الحرية والحتمية .. الشعور يثبت الحرية .. شهادة الشعور الفردي - ٢ -
٤ - وقد يخدعنا الشعور أيضا في شهادته على الحاضر .
- ولو اقتصر الفلاسفة الحتميون على إنكار الشعور بالحرية بعد الفعل ، أو قبله ، لبقي هناك مجال للقول بصدق شهادة الشعور على الحاضر ، إلا أنهم زعموا أنها كاذبة بالنسبة إلى الحاضر ، كما بالنسبة إلى الماضي ، والمستقبل . انا لا ندري خلال الفعل ، هل نفعل بحرية ، أم نخضع لدوافع وبواعث خفية . ما أكثر النزعات الغامضة ، والعوامل الخفية التي تؤثر فينا وتتجاذبنا من غير أن نشعر بها ، وما أكثر الأفعال التي ننسبها إلى حرية الاختيار ، وهي ناشئة في الواقع عن أسباب خفية مستقلة عن إرادتنا . ان النائم نوماً مغنطيسيا يتلقى أمراً فينفذه ، ويتوهم أنه حر في تنفيذه ، مع أنه آلة صماء مسخرة لإرادة المنوم . وقد يحسب السكران نفسه حراً عند تلفظه ببعض الألفاظ ، أو قيامه ببعض الأفعال ، إلا يعود إلى رشده يكذب ما قال أولاً ، وينكر ما فعل ، فكأنه دوارة يدفعها الهواء ، أو إبرة مغناطيسية يجذبها المغنطيس ، أو دوامة يقذف بها الخيط في جهة الدوران ، فلو كانت الدوارة ، والإبرة ، والدوامة ، شاعرة بحركتها لزعمت أنها حرة . إن توهم الحرية شبيه بتوهم حر ركة الشمس حول الأرض ، يظن المرء أنه حر ، كما يظن أن الشمس متحركة ، والأرض ثابتة . ومعنى ذلك أن الشعور خداع ، يكذب علينا في النوم ، كما يخدعنا في اليقظة ، ويخدعنا في المرض ، كما يضلنا ونحن أصحاء ، ولكن كيف يتولد هذا الوهم . لماذا يظن الإنسان نفسه حراً وهو مقيد ؟ لقد أجاب ( سبينوزا ) عن ذلك بقوله : إن هذا الوهم يتولد من الجهل بالأسباب . إننا نجهل الأسباب الخارجية ، والعوامل الداخلية ، فننسب الفعل إلى أنفسنا ، ونتوهم أننا خالقون له ، ولو تأملناه لأرجعناه إلى أسبابه الحقيقية . فكما ترجع الحوادث التي نجهل أسبابها إلى المصادفة ، كذلك ترجع الأفعال التي نجهل أسبابها الخارجية ، والداخلية إلى الحرية .
٥ - الرد على الفلاسفة الحتميين .
- إذا كان هنالك وهم فإن مذهب الحتمية لا يوضح لنا هذا الوهم . نعم إن الظواهر التي يستند اليها فلاسفة الحتمية صحيحة . وما من عاقل ينكر اليوم تأثير اللاشعور في أفعال الإنسان وإراداته إلا أن هذا التأثير لا يكفي لتعليل وهم الحرية . هل يشعر السكران في شكره ، والنائم في نومه بشيء من الحرية ، إذا لم يسبق لهما شعور بذلك ، وهما في الحالة الطبيعية ؟ إنه لمن الصعب علينا أن نتصور حصول وهم الحرية عند كائن أفعاله وحركـ ركاته مقيدة بعضها ببعض ، كتقيد حر أو الإبرة المغنطيسية ، كما أنه من الصعب علينا أن نتصور حصول أوهام البصر عند الأكمه ، أو أوهام السمع عند الأبكم الأصم . فلا يمكنك إذن أن تتوهم انك حر الا اذا سبق لك الاتصاف بالحرية مرة واحدة على الأقل . ولو كان قول ( سبينوزا ) صحيحاً ، أي لو كان توهم الحرية ناشئاً عن الجهل بالأسباب الفاعلة ، لكانت الأفعال المنعكسة ، والأفعال الغريزية التي لا نشعر بأسبابها أكثر أفعالنا اتصافاً بالحرية ، الا أن التجربة تثبت لنـ ذلك ، وتبين لنا أن شعورنا بالحرية تابع لعلمنا بالأسباب ، فكلما كان علمنا بالأسباب الفاعلة أتم ، كان شعورنا بالحرية أقوى .
٦ - لولا الحرية لما شعرنا بأفعالنا ولا بانيتنا .
- ونضيف الى ما تقدم أن فرضية الحتمية المطلقة لا تتعارض مع شعورنا بحريتنا فحسب ؛ بل تتعارض أيضاً مع بأفعالنا وأنيتنا . لو كانت أفعالنا مستقلة عن ذواتنا ، وكانت شخصياتنا لا تؤثر فيها أبداً ، لما اختلفت هذه الأفعال عن الأفعال الآلية المحضة . فلماذا أنسب الأفعال الأولى الى نفسي وأنكر الثانية ، وأعتقد أني غير مسؤول عنها . ذلك لأن الأفعال الأولى متصلة بشخصيتي . أما الثانية فتابعة للأسباب الخارجية التي ليس لارادتي فيها أثر . لو كانت شخصيتنا معلولة للأسباب الخارجية ، وكانت آنا قصيراً من آونة الزمان أو نوراً سريع الزوال ، تابعاً لآلية الحوادث ، لما اتصفت بالشعور الفردي ، ولما انفصلت عن الطبيعة ، ولما أمكنها أن تتخلص من قيودها ، ولا أن تعارضها لنا بفعلها ، وشعورها ، وتفكيرها ، وتثبت بذلك أنها ذات ( أنية ) مستقلة عنها . . يتضح من ذلك اذن أن الشعور بالفعل ، والشعور بالأنا ، لا يتفقان مع فرضية الحتمية المطلقة ، بل يستلزمان القول بالحرية .
٧ - الحرية إحدى مسلمات الشعور المباشرة : نظرية ( هنري برغسون ) .
- ومما زاد في قوة هذه الملاحظات السابقة أنها يمكن أن تؤول على طريقة ( هنري برغسون ) المعروفة بطريقة الحدس فقد بين هذا الفيلسوف أن الحدس الداخلي لا يكشف لنا عن تساوي الضدين في الإمكان ، ولا عن أمر الإرادة المطلق في قولها للشيء كن فيكون ، ولا عن قوة إبداع الإرادة كما وصفها فلاسفة حرية الاختيار ، بل يدلنا على أن هناك سببية من نوع خاص يمكننا أن نسميها بالسببية النفسية ( Causalité psychologique ) قال ( هنري برغسون ) : أن السببية النفسية ليست مشابهة للسببية الطبيعية ، لأن السببية الطبيعية تضمن فكرة أساسية ، وهي إمكان تركيب الكل من العناصر نفسها . أما السببية النفسية فلا تتضمن شيئاً من ذلك . وتطبيق السببية الطبيعية في عالم النفس أدى إلى كثير الأخطاء التي وقع فيها فلاسفة الحتمية . ان هؤلاء الفلاسفة يقسمون الفعل الإرادي المتصل إلى عناصر متفرقة ، ويجعلون النفس مؤلفة من أحوال مختلفة خاضعة للقوانين الميكانيكية ، ويزعمون أن هذه الأحوال تعود هي بنفسها إلى مسرح الشعور من غير أن تتغير ، وان العلة نفسها تحدث المعلول نفسه . وهذه الآراء مخالفة لحقيقة الحياة النفسية التي شبهناها بنهر دائم الجريان ، أو غيوم دائمة الحركة ، أو لحن موسيقي منسجم الأصوات ، إلا أن مذهب الحتمية لم يحفل بهذه الصفات ، بل أرجع النفس إلى أجزاء فردة مستقلة ، وزعم أن هذه الأجزاء يؤثر بعضها في بعض ، وفقاً لقوانين علم الميكانيك ، وانها ترتبط بعضها ببعض ارتباطاً آلياً وفقاً لقوانين التداعي .
لنتحرر إذن من هذه الفلسفة النفسية الجامدة ، ولنصور الحياة النفسية تصوير اً صادقاً يجمع بين اتصال الأحوال النفسية ، وبين تغيرها ، وتمازج أحوالها . اننا إذا فعلنا ذلك أدركنا أن كل حالة نفسية مفردة تتضمن النفس كلها ، وأن الجزء فيها يشتمل على الكل . انظر إلى حالة نفسية بسيطة كحالة العطف ، أو الحب ، أو البغضاء . ان فلسفة الحتمية ترجع هذه الأحوال إلى قوى خارجية مختلفة التركيب والتأثير . أما فلسفة الديمومة ، أي فلسفة ) هنري برغسون ) ، فتجعل كل حالة من هذه الأحوال البسيطة مرآة صقيلة تنعكس عليها كل أحوال النفس ، فتمتزج بها ، وتصطبغ بلون جديد غير الذي كان لهـا من من قبل . وعلى ذلك فإذا ولدت حالة نفسية واحدة ، كالعطف ، أو الرغبة ، فعلاً . الأفعال ، كان هذا الفعل ناشئاً عن النفس كلها ، لا عن تلك الحالة النفسية المفردة وحدها ، فالفعل الحر فعل صادر عن النفس كلها ، والحرية هي ( نسبة النفس المشخصة إلى الفعل
الصادر عنها ، ( 167 ) Essai ) . ومعنى ذلك كله أن الفعل الحر لا يتولد من عامل نفسي مفرد ، بل ينشأ عن اشتراك النفس كلها في توليده ، ونسبة المريد إلى أفعاله ، كنسبة الفنان إلى آثاره ، ان في كل أثر من آثاره طابعاً خاصاً يدل على شخصيته كلها قال أفعالنا : « نحن لا تتصف بالحرية إلا عندما تصدر ( هنري برغسون ) شخصيتنا كلها ، عن أي عندما تدل أفعالنا على ذواتنا ، ويكون بينها وبين شخصيتنا مشابهة يصعب تعريفها ، كمشابهة الآثار الفنية للفنان نفسه » ) 122 - Essai ) . فالحرية إذن ظاهرة واقعية ، وليس في الظواهر الواقعية ظاهرة أوضح منها ، ( 19 - Essai ) ، لا بل هي إحدى مسلمات الشعور التي ندركها بالحدس .
وقريب من موقف ( برغسون ) موقف ( سارتر ) الذي جاءنا بمفهوم وجودي يجعل الحرية ظاهرة من ظواهر الوعي الإنساني . وبيان ذلك أنه ليس ثمة فرق عند ( سارتر ) بين الإنسان من جهة . م ما هو كائن ، وبين الإنسان من جهة ما هو حر . قال في كتاب د الوجود والعدم ) : ان حريتي ليست صفة زائدة على وجودي ، ولا خاصة مضافة إلى طبيعتي ، وإنما هي نسيج وجودي نفسه . ذلك لأن الانسان وعي قبل كل شيء ، وهـو موجود لذاته ) Pour soi ) ، و من خواص الموجود لذاته أن يشك في وجود الشيء ، وأن ينقده ، وأن يتوقف عن الحكم عليه ، أي أن يضع نفسه خارج الأشياء ويتصور إعدامها . وهذه القدرة على تصور إعدام الأشياء ، أعني القدرة التي تفصل الانسان عن غيره من الموجودات ، التي يسميها ( سارتر ) حرية . الانسان ، لأن وجوده حر متقدم على ماهيته . وليس هنالك طبيعة إنسانية تامة التكوين ما دام كل إنسان يخلق نفسه بنفسه في كل موقف من مواقف الحياة لقدرته على الاعدام .
المناقشة .
- يرجع الفضل الأول إلى ( هنري برغسون ) في تناوله مسألة الحرية بالبحث في ضوء المعطيات النفسية . فقد أدرك هذا الفيلسوف أن إثبات الحرية إنما يكون بتأمل الحياة الداخلية ، لا بدراسة العالم المادي ، وان معنى الحرية مختلف عن معنى اللاتعين ، لأن الحرية أمر إيجابي ، لا بل هي : كما قال ( ديكارت ) قوة تقيد حقيقية وموجبة ، أما اللاتعين فهو أمر سلبي ، لا بل هو أمر عدمي .
ثم ان نقد ( هنري برغسون ) لمذهب الحتمية يهدم الحتمية الميكانيكية التي قال بها التجريبيون ، ولكنه لا يبطل مفهوم الحتمية العامة ، ولا يتعارض مع فكرة الحتمية النفسية الواسعة .
ومع ذلك فإن القسم الايجابي من هذه النظرية يسوقنا إلى شبهات غامضة لا سبيل إلى حلها . نعم ان الحرية تقتضي اشتراك الشخصية كلها في حدوث الفعل ، ولكن الشخصية التي جعلها ( هنري برغسون ميزان الحرية ليست الشخصية العاقلة ، وإنما هي ا العميقة ، شخصية الأحلام ، والشعور الغامض ، والغريزة . وعلى ذلك فإن حدس الحرية لا يقل غموضاً عن المعطمات النفسية التي يستند اليها . وكثيراً ما صرح ( هنري برغسون ) ، نفسه بأن هذا الحدس لا يعرف ، وأن المقايسة بين فلسفة الحتمية ، وفلسفة الحرية تجعل كفة الميزان مائلة إلى جهة الفلسفة الاولى ، قال : ان الحرية التي يتكلم عنها أقرب إلى حرية الاختيار ، منها إلى الحرية الأخلاقية . وقال أيضاً : هناك أحوال تدل على اننا نقرر بعض الامور بلا سبب ، ولكن فقدان الأسباب قد يكون في بعض الأحيان أعظم سبب ( 150 - Essai ) . وهذا القول يحملنا على الظن أن هنري برغسون ) ، يبحث عن الحرية حيث لا توجد الحرية . أي يبحث عنها في ميدان الأحلام ، والغرائز ، والحركات اللاارادية ، لا في النواحي النفسية العالية . قال ( بلو ) : لو كانت الحرية أمراً نفسياً شخصياً وذاتياً ، لوجب أن توجد صورتها الكاملة في الحياة النفسية العالية ، لا في الحياة النفسية الدفينة ، أعني حياة الحركات اللاارادية ، والدوافع العمياء ، والأحلام الخفية . لأن وحدتنا الحقيقية ليست قائمة على الينابيع المتفرقة التي تنبجس من أعماق النفس وتغذي الشعور ، وانما هي مؤلفة من تلاقي هذه الينابيع واجتماعها . فلا توجد الحرية اذن الاحيث يوجد التأمل ، ولا تنشق عنها أكمامها الاحيث يسيطر العقل على جميع الدوافع . أما حياة النزعات الخفية ، والغرائز الدفينة ، فهي منافية للحرية .
٤ - وقد يخدعنا الشعور أيضا في شهادته على الحاضر .
- ولو اقتصر الفلاسفة الحتميون على إنكار الشعور بالحرية بعد الفعل ، أو قبله ، لبقي هناك مجال للقول بصدق شهادة الشعور على الحاضر ، إلا أنهم زعموا أنها كاذبة بالنسبة إلى الحاضر ، كما بالنسبة إلى الماضي ، والمستقبل . انا لا ندري خلال الفعل ، هل نفعل بحرية ، أم نخضع لدوافع وبواعث خفية . ما أكثر النزعات الغامضة ، والعوامل الخفية التي تؤثر فينا وتتجاذبنا من غير أن نشعر بها ، وما أكثر الأفعال التي ننسبها إلى حرية الاختيار ، وهي ناشئة في الواقع عن أسباب خفية مستقلة عن إرادتنا . ان النائم نوماً مغنطيسيا يتلقى أمراً فينفذه ، ويتوهم أنه حر في تنفيذه ، مع أنه آلة صماء مسخرة لإرادة المنوم . وقد يحسب السكران نفسه حراً عند تلفظه ببعض الألفاظ ، أو قيامه ببعض الأفعال ، إلا يعود إلى رشده يكذب ما قال أولاً ، وينكر ما فعل ، فكأنه دوارة يدفعها الهواء ، أو إبرة مغناطيسية يجذبها المغنطيس ، أو دوامة يقذف بها الخيط في جهة الدوران ، فلو كانت الدوارة ، والإبرة ، والدوامة ، شاعرة بحركتها لزعمت أنها حرة . إن توهم الحرية شبيه بتوهم حر ركة الشمس حول الأرض ، يظن المرء أنه حر ، كما يظن أن الشمس متحركة ، والأرض ثابتة . ومعنى ذلك أن الشعور خداع ، يكذب علينا في النوم ، كما يخدعنا في اليقظة ، ويخدعنا في المرض ، كما يضلنا ونحن أصحاء ، ولكن كيف يتولد هذا الوهم . لماذا يظن الإنسان نفسه حراً وهو مقيد ؟ لقد أجاب ( سبينوزا ) عن ذلك بقوله : إن هذا الوهم يتولد من الجهل بالأسباب . إننا نجهل الأسباب الخارجية ، والعوامل الداخلية ، فننسب الفعل إلى أنفسنا ، ونتوهم أننا خالقون له ، ولو تأملناه لأرجعناه إلى أسبابه الحقيقية . فكما ترجع الحوادث التي نجهل أسبابها إلى المصادفة ، كذلك ترجع الأفعال التي نجهل أسبابها الخارجية ، والداخلية إلى الحرية .
٥ - الرد على الفلاسفة الحتميين .
- إذا كان هنالك وهم فإن مذهب الحتمية لا يوضح لنا هذا الوهم . نعم إن الظواهر التي يستند اليها فلاسفة الحتمية صحيحة . وما من عاقل ينكر اليوم تأثير اللاشعور في أفعال الإنسان وإراداته إلا أن هذا التأثير لا يكفي لتعليل وهم الحرية . هل يشعر السكران في شكره ، والنائم في نومه بشيء من الحرية ، إذا لم يسبق لهما شعور بذلك ، وهما في الحالة الطبيعية ؟ إنه لمن الصعب علينا أن نتصور حصول وهم الحرية عند كائن أفعاله وحركـ ركاته مقيدة بعضها ببعض ، كتقيد حر أو الإبرة المغنطيسية ، كما أنه من الصعب علينا أن نتصور حصول أوهام البصر عند الأكمه ، أو أوهام السمع عند الأبكم الأصم . فلا يمكنك إذن أن تتوهم انك حر الا اذا سبق لك الاتصاف بالحرية مرة واحدة على الأقل . ولو كان قول ( سبينوزا ) صحيحاً ، أي لو كان توهم الحرية ناشئاً عن الجهل بالأسباب الفاعلة ، لكانت الأفعال المنعكسة ، والأفعال الغريزية التي لا نشعر بأسبابها أكثر أفعالنا اتصافاً بالحرية ، الا أن التجربة تثبت لنـ ذلك ، وتبين لنا أن شعورنا بالحرية تابع لعلمنا بالأسباب ، فكلما كان علمنا بالأسباب الفاعلة أتم ، كان شعورنا بالحرية أقوى .
٦ - لولا الحرية لما شعرنا بأفعالنا ولا بانيتنا .
- ونضيف الى ما تقدم أن فرضية الحتمية المطلقة لا تتعارض مع شعورنا بحريتنا فحسب ؛ بل تتعارض أيضاً مع بأفعالنا وأنيتنا . لو كانت أفعالنا مستقلة عن ذواتنا ، وكانت شخصياتنا لا تؤثر فيها أبداً ، لما اختلفت هذه الأفعال عن الأفعال الآلية المحضة . فلماذا أنسب الأفعال الأولى الى نفسي وأنكر الثانية ، وأعتقد أني غير مسؤول عنها . ذلك لأن الأفعال الأولى متصلة بشخصيتي . أما الثانية فتابعة للأسباب الخارجية التي ليس لارادتي فيها أثر . لو كانت شخصيتنا معلولة للأسباب الخارجية ، وكانت آنا قصيراً من آونة الزمان أو نوراً سريع الزوال ، تابعاً لآلية الحوادث ، لما اتصفت بالشعور الفردي ، ولما انفصلت عن الطبيعة ، ولما أمكنها أن تتخلص من قيودها ، ولا أن تعارضها لنا بفعلها ، وشعورها ، وتفكيرها ، وتثبت بذلك أنها ذات ( أنية ) مستقلة عنها . . يتضح من ذلك اذن أن الشعور بالفعل ، والشعور بالأنا ، لا يتفقان مع فرضية الحتمية المطلقة ، بل يستلزمان القول بالحرية .
٧ - الحرية إحدى مسلمات الشعور المباشرة : نظرية ( هنري برغسون ) .
- ومما زاد في قوة هذه الملاحظات السابقة أنها يمكن أن تؤول على طريقة ( هنري برغسون ) المعروفة بطريقة الحدس فقد بين هذا الفيلسوف أن الحدس الداخلي لا يكشف لنا عن تساوي الضدين في الإمكان ، ولا عن أمر الإرادة المطلق في قولها للشيء كن فيكون ، ولا عن قوة إبداع الإرادة كما وصفها فلاسفة حرية الاختيار ، بل يدلنا على أن هناك سببية من نوع خاص يمكننا أن نسميها بالسببية النفسية ( Causalité psychologique ) قال ( هنري برغسون ) : أن السببية النفسية ليست مشابهة للسببية الطبيعية ، لأن السببية الطبيعية تضمن فكرة أساسية ، وهي إمكان تركيب الكل من العناصر نفسها . أما السببية النفسية فلا تتضمن شيئاً من ذلك . وتطبيق السببية الطبيعية في عالم النفس أدى إلى كثير الأخطاء التي وقع فيها فلاسفة الحتمية . ان هؤلاء الفلاسفة يقسمون الفعل الإرادي المتصل إلى عناصر متفرقة ، ويجعلون النفس مؤلفة من أحوال مختلفة خاضعة للقوانين الميكانيكية ، ويزعمون أن هذه الأحوال تعود هي بنفسها إلى مسرح الشعور من غير أن تتغير ، وان العلة نفسها تحدث المعلول نفسه . وهذه الآراء مخالفة لحقيقة الحياة النفسية التي شبهناها بنهر دائم الجريان ، أو غيوم دائمة الحركة ، أو لحن موسيقي منسجم الأصوات ، إلا أن مذهب الحتمية لم يحفل بهذه الصفات ، بل أرجع النفس إلى أجزاء فردة مستقلة ، وزعم أن هذه الأجزاء يؤثر بعضها في بعض ، وفقاً لقوانين علم الميكانيك ، وانها ترتبط بعضها ببعض ارتباطاً آلياً وفقاً لقوانين التداعي .
لنتحرر إذن من هذه الفلسفة النفسية الجامدة ، ولنصور الحياة النفسية تصوير اً صادقاً يجمع بين اتصال الأحوال النفسية ، وبين تغيرها ، وتمازج أحوالها . اننا إذا فعلنا ذلك أدركنا أن كل حالة نفسية مفردة تتضمن النفس كلها ، وأن الجزء فيها يشتمل على الكل . انظر إلى حالة نفسية بسيطة كحالة العطف ، أو الحب ، أو البغضاء . ان فلسفة الحتمية ترجع هذه الأحوال إلى قوى خارجية مختلفة التركيب والتأثير . أما فلسفة الديمومة ، أي فلسفة ) هنري برغسون ) ، فتجعل كل حالة من هذه الأحوال البسيطة مرآة صقيلة تنعكس عليها كل أحوال النفس ، فتمتزج بها ، وتصطبغ بلون جديد غير الذي كان لهـا من من قبل . وعلى ذلك فإذا ولدت حالة نفسية واحدة ، كالعطف ، أو الرغبة ، فعلاً . الأفعال ، كان هذا الفعل ناشئاً عن النفس كلها ، لا عن تلك الحالة النفسية المفردة وحدها ، فالفعل الحر فعل صادر عن النفس كلها ، والحرية هي ( نسبة النفس المشخصة إلى الفعل
الصادر عنها ، ( 167 ) Essai ) . ومعنى ذلك كله أن الفعل الحر لا يتولد من عامل نفسي مفرد ، بل ينشأ عن اشتراك النفس كلها في توليده ، ونسبة المريد إلى أفعاله ، كنسبة الفنان إلى آثاره ، ان في كل أثر من آثاره طابعاً خاصاً يدل على شخصيته كلها قال أفعالنا : « نحن لا تتصف بالحرية إلا عندما تصدر ( هنري برغسون ) شخصيتنا كلها ، عن أي عندما تدل أفعالنا على ذواتنا ، ويكون بينها وبين شخصيتنا مشابهة يصعب تعريفها ، كمشابهة الآثار الفنية للفنان نفسه » ) 122 - Essai ) . فالحرية إذن ظاهرة واقعية ، وليس في الظواهر الواقعية ظاهرة أوضح منها ، ( 19 - Essai ) ، لا بل هي إحدى مسلمات الشعور التي ندركها بالحدس .
وقريب من موقف ( برغسون ) موقف ( سارتر ) الذي جاءنا بمفهوم وجودي يجعل الحرية ظاهرة من ظواهر الوعي الإنساني . وبيان ذلك أنه ليس ثمة فرق عند ( سارتر ) بين الإنسان من جهة . م ما هو كائن ، وبين الإنسان من جهة ما هو حر . قال في كتاب د الوجود والعدم ) : ان حريتي ليست صفة زائدة على وجودي ، ولا خاصة مضافة إلى طبيعتي ، وإنما هي نسيج وجودي نفسه . ذلك لأن الانسان وعي قبل كل شيء ، وهـو موجود لذاته ) Pour soi ) ، و من خواص الموجود لذاته أن يشك في وجود الشيء ، وأن ينقده ، وأن يتوقف عن الحكم عليه ، أي أن يضع نفسه خارج الأشياء ويتصور إعدامها . وهذه القدرة على تصور إعدام الأشياء ، أعني القدرة التي تفصل الانسان عن غيره من الموجودات ، التي يسميها ( سارتر ) حرية . الانسان ، لأن وجوده حر متقدم على ماهيته . وليس هنالك طبيعة إنسانية تامة التكوين ما دام كل إنسان يخلق نفسه بنفسه في كل موقف من مواقف الحياة لقدرته على الاعدام .
المناقشة .
- يرجع الفضل الأول إلى ( هنري برغسون ) في تناوله مسألة الحرية بالبحث في ضوء المعطيات النفسية . فقد أدرك هذا الفيلسوف أن إثبات الحرية إنما يكون بتأمل الحياة الداخلية ، لا بدراسة العالم المادي ، وان معنى الحرية مختلف عن معنى اللاتعين ، لأن الحرية أمر إيجابي ، لا بل هي : كما قال ( ديكارت ) قوة تقيد حقيقية وموجبة ، أما اللاتعين فهو أمر سلبي ، لا بل هو أمر عدمي .
ثم ان نقد ( هنري برغسون ) لمذهب الحتمية يهدم الحتمية الميكانيكية التي قال بها التجريبيون ، ولكنه لا يبطل مفهوم الحتمية العامة ، ولا يتعارض مع فكرة الحتمية النفسية الواسعة .
ومع ذلك فإن القسم الايجابي من هذه النظرية يسوقنا إلى شبهات غامضة لا سبيل إلى حلها . نعم ان الحرية تقتضي اشتراك الشخصية كلها في حدوث الفعل ، ولكن الشخصية التي جعلها ( هنري برغسون ميزان الحرية ليست الشخصية العاقلة ، وإنما هي ا العميقة ، شخصية الأحلام ، والشعور الغامض ، والغريزة . وعلى ذلك فإن حدس الحرية لا يقل غموضاً عن المعطمات النفسية التي يستند اليها . وكثيراً ما صرح ( هنري برغسون ) ، نفسه بأن هذا الحدس لا يعرف ، وأن المقايسة بين فلسفة الحتمية ، وفلسفة الحرية تجعل كفة الميزان مائلة إلى جهة الفلسفة الاولى ، قال : ان الحرية التي يتكلم عنها أقرب إلى حرية الاختيار ، منها إلى الحرية الأخلاقية . وقال أيضاً : هناك أحوال تدل على اننا نقرر بعض الامور بلا سبب ، ولكن فقدان الأسباب قد يكون في بعض الأحيان أعظم سبب ( 150 - Essai ) . وهذا القول يحملنا على الظن أن هنري برغسون ) ، يبحث عن الحرية حيث لا توجد الحرية . أي يبحث عنها في ميدان الأحلام ، والغرائز ، والحركات اللاارادية ، لا في النواحي النفسية العالية . قال ( بلو ) : لو كانت الحرية أمراً نفسياً شخصياً وذاتياً ، لوجب أن توجد صورتها الكاملة في الحياة النفسية العالية ، لا في الحياة النفسية الدفينة ، أعني حياة الحركات اللاارادية ، والدوافع العمياء ، والأحلام الخفية . لأن وحدتنا الحقيقية ليست قائمة على الينابيع المتفرقة التي تنبجس من أعماق النفس وتغذي الشعور ، وانما هي مؤلفة من تلاقي هذه الينابيع واجتماعها . فلا توجد الحرية اذن الاحيث يوجد التأمل ، ولا تنشق عنها أكمامها الاحيث يسيطر العقل على جميع الدوافع . أما حياة النزعات الخفية ، والغرائز الدفينة ، فهي منافية للحرية .
تعليق