الحب كمحرض إبداعي ومصدر للإلهام
تجلياته الخلاقة رفدت الأدب والفن بالكثير من الأعمال
تورغينيف
نُشر: 16:48-26 مارس 2024 م ـ 16 رَمضان 1445 هـ
TTليس بالأمر المستغرب أن يكون الحب ببعديه الجسدي والروحي أحد المناجم التي لا تنضب للإبداع، وأن يرفد الشعر والأدب عبر التاريخ بأكثر النصوص صلةً باضطرام القلب والشغف المحموم والتوهج التعبيري. وسواء كان إيروس طاقةً منبثقةً من الداخل الإنساني، كما ذهب البعض كهوميروس وفرويد، أو كان وحياً يرمي بسهامه الجارحة أناساً بعينهم، كما ذهب آخرون، فإن هذا الخليط الغريب من العسل والسم، كان ولا يزال قادراً على حقن متعاطيه بقدر غير قليل من أمصال الكتابة والتخييل والخلق الفني. وهو أمر تعود أسبابه إلى السلطة المطلقة للمعشوق، الذي لا يترك لعاشقه المتوله سوى اللجوء إلى الإفصاح عما يعتمل في أحشائه من المشاعر الجياشة، وأن يحول الآخر الذي تعذر امتلاكه إلى مُنادى بعيد في برية الفقدان.
وإذا كان فرويد قد ربط بشكل وثيق بين الحب والدافع الجنسي، فإنه أكد في الوقت ذاته على أن جزءاً غير قليل من نيران الرغبات العشقية يمكن «تصريفه» بواسطة الأنا الأعلى عبر الأدب والفن وسائر ضروب الإبداع. وقد استعان فرويد لإثبات بعض مقولاته في التحليل النفسي واللاوعي بروايات دوستويفسكي. وفي إثباته لعقدة أوديب لجأ إلى هوميروس، كما لجأ في أماكن أخرى إلى شكسبير، وإلى شخصية هاملت على وجه الخصوص.
ومع أن علاقة الحب الطبيعية هي علاقة تبادلية تتم على المستويين العاطفي والجسدي بين شخصين اثنين، فإن العاشق وفق رولان بارت هو وحده الذي يتكلم ويناجي نفسه، أما المعشوق فلا ينبس ببنت شفة. ولأنه في حالات الاستعصاء والتعذر، كما في «آلام فرتر» لغوته، مرصود للترحال والهرب والهجرة الأبدية، فإن العاشق الثابت والذاهل عن كل ما عداه، لا يجد وسيلة ناجعة لجمع شتات نفسه سوى اللغة، باعتبارها ربيبة الانتظار العقيم، وثمرة الغياب الأشهى.
رولان بارت
وإذ يرى بارت أن الحب يجعل كلاً من المرأة والرجل جلداً للآخر، في تماهٍ لافت مع الآية القرآنية الكريمة «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، يذهب بالمقابل إلى أن اللغة في حالات الشغف القصوى، تتحول هي نفسها إلى جلد بديل. «إنني أحكّ لغتي بالآخر كما لو أن الكلمات هي الأصابع البديلة للملامسة»، يقول صاحب «شذرات من خطاب في العشق»، ليضيف قائلاً بأن العاشق المسكون بعفريت اللغة، يؤثر أن يتحول إلى كائن مازوشي مطرود من فردوس العلاقة العشقية، لتصبح الكتابة عن الحب المنتهي نوعاً من قيام المريض بتنظيم الحداد على معالجه النفسي. وفي حالات التأزم القصوى تصبح اللغة «شبيهة بصرخة عاتية خارجة من اللحد الذي لم يُحْكم إغلاقه».
ولم ينكر الشعراء والفنانون العشاق ما للنساء اللواتي أوقعونهم في شرك سحرهن من تأثير بالغ على إنجازهم الأدبي والفني، الذي كان من دون الحب سيفقد الكثير من طاقته وشحناته العصبية والتعبيرية. ففي حين يعترف شوبان بأن وجود جورج صاند إلى جانبه هو الذي جعل ألحانه تندفع بقوة من أعماق روحه، يؤكد سورين كيركغارد أن الحب دون سواه هو ما منح المعنى لحياته ولإبداعه، ثم يضيف ما حرفيته «إن نشاطي ككاتب يعود إلى المرأة التي أحببتها، بما جعل حياتي برمتها أشبه بالجبل المشيد على شرفها ومجدها وسأحمله معي في التاريخ. إنني لا أملك سوى رغبتي في أن أسحرها، ولهذا أنصحكم أن تجربوا الحب، لأنه مركز الوجود، وما يمنح الطبيعة الإنسانية تناغماً لا يُمحى».
فرويد
ومع ذلك فإن كيركغارد، الذي شكلت خطيبته ريجين أولسن المصدر الأهم لكتاباته، لم يتورع رغم تعلقه الشديد بها، عن الانفصال عنها بشكل مفاجئ ومؤلم، لتقترن بعد يأسها منه بخصمه اللدود فريدريك شليغل. ولم يكن السبب في ذلك تبدلاً في عواطف الفيلسوف الوجودي إزاء أولسن، بل كان رفضه الاقتران بها ناجماً عن خوفه من الرزوح تحت وطأة المؤسسة الزوجية، ورتابتها المفضية إلى نضوب مناجم إلهامه، شأنه في ذلك شأن المئات من الفلاسفة والكتّاب الآخرين.
على أن في الجانب الآخر من المعادلة، من جعل الحياة هدفه الأول، وقدّم الحب على الكتابة، كما فعل الكاتب الروسي إيفان تورغينيف. فقد أسرّ صاحبُ «الآباء والبنون»، الذي أحب مغنية الأوبرا المتزوجة بولين فياردو، ولم يتردد في ملازمته لها طيلة حياته دون أن يمسها، لصديقه فلوبير، بأن الحب لا الكتابة هو أولويته الحاسمة وعلة وجوده الأسمى. ثم تابع اعترافاته قائلاً «لو خُيّرتُ بين أن أصبح أعظم عبقري في العالم، أو أن أصبح بواباً أمام بيت بولين، لفضلتُ أن أكون بواباً على أن أكون عبقرياً».
وإذا كان تورغينيف يعلن انتصاره للواقع على اللغة وللحياة على الفن، فإن موقفه ذاك قد يكون ناجماً عن رغبته المقموعة في امتلاك المرأة التي شغف بها، بعد أن رفضت بولين إخراج علاقتهما العاطفية من سياقها الروحي، أو التضحية بزواجها من أجله. ومن حق المرء أن يتساءل عما إذا كان موقف تورغينيف سيظل هو نفسه لو أنه حقق رغبته بالزواج من بولين. فاللغة الخلاقة لا تنبت في الأعم الأغلب إلا في تربة الحرمان، وكثيراً ما تحضر بوصفها نائب الفاعل، أو البديل الرمزي عن الحياة المتحققة.
«إن الشفاه تغني حين تعجز عن التقبيل»، يقول أحد المفكرين. ولم يكن جاك لاكان بعيداً عن هذا المبدأ حين اعتبر أن فطام الفم الطفولي عن الثدي الذي يرضعه هو الشرط الأهم لتحريره وتمكينه من النطق. وإذ يصبح العشق نوعاً من النكوص الارتدادي باتجاه الطفولة، يشترك الطفل والشاعر العاشق في تحويل الكلام إلى طريقة مثلى لطلب الإشباع. وهو ما يفسر «لهج» الأول المتكرر باسم الأم غير القادرة، أو غير الراغبة بسدّ جوعه، والثاني باسم الحبيبة الغائبة والممعنة في الصدود والتمنع.
تجلياته الخلاقة رفدت الأدب والفن بالكثير من الأعمال
تورغينيف
نُشر: 16:48-26 مارس 2024 م ـ 16 رَمضان 1445 هـ
TTليس بالأمر المستغرب أن يكون الحب ببعديه الجسدي والروحي أحد المناجم التي لا تنضب للإبداع، وأن يرفد الشعر والأدب عبر التاريخ بأكثر النصوص صلةً باضطرام القلب والشغف المحموم والتوهج التعبيري. وسواء كان إيروس طاقةً منبثقةً من الداخل الإنساني، كما ذهب البعض كهوميروس وفرويد، أو كان وحياً يرمي بسهامه الجارحة أناساً بعينهم، كما ذهب آخرون، فإن هذا الخليط الغريب من العسل والسم، كان ولا يزال قادراً على حقن متعاطيه بقدر غير قليل من أمصال الكتابة والتخييل والخلق الفني. وهو أمر تعود أسبابه إلى السلطة المطلقة للمعشوق، الذي لا يترك لعاشقه المتوله سوى اللجوء إلى الإفصاح عما يعتمل في أحشائه من المشاعر الجياشة، وأن يحول الآخر الذي تعذر امتلاكه إلى مُنادى بعيد في برية الفقدان.
وإذا كان فرويد قد ربط بشكل وثيق بين الحب والدافع الجنسي، فإنه أكد في الوقت ذاته على أن جزءاً غير قليل من نيران الرغبات العشقية يمكن «تصريفه» بواسطة الأنا الأعلى عبر الأدب والفن وسائر ضروب الإبداع. وقد استعان فرويد لإثبات بعض مقولاته في التحليل النفسي واللاوعي بروايات دوستويفسكي. وفي إثباته لعقدة أوديب لجأ إلى هوميروس، كما لجأ في أماكن أخرى إلى شكسبير، وإلى شخصية هاملت على وجه الخصوص.
ومع أن علاقة الحب الطبيعية هي علاقة تبادلية تتم على المستويين العاطفي والجسدي بين شخصين اثنين، فإن العاشق وفق رولان بارت هو وحده الذي يتكلم ويناجي نفسه، أما المعشوق فلا ينبس ببنت شفة. ولأنه في حالات الاستعصاء والتعذر، كما في «آلام فرتر» لغوته، مرصود للترحال والهرب والهجرة الأبدية، فإن العاشق الثابت والذاهل عن كل ما عداه، لا يجد وسيلة ناجعة لجمع شتات نفسه سوى اللغة، باعتبارها ربيبة الانتظار العقيم، وثمرة الغياب الأشهى.
رولان بارت
وإذ يرى بارت أن الحب يجعل كلاً من المرأة والرجل جلداً للآخر، في تماهٍ لافت مع الآية القرآنية الكريمة «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، يذهب بالمقابل إلى أن اللغة في حالات الشغف القصوى، تتحول هي نفسها إلى جلد بديل. «إنني أحكّ لغتي بالآخر كما لو أن الكلمات هي الأصابع البديلة للملامسة»، يقول صاحب «شذرات من خطاب في العشق»، ليضيف قائلاً بأن العاشق المسكون بعفريت اللغة، يؤثر أن يتحول إلى كائن مازوشي مطرود من فردوس العلاقة العشقية، لتصبح الكتابة عن الحب المنتهي نوعاً من قيام المريض بتنظيم الحداد على معالجه النفسي. وفي حالات التأزم القصوى تصبح اللغة «شبيهة بصرخة عاتية خارجة من اللحد الذي لم يُحْكم إغلاقه».
ولم ينكر الشعراء والفنانون العشاق ما للنساء اللواتي أوقعونهم في شرك سحرهن من تأثير بالغ على إنجازهم الأدبي والفني، الذي كان من دون الحب سيفقد الكثير من طاقته وشحناته العصبية والتعبيرية. ففي حين يعترف شوبان بأن وجود جورج صاند إلى جانبه هو الذي جعل ألحانه تندفع بقوة من أعماق روحه، يؤكد سورين كيركغارد أن الحب دون سواه هو ما منح المعنى لحياته ولإبداعه، ثم يضيف ما حرفيته «إن نشاطي ككاتب يعود إلى المرأة التي أحببتها، بما جعل حياتي برمتها أشبه بالجبل المشيد على شرفها ومجدها وسأحمله معي في التاريخ. إنني لا أملك سوى رغبتي في أن أسحرها، ولهذا أنصحكم أن تجربوا الحب، لأنه مركز الوجود، وما يمنح الطبيعة الإنسانية تناغماً لا يُمحى».
فرويد
ومع ذلك فإن كيركغارد، الذي شكلت خطيبته ريجين أولسن المصدر الأهم لكتاباته، لم يتورع رغم تعلقه الشديد بها، عن الانفصال عنها بشكل مفاجئ ومؤلم، لتقترن بعد يأسها منه بخصمه اللدود فريدريك شليغل. ولم يكن السبب في ذلك تبدلاً في عواطف الفيلسوف الوجودي إزاء أولسن، بل كان رفضه الاقتران بها ناجماً عن خوفه من الرزوح تحت وطأة المؤسسة الزوجية، ورتابتها المفضية إلى نضوب مناجم إلهامه، شأنه في ذلك شأن المئات من الفلاسفة والكتّاب الآخرين.
على أن في الجانب الآخر من المعادلة، من جعل الحياة هدفه الأول، وقدّم الحب على الكتابة، كما فعل الكاتب الروسي إيفان تورغينيف. فقد أسرّ صاحبُ «الآباء والبنون»، الذي أحب مغنية الأوبرا المتزوجة بولين فياردو، ولم يتردد في ملازمته لها طيلة حياته دون أن يمسها، لصديقه فلوبير، بأن الحب لا الكتابة هو أولويته الحاسمة وعلة وجوده الأسمى. ثم تابع اعترافاته قائلاً «لو خُيّرتُ بين أن أصبح أعظم عبقري في العالم، أو أن أصبح بواباً أمام بيت بولين، لفضلتُ أن أكون بواباً على أن أكون عبقرياً».
وإذا كان تورغينيف يعلن انتصاره للواقع على اللغة وللحياة على الفن، فإن موقفه ذاك قد يكون ناجماً عن رغبته المقموعة في امتلاك المرأة التي شغف بها، بعد أن رفضت بولين إخراج علاقتهما العاطفية من سياقها الروحي، أو التضحية بزواجها من أجله. ومن حق المرء أن يتساءل عما إذا كان موقف تورغينيف سيظل هو نفسه لو أنه حقق رغبته بالزواج من بولين. فاللغة الخلاقة لا تنبت في الأعم الأغلب إلا في تربة الحرمان، وكثيراً ما تحضر بوصفها نائب الفاعل، أو البديل الرمزي عن الحياة المتحققة.
«إن الشفاه تغني حين تعجز عن التقبيل»، يقول أحد المفكرين. ولم يكن جاك لاكان بعيداً عن هذا المبدأ حين اعتبر أن فطام الفم الطفولي عن الثدي الذي يرضعه هو الشرط الأهم لتحريره وتمكينه من النطق. وإذ يصبح العشق نوعاً من النكوص الارتدادي باتجاه الطفولة، يشترك الطفل والشاعر العاشق في تحويل الكلام إلى طريقة مثلى لطلب الإشباع. وهو ما يفسر «لهج» الأول المتكرر باسم الأم غير القادرة، أو غير الراغبة بسدّ جوعه، والثاني باسم الحبيبة الغائبة والممعنة في الصدود والتمنع.
تعليق