الحرية والحتمية .. الشعور يثبت الحرية .. شهادة الشعور الفردي - ١ -
يتضح لك من التحليل السابق أن البحث في مسألة الحرية يجب أن يتناول ناحتين : الناحية النفسية ، والناحية الكونية . وقد أدرك الفلاسفة هذا الأمر ، فبحثوا في الحرية ظاهرة أولاً من حيث هي ظاهرة من ظواهر الشعور ، وبحثوا فيها ثانياً من حيث هي مخالفة للحتمية الطبيعية . وفي الحق أن الشعور يثبت الحرية : فالشعور الفردي يشهد لها ، والضمير يفرضها ويجعلها مبدأ من مبادى الواجب . أما العلم فيقتضي الحتمية ، ويستند اليها في أوائله ، ثم يؤيدها بارتقائه وتقدمه .
آ - الشعور يثبت الحرية
إننا نشعر بالحرية خلال الفعل الإرادي . فالحرية إذن كما قال ( برغسون ) إحدى ظواهر الشعور ، ولكن الإنسان لا يشعر بها شعوراً مبها فحسب ؛ بل يدركها ، ويعتقد أنه متصف بها . فمن الضروري إذن تعليل هذا الاعتقاد .
يمكننا إيضاح هذا الاعتقاد بشهادة الشعور الفردي ، وشهادة الضمير ، وشهادة الشعور الاجتماعي .
ا - شهادة الشعور الفردی
قال ( بوسويه ) : ( كل منا يصغي إلى صوت قلبه ، ويستشير نفسه ، ويشعر بحرية إرادته ، كما يشعر بما يدركه ويعقله » . فالشعور بالحرية إذن أمر تجريبي محض ، وفي وسع كل إنسان أن يدرك ذلك بنفسه .
قال ( ديكارت ) : ( إن الحرية تدرك بلا برهان ) .
( Descartes , Principes de la philosophie , 1_ art.39 ) .
وقال ( بوسيه ) : ( إن الانسان الصحيح العقل لا يحتاج إلى البرهان على حرية اختياره لأنه يشعر بها في داخله ، ( Connaissance de Dieu , ch 1 , XVIII ) ، وهو يشعر بها قبل الفعل ، أو في أثناء الفعل ، أو بعد الفعل .
آ - إنا نشعر بالحرية قبل الفعل .
- إنا نشعر بحريتنا قبل الفعل ، لأننا ننظر في الأسباب الداعية اليه ، ونزن المصلحة التي تعود علينا منه ، وقد نمتنع عنه بعد اعمال الروية فيه ، وكثيراً ما ندرك أن سيطرة هذه الأسباب ليست مطلقة ، فنديم المناقشة فيها كثيراً ، أو قليلا ، حق تتضح لنا ، وتصبح ميولنا ، ونزعاتنا ، وأفعالنا معقولة .
ب - ونشعر بالحرية في أثناء الفعل .
- ان شعورنا بالحرية في أثناء الفعل شعور قوي ، لأن العقل يدرك الفعل من الداخل ، فيطلع على تلقائية الارادة في تصور الغاية ، ريدرك أثر الحرية في المناقشة ، والعزم . ففي المناقشة نشعر بالتأمل يوجه الانتباه إلى الأسباب المعقولة ، ويجمعها حول الغاية المقصودة من غير أن يكون مقيداً كل التقيد بقوة الأسباب ، وفي العزم نشعر بحريتنا في اتباع تلك الأسباب ، أو الامتناع عنها ، كان هناك إدراكاً مباشراً لفاعلية النفس المنظمة . فشعورك خلال الفعل بأنك فاعل قدر شعورك بأنك عاقل ، وأنت تدرك في الحالة الاولى أنك حر ، كما تدرك في الحالة الثانية أنك مفكر .
ج - ونشعر بالحرية بعد الفعل .
- وكذلك إذا تم الفعل شعرنا بالمسؤولية الناشئة عنه ، ولولا اعتقادنا أننا أحرار لما شعرنا بالمسؤولية ، ولا بارتياح الضمير ، أو تبكيته بعد الاحسان ، أو الاساءة . فنحن نشعر بالحرية لأننا نعلم أن مباشرة الفعل ، أو إتمامه ، أو الانصراف عنه ، كل ذلك متعلق بنا . وكثيراً ما نفخر بأفعالنا ، أو نسوغها ، أو نذمها دون استئناف ، ونندم على ما فات ، والندم على سيء الأفعال ندم على سوء الاختيار .
د - حرية اللامبالاة والشعور .
- زعم بعض الفلاسفة أن الشعور بالحرية يتجلى في تقيد بعض أفعاله بسبب من الأسباب . قالوا : ان التجربة الداخلية تكشف لنا عن حرية اللامبالاة التي يؤدي فيها تساوي الأسباب المتعارضة إلى الشعور بالتوازن . وقال ( بوسويه ) : ( اني أشعر عندما أرفع يدي بقدرتي على إيقافها عن الحركة أو تحريكها ، وإذا حركتها أمكنني أن أميل بها ذات اليمين ، أو ذات الشمال ، بسهولة واحدة ، لأن الطبيعة نظمت أعضاء الحركة في الانسان على نحو لا يترك مجالاً للشعور بزيادة ألم ، أو لذة عند القيام بفعل من الأفعال ( ۱ ) و مما قاله ( ريد ) : « أما أنا فإني أقوم كل يوم بعدد كبير من الأفعال التافهة من غير أن أشعر معها بسبب يقيدني ، ( ٢ ) . إذا أراد رجل أن يدفع قطعة واحدة من النقود ، وكان عنده مائنا قطعة متساوية تصلح كلها للهدف المقصود ، فإنه ينتخب واحدة منها من غير أن يكون هناك سبب مرجح لأحداها على الأخرى . كذلك حمار ( بوريدان ) إذا كان بعده عن سطل الماء مساويا لبعده عن علبة الجلبان ، وكان شعوره بالجوع مساويا لإحساسه بالعطش ، فإنه يبقى أمامها حائراً و متردداً حتى يهلك ، فلابد إذن من الاتجاه إلى أحد هذين الطرفين ، ولابد من الشعور عند ذلك بالحرية .
النقد .
- نحن لا ننكر أن الانسان يشعر بالحرية ، ولكننا نقيد ذلك بالتنبيهات التالية :
۱ - يجب التفريق أولا بين حرية الاختيار والحرية الأخلاقية .
ـ ان الأمثلة التي جاء بها ( بوسويه ) و ( ريد ( لا تدل على الشعور بالحرية الحقيقية . لأن حرية الاختيار لو كانت مقصورة على هذا الشعور لما كان لها معنى حقيقي . دع أن ملاحظات ( بوسويه ) و ( دیکارت ) و ( ريد ) لا تنطبق إلا على شهادة الشعور ، فهل هذه الشهادة صادقة ، أم كاذبة .
۲ - ليس شعورنا بالحرية قبل الفعل إلا ذكرى أفعالنا الماضية .
زعم الفلاسفة الحتميون أنه لا يمكن الوثوق بشهادة الشعور ، لأن الانسان لا يستطيع أن يشعر قبل الفعل بقدرته على انتخاب أحد الطرفين ، ولا بترجيح أحدهما على الآخر . قال ( استوارت ميل ) : ( ان الشعور يطلعني على ما أفعله ، أو أشعر به الآن ، لا على ما أستطيع فعله في المستقبل ، لأن الشعور ليس نبيا ، اننا نشعر الآن بما هو كائن ، لا بما هو آت ، أو ممكن ، ولا نعلم اننا قادرون على فعل أمر من الأمور إلا بعد فعل أمر آخر مساو له أو شبيه به ، ولو لم يعرض لنا الفعل اتفاقاً لما علمنا أبداً أننا قادرون عليه ( ١ ) . فشعورنا بقدرتنا إنما هو ، كما قال ( هيوم ) ، ذكرى أفعالنا السابقة .
وقد رد ( الفرد فويه ) على ( استوارت ميل ) بقوله : ان شعورنا بقدرتنا على الفعل لا يدل على التنبؤ بالأمر قبل وقوعه ، بل يدل على شعورنا في داخلنا بحالة تسمح لنا بأن نقول ان الأمر ممكن ، أو ممتنع . لقد أصاب ( استوارت ميل ) في قوله : إن شعورنا هذا نتيجة تجاربنا السابقة . فلولا تعلمي السباحة في الماضي لما شعرت الآن بقدرتي على السباحة . إن الشعور بالحرية شعور بالامكان . ولكننا إذا تعمقنا في التحليل تبين لنا أن الوجدان يطلعنا على ما نشعر به الآن أو نفعله ، كما يطلعنا أيضاً على ما نستطيع العزم على فعله في المستقبل . ان المناقشة أو الروية تستلزم الحكم بإمكان الفعل ، والحكم بالامكان شعور بالامكان ، نعم قد يكون هذا الشعور كاذبا ، ولكن عدم انطباقه على الواقع لا ينفي وجوده من حيث هو حالة نفسية حقيقية ، فالماضي يعلمني إذن كيف أستطيع أن أستخدم قدرتي ، ويحدد لي نطاق استعمالها ، إلا أنه لا يكفي لتوضيح اتصافي بهذه القدرة .
وقصارى القول ان الفلاسفة الحتميين يريدون أن يرجعوا ( الأنا ) إلى مجموعة بسيطة من الظواهر ، وأن يجعلوا الشعور شاهداً عليها يدركها من خارج ؛ أي من غير أن يكون له فيها تأثير . والحق عن ذلك ، لأن الشعور ليس شيئاً ثابتاً لا يتغير ، وإنما فاعلية دائمة ، تصل الماضي بالحاضر ، والحاضر بالمستقبل ، فحياة النفس لا تنحصر إذن فيما هي عليه الآن بالفعل ، بل تمتد إلى ما بعد الحاضر ، وتذهب إلى ما وراء الواقع : ، فلا غرو إذا كان شعورنا بقدرتها ممكناً ، وهذا الشعور بالقدرة إنما هو من الوجهة النفسية شعور بالنزعات ، أي شعور بالفاعلية ، والسببية . نعم ان الفلاسفة الحتميين يريدون أن يجعلوا النفس قوة انفعال محض تتأثر بالامور من غير أن يكون لها فيها تأثير . ولكننا إذا رجعنا إلى نفوسنا أدركنا أن الفاعلية والسببية من معطيات الشعور المباشرة . لقد زعم استواوت ( ميل أن هذه السببية أمر فريد لا مثيل له . ونحن نرى على عكس ذلك أنها عامة . ان كل إنسان يشعر بالسببية النفسية كما يدرك أنه مفكر ، وأنه موجود ويشعر بأنيته كما قال ( ديكارت ( شعوراً داخلياً ، وقلما شعر الإنسان بأنيته ولم يشعر بفاعليته ، وإرادته الحرة ، فالشعور بالحرية ملازم إذن للشعور بالشخصية ، وهو شعور عام تجده عند الأخيار ، كما تجده عند الأشرار .
٣ - إن الشعور بالحرية بعد الفعل ليس حقيقيا .
- ثم إن الفلاسفة الحتميين يزعمون أن الشعور بالحرية بعد الفعل ، وهم لا حقيقة له ، والدليل على ذلك أن الشعور بالحرية لا يحصل لنا إلا بطريق الذاكرة ، لا بالإدراك المباشر ، فلا يمكنني
أن أحكم باتصاف بعض أفعالي السابقة بالحريه إلا إذا رجعت إلى الماضي ، واسترجعت منه ما جرى معي في تلك اللحظة ، وعدت إلى ما كنت عليه ، وهذا محال ، فيبقى إذن واسطة واحدة للاطلاع ، وهي الذاكرة . وقلما اعتمد الإنسان على هذه الواسطة وسلم من الوقوع في الخطأ .
يتضح لك من التحليل السابق أن البحث في مسألة الحرية يجب أن يتناول ناحتين : الناحية النفسية ، والناحية الكونية . وقد أدرك الفلاسفة هذا الأمر ، فبحثوا في الحرية ظاهرة أولاً من حيث هي ظاهرة من ظواهر الشعور ، وبحثوا فيها ثانياً من حيث هي مخالفة للحتمية الطبيعية . وفي الحق أن الشعور يثبت الحرية : فالشعور الفردي يشهد لها ، والضمير يفرضها ويجعلها مبدأ من مبادى الواجب . أما العلم فيقتضي الحتمية ، ويستند اليها في أوائله ، ثم يؤيدها بارتقائه وتقدمه .
آ - الشعور يثبت الحرية
إننا نشعر بالحرية خلال الفعل الإرادي . فالحرية إذن كما قال ( برغسون ) إحدى ظواهر الشعور ، ولكن الإنسان لا يشعر بها شعوراً مبها فحسب ؛ بل يدركها ، ويعتقد أنه متصف بها . فمن الضروري إذن تعليل هذا الاعتقاد .
يمكننا إيضاح هذا الاعتقاد بشهادة الشعور الفردي ، وشهادة الضمير ، وشهادة الشعور الاجتماعي .
ا - شهادة الشعور الفردی
قال ( بوسويه ) : ( كل منا يصغي إلى صوت قلبه ، ويستشير نفسه ، ويشعر بحرية إرادته ، كما يشعر بما يدركه ويعقله » . فالشعور بالحرية إذن أمر تجريبي محض ، وفي وسع كل إنسان أن يدرك ذلك بنفسه .
قال ( ديكارت ) : ( إن الحرية تدرك بلا برهان ) .
( Descartes , Principes de la philosophie , 1_ art.39 ) .
وقال ( بوسيه ) : ( إن الانسان الصحيح العقل لا يحتاج إلى البرهان على حرية اختياره لأنه يشعر بها في داخله ، ( Connaissance de Dieu , ch 1 , XVIII ) ، وهو يشعر بها قبل الفعل ، أو في أثناء الفعل ، أو بعد الفعل .
آ - إنا نشعر بالحرية قبل الفعل .
- إنا نشعر بحريتنا قبل الفعل ، لأننا ننظر في الأسباب الداعية اليه ، ونزن المصلحة التي تعود علينا منه ، وقد نمتنع عنه بعد اعمال الروية فيه ، وكثيراً ما ندرك أن سيطرة هذه الأسباب ليست مطلقة ، فنديم المناقشة فيها كثيراً ، أو قليلا ، حق تتضح لنا ، وتصبح ميولنا ، ونزعاتنا ، وأفعالنا معقولة .
ب - ونشعر بالحرية في أثناء الفعل .
- ان شعورنا بالحرية في أثناء الفعل شعور قوي ، لأن العقل يدرك الفعل من الداخل ، فيطلع على تلقائية الارادة في تصور الغاية ، ريدرك أثر الحرية في المناقشة ، والعزم . ففي المناقشة نشعر بالتأمل يوجه الانتباه إلى الأسباب المعقولة ، ويجمعها حول الغاية المقصودة من غير أن يكون مقيداً كل التقيد بقوة الأسباب ، وفي العزم نشعر بحريتنا في اتباع تلك الأسباب ، أو الامتناع عنها ، كان هناك إدراكاً مباشراً لفاعلية النفس المنظمة . فشعورك خلال الفعل بأنك فاعل قدر شعورك بأنك عاقل ، وأنت تدرك في الحالة الاولى أنك حر ، كما تدرك في الحالة الثانية أنك مفكر .
ج - ونشعر بالحرية بعد الفعل .
- وكذلك إذا تم الفعل شعرنا بالمسؤولية الناشئة عنه ، ولولا اعتقادنا أننا أحرار لما شعرنا بالمسؤولية ، ولا بارتياح الضمير ، أو تبكيته بعد الاحسان ، أو الاساءة . فنحن نشعر بالحرية لأننا نعلم أن مباشرة الفعل ، أو إتمامه ، أو الانصراف عنه ، كل ذلك متعلق بنا . وكثيراً ما نفخر بأفعالنا ، أو نسوغها ، أو نذمها دون استئناف ، ونندم على ما فات ، والندم على سيء الأفعال ندم على سوء الاختيار .
د - حرية اللامبالاة والشعور .
- زعم بعض الفلاسفة أن الشعور بالحرية يتجلى في تقيد بعض أفعاله بسبب من الأسباب . قالوا : ان التجربة الداخلية تكشف لنا عن حرية اللامبالاة التي يؤدي فيها تساوي الأسباب المتعارضة إلى الشعور بالتوازن . وقال ( بوسويه ) : ( اني أشعر عندما أرفع يدي بقدرتي على إيقافها عن الحركة أو تحريكها ، وإذا حركتها أمكنني أن أميل بها ذات اليمين ، أو ذات الشمال ، بسهولة واحدة ، لأن الطبيعة نظمت أعضاء الحركة في الانسان على نحو لا يترك مجالاً للشعور بزيادة ألم ، أو لذة عند القيام بفعل من الأفعال ( ۱ ) و مما قاله ( ريد ) : « أما أنا فإني أقوم كل يوم بعدد كبير من الأفعال التافهة من غير أن أشعر معها بسبب يقيدني ، ( ٢ ) . إذا أراد رجل أن يدفع قطعة واحدة من النقود ، وكان عنده مائنا قطعة متساوية تصلح كلها للهدف المقصود ، فإنه ينتخب واحدة منها من غير أن يكون هناك سبب مرجح لأحداها على الأخرى . كذلك حمار ( بوريدان ) إذا كان بعده عن سطل الماء مساويا لبعده عن علبة الجلبان ، وكان شعوره بالجوع مساويا لإحساسه بالعطش ، فإنه يبقى أمامها حائراً و متردداً حتى يهلك ، فلابد إذن من الاتجاه إلى أحد هذين الطرفين ، ولابد من الشعور عند ذلك بالحرية .
النقد .
- نحن لا ننكر أن الانسان يشعر بالحرية ، ولكننا نقيد ذلك بالتنبيهات التالية :
۱ - يجب التفريق أولا بين حرية الاختيار والحرية الأخلاقية .
ـ ان الأمثلة التي جاء بها ( بوسويه ) و ( ريد ( لا تدل على الشعور بالحرية الحقيقية . لأن حرية الاختيار لو كانت مقصورة على هذا الشعور لما كان لها معنى حقيقي . دع أن ملاحظات ( بوسويه ) و ( دیکارت ) و ( ريد ) لا تنطبق إلا على شهادة الشعور ، فهل هذه الشهادة صادقة ، أم كاذبة .
۲ - ليس شعورنا بالحرية قبل الفعل إلا ذكرى أفعالنا الماضية .
زعم الفلاسفة الحتميون أنه لا يمكن الوثوق بشهادة الشعور ، لأن الانسان لا يستطيع أن يشعر قبل الفعل بقدرته على انتخاب أحد الطرفين ، ولا بترجيح أحدهما على الآخر . قال ( استوارت ميل ) : ( ان الشعور يطلعني على ما أفعله ، أو أشعر به الآن ، لا على ما أستطيع فعله في المستقبل ، لأن الشعور ليس نبيا ، اننا نشعر الآن بما هو كائن ، لا بما هو آت ، أو ممكن ، ولا نعلم اننا قادرون على فعل أمر من الأمور إلا بعد فعل أمر آخر مساو له أو شبيه به ، ولو لم يعرض لنا الفعل اتفاقاً لما علمنا أبداً أننا قادرون عليه ( ١ ) . فشعورنا بقدرتنا إنما هو ، كما قال ( هيوم ) ، ذكرى أفعالنا السابقة .
وقد رد ( الفرد فويه ) على ( استوارت ميل ) بقوله : ان شعورنا بقدرتنا على الفعل لا يدل على التنبؤ بالأمر قبل وقوعه ، بل يدل على شعورنا في داخلنا بحالة تسمح لنا بأن نقول ان الأمر ممكن ، أو ممتنع . لقد أصاب ( استوارت ميل ) في قوله : إن شعورنا هذا نتيجة تجاربنا السابقة . فلولا تعلمي السباحة في الماضي لما شعرت الآن بقدرتي على السباحة . إن الشعور بالحرية شعور بالامكان . ولكننا إذا تعمقنا في التحليل تبين لنا أن الوجدان يطلعنا على ما نشعر به الآن أو نفعله ، كما يطلعنا أيضاً على ما نستطيع العزم على فعله في المستقبل . ان المناقشة أو الروية تستلزم الحكم بإمكان الفعل ، والحكم بالامكان شعور بالامكان ، نعم قد يكون هذا الشعور كاذبا ، ولكن عدم انطباقه على الواقع لا ينفي وجوده من حيث هو حالة نفسية حقيقية ، فالماضي يعلمني إذن كيف أستطيع أن أستخدم قدرتي ، ويحدد لي نطاق استعمالها ، إلا أنه لا يكفي لتوضيح اتصافي بهذه القدرة .
وقصارى القول ان الفلاسفة الحتميين يريدون أن يرجعوا ( الأنا ) إلى مجموعة بسيطة من الظواهر ، وأن يجعلوا الشعور شاهداً عليها يدركها من خارج ؛ أي من غير أن يكون له فيها تأثير . والحق عن ذلك ، لأن الشعور ليس شيئاً ثابتاً لا يتغير ، وإنما فاعلية دائمة ، تصل الماضي بالحاضر ، والحاضر بالمستقبل ، فحياة النفس لا تنحصر إذن فيما هي عليه الآن بالفعل ، بل تمتد إلى ما بعد الحاضر ، وتذهب إلى ما وراء الواقع : ، فلا غرو إذا كان شعورنا بقدرتها ممكناً ، وهذا الشعور بالقدرة إنما هو من الوجهة النفسية شعور بالنزعات ، أي شعور بالفاعلية ، والسببية . نعم ان الفلاسفة الحتميين يريدون أن يجعلوا النفس قوة انفعال محض تتأثر بالامور من غير أن يكون لها فيها تأثير . ولكننا إذا رجعنا إلى نفوسنا أدركنا أن الفاعلية والسببية من معطيات الشعور المباشرة . لقد زعم استواوت ( ميل أن هذه السببية أمر فريد لا مثيل له . ونحن نرى على عكس ذلك أنها عامة . ان كل إنسان يشعر بالسببية النفسية كما يدرك أنه مفكر ، وأنه موجود ويشعر بأنيته كما قال ( ديكارت ( شعوراً داخلياً ، وقلما شعر الإنسان بأنيته ولم يشعر بفاعليته ، وإرادته الحرة ، فالشعور بالحرية ملازم إذن للشعور بالشخصية ، وهو شعور عام تجده عند الأخيار ، كما تجده عند الأشرار .
٣ - إن الشعور بالحرية بعد الفعل ليس حقيقيا .
- ثم إن الفلاسفة الحتميين يزعمون أن الشعور بالحرية بعد الفعل ، وهم لا حقيقة له ، والدليل على ذلك أن الشعور بالحرية لا يحصل لنا إلا بطريق الذاكرة ، لا بالإدراك المباشر ، فلا يمكنني
أن أحكم باتصاف بعض أفعالي السابقة بالحريه إلا إذا رجعت إلى الماضي ، واسترجعت منه ما جرى معي في تلك اللحظة ، وعدت إلى ما كنت عليه ، وهذا محال ، فيبقى إذن واسطة واحدة للاطلاع ، وهي الذاكرة . وقلما اعتمد الإنسان على هذه الواسطة وسلم من الوقوع في الخطأ .
تعليق