الفنان العراقي أمين شاتي يحرس الخرافة من صدمات الواقع ويحول الرؤى إلى حقائق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفنان العراقي أمين شاتي يحرس الخرافة من صدمات الواقع ويحول الرؤى إلى حقائق

    الفنان العراقي أمين شاتي يحرس الخرافة من صدمات الواقع ويحول الرؤى إلى حقائق


    تجربة فنية تمتزج فيها الرؤى المعاصرة بجماليات الموروث السومري.
    الأحد 2023/12/31
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    سفير الفن السومري الحالم بالسلام

    إن محاولة تفكيك الواقع المتردي تبدأ عند السياسي من الماضي القريب وعند المفكر من الماضي الأبعد قليلا، لكنها عند الفنان تنطلق من جذور الوجود الأولى، من التاريخ البشري في انطلاقته في ذلك المكان، ولا تكون مساءلة حاسمة الأهداف بقدر ما هي إحياء وإعادة تصور، ومن هناك تعود إلى الحياة، ومن هناك يمكن الحلم بواقع آخر ممكن. وهذا ما قام به الفنان العراقي أمين شاتي الذي مازج الفنون السومرية بما تلاها من حضارات تعاقبت على العراق وسط رؤى فنية معاصرة، ليكون عمله بمثابة الرحلة.

    لا تقف رؤى الطفولة التي طالما راودته جماليا وشعوريا بالتمازج الجمالي الذي تميز به العراق حضارة ورمزا وحرفا وخطا وأدبا وأسطورة، على تأملات صغيرة أو تساؤلات عفوية، ولكنها في ذهن التشكيلي العراقي أمين شاتي انبعاث وولادة تتجدد من رحم ذاته لتعيد بعثه من جديد في كل لحظة، ولادة منه من ذاته ومن رحم اتحاد البحث وفضوله وتلون الرمز بين المعنى والشكل والمجاز.

    استطاع الفنان بكل هذه العناصر والتكوينات البصرية والفلسفية والتلقائية أن يخلق استمرارية بصرية ذهنية جمالية ميزت العراق إبداعا وميزته فنانا، مكنته من أن يكون سفيرا للفن السومري في العالم وأكثر فنان تشكيلي تشكل بالرمز وطور سيميائياته ومعانيه ومقاصده بشكل معاصر احتوى العمارة والبنية وتكاثف باللون والطقوس التي حاكت البيئة الحارة والشموس الساطعة في عمق التماثلات البصرية التي نقلها، فقدمته إلى العالم في مختلف المحافل التشكيلية الكبرى التي برع فيها وتألق أمام العديد من التجارب التشكيلية التي تنوعت عالميا.
    حارس الخرافة



    محاكاة الواقع عبر الأزمنة البعيدة


    أعمال أمين شاتي سفر في الأزمنة وحكمتها الراسخة في خلود الابداع سفر في ثنايا الواقع وسوداويته وآماله الباقية في تسلسل البحث الإنساني عن الجمال، إنها هوية وانتماء في اعتماد الفن محاولة لكسر حواجز تشويه جماليات الأرض والبقاء، فكأنه يحاكي بتلك الأزمنة البعيدة واقعه وواقع منطقته ويثبت للعالم عراقة أرضه، وأنه انطلق من أرض البدايات التي حاكت مناهج الحياة للعالم.

    قدم شاتي بفنه السومري “الفن العراقي القديم”، رؤية الفنان الناضج والمعاصر الممتزج مع العراق في تكويناته الجمالية سواء كحضارات أولى وحضارة إسلامية ووعي معيش على تلك الأرض وقسوة واقع مفكك، في كل مراحل التكون المستمر في سلسلاته التي عايشها بفنه واستقبلها بمدركاته وطورها باحترافيته حتى تشكلت وتماهت في عراقيته كهوية لامحدودة في الأمكنة وعبر الأزمنة.

    تحتاج الكتابة عن أمين شاتي والتأمل في أعماله وتجربته إلى زاد عاشق للفكر والحضارة وزاد مهتم باللون والرمز وزاد باحث في دلالات واقع يكاد يكون متفجر المعاني متوهج التكامل، يبدأ به من العراق وينتهي عنده في رحلة ملونة بعمق التجليات الجمالية وفي تناغماته الرمزية والدلالية.

    ففي أعمال الفنان تصورات فلسفية تعكس اندماج الطبيعة والذات الإنسانية وهو ما شكل الجمال المتجلي المحسوس للفكرة في تفاصيل الدمج بين الميثولوجيا والواقع وبين رمز الأسطورة وحقيقة الحياة التي تعايش أزمنتها وأزماتها وكأنه يفكك فكرة الحروب بسخافتها أمام قوة الحياة وإبداع الإنسانية في تجليات التوافق الحسي بينها وبين الطبيعة ومقتضياتها.

    فهو يحمل أعماله وكأنه يحرس الخرافة من صدمات الواقع ويحوّل الرؤى إلى حقائق تترنح بين حلم اليقظة والنوم وبين كوابيس الموت والحياة.
    فوضى مرتبة



    التأمل في الرموز التي ترتكز عليها أعمال الفنان التشكيلية هو تنقل بين الفكرة والمعنى ورمزية التجدد الفني


    التعثر جمالا في أعمال شاتي والغوص شغفا في تجربته لا يفصلان بينه كإنسان وفنان فهو باحث وعميق الطرح في تكويناته الذهنية والبصرية والحسية، أليف قريب من المتلقي بكل منجزاته باختلاف انتماءاته وجغرافياته، خاصة وأنه لا يختار مفاهيمه بشكل اعتيادي نمطي أو عشوائي بل يفكر في التفصيل التراتبي بين الخامة والفكرة.

    يصنع الفنان تناغمات دائمة الإيقاع مرتكزة على ترانيم الحضارة في أسطورة عشتار ونزولها إلى العالم السفلي واقتراف التشويه الذي تحدده تلك العين والحدقات الواسعة التي ترى البشاعة الدنيوية تلك التي يصنعها الإنسان بذاته وأرضه خاصة وأن شاتي كان يستغني عن الوجوه والملامح بالقرون والعيون الكبيرة كما في التماثيل السومرية القديمة التي يؤوّلها من الأساطير ويعيد تشكيلها على الواقع بدلالات رمزية ومفهومية أخرى مختلفة التأويل.

    يؤمن شاتي بأن ما يحبه يرافقه دوما وما يبحث عنه بيقين جمالي ثابت في فكرته يصله بالعالم الذي يقدم له وشمه الأول وسمته التي تعلق في ذهن المتلقي، خاصة وأنه دائم السعي إلى ألاّ يصيب متلقيه بالملل بتنويع أسلوبه واستدراج دهشاته نحو التساؤل عن المعنى وتفكيكه بمدركاته الحسية والبحث في عناصر التكوين في العمل الفني، فقد تعددت عناصره التي صقلها وصقلته، وهو ما انعكس على خاماته في تنفيذ المنجز الفني، معتمدا الوسائط المتعددة، والكولاج، والتركيب، والقماش، والورق واللون، والحجر والطين، والزجاج، والحبال والرمل والخشب والرصاص.

    يرتكز عمل الفنان على فوضى مرتبة للاستقرار الأسلوبي الذي عكس قيمة تجريبه المكتمل، بحيث تمازجت فيه أبحاثه مع أفكاره ومفاهيمه وكذلك أسفاره وانتقالاته بين المدن حاملا ما تعلّمه من تجارب الرواد العراقيين وما تأصل عنده في كلية الفنون ببغداد من تفاعل حسي بصري وما تركته فيه المدن التي مرّ منها متعلما ومُعلّما وعارضا من الأردن وهولندا وبريطانيا التي منها اكتسح العالمية بتجربته الفنية ليكون حقيقي الانتماء إلى الفن والإنسانية.
    رسالة فنية إلى الإنسانية



    تناغمات دائمة الإيقاع


    يعتمد شاتي في أعماله على خصوصيات المدرسة التعبيرية فمن خلال بحوثه الفنية اكتشف أن الفنان السومري كان أول من التقى فيها على الدهشة من خلال رمزية العيون الكبيرة، فتماثل فيها مع العالم حيث تماهى بها وتجلى معها، إذ عدت عنده في تنوعها مزيجا متكاملا احتواها في رموزه السومرية تلك، فتكاملت معه مواقفه البصرية.

    التماثيل السومرية ذات العيون الكبيرة استوحى منها الفنان رؤاه التعبيرية ليحيلها إلى دهشة الغموض في تصوره للواقع المعاصر، وكأن تلك العيون مندهشة بصدمتها أمام سوداوية الوقائع الحسية التي تعيشها البشرية وتشاهد ويلاتها من خلال ما تخلفه الحروب من قتل وتجويع وتشريد وصدامات وصراعات وظلم، وهو ما يتناقض مع المدنية المزيفة التي يعايشها الإنسان.

    يماهي شاتي بين الحرف السومري كأصل والحرف العربي كتكوين وكأنه يحاكي العالم بتفاصيل البدء من أول الكتابة والشرائع، كاشفا عمق حضارة بلاد الرافدين ودورها العميق الذي قدمته إلى الإنسانية من خلال الحرف والتشريع بين المعنوي والجمالي، بين الحسي والثابت في أصله وميلاده وبعثه، وهي محاكاة فلسفية وحضارية لها تفاصيلها الواقعية أيضا وكأنه يقدم عراقه الجديد ويبعثه إلى العالم في كل تفصيله التوثيقي.

    أعمال أمين شاتي سفر في الأزمنة وحكمتها الراسخة في خلود الإبداع وسفر في ثنايا الواقع وسوداويته وآماله الباقية

    التعامل مع اللون في تجريب شاتي التشكيلي له طقوس تبلور أفكاره الحسية التي تراود البيئة العراقية وتفاصيل الطبيعة في تناقضات الأرض بين الخصوبة والقحط عبر الشمس والماء، فهو يبالغ في تكثيف بنيوية الألوان الحارة ويبدع في تشكيلات الأزرق ويوازي فيها بين الأرض والسماء، وكأنه يعزف على القيثارة القديمة ترانيم الوجود الأول والحضور الأبهى في حضارة بلاد الرافدين ويحملها على محامل مختلفة، بين الخشب والحجر والقماش ليعيد صياغاتها بصريا وكأنه يتجول بالمتلقي عبر الزمن الأول في طريقة تشكيل اللون التي تضاهي بدورها البناء الأول لصياغة اللون من خلال الأصباغ والرصاص المذاب والزجاج الملون وهو ما يضفي دهشة وإبهارا يستفز بدوره خيال المتلقي.

    إن التأمل في الرموز التي ترتكز عليها أعمال أمين شاتي التشكيلية هو تنقل بين الفكرة والمعنى ورمزية التجدد الفني من خلال تكامل بصري احترافي مبدع التأويلات بين الرمز المادي المحسوس والرمز المعنوي وبين الأسطورتين، فالعين إدراك ودهشة وبصيرة قراءة خارقة للواقع، والثور قوة وعناد وتضحية واستمرارية والنخلة وجود وشهود تغرس انتماء الأرض الأول، والطير سموّ وتسام روحي دليل استقرار وبحث لا يهدأ، الصولجان ثبات حضاري وقوة والقيثارة السومرية هي التي توازي بين فكرة الألم والرقي الحسي والرمزية، والمرأة والرجل هي علاقة تكامل عاطفي، والأساطير الثابتة هي قوة وخلود إذا ما خصت فيها عشتار وملحمة جلجامش وإنكيدو.

    هذه الكثافات الظاهرة والمستترة ترتكز على عراقة تعبيرية يحملها الرابط بين فكرة الحياة والتضحية، فهي رموز تكاثفت وتجانست في طبيعة تعابيرها القديمة واشتقاقاتها المعاصرة التي أرادها شاتي تثبيتا معنويا ومفهوميا لمساره التشكيلي ورسالته الفنية إلى الإنسانية التي تخلد الجمالي وتدعم السلام وتنبذ الصراعات الدامية التي تخرب حياة الإنسان وتستنزف حضوره الإبداعي في الأرض.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    بشرى بن فاطمة
    كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية
يعمل...
X