة المرابطين، ص (62).
(*6) د. عدنان، دولة الإسلام فى الأندلس ودول الطوائف، ص (91-92).
(*7) دولة المرابطين, ص (63-64).
(*8) المصدر السابق نفسه.
(*9) المصدر السابق، ص (66).
(*10)دولة المرابطين، ص (66).
(*11) نفس المصدر السابق.
(*12) تاريخ ابن الكردبوس, ص (91).
(*13) الرياض المعطار، ص (80) للحميري.
(*14) تاريخ ابن الكردبوس ص (89)، نقلاً عن دولة المرابطين، ص (66).
(*15) دولة المرابطين، ص (68).
(*16) المصدر السابق، ص (68).
(*17) المصدر السابق، ص (69).
(*18) وفيات الأعيان (7/115).
(*19) نفس المصدر السابق.
(*20) نفح الطيب (6/91).
(*21) دولة المرابطين ص (71).
(*22) دولة المرابطين، ص (74)، مذكرات الأمير عبد الله صاحب غرناطة ص (102، 103).
☆ فقه التمكين في دولة المرابطين د.الصلابي ص69-62
--------------------------------------------------------------------
العبور إلى اﻷندلس و معركة الزلاقة
تابعونا #دولة_المرابطين_جواهر 9