المدن الصناعية
كانت المدن في العالم كله تنمو وتتغير تدريجيًا لحوالي 300 سنة خلت بعد القرون الوسطى. لكن النمط الأساسي للمدن ولحياة المدينة ظل كما هو. وخلال القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلاديين، وهي فترة الثورة الصناعية تغيرت كثير من المدن في أوروبا وأمريكا الشمالية تغيرًا كبيرًا، وأصبحت هذه المجتمعات التي تسمى المدن الصناعية مراكز كبيرة للتصنيع. وقد نتج هذا الرواج الصناعي أساسًا من اختراع الآلات التي تقوم بعمل كثير من الناس، ومن قوة البخار التي تحرك الآلات. وكانت الحياة في المدن الصناعية تتركز حول المصانع حيث يتم التصنيع. وكان معظم الناس في هذه المدن يعملون بالمصانع، ويعيشون بالقرب منها، ويعتمدون عليها كليًا في اكتساب معيشتهم. وأخذت الأحوال المعيشية بالمدن الصناعية تتحسن تدريجيًا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين، لكن عندما بدأت الثورة الصناعية كان معظم الناس مكدودين جائعين يسكنون بأفقر المساكن، معرضين لخطر الموت والمرض. ★ تَصَفح: الثورة الصناعية.
لم يكن للثورة الصناعية أثر مباشر على المدن التي تقع خارج أوروبا وأمريكا الشمالية. وقد أصبحت بعض المدن الإفريقية والآسيوية والأسترالية، ومدن أمريكا الجنوبية، صناعية في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين الميلاديين، ولم تحظ غيرها بذلك أبدًا.
الوصف:
تطورت بعض المدن الصناعية عن مدن القرون الوسطى. عندما تصبح المدن مزدحمة جدًا، كانوا يحطمون الأسوار لتتوسع المدينة، وتنشأ مدن صناعية أخرى، حيث يكون هناك حصن، ونقطة تجارية، وقرية أو أرض مفتوحة. وحصل التطور في المناطق المفتوحة بصورة عامة في أمريكا الشمالية، التي لم يكن بها مدن بالعصور الوسطى. ويقوم المصنع أو مجموعة المصانع بالقرب من وسط المدينة الصناعية. وتقوم حولها المنازل البسيطة والمباني ذات الشقق التي كان يسكنها الفقراء. ولم يكن الفقراء يملكون وسائل للمواصلات، لذلك كان عليهم أن يعيشوا على مسافة قريبة من عملهم. وكان كثير من الأغنياء، بمن فيهم التجار وملاك المصانع، يبنون بيوتًا كبيرة في أجزاء المدينة الخارجية، ويملكون عربات تجرها الخيول كانت تقلهم إلى المنطقة المركزية ذهابًا وإيابًا. وهذا النمط من العيش بدّل تمامًا ذلك الذي كان بالمدن السابقة. فقد كان معظم الأغنياء في المدن القديمة خلال القرون الوسطى، يعيشون في وسط المدينة، بينما كان يعيش الفقراء في القطاعات الخارجية. وكان بالمدن الصناعية مشاكل صحية شبيهة بالمشاكل التي كانت بالمدن الباكرة. فقد ولّدت القاذورات والنفايات الأخرى أخطارًا صحية بسبب نظام المرافق الصحية غير المناسب، بالإضافة إلى مشكلة جديدة هي أن تلوث المصانع سبب خطرًا صحيًا. فقد لوثت المصانع الممرات المائية بالنفايات الكيميائية، ولوثت الجو بالغازات الضارة، وخلفت أيضًا أكوام القاذورات، والمعادن الصدئة، والنفايات الأخرى.
إن النمط المتقاطع في تصميم مباني المدينة، والذي ظل مشهورًا إلى اليوم استُخدم على نطاق واسع في المدن الصناعية. وفي ظل هذا النمط يُفصل بين المباني بفتحات متساوية على نحو ما، بينما تشكل مجموعات منها كتلاً مستطيلة. وتفصل الشوارع ـ التي تكون عامة بنفس العرض ـ المباني بعضها عن بعض، وقد كان لكثير من المدن الأولى ترتيب غير منظم للمباني، وطرق متعرجة كثيرة. وقد ساعد النمط المنتظم على امتداد المدن في أي اتجاه، كما أعطى المدينة مظهرًا منتظمًا.
السكان:
ازداد عدد سكان المدينة كثيرًا خلال الثورة الصناعية لسببين أساسيين: أولاً، لأن عدد سكان العالم كان يزداد أسرع من ذي قبل، وثانيًا، لأن التحسينات التي أدخلت في أساليب الزراعة قد قلصت الحاجة إلى عمال المزارع. وتسرب هؤلاء العمال إلى المدن وعملوا بالمصانع. وتعد ُّمانشستر بإنجلترا، وشيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، خير مثالين على تطور المدن الصناعية الهائل. زاد عدد سكان مانشستر من 6,000 في سنة 1685م إلى حوالي 303,000 في سنة 1851م. وقفز عدد سكان شيكاغو من حوالي 4,000 في سنة 1840م إلى أكثر من مليون نسمة في سنة 1890م. عانى معظم سكان المدن من الظروف القاسية في السنوات الأولى للثورة الصناعية. كان الرجال والنساء وكثير من الأطفال يعملون لأكثر من 12 ساعة في اليوم بمصانع مظلمة قذرة، وكانوا يقومون بأعمال مملة وشاقة، كمتابعة آلة أو حمل مواد ثقيلة. وقد كان للمصانع قليل من قوانين السلامة، إذ قتلت الحوادث أو آذت عمالاً كثيرين. والعمال لا يحصلون من الأجر إلا على ما يسد رمقهم ومن يعولون.
وخلال الكساد الاقتصادي، سرََّّحت المصانع أعدادًا ضخمة من العمال، الذين لم تكن لهم أية جهة أخرى يستغيثون بها. وفي بعض الأحيان كان العمال يقومون بانتفاضة للاحتجاج على سوء أحوالهم المعيشية، وكانوا يسكنون في مساكن رديئة البناء وقذرة، وشقق مزدحمة ومجموعة منازل متراصة لا فاصل بينها، ويعيشون في بعض الأحيان في أقبية. وفي فترة من الفترات كان حوالي سدس سكان ليفربول بإنجلترا يعيشون في أقبية. كان التلوث يملأ الهواء والممرات المائية، وكانت الفئران والحشرات تنشر الأمراض. وسقط الفقراء والأغنياء على السواء ضحية التلوث وانتشار المرض. وحتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان الأغنياء يفتقرون إلى سباكة المراحيض وأحواض الحمامات. كما أن معظم العمال لم يعرفوا هذه المرافق حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وبمرور الزمن تحسّن الوضع المعيشي في معظم المدن الصناعية. فقد أدى نظام الإنتاج الجملي الذي استخدم في المصانع إلى تخفيض تكلفة إنتاج السلع، وهكذا انخفضت تكلفة السلع للمستهلكين، وكوّن معظم عمال المصانع اتحادات للعمال، وهددوا بالإضرابات الجماعية ليدعموا مطالبهم برفع الأجور والإصلاح وتحسين أحوال العمل. وأخيرًا أجازت الحكومات قوانين الأجور والإصلاح التي ساعدت العمال. واتخذت الحكومات الخطوات اللازمة نحو تحسين المرافق الصحية. وقد كانت نسبة قليلة من الناس تملك ثروات عظيمة طوال فترة الثورة الصناعية. وكان ملاك المصانع يكسبون أرباحًا ضخمة، نتيجة لرواج العمل ويدفعون للعمال القليل. ويستثمر رجال المصارف والممولون أموالهم في المصانع الجديدة ويربحون أموالاً طائلة من استثمارهم هذا. ونتيجة لذلك تروج سلع التجار كلما زاد عدد سكان المدينة. وكان هؤلاء الأثرياء يسكنون في منازل ضخمة، كما أن كثيرًا من وسائل الترف كانت في متناولهم.
وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين أنشأت المنظمات الخيرية والحكومات مدارس مجانية في كثير من المدن. وقد أعطت هذه المدارس الأطفال الفقراء فرصة ليتلقوا تعليمًا رسميًا. إلاّ أن معظم المدرسين كان ينقصهم التدريب السليم. كما أن كثيرًا من المدارس كانت تعوزها الكتب المدرسية. وكذلك فإن كثيرًا من الأطفال لم يكونوا قادرين على الذهاب إلى المدرسة، لأنه كان لزامًا عليهم أن يعملوا في المصانع. بينما كان أبناء العائلات الثرية يذهبون للمدارس أوكانوا يتعلمون في منازلهم بإشراف مرشدين.
وكما في الأزمان الوسيطة، كانت المدن تضم أناسًا من خلفيات متنوعة، وكان الناس يميلون إلى الاستقرار مع جيران يماثلونهم في خلفياتهم. لكن مختلف المجموعات كان لها اتصال أكثر ببعضها، خلافًا لما كان عليه الحال في مدن القرون الوسطى. فالناس من جميع المجموعات كانوا يعملون سويًا في المصانع، والأطفال من مجموعات كثيرة كانوا يذهبون لنفس المدارس سويًا. وظل تأثير العائلة على سلوك الفرد أو أفكاره قويًا. إلا أن تأثير الناس خارج العائلة على رفاق العمل والأصدقاء والمدرسين والآخرين، ازداد كثيرًا جدًا.
الاقتصاد:
ازداد نزوح العمال من المزارع إلى المدن، زيادة مذهلة خلال الثورة الصناعية. وأدى الرواج الصناعي إلى توفر فرص العمل بالمدن أكثر من أي وقت مضى. وفي الوقت نفسه أدى التقدم التقني الزراعي إلى تخفيض الأعمال التي كانت متيسرة بالحقول. فمثلاً اختراع آلة الحصاد، جعلت مزارعًا واحدًا يقوم بعمل الكثيرين. لهذا السبب تحوّل عدد كبير من العمال الحرفيين إلى عمال مصانع. كان الحرفيون يقومون بإنتاجهم ببطء، وعادة بمعدات يدوية، لكن عمال المصانع ـ باستخدامهم الآلات ـ كانوا يقومون بالإنتاج بسرعة أكثر. وبدأ عمال المصانع يقومون بصناعة المنتجات نفسها التي كان يصنعها الحرفيون. وهذه السلع المنتجة بكميات كبيرة كانت أسهل صنعًا، ولهذا كان من الممكن أن تُباع بأسعار أرخص من السلع التي كان يصنعها الحرفيون. ووجد كثير من العمال الحرفيين أنهم لا يستطيعون منافسة المصانع.
كان نظام المصانع في التصنيع بداية لأكبر نهضة اقتصادية في التاريخ ؛ حيث استطاع الناس بالآلة أن يحرزوا إنتاجًا بسرعة أكثر وأرخص من ذي قبل. وقد جاء توفير تكاليف الإنتاج متزامنًا مع السياسات العادلة تجاه العمال، مما أدى إلى مكاسب كبيرة للعمال، وبازدياد كسبهم، استطاعوا أن يشتروا سلعًا أكثر. أدى ازدياد الطلب على السلع إلى ازدياد الإنتاج. وبنى رجال الأعمال مصانع جديدة، ووسعوا المصانع الموجودة، وأوجد هذا العمل الجديد أشغالاً جديدة لعدد أكبر من الناس، والأشغال الجديدة كانت تعني أن الناس لديهم مال أكثر لينفقوه، وهكذا ازداد الطلب على المنتجات مرة أخرى. وهذا الإجراء في التوسع الاقتصادي لا يزال مستمرًا.
وقد دعم التقدم التقني في المواصلات والانتقال هذا الانتعاش الاقتصادي. فقد أعطى تطور قاطرة البخار رجال الأعمال فرصة إرسال شحنات ثقيلة من المنتجات والمواد الخام عبر مسافات طويلة. وأصبحت السكة الحديدية ـ ومازالت ـ أهم وسائل النقل البريّ. وقد جعل اختراع آلة البرق، ثم اختراع الهاتف، الاتصالات داخل المدن وبينها أكثر فعالية من ذي قبل. وبوجود هذه الاختراعات استطاع المشترون أن يرسلوا الطلبات إلى السلع ويتسلموها بصورة أسرع مما لو استخدموا البريد.
كان على رجال الأعمال التنفيذيين أن ينفقوا أموالاً طائلة للحصول على المواد الخام، وتشييد المصانع، وصناعة الآلات وتشغيلها. وقوبلت التكلفة جزئيًا عن طريق استخدام نظام اقتصادي يسمى بالرأسمالية. وتحت راية الرأسمالية يضع عملاء المصارف والاستثمار بعض المال ليساعد في تمويل العمليات التجارية. وتؤهلهم استثماراتهم للمشاركة في أرباح الأعمال. وفي المدن الصناعية الأولى كان أثرياء الناس هم فقط الذين يستطيعون الاستثمار في مختلف الأعمال، لكن وبمرور الزمن شارك كثير من الناس في هذا النظام.
نظام الحكم:
اضطر ازدياد مشاكل المدينة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، الحكومات لاتخاذ إجراءات لتحسين حياة المدينة. وأجازت حكومات الدول الصناعية قوانين خلال القرن التاسع عشر الميلادي سُنت لمساعدة العمال. وهذه القوانين تضمنت ضوابط لتنظيم عمل الأطفال. واشترطت دخلاً للعمال المتضررين، ولعوائل العمال الذين قتلوا خلال أدائهم للواجب. ونجم عن القوانين الأخرى تحسين الصحة العامة، وتوفير الطعام والمأكل لغير الموظفين.
الثورة الصناعية زادت إنتاج السلع، لكنها جلبت أحوالاً معيشية صعبة في أول أمرها، ونزح عمال المزارع في أوروبا وأمريكا الشمالية إلى المدن ليلتحقوا بالوظائف الجديدة التي ظهرت بالمصانع. لكن معظمهم كأهل لندن (أسفل الصورة) كانوا يعيشون في ازدحام بالقرب من المصانع. |
لم يكن للثورة الصناعية أثر مباشر على المدن التي تقع خارج أوروبا وأمريكا الشمالية. وقد أصبحت بعض المدن الإفريقية والآسيوية والأسترالية، ومدن أمريكا الجنوبية، صناعية في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين الميلاديين، ولم تحظ غيرها بذلك أبدًا.
المصانع التي تراها في مدينة بتسبيرج بولاية بنسلفانيا، بالولايات المتحدة الأمريكية. كان عمال المصانع يضامون في حقوقهم في البداية، لكنهم شاركوا بعد ذلك في الأرباح التي نجمت من نظام المصنع. |
تطورت بعض المدن الصناعية عن مدن القرون الوسطى. عندما تصبح المدن مزدحمة جدًا، كانوا يحطمون الأسوار لتتوسع المدينة، وتنشأ مدن صناعية أخرى، حيث يكون هناك حصن، ونقطة تجارية، وقرية أو أرض مفتوحة. وحصل التطور في المناطق المفتوحة بصورة عامة في أمريكا الشمالية، التي لم يكن بها مدن بالعصور الوسطى. ويقوم المصنع أو مجموعة المصانع بالقرب من وسط المدينة الصناعية. وتقوم حولها المنازل البسيطة والمباني ذات الشقق التي كان يسكنها الفقراء. ولم يكن الفقراء يملكون وسائل للمواصلات، لذلك كان عليهم أن يعيشوا على مسافة قريبة من عملهم. وكان كثير من الأغنياء، بمن فيهم التجار وملاك المصانع، يبنون بيوتًا كبيرة في أجزاء المدينة الخارجية، ويملكون عربات تجرها الخيول كانت تقلهم إلى المنطقة المركزية ذهابًا وإيابًا. وهذا النمط من العيش بدّل تمامًا ذلك الذي كان بالمدن السابقة. فقد كان معظم الأغنياء في المدن القديمة خلال القرون الوسطى، يعيشون في وسط المدينة، بينما كان يعيش الفقراء في القطاعات الخارجية. وكان بالمدن الصناعية مشاكل صحية شبيهة بالمشاكل التي كانت بالمدن الباكرة. فقد ولّدت القاذورات والنفايات الأخرى أخطارًا صحية بسبب نظام المرافق الصحية غير المناسب، بالإضافة إلى مشكلة جديدة هي أن تلوث المصانع سبب خطرًا صحيًا. فقد لوثت المصانع الممرات المائية بالنفايات الكيميائية، ولوثت الجو بالغازات الضارة، وخلفت أيضًا أكوام القاذورات، والمعادن الصدئة، والنفايات الأخرى.
إن النمط المتقاطع في تصميم مباني المدينة، والذي ظل مشهورًا إلى اليوم استُخدم على نطاق واسع في المدن الصناعية. وفي ظل هذا النمط يُفصل بين المباني بفتحات متساوية على نحو ما، بينما تشكل مجموعات منها كتلاً مستطيلة. وتفصل الشوارع ـ التي تكون عامة بنفس العرض ـ المباني بعضها عن بعض، وقد كان لكثير من المدن الأولى ترتيب غير منظم للمباني، وطرق متعرجة كثيرة. وقد ساعد النمط المنتظم على امتداد المدن في أي اتجاه، كما أعطى المدينة مظهرًا منتظمًا.
السكان:
ازداد عدد سكان المدينة كثيرًا خلال الثورة الصناعية لسببين أساسيين: أولاً، لأن عدد سكان العالم كان يزداد أسرع من ذي قبل، وثانيًا، لأن التحسينات التي أدخلت في أساليب الزراعة قد قلصت الحاجة إلى عمال المزارع. وتسرب هؤلاء العمال إلى المدن وعملوا بالمصانع. وتعد ُّمانشستر بإنجلترا، وشيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، خير مثالين على تطور المدن الصناعية الهائل. زاد عدد سكان مانشستر من 6,000 في سنة 1685م إلى حوالي 303,000 في سنة 1851م. وقفز عدد سكان شيكاغو من حوالي 4,000 في سنة 1840م إلى أكثر من مليون نسمة في سنة 1890م. عانى معظم سكان المدن من الظروف القاسية في السنوات الأولى للثورة الصناعية. كان الرجال والنساء وكثير من الأطفال يعملون لأكثر من 12 ساعة في اليوم بمصانع مظلمة قذرة، وكانوا يقومون بأعمال مملة وشاقة، كمتابعة آلة أو حمل مواد ثقيلة. وقد كان للمصانع قليل من قوانين السلامة، إذ قتلت الحوادث أو آذت عمالاً كثيرين. والعمال لا يحصلون من الأجر إلا على ما يسد رمقهم ومن يعولون.
ليتشوورث بإنجلترا صممت في أوائل القرن العشرين على المبادئ التي وضعها أبنزير هوارد. وقد حاول إبنزير وكثيرون غيره أن يزيلوا الازدحام والأقذار عن المدن الصناعية. وكانت مخططات هذه المدينة التي تقع بالقرب من لندن تدعو إلى فضاء مفتوح، وفصل المناطق الصناعية عن المناطق السكنية. وقد أثرت أفكار هوارد هذه في مخططي المدن الحديثة. |
وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين أنشأت المنظمات الخيرية والحكومات مدارس مجانية في كثير من المدن. وقد أعطت هذه المدارس الأطفال الفقراء فرصة ليتلقوا تعليمًا رسميًا. إلاّ أن معظم المدرسين كان ينقصهم التدريب السليم. كما أن كثيرًا من المدارس كانت تعوزها الكتب المدرسية. وكذلك فإن كثيرًا من الأطفال لم يكونوا قادرين على الذهاب إلى المدرسة، لأنه كان لزامًا عليهم أن يعملوا في المصانع. بينما كان أبناء العائلات الثرية يذهبون للمدارس أوكانوا يتعلمون في منازلهم بإشراف مرشدين.
وكما في الأزمان الوسيطة، كانت المدن تضم أناسًا من خلفيات متنوعة، وكان الناس يميلون إلى الاستقرار مع جيران يماثلونهم في خلفياتهم. لكن مختلف المجموعات كان لها اتصال أكثر ببعضها، خلافًا لما كان عليه الحال في مدن القرون الوسطى. فالناس من جميع المجموعات كانوا يعملون سويًا في المصانع، والأطفال من مجموعات كثيرة كانوا يذهبون لنفس المدارس سويًا. وظل تأثير العائلة على سلوك الفرد أو أفكاره قويًا. إلا أن تأثير الناس خارج العائلة على رفاق العمل والأصدقاء والمدرسين والآخرين، ازداد كثيرًا جدًا.
الاقتصاد:
ازداد نزوح العمال من المزارع إلى المدن، زيادة مذهلة خلال الثورة الصناعية. وأدى الرواج الصناعي إلى توفر فرص العمل بالمدن أكثر من أي وقت مضى. وفي الوقت نفسه أدى التقدم التقني الزراعي إلى تخفيض الأعمال التي كانت متيسرة بالحقول. فمثلاً اختراع آلة الحصاد، جعلت مزارعًا واحدًا يقوم بعمل الكثيرين. لهذا السبب تحوّل عدد كبير من العمال الحرفيين إلى عمال مصانع. كان الحرفيون يقومون بإنتاجهم ببطء، وعادة بمعدات يدوية، لكن عمال المصانع ـ باستخدامهم الآلات ـ كانوا يقومون بالإنتاج بسرعة أكثر. وبدأ عمال المصانع يقومون بصناعة المنتجات نفسها التي كان يصنعها الحرفيون. وهذه السلع المنتجة بكميات كبيرة كانت أسهل صنعًا، ولهذا كان من الممكن أن تُباع بأسعار أرخص من السلع التي كان يصنعها الحرفيون. ووجد كثير من العمال الحرفيين أنهم لا يستطيعون منافسة المصانع.
كان نظام المصانع في التصنيع بداية لأكبر نهضة اقتصادية في التاريخ ؛ حيث استطاع الناس بالآلة أن يحرزوا إنتاجًا بسرعة أكثر وأرخص من ذي قبل. وقد جاء توفير تكاليف الإنتاج متزامنًا مع السياسات العادلة تجاه العمال، مما أدى إلى مكاسب كبيرة للعمال، وبازدياد كسبهم، استطاعوا أن يشتروا سلعًا أكثر. أدى ازدياد الطلب على السلع إلى ازدياد الإنتاج. وبنى رجال الأعمال مصانع جديدة، ووسعوا المصانع الموجودة، وأوجد هذا العمل الجديد أشغالاً جديدة لعدد أكبر من الناس، والأشغال الجديدة كانت تعني أن الناس لديهم مال أكثر لينفقوه، وهكذا ازداد الطلب على المنتجات مرة أخرى. وهذا الإجراء في التوسع الاقتصادي لا يزال مستمرًا.
وقد دعم التقدم التقني في المواصلات والانتقال هذا الانتعاش الاقتصادي. فقد أعطى تطور قاطرة البخار رجال الأعمال فرصة إرسال شحنات ثقيلة من المنتجات والمواد الخام عبر مسافات طويلة. وأصبحت السكة الحديدية ـ ومازالت ـ أهم وسائل النقل البريّ. وقد جعل اختراع آلة البرق، ثم اختراع الهاتف، الاتصالات داخل المدن وبينها أكثر فعالية من ذي قبل. وبوجود هذه الاختراعات استطاع المشترون أن يرسلوا الطلبات إلى السلع ويتسلموها بصورة أسرع مما لو استخدموا البريد.
كان على رجال الأعمال التنفيذيين أن ينفقوا أموالاً طائلة للحصول على المواد الخام، وتشييد المصانع، وصناعة الآلات وتشغيلها. وقوبلت التكلفة جزئيًا عن طريق استخدام نظام اقتصادي يسمى بالرأسمالية. وتحت راية الرأسمالية يضع عملاء المصارف والاستثمار بعض المال ليساعد في تمويل العمليات التجارية. وتؤهلهم استثماراتهم للمشاركة في أرباح الأعمال. وفي المدن الصناعية الأولى كان أثرياء الناس هم فقط الذين يستطيعون الاستثمار في مختلف الأعمال، لكن وبمرور الزمن شارك كثير من الناس في هذا النظام.
نظام الحكم:
اضطر ازدياد مشاكل المدينة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، الحكومات لاتخاذ إجراءات لتحسين حياة المدينة. وأجازت حكومات الدول الصناعية قوانين خلال القرن التاسع عشر الميلادي سُنت لمساعدة العمال. وهذه القوانين تضمنت ضوابط لتنظيم عمل الأطفال. واشترطت دخلاً للعمال المتضررين، ولعوائل العمال الذين قتلوا خلال أدائهم للواجب. ونجم عن القوانين الأخرى تحسين الصحة العامة، وتوفير الطعام والمأكل لغير الموظفين.