شهرزاد الحكاءة ترقى إلى مقام شهرزاد الرحالة
جليلة الطريطر: الرحلة النسائية سردية مؤسسة لتاريخ وعي نسائي حديث
السبت 2024/03/30
المرأة تعامل معاملة القاصر في مجتمع أبوي (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
إن سألنا القراء العرب عن رمز الرحّالة وأشهرهم سيكون دون منازع شخصية السندباد، الذي بات يمثل رمز المغامرة والترحال، وهو شخصية ابتدعتها شخصية أخرى هي شهرزاد، ورغم أن صانعة الرحّالة الأشهر شخصية نسائية فإن العرب لا يقبلون في مخيالهم بوجود امرأة رحّالة، وهذا ما تطمح الكاتبات المعاصرات إلى تغييره.
الرحلة النسائية العربية ظاهرة حديثة، ارتبطت عضويا بتاريخ المرأة العربية وخروجها من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام، وانطلاقا من ذلك كانت أهمية دراسة الباحثة التونسية جليلة الطريطر الأستاذة بجامعة منوبة، حيث تقوم على قراءة وتحليل السرديات الرحلية النسائية في علاقتها العضوية والمتشابكة مع تحديات هوية الجندر التي تعمل، من خلال تفعيل آليات التنشئة الاجتماعية، على الحد من قدرات النساء على تحقيق ذواتهن والمغامرة والسفر بعيدا عن ثوابت عوالم الأنوثة العائلية والمجتمعية؟
لذلك بينت الطريطر منذ البداية أن سفر المرأة، هو أساسا، تأكيد لذاتها أي اختبار مخيف، ولكنه مفيد، وهو إخبار يهتم كثيرا بالتوثيق للمرأة عبر العالم مبئرا مظاهر اغترابها داخل مجتمعاتها على اختلافاتها الثقافية والاجتماعية والحضارية.
وأوضحت في دراستها التي نشرتها دورية “سرود” المغربية المحكمة للعام 2024 أن “تأويل العالم يمر عند الرحالة المرأة باقتناص مظاهر الهيمنة والخلل والاستغلال على حساب القيم الإنسانية العليا، وهي مسألة بينا أنها نتيجة لتموقع النساء تاريخيا في خانة المهمشين والمستضعين في الأرض. الأدب الرحلي النسائي كان بهذا المعنى تشخيصا أكثر من كونه إخبارا”.
المرأة الرحالة
كتابات المرأة لرحلاتها أقرب إلى السرد الروائي منه إلى الإخبار الجاف الذي يقوم على استعراض المرجعيات الرحلية
تعتمد الطريطر قراءة وتحليلا على ثلاثة نصوص رحلية لكل من: نوال السعداوي، ورضوى عاشور وصفية قم التونسية، إلا أن أدب الرحلة النسائية هو ملفوظ ذاتي بامتياز يتشكل داخل مسار سيرذاتي واحد وموحد في خصوصياته المرجعية وتوجهاته السردية التي تجعله أقرب إلى السرد الروائي منه إلى الإخبار الجاف الذي يقوم على استعراض المرجعيات الرحلية الطبيعية والبشرية النمطية في أدب الرحلة الرجالية الكلاسيكية.
تتساءل الطريطر هل يمكن للقارئ العربي أن يفكر بعوالم الرحلة والارتحال والمغامرة دون أن يستحضر السندباد، باعتباره رمزا تراثيا للرحلة والرحالة؟ وفي المقابل هل يمكن لهذا القارئ نفسه أن يتصور شهرزاد خارج إطار الحكي ومغامراتها الكلامية؟ ألا يمكن أن نرى في الأنموذجين صورتين رمزيتين لمأسسة الأدوار الموزعة ـ خارج الفرضية الاعتباطية ـ بين الجنسين ثقافيا؟
لقد انحفر السندباد الرجل في الذاكرة الثقافية ممثلا لعوالم السفر، فهو يصور رحالة على وجه الحقيقة، لأنه متحرك في العالم مكتسح لفضاءاته، دون قيد أو شرط، بل لأنه مجبول على حب السفر والمغامرة، وكأن الحركة في المكان من مقتضيات تكوينه وضرورات مقامه الذكوري، فهو رحالة بالأصالة، في حين تقدم شهرزاد في صورة الحكاءة مقابل الرحالة، فمغامرتها كلامية وأسفارها خيالية، لذلك كانت هي من يروي رحلات السندباد ويحفرها في الذاكرة الثقافية في ألف ليلة وليلة، بل إن شهرزاد مثلت الأنموذج الأول المؤسس لارتقاء المرأة الأنثى إلى مقام الرواية المتكلمة المشكلة لتجربة تخييلية ثرية عن العالم، انطلاقا من تفعيل الملكة التخييلية كتعويض عن استبعادها من ممارسة التجريب في أبعاده الواقعية.
وتتابع “بذلك نكون إزاء تكريس ثنائية اختصاص الرجل/ الذكر بالتجريب الواقعي المولد لديناميكية الرحلة والارتحال، واختصاص المرأة/ الأنثى يقول العالم وتخييله بدلا من تجريبه. ولا شك عندنا في أن الثقافة هنا تنمذج وتجدول ما هو متواضع عليه اجتماعيا، ونقصد الانضباط لهوية الجندر أو النوع الاجتماعي، وتوظيف إكراهاتها الضمنية”.
وتشدد على أن المرأة كانت محددة بهوية الجندر على اعتبار أنها كائن بيتي منذور للزوجية والأمومة، فهي غير مهيأة اجتماعيا لمغادرة الفضاء الخاص (الحريم/ الحرملك عند رضوى عاشور) بل إن الصفات الجندرية التي تمثل جدولها الهووي مثل هشاشتها، وعاطفيتها، وضعف بنيتها وسرعة انفعالها، كلها تقدم على أساس أن المرأة معرضة للوقوع تحت طائلة مخاطر العالم الخارجي، وتشتغل بوصفها موانع مبررة للحفاظ على سلامتها، فضلا عن كونها معرقلات حقيقية تحدد مسلمة عجزها التكويني عن المغامرة وتحمل تبعاتها الخطيرة المتربصة بكل من تقدم على مجرد التفكير فيها.
وترى الطريطر الرحلة مبرمجة ما قبليا في التنشئة الاجتماعية وفي المخيال الثقافي لتكون من نصيب الرحالة في صيغة المذكر، وبذلك نفسر تاريخيا تأخر ظهور المرأة رحالة وراوية لرحلاتها في الواقع الحضاري، فلها أن ترتحل في عوالم خيالها ما عنّ لها الارتحال داخل أطر “الحرملك” المنغلقة عليها انغلاقا، وليس لها أن تتجاوزها ولا حتى أن تفكر في تجاوزها إلى عوالم واقعها القريبة منها، فكيف باعتزامها التوغل في عوالم المجهول والأراضي القصية؟
هل استطاعت المرأة الرحالة أن ترحل فعلا؟
وتقول إنه لا يمكن التحدث تاريخيا عن عوالم المرأة العربية الرحالة إلا بداية من العصر الحديث، وبالخصوص منذ ما ينيف على القرن من الزمن، أي منذ بدايات القرن العشرين تحديدا. وتفسير ذلك يعود من وجهة نظرها إلى عاملين اثنين: دخول المرأة العربية الكاتبة بداية من أواخر القرن التاسع عشر على خط المسار الإصلاحي المنادي بتحرير المرأة العربية من هيمنة هوية الجندر وتبعاتها المخلة بحياة النساء الإنسانية والاجتماعية والثقافية. فقد حصل لدى المصلحات الرائدات من أمثال عائشة التيمورية (1840 ـ 1902)، وهدى شعراوي (1879 ـ 1947) ومي زيادة (1886 ـ 1941) وغيرهن وعي حاد بضرورة رفع الحجب بأنواعها عن المرأة لتكتسب حقها الشرعي والمشروع في الحرية والمساواة مع الرجل.
ومن جهة أخرى نرى أن عامل التعليم من خلال الدعوة إلى تعليم البنات وإرسالهن إلى المدارس كان السبب المباشر لخروج الفتاة منذ سن مبكرة إلى الفضاء العام واستئناسها به، ثم اضطرارها لاحقا إلى الالتحاق بمؤسسات تعليمية خارج مجالها السكني لاستكمال دراستها. هذا العامل سيمثل تدريجيا بدايات ارتقاء المرأة إلى مقام الرحالة داخل وطنها ثم خارجه، ولاسيما في نطاق البعثات الدراسية وارتقاء المرأة بفضل تعلمها إلى تقلد وظائف اجتماعية مرموقة سيجعلها مؤهلة أكثر فأكثر للسفر الخارجي عبر العالم.
وتشير الطريطر إلى أنه يمكن أن نستدل على التجريب الرحلي النسائي الداخلي في سياق السيرة الذاتية خاصة بقصة عائشة عبدالرحمن (1913 ـ 1998) المؤثرة “على الجسر بين الحياة والموت”، أما الرحلة التعليمية فمن أمثلتها البارزة رحلة رضوى عاشور (1946 ـ 2014) إلى أميركا، في حين تمثل سردية نوال السعداوي (1931 ـ 2021) “رحلاتي حول العالم” أنموذج الرحلة المهنية بعد أن صارت المؤلفة طبيبة وتقلدت وظائف مرموقة في هيئات حقوقية عالمية.
ولكن حصل تطور كبير في وضعية المرأة العربية اليوم من شأنه أن جعل العوامل المذكورة انتقالية وغير محددة دائما، فالتونسية صفية قم تروي رحلتها إلى كيب تاون في بو كاب، خربصات في أدب الرحلة، لكونها قررت مصاحبة زوجها الأستاذ الجامعي في سفرة علمية. وهو ما يعني ارتفاع العديد من الموانع الجندرية نسبيا بفضل تغير وضعيات النساء العربيات واكتساحهن للمجال العام.
وهكذا سيتسنى لشهرزاد الحكاءة أن ترقى إلى مقام شهرزاد الرحالة، وأن تصبح حكاءة رحلتها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو إلى أي مدى استطاعت المرأة الرحالة أن ترحل فعلا، أي متحررة من عوائق الجندر التي أضحت تاريخيا ملازمة لكينونتها مترسبة فيها ترسبا؟ وبمعنى آخر، هل كانت المغامرة الرحلية النسائية مشاكلة في مختلف أبعادها المضمونية والأسلوبية لمغامرة الرحالة الرجل؟
سفر المرأة
الباحثة التونسية تقرأ وتحلل السرديات الرحلية النسائية في علاقتها العضوية والمتشابكة مع تحديات هوية الجندر
تلفت الطريطر إلى أنه عند فحص النصوص الرحلية النسائية لا يمكن ألا نتوقف عند قاسم تلفظي مشترك بينها؛ وطأة الجندر في تكييف رحلة النساء، هذه الوطأة نراها تخترق كل الملفوظ الحكائي بدءا من قرار السفر إلى الاستعداد له، وصولا إلى تفاصيل المغامرة السفرية بحد ذاتها، وهي تتشكل في مختلف مكوناتها الرحلية، حيث يتبين أن وطأة الجندر ليست فقط مجموع الأوامر والنواهي والأدوار التي تنشأ المرأة على تقمصها، بل هي أكثر من ذلك؛ نوع من الهاجس المرضي الذي يصاحب المرأة الرحالة حيثما حلت، مثلما يعشش في كيانها الأعمق ويلقي بظلاله القاتمة على حراكها الجسدي والنفساني في الزمان والمكان.
المرأة لا يمكنها أن تحمل حقيبتها وتقرر السفر فتسافر. سفر المرأة حدث مؤسس في مسار حياتها وهو مشروط ومقنن اجتماعيا وقانونيا في العديد من البلدان العربية، وهو ما اصطدمت به نوال السعداوي فحالما وطأت قدماها أرض المطار، وهي الطبيبة الراشدة فاجأها الشرطي بضرورة إثبات موافقة زوجها على مغادرتها للوطن فضلا عن الدولة. فإذا هي ترد بقولها “حملقت في وجهه بدهشة. ربما تقتضي الدكتاتورية أن تمتلك جسدي لكن الزوج؟ هل هو أيضا يمتلك حركة جسمي؟”. ولكنها لم تنج من طائلة القانون إلا من خلال استظهارها بورقة طلاق رسمية، فإذا الشرطي يوافق على تركها تغادر فتشعر أن تلك اللحظة هي بمثابة ولادة ثانية، أي أننا إزاء حدث مؤسس للذات “وغمرني الفرح فقفزت خارج حدود الوطن، كأنما أولد من بطن أمي للمرة الثانية”.
وتوضح الطريطر من خلال هذه الواقعة أن “المرأة تعامل معاملة القاصر في مجتمع أبوي يجعلها ملحقة بإرادة زوج يضرب الحصار على حركتها، لذلك فسفرها مشروط، بل غير وارد إلا في ظروف استثنائية. سفر المرأة ليس قرارا شخصيا حرا، بل هو قرار معقد يظل تحقيقه متأرجحا بين الظن واليقين. وهو يحتاج في كل الحالات إلى تبرير وترخيص. ولكن بعض الاستثناءات يمكنها أن تغير هذا المعطى نسبيا عندما تلتقي إملاءات الجندر بوضعية استثنائية للمرأة”.
وتتابع “التونسية صفية قم تحظى بفرصة اصطحاب زوجها الباحث الجامعي في العديد من رحلاتها، وهي تقدمه بديلا عن صورة الأب التقليدي الذي كان صارما في تربيته لها، ولعله لم يكن ليسمح لها بالسفر لو أنها في غير سياقها الظرفي المذكور تنعم باستكشاف الأمكنة العمومية وارتياد الفضاءات العامة. ويترتب على ذلك ضرب من الشعور بالانفصام بين شخصيتين متباعدتين متعايشتين في نفس المؤلفة المنفلتة من سطوة الأب المتوفي الرمزية، ولكن آثارها المترسبة كانت لا تزال قائمة في بنية وعيها الذاتية. تقول قم ‘أنا غير مصدقة أني هنا بجنوب أفريقيا وتحديدا بأحد مطاعم كيب تاون آكل وأشرب وأتحدث دونما أي حرج! رحمك الله يا والدي أتراك تغضب لو رأيتني الآن في هذا المجلس'”.
وتؤكد أن استبطان الهيمنة الذكورية الأبوية يظل بمثابة شبح يطارد الأنا الأنثوي في حله وترحاله، وهو لم يكن المنغص الوحيد الذي يجعل السفر باعثا على خلخلة التوازن النفسي للمرأة المسافرة بما يجعلها منفصمة الشخصية بين ما تتوق له وما يشدها قيميا إلى موانع وضوابط ما قبلية تحد من إرادتها.
الطريطر تتساءل هل يمكن للقارئ العربي أن يفكر بعوالم الرحلة والارتحال والمغامرة دون أن يستحضر السندباد، باعتباره رمزا تراثيا للرحلة والرحالة؟
رضوى عاشور المتزوجة من الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي (1944 ـ 2021) كانت هي الأخرى منسجمة مع زوجها، إذ شجعها كل التشجيع على السفر إلى أميركا لاستكمال أطروحتها في الأدب الأفرو ـ أميركي بما يدل على تحقيق طفرة نوعية في تغير العلاقات الجندرية، خاصة في وسط بعض الفئات المثقفة، دون تعميم. ولكن رغم تجاوز الأخيرتين لعائق عدم الأهلية، فالنساء الثلاثة كن يستشعرن قوة الروابط العاطفية، وخاصة منها الأمومة باعتبارها عاملا مثبطا لفراق الأهل والأبناء. تعيش المرأة الأم وحتى الزوجة تجربة السفر التي تعني الفراق باعتبارها لحظة مأسوية نفسيا وعاطفيا، إذ تستبطن في هذه الحالة أدوارها الجندرية الأساسية التي نشأت على ضرورة احترامها، فضلا عن متعلقاتها الإنسانية الطبيعية. في مثل هذه الحالة تختلط عاطفة الحب الأمومية بالخوف من الفراق، والخوف من تشويه صورة الأمومة الجندرية الكامنة.
وتكشف الطريطر أن الكتابة الرحلية النسائية تزخر بارتدادات إلى الطفولة تؤكد التحامها بمسار كتابي سيرذاتي متداخل، يفقد الزمن الرحلي هنا استقلاليته الغرضية بما هو تبئير على عوالم الخارج ليتحول إلى وسيط يصل بين ذكريات الماضي وتجارب أزمنة لاحقة، يبقى مدارها المنتظم لتواشجها عضويا هو الأنا الذي يصل الارتحال في الذات بالارتحال في العالم الخارجي، والأنا بالآخر دون خلل يذكر. وهي خصيصة خلافية لا تتماهى مع السرديات الرحلية النمطية لأن الرحلة النسائية مؤسسة لذات مستلبة في حين أن الرحلة الرجالية هي امتداد لذات مركزية صلبة.
وتخلص إلى أن الرحلة النسائية سردية مؤسسة لتاريخ وعي نسائي حديث، يعيد بناء ذاكرته نقديا وثقافيا. وهي رحلة تأكيد لذات تبحث في العالم عن انفتاح مرجعي متنوع تبرهن من خلال غماره بجدارة عن نجاح مسعاها الرحلي الذي يكلل عادة بالعودة المظفرة إلى أرض المنشأ. والظفر هنا بالمعنيين المادي (تحصيل خبرة واسعة بالحياة وتدوينها) والرمزي المتمثل باسترجاع الثقة في كفاءة المرأة وأهليتها، وفي ذلك تقترب الرحلية النسائية من الكتابة السجنية التي هي الشكل الأعسر لتأكيد الذات أيضا. ورغم القوة المرجعية في الرحلة فإننا رأيناها مرنة بما لها من قدرة على التمدد داخل الأطر الاجتماعية وقضاياها العامة، وهو ما يجعلها برهانا آخر على أن رهانات إعادة إنتاج الأنا الأنثوي لم تكن أبدا بمعزل عن تحديات إعادة هيكلة العقليات العربية السائدة والمراهنة على تحديثها في أفق أكثر عدالة وإنسانية.
محمد الحمامصي
كاتب مصري
جليلة الطريطر: الرحلة النسائية سردية مؤسسة لتاريخ وعي نسائي حديث
السبت 2024/03/30
المرأة تعامل معاملة القاصر في مجتمع أبوي (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
إن سألنا القراء العرب عن رمز الرحّالة وأشهرهم سيكون دون منازع شخصية السندباد، الذي بات يمثل رمز المغامرة والترحال، وهو شخصية ابتدعتها شخصية أخرى هي شهرزاد، ورغم أن صانعة الرحّالة الأشهر شخصية نسائية فإن العرب لا يقبلون في مخيالهم بوجود امرأة رحّالة، وهذا ما تطمح الكاتبات المعاصرات إلى تغييره.
الرحلة النسائية العربية ظاهرة حديثة، ارتبطت عضويا بتاريخ المرأة العربية وخروجها من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام، وانطلاقا من ذلك كانت أهمية دراسة الباحثة التونسية جليلة الطريطر الأستاذة بجامعة منوبة، حيث تقوم على قراءة وتحليل السرديات الرحلية النسائية في علاقتها العضوية والمتشابكة مع تحديات هوية الجندر التي تعمل، من خلال تفعيل آليات التنشئة الاجتماعية، على الحد من قدرات النساء على تحقيق ذواتهن والمغامرة والسفر بعيدا عن ثوابت عوالم الأنوثة العائلية والمجتمعية؟
لذلك بينت الطريطر منذ البداية أن سفر المرأة، هو أساسا، تأكيد لذاتها أي اختبار مخيف، ولكنه مفيد، وهو إخبار يهتم كثيرا بالتوثيق للمرأة عبر العالم مبئرا مظاهر اغترابها داخل مجتمعاتها على اختلافاتها الثقافية والاجتماعية والحضارية.
وأوضحت في دراستها التي نشرتها دورية “سرود” المغربية المحكمة للعام 2024 أن “تأويل العالم يمر عند الرحالة المرأة باقتناص مظاهر الهيمنة والخلل والاستغلال على حساب القيم الإنسانية العليا، وهي مسألة بينا أنها نتيجة لتموقع النساء تاريخيا في خانة المهمشين والمستضعين في الأرض. الأدب الرحلي النسائي كان بهذا المعنى تشخيصا أكثر من كونه إخبارا”.
المرأة الرحالة
كتابات المرأة لرحلاتها أقرب إلى السرد الروائي منه إلى الإخبار الجاف الذي يقوم على استعراض المرجعيات الرحلية
تعتمد الطريطر قراءة وتحليلا على ثلاثة نصوص رحلية لكل من: نوال السعداوي، ورضوى عاشور وصفية قم التونسية، إلا أن أدب الرحلة النسائية هو ملفوظ ذاتي بامتياز يتشكل داخل مسار سيرذاتي واحد وموحد في خصوصياته المرجعية وتوجهاته السردية التي تجعله أقرب إلى السرد الروائي منه إلى الإخبار الجاف الذي يقوم على استعراض المرجعيات الرحلية الطبيعية والبشرية النمطية في أدب الرحلة الرجالية الكلاسيكية.
تتساءل الطريطر هل يمكن للقارئ العربي أن يفكر بعوالم الرحلة والارتحال والمغامرة دون أن يستحضر السندباد، باعتباره رمزا تراثيا للرحلة والرحالة؟ وفي المقابل هل يمكن لهذا القارئ نفسه أن يتصور شهرزاد خارج إطار الحكي ومغامراتها الكلامية؟ ألا يمكن أن نرى في الأنموذجين صورتين رمزيتين لمأسسة الأدوار الموزعة ـ خارج الفرضية الاعتباطية ـ بين الجنسين ثقافيا؟
لقد انحفر السندباد الرجل في الذاكرة الثقافية ممثلا لعوالم السفر، فهو يصور رحالة على وجه الحقيقة، لأنه متحرك في العالم مكتسح لفضاءاته، دون قيد أو شرط، بل لأنه مجبول على حب السفر والمغامرة، وكأن الحركة في المكان من مقتضيات تكوينه وضرورات مقامه الذكوري، فهو رحالة بالأصالة، في حين تقدم شهرزاد في صورة الحكاءة مقابل الرحالة، فمغامرتها كلامية وأسفارها خيالية، لذلك كانت هي من يروي رحلات السندباد ويحفرها في الذاكرة الثقافية في ألف ليلة وليلة، بل إن شهرزاد مثلت الأنموذج الأول المؤسس لارتقاء المرأة الأنثى إلى مقام الرواية المتكلمة المشكلة لتجربة تخييلية ثرية عن العالم، انطلاقا من تفعيل الملكة التخييلية كتعويض عن استبعادها من ممارسة التجريب في أبعاده الواقعية.
وتتابع “بذلك نكون إزاء تكريس ثنائية اختصاص الرجل/ الذكر بالتجريب الواقعي المولد لديناميكية الرحلة والارتحال، واختصاص المرأة/ الأنثى يقول العالم وتخييله بدلا من تجريبه. ولا شك عندنا في أن الثقافة هنا تنمذج وتجدول ما هو متواضع عليه اجتماعيا، ونقصد الانضباط لهوية الجندر أو النوع الاجتماعي، وتوظيف إكراهاتها الضمنية”.
وتشدد على أن المرأة كانت محددة بهوية الجندر على اعتبار أنها كائن بيتي منذور للزوجية والأمومة، فهي غير مهيأة اجتماعيا لمغادرة الفضاء الخاص (الحريم/ الحرملك عند رضوى عاشور) بل إن الصفات الجندرية التي تمثل جدولها الهووي مثل هشاشتها، وعاطفيتها، وضعف بنيتها وسرعة انفعالها، كلها تقدم على أساس أن المرأة معرضة للوقوع تحت طائلة مخاطر العالم الخارجي، وتشتغل بوصفها موانع مبررة للحفاظ على سلامتها، فضلا عن كونها معرقلات حقيقية تحدد مسلمة عجزها التكويني عن المغامرة وتحمل تبعاتها الخطيرة المتربصة بكل من تقدم على مجرد التفكير فيها.
وترى الطريطر الرحلة مبرمجة ما قبليا في التنشئة الاجتماعية وفي المخيال الثقافي لتكون من نصيب الرحالة في صيغة المذكر، وبذلك نفسر تاريخيا تأخر ظهور المرأة رحالة وراوية لرحلاتها في الواقع الحضاري، فلها أن ترتحل في عوالم خيالها ما عنّ لها الارتحال داخل أطر “الحرملك” المنغلقة عليها انغلاقا، وليس لها أن تتجاوزها ولا حتى أن تفكر في تجاوزها إلى عوالم واقعها القريبة منها، فكيف باعتزامها التوغل في عوالم المجهول والأراضي القصية؟
هل استطاعت المرأة الرحالة أن ترحل فعلا؟
وتقول إنه لا يمكن التحدث تاريخيا عن عوالم المرأة العربية الرحالة إلا بداية من العصر الحديث، وبالخصوص منذ ما ينيف على القرن من الزمن، أي منذ بدايات القرن العشرين تحديدا. وتفسير ذلك يعود من وجهة نظرها إلى عاملين اثنين: دخول المرأة العربية الكاتبة بداية من أواخر القرن التاسع عشر على خط المسار الإصلاحي المنادي بتحرير المرأة العربية من هيمنة هوية الجندر وتبعاتها المخلة بحياة النساء الإنسانية والاجتماعية والثقافية. فقد حصل لدى المصلحات الرائدات من أمثال عائشة التيمورية (1840 ـ 1902)، وهدى شعراوي (1879 ـ 1947) ومي زيادة (1886 ـ 1941) وغيرهن وعي حاد بضرورة رفع الحجب بأنواعها عن المرأة لتكتسب حقها الشرعي والمشروع في الحرية والمساواة مع الرجل.
ومن جهة أخرى نرى أن عامل التعليم من خلال الدعوة إلى تعليم البنات وإرسالهن إلى المدارس كان السبب المباشر لخروج الفتاة منذ سن مبكرة إلى الفضاء العام واستئناسها به، ثم اضطرارها لاحقا إلى الالتحاق بمؤسسات تعليمية خارج مجالها السكني لاستكمال دراستها. هذا العامل سيمثل تدريجيا بدايات ارتقاء المرأة إلى مقام الرحالة داخل وطنها ثم خارجه، ولاسيما في نطاق البعثات الدراسية وارتقاء المرأة بفضل تعلمها إلى تقلد وظائف اجتماعية مرموقة سيجعلها مؤهلة أكثر فأكثر للسفر الخارجي عبر العالم.
وتشير الطريطر إلى أنه يمكن أن نستدل على التجريب الرحلي النسائي الداخلي في سياق السيرة الذاتية خاصة بقصة عائشة عبدالرحمن (1913 ـ 1998) المؤثرة “على الجسر بين الحياة والموت”، أما الرحلة التعليمية فمن أمثلتها البارزة رحلة رضوى عاشور (1946 ـ 2014) إلى أميركا، في حين تمثل سردية نوال السعداوي (1931 ـ 2021) “رحلاتي حول العالم” أنموذج الرحلة المهنية بعد أن صارت المؤلفة طبيبة وتقلدت وظائف مرموقة في هيئات حقوقية عالمية.
ولكن حصل تطور كبير في وضعية المرأة العربية اليوم من شأنه أن جعل العوامل المذكورة انتقالية وغير محددة دائما، فالتونسية صفية قم تروي رحلتها إلى كيب تاون في بو كاب، خربصات في أدب الرحلة، لكونها قررت مصاحبة زوجها الأستاذ الجامعي في سفرة علمية. وهو ما يعني ارتفاع العديد من الموانع الجندرية نسبيا بفضل تغير وضعيات النساء العربيات واكتساحهن للمجال العام.
وهكذا سيتسنى لشهرزاد الحكاءة أن ترقى إلى مقام شهرزاد الرحالة، وأن تصبح حكاءة رحلتها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو إلى أي مدى استطاعت المرأة الرحالة أن ترحل فعلا، أي متحررة من عوائق الجندر التي أضحت تاريخيا ملازمة لكينونتها مترسبة فيها ترسبا؟ وبمعنى آخر، هل كانت المغامرة الرحلية النسائية مشاكلة في مختلف أبعادها المضمونية والأسلوبية لمغامرة الرحالة الرجل؟
سفر المرأة
الباحثة التونسية تقرأ وتحلل السرديات الرحلية النسائية في علاقتها العضوية والمتشابكة مع تحديات هوية الجندر
تلفت الطريطر إلى أنه عند فحص النصوص الرحلية النسائية لا يمكن ألا نتوقف عند قاسم تلفظي مشترك بينها؛ وطأة الجندر في تكييف رحلة النساء، هذه الوطأة نراها تخترق كل الملفوظ الحكائي بدءا من قرار السفر إلى الاستعداد له، وصولا إلى تفاصيل المغامرة السفرية بحد ذاتها، وهي تتشكل في مختلف مكوناتها الرحلية، حيث يتبين أن وطأة الجندر ليست فقط مجموع الأوامر والنواهي والأدوار التي تنشأ المرأة على تقمصها، بل هي أكثر من ذلك؛ نوع من الهاجس المرضي الذي يصاحب المرأة الرحالة حيثما حلت، مثلما يعشش في كيانها الأعمق ويلقي بظلاله القاتمة على حراكها الجسدي والنفساني في الزمان والمكان.
المرأة لا يمكنها أن تحمل حقيبتها وتقرر السفر فتسافر. سفر المرأة حدث مؤسس في مسار حياتها وهو مشروط ومقنن اجتماعيا وقانونيا في العديد من البلدان العربية، وهو ما اصطدمت به نوال السعداوي فحالما وطأت قدماها أرض المطار، وهي الطبيبة الراشدة فاجأها الشرطي بضرورة إثبات موافقة زوجها على مغادرتها للوطن فضلا عن الدولة. فإذا هي ترد بقولها “حملقت في وجهه بدهشة. ربما تقتضي الدكتاتورية أن تمتلك جسدي لكن الزوج؟ هل هو أيضا يمتلك حركة جسمي؟”. ولكنها لم تنج من طائلة القانون إلا من خلال استظهارها بورقة طلاق رسمية، فإذا الشرطي يوافق على تركها تغادر فتشعر أن تلك اللحظة هي بمثابة ولادة ثانية، أي أننا إزاء حدث مؤسس للذات “وغمرني الفرح فقفزت خارج حدود الوطن، كأنما أولد من بطن أمي للمرة الثانية”.
وتوضح الطريطر من خلال هذه الواقعة أن “المرأة تعامل معاملة القاصر في مجتمع أبوي يجعلها ملحقة بإرادة زوج يضرب الحصار على حركتها، لذلك فسفرها مشروط، بل غير وارد إلا في ظروف استثنائية. سفر المرأة ليس قرارا شخصيا حرا، بل هو قرار معقد يظل تحقيقه متأرجحا بين الظن واليقين. وهو يحتاج في كل الحالات إلى تبرير وترخيص. ولكن بعض الاستثناءات يمكنها أن تغير هذا المعطى نسبيا عندما تلتقي إملاءات الجندر بوضعية استثنائية للمرأة”.
وتتابع “التونسية صفية قم تحظى بفرصة اصطحاب زوجها الباحث الجامعي في العديد من رحلاتها، وهي تقدمه بديلا عن صورة الأب التقليدي الذي كان صارما في تربيته لها، ولعله لم يكن ليسمح لها بالسفر لو أنها في غير سياقها الظرفي المذكور تنعم باستكشاف الأمكنة العمومية وارتياد الفضاءات العامة. ويترتب على ذلك ضرب من الشعور بالانفصام بين شخصيتين متباعدتين متعايشتين في نفس المؤلفة المنفلتة من سطوة الأب المتوفي الرمزية، ولكن آثارها المترسبة كانت لا تزال قائمة في بنية وعيها الذاتية. تقول قم ‘أنا غير مصدقة أني هنا بجنوب أفريقيا وتحديدا بأحد مطاعم كيب تاون آكل وأشرب وأتحدث دونما أي حرج! رحمك الله يا والدي أتراك تغضب لو رأيتني الآن في هذا المجلس'”.
وتؤكد أن استبطان الهيمنة الذكورية الأبوية يظل بمثابة شبح يطارد الأنا الأنثوي في حله وترحاله، وهو لم يكن المنغص الوحيد الذي يجعل السفر باعثا على خلخلة التوازن النفسي للمرأة المسافرة بما يجعلها منفصمة الشخصية بين ما تتوق له وما يشدها قيميا إلى موانع وضوابط ما قبلية تحد من إرادتها.
الطريطر تتساءل هل يمكن للقارئ العربي أن يفكر بعوالم الرحلة والارتحال والمغامرة دون أن يستحضر السندباد، باعتباره رمزا تراثيا للرحلة والرحالة؟
رضوى عاشور المتزوجة من الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي (1944 ـ 2021) كانت هي الأخرى منسجمة مع زوجها، إذ شجعها كل التشجيع على السفر إلى أميركا لاستكمال أطروحتها في الأدب الأفرو ـ أميركي بما يدل على تحقيق طفرة نوعية في تغير العلاقات الجندرية، خاصة في وسط بعض الفئات المثقفة، دون تعميم. ولكن رغم تجاوز الأخيرتين لعائق عدم الأهلية، فالنساء الثلاثة كن يستشعرن قوة الروابط العاطفية، وخاصة منها الأمومة باعتبارها عاملا مثبطا لفراق الأهل والأبناء. تعيش المرأة الأم وحتى الزوجة تجربة السفر التي تعني الفراق باعتبارها لحظة مأسوية نفسيا وعاطفيا، إذ تستبطن في هذه الحالة أدوارها الجندرية الأساسية التي نشأت على ضرورة احترامها، فضلا عن متعلقاتها الإنسانية الطبيعية. في مثل هذه الحالة تختلط عاطفة الحب الأمومية بالخوف من الفراق، والخوف من تشويه صورة الأمومة الجندرية الكامنة.
وتكشف الطريطر أن الكتابة الرحلية النسائية تزخر بارتدادات إلى الطفولة تؤكد التحامها بمسار كتابي سيرذاتي متداخل، يفقد الزمن الرحلي هنا استقلاليته الغرضية بما هو تبئير على عوالم الخارج ليتحول إلى وسيط يصل بين ذكريات الماضي وتجارب أزمنة لاحقة، يبقى مدارها المنتظم لتواشجها عضويا هو الأنا الذي يصل الارتحال في الذات بالارتحال في العالم الخارجي، والأنا بالآخر دون خلل يذكر. وهي خصيصة خلافية لا تتماهى مع السرديات الرحلية النمطية لأن الرحلة النسائية مؤسسة لذات مستلبة في حين أن الرحلة الرجالية هي امتداد لذات مركزية صلبة.
وتخلص إلى أن الرحلة النسائية سردية مؤسسة لتاريخ وعي نسائي حديث، يعيد بناء ذاكرته نقديا وثقافيا. وهي رحلة تأكيد لذات تبحث في العالم عن انفتاح مرجعي متنوع تبرهن من خلال غماره بجدارة عن نجاح مسعاها الرحلي الذي يكلل عادة بالعودة المظفرة إلى أرض المنشأ. والظفر هنا بالمعنيين المادي (تحصيل خبرة واسعة بالحياة وتدوينها) والرمزي المتمثل باسترجاع الثقة في كفاءة المرأة وأهليتها، وفي ذلك تقترب الرحلية النسائية من الكتابة السجنية التي هي الشكل الأعسر لتأكيد الذات أيضا. ورغم القوة المرجعية في الرحلة فإننا رأيناها مرنة بما لها من قدرة على التمدد داخل الأطر الاجتماعية وقضاياها العامة، وهو ما يجعلها برهانا آخر على أن رهانات إعادة إنتاج الأنا الأنثوي لم تكن أبدا بمعزل عن تحديات إعادة هيكلة العقليات العربية السائدة والمراهنة على تحديثها في أفق أكثر عدالة وإنسانية.
محمد الحمامصي
كاتب مصري