حكمة النحت تواجه تطرّف الأزمنة بتطويع الرؤى من الجماليّة إلى القبح
نحت الجسد على طرفي نقيض بين تجربتي رودان وجياكوميتي.
الأحد 2024/03/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الكائنات كمرآة للروح والأهواء
رافق فن النحت البشرية منذ فجر وعيها، وتطور بشكل كبير عبر الأزمنة والأفكار. فعلاقة النحت بالفلسفة علاقة وثيقة، إذ يجسد ذلك الحوار المتكامل والمتنافر والمتقارب المتباعد، علاقة جدلية دائما بين المجالين. وفي القرون الأخيرة حدثت تغييرات جوهرية في فن النحت الذي تحول شيئا فشيئا إلى كدح يومي لا يفارقه الخيال، متقاطعا مع عالم سريالي، وهنا نقف عند تجربتين مؤثرتين في عالم النحت ومقارباته للواقع والأفكار.
للجسد في فن النحت منطلقاته الحسية والفكرية عبر الأزمنة والعصور والتفاصيل، فقد استطاع أن يقاوم التملك الفلسفي وينطلق في تمثلاته من خلال الحسيات التي كانت تتطابق مع طبيعة وجوده وكينونته منذ العصور الأولى التي خلّدت المثالية في تفصيل الجسد إلى الفنون المعاصرة، فقد تأثّرت بالوقائع والأحداث حتى ابتكرت منها رموزها وطرق التعبير التي فكّكتها في تفاصيلها بين المثالية والتشويه.
ولعل المرور من الحرب العالمية الأولى إلى الثانية استطاع أن يخلق انحرافات قاعدية في الفن وفي النحت، وفي نحت الجسد بالتحديد، حيث تعامل الفنان مع الفكرة من خلال الدموية والوحشية اللاإنسانية، لذلك فإن التساؤل الواقع الآن هو كيف سيرى عالم الفن اليوم والنحت على وجه التحديد وأجساد القتلى والشهداء في غزة أصبحت مشهدا خارقا للمألوف إلى درجة التعوّد، الذي جعل التحوّل المشهدي غريب الوقع على النفسيّة من المعقول إلى اللامعقول؟ كيف سيعبّر النحات عن كم تلك الأجساد المنثورة على الطرقات وكيف سيراها تعبيريا أو سرياليا ووجوديا أو فكريا وفلسفيا وفنيا وإنسانيا؟
إنها تساؤلات تقع على عاتق الفنان كما وقعت عندما تحوّل النحت بالمفهوم ووقع على تصورات الجحيم التي صاغها جياكوميتي لتصبح مبدأ وجود لا موجود، إذ لا يمكن اختزال القضية في الحالة البسيطة للشيء أو الجسد أو المعنى أو الصورة الجمالية التي عبّر عنها هيغل وعبر نحوها، لأن في النحت كل ذلك الكيان بتفاصيله الحسية والجسدية والحركية والثابتة في المفهوم المندفع باستمرارية كثيفة الجماليات في فكرة الفن الشاملة لمعنى الإنسانية، التي نحن اليوم في أمسّ الحاجة لأن تصل وتعيد ترتيب الفوضى وتحملها من مستنقعات الجحيم.
تجربة رودان فتحت طريقا جديدا أمام النحت والباحثين فيه عن تجريب اللحظة في خلود الفكرة ومعانيها
رودان وجياكوميتي
“لا طموح للأبدية عند جياكوميتي لأن النحت حالة حسيّة تقول سرّها في بؤر الوجود” كما يقول سارتر، وما ارتكز عليه التطويع البصري في خلود الفكرة النحتية التي اشتغل عليها كل من رودان وجياكوميتي يبدأ من الأول لينتهي عند الثاني، كل حسب وقع الجسد على تفاصيله الحسيّة ودرجات وعيه بالواقع وكيف استطاع أن ينفذ منه إليه في مراحل نضجه التعبيرية التي أثّرت على مفاهيم النحت ومقاييس التصور فيه وعلى مفهوم الفن في العموم.
وأيضا كل حسب ارتكازاته الحسية والفلسفية والنفسية والاجتماعية ورغباته التفاعلية في تحديد المفاهيم الفلسفية والانتصار عليها في الحكمة القابعة على حدود الفكرتين النقيضتين بين الجمال والقبح وجمالية القبح نفسها القادرة على تفكيك الرسائل الحسية والمحتوى الضمني للفعل الفني وتأثيره باعتبار أن لكل من تجربة رودان وجياكوميتي تأثيرا على مسارات النحت الجمالية، فما هي تفاصيل تلك الرؤية وتأثيراتها إذا ما تماهت المنطلقات الجمالية بحسب تصوّرات هيغل الجمالية.
هيغل والنحت
إذا كان هيغل هو الفيلسوف الذي عرف كيفية دمج النحت في نظام الفلسفة المثالية، فهل كان يعرف كيفية تنظير عملياته الأكثر تحديدًا من خلال فكرة الجسد كيف ما كانت طبيعته وتطويعه لخدمة الفكرة نفسها التي تبدأ من المثالية لتنتهي عند التعبير الإنساني في تخليد المأساة والانتصار للحق، حق الإنسان في الحياة بلا قهر من منطق الواقع وما يفرضه من خلال الصورة التي يوظّفها النحات رمزيا وحسيا، وهو منطلق التجريب كما في تجربتي رودان وجياكوميتي عبر ذلك التناقض الواضح بين التجربتين.
الباحث عن الجمال في تجربة رودان ومنحوتاته القابعة على رأس الحكمة وتفاعيل الإبداع وانتظارات الدهشة، يحمل تلك الدهشة نفسها نحو أفران جياكوميتي التي يذيب فيها شخوصه الغابرة والمرهقة والمتعبة والعابرة من الواقع إلى سرياليته الممتلئة بالدهشة في صرخة الصمت الموحّدة، خاصة وأن الفلسفة الغربية لم تهتم بالنحت إلا قليلا في نظام الفنون.
النحت استطاع أن يهزم التفكير الفلسفي
لا شك هنا وفي مسار التجربتين رودان وجياكوميتي أنه يجب أن نعيد الصياغة الهيغلية باعتبار أن الفن هو الأقل استثمارًا من خلال التفكير الفلسفي، خارج المبادئ الأخلاقية للنحت الذاتي والخيال الحسي للتمثال المتحرك، في المواجهة الوحشية للمفهوم مع المادة، وغموض الفعل البشري، وهنا يبدو أن النحت استطاع أن يهزم التفكير الفلسفي، ومع ذلك، فهو عند هيغل النظام الأكثر تطورًا للفلسفة المثالية التي حاول بها منح مكان الجسد في النحت ودوره في ترتيب محددات الروح.
لقد فكر هيغل بشكل أساسي في النحت من زاوية الشكل، أي من خلال وجوده المادي كحجم في الفضاء المقدم لإدراكنا الحسّي للضمني المحتوى، بمعنى رسالته الروحية وعلاقته بالمطلق، ولكن أيضًا باعتباره الاتحاد المثالي بين الشكل والمضمون، بين الدال والمدلول في النحت اليوناني الكلاسيكي، وهي كمرجعية قابلة للتطوع الفكري والبحثي في المستوى النحتي الحديث ودلالاته المطلقة في تفعيل الفكرة ورمزياتها وقراءاتها المقصدية.
الشكل الأول الذي يتخذه النحت من وجهة نظر هيغل هو الشكل الرمزي، والرمزية هنا هي في الأساس تضاهي العمارة ككتلة ثقيلة، ونتيجة لذلك فإن النحت الرمزي سينتج أشكالا معمارية مثل الأعمدة والمسلات والتماثيل الضخمة، قادرة على الخلود المثالي لفكرة المنجز النحتي.
في نظر هيغل إن لدينا شعورًا أمام تمثال أبي الهول الضخم، بجسد حيوان مستلق بشكل مهيب، لأن الروح الإنسانية تحاول تحرير نفسها من القوة الوحشية دون تحقيق حرية الحركة، وبالتالي لا يمكن لتلك التناقضات أن تخلق رمزية إنسانية ذات معنى دون الوعي الواضح بالقوة ذاتها أو بمكنونة الحياة الداخلية، إلى درجة أنه لا يستطيع التحوّل عن ذاتيّته القابعة في الجسد الجامد والتي لا تتجاوز أيضا لغة الروح الواضحة والشفافة من خلال الرمزية، حتى لو أن الدال قدّم بالفعل بعض العلاقة مع المدلول، قد يكون الأسد رمزًا للقوة، ولكنه يمكن أيضًا أن يرمز إلى أشياء أخرى، بحيث يظل دائمًا غامضًا جامدا بلا تعبيرية صادمة أو متحوّلة في معانيها وقراءاتها، وهنا تكون الفكرة التي بنى من خلالها النحاة المعاصر رؤاه.
وهنا في تفعيل الفكرة الرمز والنحت المفهوم الكامل لكيان المحتوى استطاع أن يضفي صفة الحركة على الفعل التنفيذي في مستوياته التعبيرية والفكرية، وهي النقطة التي تحوّل بها رودان وحلّق بها جياكوميتي وتعمّق في تفصيلاتها الدلالية التي تعبّر عن الإنسان فردا بحالاته الموحشة واغتراباته وقهره.
المثالية والسريالية
النحت عند جياكوميتي حمل مسارات أخرى بعيدة كل البعد عن رودان ارتكزت على الوجود في القرن العشرين
تأثّر رودان برحلته إلى إيطاليا، فقد كان مفتوناً بفن عصر النهضة الإيطالية، وفي مقدمته دوناتيلو ومايكل أنجلو، ومشاهد الخلود في تفاصيلها التي تأثّرت بمرور الوقت على منحوتات العصور القديمة، فهو يؤكد فقط جماليتها الإنسانية المثيرة للشفقة، والتي تتميز بالجروح على الأجسام الرخامية، وبتر الأطراف مثل القرابين لإله، بعد إغوائه، يستحوذ رودان على ما يدركه ويشعر به، وينسخه في أسلوبه: إن عدم النهاية هو أسلوب عمل وجمالية للجزء غير المكتمل فهو يصمم، ويكسر، وينحت، ويقطع، ويعيد البناء، ويكسر مرة أخرى، إنه يجمع ما هو مبعثر ويفصل ما تم تصوره معًا ويفعل ذلك مرة أخرى بلا توقف.
فتجربة أوغيست رودان فتحت طريقا جديدا أمام النحت والباحثين فيه عن تجريب اللحظة في خلود الفكرة ومعانيها، وبالتالي أثّر بشكل ملفت في النحت المعاصر، فقد حرّر رودان النحت من القيود التي أثقلت كاهله في القرن التاسع عشر لإظهار جسد الكائنات كمرآة للروح والأهواء، جرّد النحت من كل ما يثقله، إنها طريقته لإعطاء العمل، الشخصيات الممثلة، بعدًا عالميًا ومن ثم كان يمارس الطبقات دون قيود؛ إذ يأخذ قطعتين مستقلتين ويجمعهما في تركيبة جديدة كأشلاء يجمعها ويعطيها دهشة المعنى والحضور، كما في عمله أبواب الجحيم، التي تعتبر في قلب كل أعماله بمثابة محور للتجريب حيث تفاعلت مع رؤى البشرية.
الشكل الأول الذي يتخذه النحت من وجهة نظر هيغل هو الشكل الرمزي، والرمزية هنا تضاهي العمارة ككتلة ثقيلة
لا شيء سوى شظايا، جنبًا إلى جنب، لأمتار. عراة بحجم اليد، وأخرى أكبر، ولكن لا شيء سوى قطع، ومع ذلك، كلما نظرنا بشكل أفضل شعرنا بعمق أن كل هذا سيكون أقل اكتمالًا إذا كانت كل شخصية كذلك.
ذلك التقطيع الذي يعمل عليه رودان مستفزّ في المعنى الحيوي للحركة التي تتمتع بها كل قطعة من هذه الأجزاء بتماسك استثنائي ومذهل، وكل منها لا لبس فيها ولا تتطلب سوى القليل جدًا لإكمالها إلى درجة أننا ننسى أنها مجرد أجزاء، وغالبًا ما تكون أجزاء من أجسام مختلفة، تشبه بعضها البعض بشكل عاطفي. فجأة نخمن أن النظر إلى الجسد ككل بعد تجميع قطعه هو بالأحرى من شأن العالم والفنان، أن يخلق من هذه العناصر علاقات جديدة، ووحدات جديدة، أكبر، وأكثر شرعية، وأكثر أبدية.
النحت عند جياكوميتي حمل مسارات أخرى بعيدة كل البعد عن رودان ارتكزت على الوجود في القرن العشرين، ذلك الوجود المشوّه، فهو لم يهتم بالشكل، استقال عن سيميترياته وتفاصيل الجسد فقد عكس الشعور الذاتي في تفاصيل القهر الواعي ومعاناة الوجود التفصيلية في تراتبياتها فكانت منحوتاته تعبّر عن مستوى آخر في أزمنة الخوف من الحروب والتلاشي في العالم الصناعي والتشيّؤ مع التكنولوجيا.
إن النحت الذي يقدّمه جياكوميتي هو مثل الوقوف في وجه عالم متقلّب بتفاصيل الفراغ بين وجهتي نظر مختلفتين بين الصرخة والرضوخ ذلك الذي ينعكس على المنحى الجمالي المفتون بالمثالية في تفاصيل رودان الحسية، فالمتلقي وهو يحاور العالمين يدرك تماما أنه في القسوة المحاطة بعالم جياكوميتي يحتاج إلى مهرب حسي نحو رودان، وتلك الحقيقة المثلى لفاعلية البحث عن كيان الدهشة في عتمة الفراغ وبالتالي كم سيحتاج العالم من واع مجنون بحكمة البحث في إنسان القرن الواحد والعشرين الواقع بين مكاييل الموازين بثقله وخفّتها بشرعيّتها وقهرها.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
بشرى بن فاطمة
كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية
نحت الجسد على طرفي نقيض بين تجربتي رودان وجياكوميتي.
الأحد 2024/03/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الكائنات كمرآة للروح والأهواء
رافق فن النحت البشرية منذ فجر وعيها، وتطور بشكل كبير عبر الأزمنة والأفكار. فعلاقة النحت بالفلسفة علاقة وثيقة، إذ يجسد ذلك الحوار المتكامل والمتنافر والمتقارب المتباعد، علاقة جدلية دائما بين المجالين. وفي القرون الأخيرة حدثت تغييرات جوهرية في فن النحت الذي تحول شيئا فشيئا إلى كدح يومي لا يفارقه الخيال، متقاطعا مع عالم سريالي، وهنا نقف عند تجربتين مؤثرتين في عالم النحت ومقارباته للواقع والأفكار.
للجسد في فن النحت منطلقاته الحسية والفكرية عبر الأزمنة والعصور والتفاصيل، فقد استطاع أن يقاوم التملك الفلسفي وينطلق في تمثلاته من خلال الحسيات التي كانت تتطابق مع طبيعة وجوده وكينونته منذ العصور الأولى التي خلّدت المثالية في تفصيل الجسد إلى الفنون المعاصرة، فقد تأثّرت بالوقائع والأحداث حتى ابتكرت منها رموزها وطرق التعبير التي فكّكتها في تفاصيلها بين المثالية والتشويه.
ولعل المرور من الحرب العالمية الأولى إلى الثانية استطاع أن يخلق انحرافات قاعدية في الفن وفي النحت، وفي نحت الجسد بالتحديد، حيث تعامل الفنان مع الفكرة من خلال الدموية والوحشية اللاإنسانية، لذلك فإن التساؤل الواقع الآن هو كيف سيرى عالم الفن اليوم والنحت على وجه التحديد وأجساد القتلى والشهداء في غزة أصبحت مشهدا خارقا للمألوف إلى درجة التعوّد، الذي جعل التحوّل المشهدي غريب الوقع على النفسيّة من المعقول إلى اللامعقول؟ كيف سيعبّر النحات عن كم تلك الأجساد المنثورة على الطرقات وكيف سيراها تعبيريا أو سرياليا ووجوديا أو فكريا وفلسفيا وفنيا وإنسانيا؟
إنها تساؤلات تقع على عاتق الفنان كما وقعت عندما تحوّل النحت بالمفهوم ووقع على تصورات الجحيم التي صاغها جياكوميتي لتصبح مبدأ وجود لا موجود، إذ لا يمكن اختزال القضية في الحالة البسيطة للشيء أو الجسد أو المعنى أو الصورة الجمالية التي عبّر عنها هيغل وعبر نحوها، لأن في النحت كل ذلك الكيان بتفاصيله الحسية والجسدية والحركية والثابتة في المفهوم المندفع باستمرارية كثيفة الجماليات في فكرة الفن الشاملة لمعنى الإنسانية، التي نحن اليوم في أمسّ الحاجة لأن تصل وتعيد ترتيب الفوضى وتحملها من مستنقعات الجحيم.
تجربة رودان فتحت طريقا جديدا أمام النحت والباحثين فيه عن تجريب اللحظة في خلود الفكرة ومعانيها
رودان وجياكوميتي
“لا طموح للأبدية عند جياكوميتي لأن النحت حالة حسيّة تقول سرّها في بؤر الوجود” كما يقول سارتر، وما ارتكز عليه التطويع البصري في خلود الفكرة النحتية التي اشتغل عليها كل من رودان وجياكوميتي يبدأ من الأول لينتهي عند الثاني، كل حسب وقع الجسد على تفاصيله الحسيّة ودرجات وعيه بالواقع وكيف استطاع أن ينفذ منه إليه في مراحل نضجه التعبيرية التي أثّرت على مفاهيم النحت ومقاييس التصور فيه وعلى مفهوم الفن في العموم.
وأيضا كل حسب ارتكازاته الحسية والفلسفية والنفسية والاجتماعية ورغباته التفاعلية في تحديد المفاهيم الفلسفية والانتصار عليها في الحكمة القابعة على حدود الفكرتين النقيضتين بين الجمال والقبح وجمالية القبح نفسها القادرة على تفكيك الرسائل الحسية والمحتوى الضمني للفعل الفني وتأثيره باعتبار أن لكل من تجربة رودان وجياكوميتي تأثيرا على مسارات النحت الجمالية، فما هي تفاصيل تلك الرؤية وتأثيراتها إذا ما تماهت المنطلقات الجمالية بحسب تصوّرات هيغل الجمالية.
هيغل والنحت
إذا كان هيغل هو الفيلسوف الذي عرف كيفية دمج النحت في نظام الفلسفة المثالية، فهل كان يعرف كيفية تنظير عملياته الأكثر تحديدًا من خلال فكرة الجسد كيف ما كانت طبيعته وتطويعه لخدمة الفكرة نفسها التي تبدأ من المثالية لتنتهي عند التعبير الإنساني في تخليد المأساة والانتصار للحق، حق الإنسان في الحياة بلا قهر من منطق الواقع وما يفرضه من خلال الصورة التي يوظّفها النحات رمزيا وحسيا، وهو منطلق التجريب كما في تجربتي رودان وجياكوميتي عبر ذلك التناقض الواضح بين التجربتين.
الباحث عن الجمال في تجربة رودان ومنحوتاته القابعة على رأس الحكمة وتفاعيل الإبداع وانتظارات الدهشة، يحمل تلك الدهشة نفسها نحو أفران جياكوميتي التي يذيب فيها شخوصه الغابرة والمرهقة والمتعبة والعابرة من الواقع إلى سرياليته الممتلئة بالدهشة في صرخة الصمت الموحّدة، خاصة وأن الفلسفة الغربية لم تهتم بالنحت إلا قليلا في نظام الفنون.
النحت استطاع أن يهزم التفكير الفلسفي
لا شك هنا وفي مسار التجربتين رودان وجياكوميتي أنه يجب أن نعيد الصياغة الهيغلية باعتبار أن الفن هو الأقل استثمارًا من خلال التفكير الفلسفي، خارج المبادئ الأخلاقية للنحت الذاتي والخيال الحسي للتمثال المتحرك، في المواجهة الوحشية للمفهوم مع المادة، وغموض الفعل البشري، وهنا يبدو أن النحت استطاع أن يهزم التفكير الفلسفي، ومع ذلك، فهو عند هيغل النظام الأكثر تطورًا للفلسفة المثالية التي حاول بها منح مكان الجسد في النحت ودوره في ترتيب محددات الروح.
لقد فكر هيغل بشكل أساسي في النحت من زاوية الشكل، أي من خلال وجوده المادي كحجم في الفضاء المقدم لإدراكنا الحسّي للضمني المحتوى، بمعنى رسالته الروحية وعلاقته بالمطلق، ولكن أيضًا باعتباره الاتحاد المثالي بين الشكل والمضمون، بين الدال والمدلول في النحت اليوناني الكلاسيكي، وهي كمرجعية قابلة للتطوع الفكري والبحثي في المستوى النحتي الحديث ودلالاته المطلقة في تفعيل الفكرة ورمزياتها وقراءاتها المقصدية.
الشكل الأول الذي يتخذه النحت من وجهة نظر هيغل هو الشكل الرمزي، والرمزية هنا هي في الأساس تضاهي العمارة ككتلة ثقيلة، ونتيجة لذلك فإن النحت الرمزي سينتج أشكالا معمارية مثل الأعمدة والمسلات والتماثيل الضخمة، قادرة على الخلود المثالي لفكرة المنجز النحتي.
في نظر هيغل إن لدينا شعورًا أمام تمثال أبي الهول الضخم، بجسد حيوان مستلق بشكل مهيب، لأن الروح الإنسانية تحاول تحرير نفسها من القوة الوحشية دون تحقيق حرية الحركة، وبالتالي لا يمكن لتلك التناقضات أن تخلق رمزية إنسانية ذات معنى دون الوعي الواضح بالقوة ذاتها أو بمكنونة الحياة الداخلية، إلى درجة أنه لا يستطيع التحوّل عن ذاتيّته القابعة في الجسد الجامد والتي لا تتجاوز أيضا لغة الروح الواضحة والشفافة من خلال الرمزية، حتى لو أن الدال قدّم بالفعل بعض العلاقة مع المدلول، قد يكون الأسد رمزًا للقوة، ولكنه يمكن أيضًا أن يرمز إلى أشياء أخرى، بحيث يظل دائمًا غامضًا جامدا بلا تعبيرية صادمة أو متحوّلة في معانيها وقراءاتها، وهنا تكون الفكرة التي بنى من خلالها النحاة المعاصر رؤاه.
وهنا في تفعيل الفكرة الرمز والنحت المفهوم الكامل لكيان المحتوى استطاع أن يضفي صفة الحركة على الفعل التنفيذي في مستوياته التعبيرية والفكرية، وهي النقطة التي تحوّل بها رودان وحلّق بها جياكوميتي وتعمّق في تفصيلاتها الدلالية التي تعبّر عن الإنسان فردا بحالاته الموحشة واغتراباته وقهره.
المثالية والسريالية
النحت عند جياكوميتي حمل مسارات أخرى بعيدة كل البعد عن رودان ارتكزت على الوجود في القرن العشرين
تأثّر رودان برحلته إلى إيطاليا، فقد كان مفتوناً بفن عصر النهضة الإيطالية، وفي مقدمته دوناتيلو ومايكل أنجلو، ومشاهد الخلود في تفاصيلها التي تأثّرت بمرور الوقت على منحوتات العصور القديمة، فهو يؤكد فقط جماليتها الإنسانية المثيرة للشفقة، والتي تتميز بالجروح على الأجسام الرخامية، وبتر الأطراف مثل القرابين لإله، بعد إغوائه، يستحوذ رودان على ما يدركه ويشعر به، وينسخه في أسلوبه: إن عدم النهاية هو أسلوب عمل وجمالية للجزء غير المكتمل فهو يصمم، ويكسر، وينحت، ويقطع، ويعيد البناء، ويكسر مرة أخرى، إنه يجمع ما هو مبعثر ويفصل ما تم تصوره معًا ويفعل ذلك مرة أخرى بلا توقف.
فتجربة أوغيست رودان فتحت طريقا جديدا أمام النحت والباحثين فيه عن تجريب اللحظة في خلود الفكرة ومعانيها، وبالتالي أثّر بشكل ملفت في النحت المعاصر، فقد حرّر رودان النحت من القيود التي أثقلت كاهله في القرن التاسع عشر لإظهار جسد الكائنات كمرآة للروح والأهواء، جرّد النحت من كل ما يثقله، إنها طريقته لإعطاء العمل، الشخصيات الممثلة، بعدًا عالميًا ومن ثم كان يمارس الطبقات دون قيود؛ إذ يأخذ قطعتين مستقلتين ويجمعهما في تركيبة جديدة كأشلاء يجمعها ويعطيها دهشة المعنى والحضور، كما في عمله أبواب الجحيم، التي تعتبر في قلب كل أعماله بمثابة محور للتجريب حيث تفاعلت مع رؤى البشرية.
الشكل الأول الذي يتخذه النحت من وجهة نظر هيغل هو الشكل الرمزي، والرمزية هنا تضاهي العمارة ككتلة ثقيلة
لا شيء سوى شظايا، جنبًا إلى جنب، لأمتار. عراة بحجم اليد، وأخرى أكبر، ولكن لا شيء سوى قطع، ومع ذلك، كلما نظرنا بشكل أفضل شعرنا بعمق أن كل هذا سيكون أقل اكتمالًا إذا كانت كل شخصية كذلك.
ذلك التقطيع الذي يعمل عليه رودان مستفزّ في المعنى الحيوي للحركة التي تتمتع بها كل قطعة من هذه الأجزاء بتماسك استثنائي ومذهل، وكل منها لا لبس فيها ولا تتطلب سوى القليل جدًا لإكمالها إلى درجة أننا ننسى أنها مجرد أجزاء، وغالبًا ما تكون أجزاء من أجسام مختلفة، تشبه بعضها البعض بشكل عاطفي. فجأة نخمن أن النظر إلى الجسد ككل بعد تجميع قطعه هو بالأحرى من شأن العالم والفنان، أن يخلق من هذه العناصر علاقات جديدة، ووحدات جديدة، أكبر، وأكثر شرعية، وأكثر أبدية.
النحت عند جياكوميتي حمل مسارات أخرى بعيدة كل البعد عن رودان ارتكزت على الوجود في القرن العشرين، ذلك الوجود المشوّه، فهو لم يهتم بالشكل، استقال عن سيميترياته وتفاصيل الجسد فقد عكس الشعور الذاتي في تفاصيل القهر الواعي ومعاناة الوجود التفصيلية في تراتبياتها فكانت منحوتاته تعبّر عن مستوى آخر في أزمنة الخوف من الحروب والتلاشي في العالم الصناعي والتشيّؤ مع التكنولوجيا.
إن النحت الذي يقدّمه جياكوميتي هو مثل الوقوف في وجه عالم متقلّب بتفاصيل الفراغ بين وجهتي نظر مختلفتين بين الصرخة والرضوخ ذلك الذي ينعكس على المنحى الجمالي المفتون بالمثالية في تفاصيل رودان الحسية، فالمتلقي وهو يحاور العالمين يدرك تماما أنه في القسوة المحاطة بعالم جياكوميتي يحتاج إلى مهرب حسي نحو رودان، وتلك الحقيقة المثلى لفاعلية البحث عن كيان الدهشة في عتمة الفراغ وبالتالي كم سيحتاج العالم من واع مجنون بحكمة البحث في إنسان القرن الواحد والعشرين الواقع بين مكاييل الموازين بثقله وخفّتها بشرعيّتها وقهرها.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
بشرى بن فاطمة
كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية