عبدالواحد لؤلؤة
كان شاعر حبّ بالدرجة الأولى: غنائيات شكسبير
أبيَوم صيفٍ أشبِّهُكَ؟
لأنتَ أكثرُ رِقةً وأشدّ اعتدالا.
فهوجُ الرياح تخضُّ براعمَ أيّار الحبيبة،
وعَقدُ الصيف أجَلُه جِدُّ قصير
وعينُ الشمس ترسل أحيانا من الحَرِّ المزيد،
وغالبا ما تُغشّي وجهَها الذهبيَ غيومٌ،
وكلّ بهاءٍ عن بَهائه يومًا سينحَدِر،
عرَضاً، أو بمسار الطبيعة المتقلِّب.
لكن صَيفكَ الأبدي لن يصيبَه ذبولٌ
ولن يفقد ذلك الحسنَ الذي تَمتلِك
ولن يختالَ الموتُ لأنّكَ في ظِلاله تطوف
وأنت في أشعاري الخالدة تُعاصِر الزمانَ
فما دام في البشرأنفاسٌ، وعيونٌ تَرى
سيدوم هذا الشعرُ ويبعثُ فيكَ الحياة.
هذه هي الغنائية رقم 18 وهي مُوَجّهةٌ إلى صديقه الأثير، الحبيب، إرل أوف بمبروك، الذي كان يحثّه على الزواج لكي ينجبَ للعالم ولداً شبيها به في الخِلقة والخُلُق. وقد أساء بعضهم بقوله إن الشاعر يتغزل بفتاة، بل إن بعضهم ذهب إلى القول إن هذه القصيدة توحي بأن الشاعر كان مثليا. ولكن نقل القصيدة إلى العربية وإدخال الحركات غير الموجودة في اللغة الإنكليزية يوضح القصيدة على حقيقتها وينفي صفة المثلية عن الشاعر
والغنائية نمط من الكتابة الشعرية ابتدعه الشاعر الإيطالي دا لَنتيني المتوفى عام 1246 وهو يتكون من 14 سطرا/ بيتا يلتزم القوافي أب أ ب ج د ج د هاء و هاء و، كما طوّره شكسبير أي إن الـ14 بيتا تتكون من ثلاث رباعيات تنتهي بمزدوجة. وتعالج كل رباعية جانباً من الفكرة الرئيسة في القصيدة، بينما تشكل المزدوجة في آخر القصيدة نوعا من التعليق على الرباعيات السابقة، هو توكيد أو نفي لما سبق. وكانت الغنائية في شكلها الأول تتكون من ثمانية أبيات تتبعها سداسية، فيكون القسم الأول عن الموضوع الرئيس بينما يكون القسم اللاحق من ستة أبيات تفسيرا أو تعليقا أو نفيا لما سبق، وهو رأي الشاعر. لكن تطوير شكسبير يختصر الغنائية إلى ثلاث رباعيات يختمها بيتان من التعليق أوالنفي لما سبق.
بقي هذا النظام مُدّة عند شعراء القرن السابع عشر في بريطانيا بدءا من وايات وسَري اللذان ترجما غنائيات إيطالية إلى الإنكليزية في أواسط القرن السادس عشر وتبعها الشعراء قبل شكسبير. كما استعمل الغنائية بعضُ الشعراء في موضوعات دينية مثل جون دَن وجيرارد مانلي هوبكنز. وكان شكسبير يعد نفسه شاعراً قبل أن يكون مسرحياً.
يُروى أن شكسبير لم يكمل المدرسة في ستراتفورد-أون-إيفن، لذلك لم يستطع الالتحاق بالجامعة، ولكنه كان من الذكاء والاستعداد للتعلّم ممّن حوله بحيث جمع ما يكفي من المعلومات واحتفظ بها في ذهنه من دون الرجوع إلى الكتب والمراجع. لكن معاصريه من «الجامعيين» لم يستطيعوا إخفاء غيرتهم من هذا «الغراب الطارئ الذي يجمّل نفسه بريشاتنا… فهو يعرف القليل من اللاتينية، وأقل من ذلك من الإغريقية…» لكن الفتى استطاع أن يتعلّم من ترجمة نورث لكتاب بلُوتارْك بعنوان «مشاهير الإغريق والرومان»، أكثر مما يستطيع أحد أن يتعلّم من مكتبة المتحف البريطاني (المكتبة البريطانية) جميعها، كما أعلن ت.س. إليوت في مقال له في «التراث والموهبة الفردية».
لم يكن شكسبير إبن رجل غني، فيقال إن والده كان جزّاراً، أو صانع قفافيز، ولكنه استطاع بذكائه الفطري، ومُجالدته، أن يبلغ ما بلغه شاعراً ومسرحياً. لكن شكسبير كان يفضّل أن يُشار إليه شاعراً وليس مسرحياً. فكتابه بعنوان «الغنائيات» يضمّ 154 قصيدة حب قصيرة، تُعدّ من أجمل ما كُتب في ذلك المجال.
ويمكن تقسيم الـ 154 غنائية إلى ثلاثة أقسام، فالقسم الأول يشمل الغنائيات 1-17 وفيها يحثّ الشاعرُ الحبيبَ على الزواج لكي ينجب ولداً يشبه أباه في الخلقة والخلق. والقسم الثاني يشمل الغنائيات 18-126 وجميعها تتحدث عن الحب وجمال المحبوب. والغنائيات 127-152 تتحدث عن الخليلة السمراء التي يصفها بالسواد وأبشع الصفات. أما آخر غنائيتَين، 153-154 فهي مستوحاة عن الإغريقية، وتتحدث عن الحب والشبق.
وقد بدأ نظام الغنائية عند بتراركا (1304-1374) وقد أخذها عن دانته (1265-1321) كما نقرأ في كتابه «الحياة الجديدة». ويقول دانته إن الشعر الجديد في إيطاليا قد بدأ في صقليا، متأثراً بشعر التروبادور باللغة الأوكسِتانية المفهومة في صقليا والجنوب الإيطالي. وتبيّن الدراسات المنصفة أن ذلك الشعر الجديد في إيطاليا كان متأثراً بالشعر الأندلسي في شكل الموشّح والزّجل.
وقد نقل الغنائيات الإيطالية، متمثلةً بغنائيات بتراركا، كلٌّ من أيرل أوف سَرِيْ (1517-1547) وسَير توماس وايات (1503-1542). وقد استعملها سَير فيليب سِدْني (1554-1586) وجاء بعدهم شكسبير .
وانشغال الشاعر بمفهوم الحب يتكرر في عدد من الغنائيات.
ففي الغنائية رقم 126 يقول:
لا تدَعني أقول بوجود عوائق
دون اجتماع القلوب المخلصة.
فالحب ليس حباً إذ يلتوي عندما يجد ما يَلوي،
أو يستدير مع المُزيل فيَزول.
كلاَ، بل هو الدليل الهادي، الراسخ أبدا،
يُطِلّ عل العواصف ولا يتزعزع.
إنه النجم الذي يهدي كل مركب تائه،
لا تُدرَك قيمته ولو أن ارتفاعه يمكن قياسه.
والحب ليس تحت رحمة الزمان،
ولو أن حمرة الشفاه والخدود
تقع تحت استدارة منجله الأحدب؛
والحب لا يتغير مع الساعات القصيرة والأسابيع
بل يستمر إلى حدود الزمان.
إن كان هذا ضلالا يُثبَتُ عليّ
فأنا لم أكتب شعراً قط، وليس ثمة من إنسان أحَب.
باستعراض هذه الغنائية، وأمثالها كثير، لا يبقى مجالٌ للشك بأن شكسبير شاعر حب بالدرجة الأولى. ونلمس هذا في كثير من المسرحيات، فهو يبدأ مسرحية «العاصفة» باستحضار قدرة الحب فيقول: «إذا كانت الموسيقى غذاءً للحب، فهاتِ منها المزيد، أعِد ذلك اللحن…»
وثمة موقف غريب من مفهوم الحب عند شكسبير. فالحبيبة في أغلب الشعر تتمتع بصفات نادرة من الجمال. ولكنها عند شكسبير مختلفة تماما، مما يبعث على العجب. ففي الغنائية، 130 يقول:
عينا حبيبتي لا تشبهان الشمس بحال
فالمرجان أكثر احمرارا من حمرة شفتيها.
وإذا كان الثلج أبيضاً، فإن نهديها كامدان.
وإذا كان الشَعر أسلاكاً فعلى رأسها تنمو اسلاكٌ سود.
لقد رأيتُ وُروداً دمشقية حمراء، بيضاء،
ولكني لا أرى مثل تلك الورود في خديها،
وفي بعض العطور من البهجة أكثر مما ينبعث
من أنفاس حبيبتي.
وأنا أحب أن أسمعها تتكلم، ولكني أعلم جيدا
أن في الموسيقى أصواتاً أكثر إمتاعا.
وأنا أعترف بأني لم أرَ إلهةً تسير على قدمين
لكن حبيبتي عندما تسير فهي تدبّ على الأرض دَبّا.
ومع ذلك، بحق السماء، أرى أن حبيبتي من الندرة
بما لا يشبهها أحد عند المقارنة الزائفة.
هل نجد في هذا نوعا من السخرية من شعراء الحب في العالم أجمع، أم هو من بعض الشعراء ممن حوله، وأغلبهم حُسّاد لهذا الشاعر الناشئ، فأراد التعريض بهم من باب الانتقام؟ أم أن موضوع الحب قد غدا ألعوبة بأيدي الشعراء، يتقاذفونه كيف شاءوا؟ أحسب أن الإجابة عن هذا السؤال بدقة، أو بما يقترب من الدقة، ليس بمقدور الكثيرين ممن تعوّد على مديح الشعراء للنساء المعشوقات أو من يقترب منهن.
قد يدفع هذا التساؤل بعضنا إلى الهروب من شعر الحب والإلتجاء إلى المسرحيّات لينعم بما فيها من جمال وبلاغة.