إدغار موران يقدم خلاصة قرن من الحياة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • إدغار موران يقدم خلاصة قرن من الحياة

    إدغار موران يقدم خلاصة قرن من الحياة


    ما يتمخض عن الواقع يفوق لعبة التنظير.
    الأربعاء 2024/04/03
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    المثقفون في الأطراف يتداولون الأفكار الغربية بمنطق لاهوتي

    يبقى الفيلسوف الفرنسي إدغار موران من أهم التجارب الفلسفية الحاضرة بقوة اليوم، حيث عاصر المفكر على امتداد قرن من الزمان تقلبات عالمية عديدة رافقتها تقلبات فكرية فيما يطرحه هو أو غيره من الفلاسفة، تجربة خولته ليقول خلاصة فكره في كتاب عنونه بـ“دروس قرن من الحياة”.

    أحوال العالم المعاصر قد لا تستدعي إنشاء المفاهيم الفكرية الجديدة، لأن ما هو موجود من الفلسفات والنظريات والمبادرات من الغزارة بحيث تلبي كل ما يمكن أن يراود عقل الإنسان في المرحلة الراهنة. وبالتالي فالجدير بالاهتمام هو مناقشة ما تحقق إلى الآن من التوقعات المنبثقة من العقليات الفلسفية والتأمل في حصيلة الحراكات المحملة بالأحلام والوعود بزيادة جودة الحياة.

    ليس من الشطط القول إن ما يعمق من حدة الأزمات هو الأفكار التي يتوسم فيها الإنسان حلا لمشكلاته ويعقد عليها الرجاء للخروج من النفق المظلم. وفي نهاية المطاف يصطدم بعكس ما هو محتمل في أجندة حساباته. لا شك أن مرد هذه الخيبات المتكررة ليس إلا المبدأ الوثوقي في التعاطي مع كل ما تجود به الاجتهادات البشرية. إذن ما بدا محاولة لبناء الفردوس الأرضي انقلب إلى كابوس كما أن ما سجل انتصارا للحرية لم يكن أكثر من الغرق في الاستهلاك والاستسلام لإغراءات الكمية والانشغال عن النوعية.

    هذه الإشكاليات وغيرها من الأمور التي تتطلب البحث عن زاوية جديدة لإدراكها تقع ضمن إطار متابعات الفيلسوف الفرنسي إدغار موران إذ يتناول في كتابه “دروس قرن من الحياة” بالتزامن مع سيرته وتجاربه الشخصية مصير التيارات الفلسفية والصراعات التي شهدها العالم إبان القرن العشرين، هذا ناهيك عن التتبع لخط التطور العلمي وما يليه من التحولات على الأصعدة كافة.

    ما يجري على الأفراد برأي موران يجري بالأكثر على التاريخ إذ لا يخضع هذا الأخير للحتميات والجبر الاقتصادي فحسب بل تجد ضروبا من السخافة في حركته. وما يثير انتباه إدغار موران حاديا به صوب إعادة النظر في الثوابت والقواعد الرائجة حول فهم العوامل المتحكمة بالقرارات والمواقف هو مساحة اللا متوقع في خارطة الأحداث المفصلية التي أرخت بثقلها على تشكيلة العالم. ومن الجلي أن المشترك في المؤلفات السيرية هو تحديد موقع أنا الشاهدة والفاعلة في أمواج الحياة المتعاقبة والحفر في البيئة التي برزت على أكتافها فيزياء الهوية. ويخلص مما يرويه موران عن مكونات هويته بأنه هجين من مؤثرات متعددة ولا تقوم تركيبته على أحادية الانتماء. فجذوره ضاربة في أرضيات وثقافات مختلفة.
    الهوية الزئبقية




    الأسبقية للصفة الإنسانية في قراءة موران لتشكيلة الهوية ومن ثم تأخذ المكونات الأخرى موقعها في نسيج شخصيته فهو فرنسي من أصل يهودي ثقافته أوروبية ومواطن عالمي في آن واحد. هنا لا بد من طرح السؤال: هل يسع المرء أن يكون كل ذلك باستمرار؟ برأي موران فإن الموضوع يقف على الظروف حيث تسود مرة هذه ومرة تلك من هويته. إذن لا يمثل الإنسان انتماءاته المتعددة في جميع أطواره.

    يشير مؤلف “لنستيقظ” إلى أن والديه يحملان هوية دينية إثنية ومدنية فكان موطنهما هو سالونيكا واحة السلام، بعكس ما واجه اليونان والصرب والألبان الذين قهرهم العثمانيون. شد بريق باريس مزاج الوالد ولم تكن اللغة الفرنسية غائبة بين أبناء البرجوازية السفادرية في سالونيكا. فالنزوح نحو فرنسا ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر بالنسبة إلى موران لأنه ولد على أرض انطلقت منها نحو بقية أوروبا شرارة الثورة. كما يشهد للمفكرين الفرنسيين ريادتهم في قافلة التنوير.

    يلاحظ موران أن اللغة المحكية في البيت لم تكن فرنسية لكن ما صعب عليه فهم “جيديو” الإسبانية اليهودية دون أن يتكلم بها، وعندما يزور إسبانيا يتأكد أكثر أنه يفقه اللغة جزئيا. وفي الواقع يجدد هذا الاكتشاف في أعماق موران هوية إسبانية. لكن ذلك كله لا يكون على حساب الإحساس بتأكيدات الانتماء إلى فرنسا، فشأنه شأن أي فرنسي كانت الانفعالات الجياشة تغمر الطفل عند ذكر أسماء وأحداث مؤثرة على جغرافية الفكر والثقافة والسياسة في فرنسا، ما يعني أنه قد تأصل في هذه التربة متفاعلا مع أمجادها وكبواتها.

    لم ينقطع موران عن جذوره اليهودية على الرغم من نشأته في أسرة علمانية، بيد أن والديه أشركاه في طقوس عيد الفصح كما خضع للختان الذي ورطه في موقف محرج. فيما يسترد موران سنوات الطفولة وأجواء أسرته يؤكد أن شعوره بالعزلة قد تفاقم بعد رحيل أمه لونا وهو البالغ من العمر عشر سنوات. كان يمقت الحماية التي طوقه بها الوالد وما انفك يريد الانعتاق منها. يعترف فيلسوف القرن بأنه قد عاش خارج العائلة متعلما من المدرسة والكتب، فقد وجد في الشارع والسينما حقائقه. لم يشغل موران هاجس تبوء مناصب شرفية في كوليج دوي فرانس أو الانضمام إلى الأكاديمية الفرنسية.

    وهو بصدد استعادة مراحله العمرية لا يتغافل عن قصة زيجاته المتعددة، لافتا إلى اللقاء المصيري الذي جمعه بصباح التي تصغره بأربعين سنة، لكن ذلك لم يمنع من التبصر بالمشترك بينهما إذ كانت نشأتها عصامية تفقد أباها وهي تخطو أولى خطواتها في الدرب. إذ تتابع تكوينها الذاتي وتناضل خلال سنوات الرصاص في عهد الحسن الثاني. معنى ذلك أن كلاهما قد صارع عباب التحديات المضنية. والأهم على خط اللقاء أن صباح تتعافى من أوهامها بعد قراءة ما ينشره موران بعنوان “النقد الذاتي”، كما تستفيد من مؤلفاته وأعجبها موقفه حيال تفجرات الشرق الأوسط.

    لا يكون الإنسان بنسخة واحدة من المزاج والنفسية بل الأصل في طبيعته هو التنقل بين الأهواء من الحزن إلى السعادة من عنفوان النشاط إلى مستنقع الخمول. وهذا ما يجربه موران في انفعالات شخصيته. الالتفات إلى بدايات التأليف والكتابة مفصل آخر من سيرة صاحب “نجوم السينما”. يلقى كتابه الأول “السنة الصفر في تاريخ ألمانيا” احتفاء واستقبالا جيدا إذ يتناول فيه مشاهداته وما اختبره بين سنتي 1945 – 1946 بينما واجه ما صدر له متسلسلا بعنوان “المنهج سوء التقدير” وانهالت عليه الانتقادات والاتهام بعدم الجدارة المعرفية.

    وصار موران على مرمى الهجوم بعد انفصاله عن الحزب الشيوعي كذلك عندما عبر عن استنكاره لعنجهية العدوان الإسرائيلي، وسياسة الكيان القعمية حيال الشعب الفلسطيني. يعلم موران تمام العلم بأن المواقف تكلف أثمانا باهظة لكن هذا لا يثنيه عن المشي بطريق شائك حين تكون حقيقة الأمور وشرف المرء على المحك.
    التجاوز الفكري


    بخلاف غيره من الفلاسفة لا يرى إدغار موران في الحضارة الغربية مصدرا للحل بل هي متورطة في الأزمات

    لا يأخذ خط الحياة منحى واحدا ولا يغلب عليه اليقين في المآلات بل قد تحفل مسيرة المرء بالمفارقات المثيرة للاستغراب من لحظة خلقه إلى أن يتوقف شريط أيامه. وبرأي إدغار موران إن فرصة الوجود مجال تتجاور فيه الثنائيات المتناقضة من قبيل الشقاء والسعادة، الخير والشر، يذكر مؤلف “لحظة أخرى أيضا” أن تجربة ولادته كانت متعثرة وهو قد ولد شبه ميت ولولا صفعات الطبيب المستمرة لكان في عداد الموتى، وهكذا تحول سوء الحظ الذي نذره بالحرمان من الحياة إلى فرصة وجودية وينجو موران من الموت بعد سنة من وفاة أمه فقد أرهقه مرض غير معروف في وقتها، ويطلق عليه بعد سنوات اسم الحمى القلاعية، أكسبته الأزمات الصحية مرونة في التجلد.

    يختبر موران لونا آخر من التعاسة وذلك حين تعلق الدراسة في يونيو 1940 ويحول إعلان الحرب دون إكمال امتحانات سنته الأولى في الجامعة. ويرغم على الانتقال إلى تولوز غير أن ما حسبه سوء الحظ في البداية يتحول إلى فرصة لإقامة علاقات الصداقة والأخوة مع الهاربين من الغزو الألماني، والأجمل في هذه الحلقة من العمر هو لقاؤه بالحب الأول، فقد انجرف إلى شاعريته العارمة وراقت له غصته الأولى. ويتواصل موران في تولوز مع نخبة من المثقفين والمفكرين ويتحول من مناهض للستالينية إلى شيوعي منخرط في حركة المقاومة.

    وعن عهده بالشيوعية يقول موران إنه نادم تمام الندامة عن تبنيه الشيوعية السوفيتية غير أن هذه التجربة لم تخل من فوائد لأنها قد زادته إدراكا بمساوئ الشمولية. إذ باشر بمراجعة ونقد اختياراته والخروج من جلباب الأيديولوجيا. وكما أشرنا سلفا فإن اللا متوقع هو ما يجرد الإنسان من اليقين وفق نظرة موران ويحرك دفة المصير نحو الغبطة والسعادة تارة ونحو المهالك والدمار تارة أخرى. ومن الوقائع التي عاصرها إدغار موران واستخلص من تبعاتها شكلا مختلفا من التعاطي والمجاولة مع متن الحدث تأتي أزمة 1929 أو ما عرف بالكساد العظيم في الصدارة. وتتصاعد من هذا الانهيار المدوي ظاهرة النازية التي تتمدد أذرعها في أوروبا. ولعل أكثر ما صدم العالم هو إبرام الاتفاقية بين السوفييت والنازية.

    لا تنتهي سلسلة اللا متوقع عند هذا الحد بل تضاف إليها نكبة الجيش الفرنسي وتصدي المقاومة السوفيتية للغزو النازي بعد تنصل هتلر من المعاهدة. وتتسع الحلقة لحرب الجزائر وتقرير خروتشوف وإدانته للحقبة الستالينية، كما يطوي القرن العشرين سجله بسقوط الاتحاد السوفيتي وتتفتح الألفية الثالثة باستهداف مبنى البنتاغون وبرجي التجارة العالمية في نيويورك، كل ذلك يكشف حقيقة أن ما يتمخض عن الواقع يفوق لعبة التنظير.

    الأسبقية للصفة الإنسانية في قراءة موران لتشكيلة الهوية ومن ثم تأخذ المكونات الأخرى موقعها في نسيج شخصيته

    بخلاف العديد من أترابه المفكرين والفلاسفة لا يرى إدغار موران في الحضارة الغربية مصدرا للحل بل إن هذه الحضارة متورطة في الأزمات، ولا يعقل أن تقدم نفسها للبلدان النامية على أنها حاملة للعلاج الشافي. ولا تكمن المشكلة في العقلية الغربية وزعمها بحق قيادة البشرية فحسب، بل ما يضع الحل في مهب الفذلكات أن المثقفين في المناطق الواقعة بجغرافية الأطراف يتداولون الأفكار الغربية بمنطق لاهوتي. وتشهد على ذلك آلية الفهم للمقولات الفلسفية المنقولة المنبتة من بيئتها.

    ينفي موران وجود فلسفة أو فكرة غير قابلة للتجاوز كما لا يهمه البعد الأيدولوجي في المناهج الفكرية بقدر ما يبحث عن الروح النقدية في جذورها، لذلك فإن ما يراه مهما وجوهريا في الماركسية هو طابعها الجدلي وتفضيلها للحركة في مقابل الماهية الجامدة والتحجر، ويعتبر موران أن ماركس عملاق الفكر لأنه قد عرف كيف يوحد بين الفلسفة والعلوم والتاريخ والاقتصاد والسوسيولوجيا في أنثروبولوجيا حقيقية. ومع ذلك لا يسلم الفكر الماركسي من النقد لاسيما دعوته إلى قيام البروليتاريا بمهمته التاريخية، هذا المبدأ الخلاصي أبعد ما يكون من النظرة العلمية بل ليس أكثر من تكرار للوعود الدينية.

    قد يفهم مما يقوله موران عن دور العلم وتأكيده على أن الطاقة الذهنية للإنسان معطاء بفتوحاتها المتلاحقة أن الفيلسوف الفرنسي يرفض كل ما لا يتقيد بمبادئ علمية، وفي الحقيقة لا يضيق موران نظرته على زاوية العلم لأن المتخيل مكون متأصل في التشكيلة البشرية لذا إن الأسطورة والدين والأيديولوجيا عبارة عن حقائق لا تقل أهمية من السيرورات الاقتصادية والصراعات الطبقية.

    ومن أهم ما يتوصل إليه موران أن الإنسان على رغم محدوديته فهو كائن حاجته أكثر شمولية ولا حدود لها. وما يجدر بالإشارة أن ما يحتفي به إغار موران في مسيرته المديدة وعراكه مع التحديات الشاقة ليس التمكن في الفلسفة ولا اكتشافه أن كل ما كسبه هو جهل واع بجهله، بل تذوقه للشعر هو صفوة تجربته إذ يعادل لفظ الشعر السعادة في معجمه وتكمن الحالة الشعرية في أساس كل سعادة فهي قلب كل مسرات عابرة أو دائمة والمكان المثالي للعثور على الشعر هو الشارع أو المترو أو يكون في تأمل وجوه الإناث. حسب تعبير موران، ما تستشفه في فكر موران هو مرونته وتعافيه من الجمود والتحجر وبالطبع إن ذلك من مقومات العقلية الكونية.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    كه يلان محمد
    كاتب عراقي
يعمل...
X