نتائج العادة .. العادة
نتائج العادة
للعادة أثر كبير في حياة الفرد والمجتمع ، لأنها المادة التي يتألف منها سلوك الإنسان ، فهي تحفظ مشاعر الفرد ، وأفكاره ، وأفعاله ، كما تنظم حياة المجتمع ، وتحفظ أوضاعه من التغير المفاجيء . وتنحصر نتائج العادة في أمرين أساسيين :
آ - العادة نؤدي إلى ( الاوتوماتية ) .
- النتيجة الأولى للعادة هي آلية الفعل ، فيها يتضاءل شعور المرء ، ويقل إحساسه وانتباهه ، وتخف أحواله الانفعالية شيئاً فشيئاً وكلما تمكن المرء من العمل ، وأتقنه ، وأصبح حاذقاً فيه ، خف شعوره به ، وانتباهه له ، وما اعتياد شم رائحة من الروائح ، أو تحمل درجة معينة من الحرارة ، إلا انقطاع الشعور بالمؤثر ، وكذلك اعتياد المشي ، أو الكتابة ، أو العزف على إحدى الآلات الموسيقية ، أو ركوب الدراجات ، ان هي إلا صرف الانتباه ، والجهد الإرادي ، عن الحركات الجزئية التي يتألف منها الفعل الكلي ، وعدم الشعور بها . بحيث يستقر الفعل إذ ذاك في المراكز العصبية السفلية ، وتتوقف المراكز العصبية العالية عن الاشتغال به . فالمادة منفعلة كانت أو فاعلة ، تؤدي إلى اللاشعور . حتى لقد قال العلماء انها تخفف من شدة الحساسية . وتمنع تدخل الشعور في الأعمال ( الاوتوماتية ) لأن تدخله فيها يعرقلها ، ويشوش نظام آليتها .
وهذا القانون ينطبق أيضاً على الإحساسات ، كإحساس اللمس ، والحرارة ، والشم ، والذوق ، فالعادة كثيراً ما تقلل شعورنا باللمس ، والحرارة ، أو الرطوبة ، أو الملوحة ، أو الحلاوة ، أو الرائحة التي نتطيب بها ، ولكن هذه النتائج ليست ناشئة . فحسب ، وإنما هي ناشئة أيضاً عن قانون النسبية الذي تكلمنا عليه سابقاً .
أضف إلى ذلك أن العادة كثيراً ما تقوي الشعور بالشيء بدلاً من أن تنقصه ، مثال ذلك : أنها تزيد في قوة تذوق الخمور عند الحمار ، وفي قوة تمييز الألحان عند الموسيقار ، والألوان عند المصور ، والروائح عند الكيماوي . فهي إذن لا تنقص الإحساس ، بل تنقص الانتباه . نعم ان القروي لا يسمع ضجيج المدينة بعد الإقامة فيها عدة أيام . ولكنه لو انتبه له لسمعه من جديد . قال ( أغجر ) : ان العادة لا تضعف الاحساس عند تكرار المؤثر ، بل تضعف الادراك المؤلف من الصور المنضمة إلى الاحساس . فإذا كان التكرار مصحوبا بانتباه صحح . هذا الانتباه تأثير التكرار السلبي ، وأبقى الشعور بالمؤثر . لأن من نتائج الانتباه أن . يزيد وضوح ا الظواهر المدركة . فالتكرار المصحوب بضعف الشعور يولد عادة سالبة ، أما التكرار المصحوب بزيادة الشعور ، وجهد الانتباه ، فيولد عادة موجبة . ومعنى ذلك : أن العادة لا تضعف الاحساس ، بل تزيل الصور التي تنضم إلى الاحساس وتقلبه إلى إدراك وكلما كانت الصور التي يسبغها الانتباه على الشيء أغنى ، كان الشعور المقارن لتكرار الفعل أوضح .
ونضيف إلى ذلك أيضا أن جميع العادات حر كية كانت ، أو نفسية ، أو حيوية ، تؤدي إلى نتيجة واحدة . فالعادة الحركية تضعف الانتباه ، وتقلل الجهد ، وتخفف الشعور التأملي . مثال ذلك : أن الطفل يشعر عند البدء بتعلم الكتابة ، أو ركوب الدراجة ، أو السباحة ، أو قراءة الرموز الموسيقية ، أو الرقص ، أو العزف على إحدى الآلات الموسيقية ، يجميع الحركات المقومة للفعل ، فينتبه لها ، ويشعر بالجهد الذي يبذله في تعلم كل جزء من أجزائها ، ولكنه بعد اكتساب العادة يقوم بالفعل من غير جهد ، فيقل انتباهه له ، وتزداد سرعته فيه ، وتقل أخطاؤه ، ويخف تعبه ، وتصبح حركاته آلية .
وهذا الأمر الصحيح بالنسبة إلى العادة الحركية صحيح أيضا بالنسبة إلى العادات النفسية ، لأن الأعمال العقلية تحتاج في البداية إلى جهد وانتباه تأملي ، ولكنها تصبح بعد الاعتياد أعمالاً آلية ، مثال ذلك : أن الرياضي الذي زاول التمارين الرياضية مدة طويلة من الزمان لا يشعر عند حل المسائل بالدساتير التي يكتبها ويطبقها ، تخطر العمليات بباله مباشرة من غير أن يشعر بالخطوات التي قطعها للوصول إلى حفظها ، ويكون مثله في ذلك كمثل الماهر في الكتابة على الآلة الكاتبة ، فهو يشعر بالنص الذي يكتبه ، وبالآلة التي يضرب حروفها بأصابعه ، من غير أن يكون شاعراً البتة بكيفية قراءة النص ، ولا بحركات . ، يديه المتتابعة ، ولا بأجزاء تلك الحركات السريعة ، ولو انتبه لذلك كله لوقع في الخطأ والاضطراب .
وإذا كانت العادات الحركية تؤدي إلى اللاشعور ، فإن العادات الحيوية تورت الاحتياج ، وتقلل شعورنا بالمؤثرات الخارجية ، وتجعل هذه المؤثرات قسما من حياتنا ، فنطلبها ، ونشعر بالفراغ عند عدم حصولنا عليها ( ۱ ) . ولكن المؤثر الذي يولد الاحتياج هو المؤثر الملائم ، أي المؤثر المطابق للاستعدادات السابقة . فالمادة إذن لا تخلق الاحتياج بل تهبه صورة مخصوصة ، وتقويه ، وتجعله آليا مستقلا . عن الارادة . والسر في تولد الاحتياج ليس راجعاً إلى المؤثر ، بل إلى الاستعداد السابق ، حيويا كان ، أو نفسيا ، أو حركيا . قال ( لارغيه در بانسل ) ( ۲ ) : العادة لا تخلق نزعة طبيعية جديدة ، بل تنظم الاستعدادات الموجودة في النفس سابقاً ، فلولا استعداد الانسان للفعل لما عمل شيئاً . وكلما اكتسب عادة جديدة استخدم نزعاته السابقة ، فيجمعها بعضها إلى بعض ، وينظمها ، وينضدها ، ويقويها بالتدريب والتمرين .
ت - العادة تؤدي الى التكيف .
- ان تجريد الفعل من الانتباه ، والشعور ، يجعل مؤ الفتنا له تامة ، فنقوم به من غير تعب ، وننجزه بسرعة ، وبطريقة صحيحة ثابتة ، لا تردد فيها ولا خطأ .
۱ - فالعادات الحيوية تؤدي إلى التكيف ، ولكن هذا التكيف لا يتم إلا بجملة من ردود الفعل الداخلية .
٢ - أما تكيف العادات الحركية فيظهر في التكامل التدريجي الذي يتصف به الفعل . حتى يصبح أسهل من ذي قبل ، وحتى تتصل حركاته الجزئية بعضها ببعض اتصالاً محكما وتاماً . قال ( لارغيه ) ( دوبانسل ) : إن اكتساب عادة . من العادات الحركية يرجع إلى إيجاد سلسلة من الحركات المرتبطة الحلقات ، المحكمة التتابع ، المقيدة بعضها ببعض ( ١ ) ، فإذا تحركت الحلقة الاولى تبعتها الحلقات الاخرى من الوراء ، ويكفي في هذه الشروط أن تحدث الحركة الاولى بارادة فتجري الحركات الاخرى من ورائها بصورة آلية . وكثيراً ما تتحرك الحلقة الاولى من غير إرادة كحركة المدخن الذي تقع عيناء اتفاقاً على علبة التبغ ، فيفتحها ويدخن من غير أن يكون لإرادته فى ذلك أثر . فالعادة الحركية إذن فعل كلي مؤلف من حركات أولية بسيطة ، فإذا أرسل العقل إشارة الحركة الاولى انتقلت هذه الحركة من حلقة إلى أخرى ، حتى تعم سائر الحلقات ، ويتسلسل الفعل تسلسلا آليا يذكرنا بالغريزة . والفرق بين الغريزة والعادة أن التصور الأول يكون في الغريزة أقل وضوحاً مما هو عليه في العادة ، حق انه قد يكون غامضاً تماماً . فكان الغريزة إذن حالة من أحوال العادة ، أو كأنها كما قيل عادة ثانية .
فالعادة متصلة إذن بالارادة ، لأن الحركات الارادية مبنية على حركات آلية مستقلة مسبوقة بتصور واضح وسنرى في بحث الارادة أن هذه الحركات الآلية ضرورية لحدوث الفعل الارادي . وهي تدل على أن العادة ليست وظيفة من وظائف الحفظ والاتباع ، وإنما هي في الوقت نفسه عامل من عوامل التقدم والابداع ، وهي : تدل أيضا على أن الآلية ضرورية للحرية ، لأنها تسهل القيام بالفعل ، وتزيد في سرعته ، وتقلل الخطأ ، والتعب ، وتجعل العادة متقنة ، ومحكمة ، حق لقد قيل : ان العادة تتقدم بالتهديم كما تتكامل بالانشاء ، فهي تحذف من الفعل كثيراً من الحركات الزائدة ، وتصحح بما تضمه اليه من الحديث . مثال ذلك : أن الطفل الذي يتعلم الكتابة تصدر عنه في البداية حركات لا علاقة لها بانجاز الفعل كإخراج اللسان ، وتقطيب الحاجبين ، وإمالة الرأس ، ولكنه بعد اكتساب مملكة الكتابة توزع حركاته الجزئية على الأعضاء المخصوصة وهكذا ، فإن العادة تحرر فاعليتنا من القيود الزائدة ، لأنها تعهد في القسم الأعظم منها إلى الآلية ، وتجعلنا نوجه انتباهنا إلى أمور أعلى منها .
٣ - والعادات النفسية تولد أيضاً نفس النتائج التي تولدها العادات الحركية ، والحيوية لأنها تؤلف آليات فكرية ، ( كملكة استعمال الدساتير الجبرية مثلا ) ، ونظما منطقية شبيهة بالآليات التي تكلمنا عنها في العادات الحركية . ويؤدي ذلك كله إلى سرعة تفهم البراهين ومؤ الفتها ، وسهولة استعمالها ، وتجنب الطرائق الفاسدة ، والتجارب العويصة ، وتسمى هذه المؤالفة بتسمم البراهين الصحيحة ، لأنها تجعل العالم ينتخب أحسن الحجج ، ويختار أدق النتائج ، ويبتعد عن العمليات الفكرية الزائدة . فعادة التفكير إذن عامل من عوامل التقدم ، لأنها تحرر الفكر من ربقة الاتباع ، وتوجهه إلى الغاية التي ينبجس منها النور . وهذا حال جميع الذين اوتوا من العلم قسطاً وافراً . فقد ذكر ( ليبيغ ) أن اكتشافاته الاولى ترجع إلى السهولة التي تعودها في استعمال الآلات ، وإنجاز التجارب . وقال ( لوروا ) عند كلامه على منطق الاختراع ، أن الابداع يقتضي تنظيم الأحكام العملية السابقة ، وتنضيد الأفكار ، وترتيبها ترتيباً يسهل الرجوع اليها ، فإذا تجرد الباحث عن هذه العوائق ، وخلص إلى فضاء الفكر المحض ، أمكنه أن يبدع ويخترع ، ولكنه إذا انصرف إلى الوسائل بعدت عنه الغايات والمقاصد .
يضاف إلى ذلك أن الحركات اللارإدية ( الاوتوماتية ) ضرورية للحياة الخلقية نعم ان فيها بعض المخاطر ، ولكن اكتساب العادات ثروة عظيمة ضرورية لكل تقدم فكري ، وتحرر خلقي . وكثير من الفضائل التي نفخر بها ، ونمدح من أجلها ، إن هي إلا عادات . وما يقال على الفرد ، يقال أيضاً على المجتمع ، لأن العادات . العامل الفعال هي في حفظ النظام الاجتماعي . وهي التي تجعل كل فرد راضيا إلى حد ما بما قدر له ( ١ ) ، حتى لقد قال ( دور كهايم ) ( ١ ) : و ان تنظيم السلوك وظيفة خلقية أساسية ، وقال أيضاً : « إن الأخلاق تقتضي أن يكون عند الانسان استعداد لتكرار الأفعال نفسها في الظروف نفسها ، وأن يكون له عادات ثابتة ، وحياة منظمة ( ٢ ) .
نتائج العادة
للعادة أثر كبير في حياة الفرد والمجتمع ، لأنها المادة التي يتألف منها سلوك الإنسان ، فهي تحفظ مشاعر الفرد ، وأفكاره ، وأفعاله ، كما تنظم حياة المجتمع ، وتحفظ أوضاعه من التغير المفاجيء . وتنحصر نتائج العادة في أمرين أساسيين :
آ - العادة نؤدي إلى ( الاوتوماتية ) .
- النتيجة الأولى للعادة هي آلية الفعل ، فيها يتضاءل شعور المرء ، ويقل إحساسه وانتباهه ، وتخف أحواله الانفعالية شيئاً فشيئاً وكلما تمكن المرء من العمل ، وأتقنه ، وأصبح حاذقاً فيه ، خف شعوره به ، وانتباهه له ، وما اعتياد شم رائحة من الروائح ، أو تحمل درجة معينة من الحرارة ، إلا انقطاع الشعور بالمؤثر ، وكذلك اعتياد المشي ، أو الكتابة ، أو العزف على إحدى الآلات الموسيقية ، أو ركوب الدراجات ، ان هي إلا صرف الانتباه ، والجهد الإرادي ، عن الحركات الجزئية التي يتألف منها الفعل الكلي ، وعدم الشعور بها . بحيث يستقر الفعل إذ ذاك في المراكز العصبية السفلية ، وتتوقف المراكز العصبية العالية عن الاشتغال به . فالمادة منفعلة كانت أو فاعلة ، تؤدي إلى اللاشعور . حتى لقد قال العلماء انها تخفف من شدة الحساسية . وتمنع تدخل الشعور في الأعمال ( الاوتوماتية ) لأن تدخله فيها يعرقلها ، ويشوش نظام آليتها .
وهذا القانون ينطبق أيضاً على الإحساسات ، كإحساس اللمس ، والحرارة ، والشم ، والذوق ، فالعادة كثيراً ما تقلل شعورنا باللمس ، والحرارة ، أو الرطوبة ، أو الملوحة ، أو الحلاوة ، أو الرائحة التي نتطيب بها ، ولكن هذه النتائج ليست ناشئة . فحسب ، وإنما هي ناشئة أيضاً عن قانون النسبية الذي تكلمنا عليه سابقاً .
أضف إلى ذلك أن العادة كثيراً ما تقوي الشعور بالشيء بدلاً من أن تنقصه ، مثال ذلك : أنها تزيد في قوة تذوق الخمور عند الحمار ، وفي قوة تمييز الألحان عند الموسيقار ، والألوان عند المصور ، والروائح عند الكيماوي . فهي إذن لا تنقص الإحساس ، بل تنقص الانتباه . نعم ان القروي لا يسمع ضجيج المدينة بعد الإقامة فيها عدة أيام . ولكنه لو انتبه له لسمعه من جديد . قال ( أغجر ) : ان العادة لا تضعف الاحساس عند تكرار المؤثر ، بل تضعف الادراك المؤلف من الصور المنضمة إلى الاحساس . فإذا كان التكرار مصحوبا بانتباه صحح . هذا الانتباه تأثير التكرار السلبي ، وأبقى الشعور بالمؤثر . لأن من نتائج الانتباه أن . يزيد وضوح ا الظواهر المدركة . فالتكرار المصحوب بضعف الشعور يولد عادة سالبة ، أما التكرار المصحوب بزيادة الشعور ، وجهد الانتباه ، فيولد عادة موجبة . ومعنى ذلك : أن العادة لا تضعف الاحساس ، بل تزيل الصور التي تنضم إلى الاحساس وتقلبه إلى إدراك وكلما كانت الصور التي يسبغها الانتباه على الشيء أغنى ، كان الشعور المقارن لتكرار الفعل أوضح .
ونضيف إلى ذلك أيضا أن جميع العادات حر كية كانت ، أو نفسية ، أو حيوية ، تؤدي إلى نتيجة واحدة . فالعادة الحركية تضعف الانتباه ، وتقلل الجهد ، وتخفف الشعور التأملي . مثال ذلك : أن الطفل يشعر عند البدء بتعلم الكتابة ، أو ركوب الدراجة ، أو السباحة ، أو قراءة الرموز الموسيقية ، أو الرقص ، أو العزف على إحدى الآلات الموسيقية ، يجميع الحركات المقومة للفعل ، فينتبه لها ، ويشعر بالجهد الذي يبذله في تعلم كل جزء من أجزائها ، ولكنه بعد اكتساب العادة يقوم بالفعل من غير جهد ، فيقل انتباهه له ، وتزداد سرعته فيه ، وتقل أخطاؤه ، ويخف تعبه ، وتصبح حركاته آلية .
وهذا الأمر الصحيح بالنسبة إلى العادة الحركية صحيح أيضا بالنسبة إلى العادات النفسية ، لأن الأعمال العقلية تحتاج في البداية إلى جهد وانتباه تأملي ، ولكنها تصبح بعد الاعتياد أعمالاً آلية ، مثال ذلك : أن الرياضي الذي زاول التمارين الرياضية مدة طويلة من الزمان لا يشعر عند حل المسائل بالدساتير التي يكتبها ويطبقها ، تخطر العمليات بباله مباشرة من غير أن يشعر بالخطوات التي قطعها للوصول إلى حفظها ، ويكون مثله في ذلك كمثل الماهر في الكتابة على الآلة الكاتبة ، فهو يشعر بالنص الذي يكتبه ، وبالآلة التي يضرب حروفها بأصابعه ، من غير أن يكون شاعراً البتة بكيفية قراءة النص ، ولا بحركات . ، يديه المتتابعة ، ولا بأجزاء تلك الحركات السريعة ، ولو انتبه لذلك كله لوقع في الخطأ والاضطراب .
وإذا كانت العادات الحركية تؤدي إلى اللاشعور ، فإن العادات الحيوية تورت الاحتياج ، وتقلل شعورنا بالمؤثرات الخارجية ، وتجعل هذه المؤثرات قسما من حياتنا ، فنطلبها ، ونشعر بالفراغ عند عدم حصولنا عليها ( ۱ ) . ولكن المؤثر الذي يولد الاحتياج هو المؤثر الملائم ، أي المؤثر المطابق للاستعدادات السابقة . فالمادة إذن لا تخلق الاحتياج بل تهبه صورة مخصوصة ، وتقويه ، وتجعله آليا مستقلا . عن الارادة . والسر في تولد الاحتياج ليس راجعاً إلى المؤثر ، بل إلى الاستعداد السابق ، حيويا كان ، أو نفسيا ، أو حركيا . قال ( لارغيه در بانسل ) ( ۲ ) : العادة لا تخلق نزعة طبيعية جديدة ، بل تنظم الاستعدادات الموجودة في النفس سابقاً ، فلولا استعداد الانسان للفعل لما عمل شيئاً . وكلما اكتسب عادة جديدة استخدم نزعاته السابقة ، فيجمعها بعضها إلى بعض ، وينظمها ، وينضدها ، ويقويها بالتدريب والتمرين .
ت - العادة تؤدي الى التكيف .
- ان تجريد الفعل من الانتباه ، والشعور ، يجعل مؤ الفتنا له تامة ، فنقوم به من غير تعب ، وننجزه بسرعة ، وبطريقة صحيحة ثابتة ، لا تردد فيها ولا خطأ .
۱ - فالعادات الحيوية تؤدي إلى التكيف ، ولكن هذا التكيف لا يتم إلا بجملة من ردود الفعل الداخلية .
٢ - أما تكيف العادات الحركية فيظهر في التكامل التدريجي الذي يتصف به الفعل . حتى يصبح أسهل من ذي قبل ، وحتى تتصل حركاته الجزئية بعضها ببعض اتصالاً محكما وتاماً . قال ( لارغيه ) ( دوبانسل ) : إن اكتساب عادة . من العادات الحركية يرجع إلى إيجاد سلسلة من الحركات المرتبطة الحلقات ، المحكمة التتابع ، المقيدة بعضها ببعض ( ١ ) ، فإذا تحركت الحلقة الاولى تبعتها الحلقات الاخرى من الوراء ، ويكفي في هذه الشروط أن تحدث الحركة الاولى بارادة فتجري الحركات الاخرى من ورائها بصورة آلية . وكثيراً ما تتحرك الحلقة الاولى من غير إرادة كحركة المدخن الذي تقع عيناء اتفاقاً على علبة التبغ ، فيفتحها ويدخن من غير أن يكون لإرادته فى ذلك أثر . فالعادة الحركية إذن فعل كلي مؤلف من حركات أولية بسيطة ، فإذا أرسل العقل إشارة الحركة الاولى انتقلت هذه الحركة من حلقة إلى أخرى ، حتى تعم سائر الحلقات ، ويتسلسل الفعل تسلسلا آليا يذكرنا بالغريزة . والفرق بين الغريزة والعادة أن التصور الأول يكون في الغريزة أقل وضوحاً مما هو عليه في العادة ، حق انه قد يكون غامضاً تماماً . فكان الغريزة إذن حالة من أحوال العادة ، أو كأنها كما قيل عادة ثانية .
فالعادة متصلة إذن بالارادة ، لأن الحركات الارادية مبنية على حركات آلية مستقلة مسبوقة بتصور واضح وسنرى في بحث الارادة أن هذه الحركات الآلية ضرورية لحدوث الفعل الارادي . وهي تدل على أن العادة ليست وظيفة من وظائف الحفظ والاتباع ، وإنما هي في الوقت نفسه عامل من عوامل التقدم والابداع ، وهي : تدل أيضا على أن الآلية ضرورية للحرية ، لأنها تسهل القيام بالفعل ، وتزيد في سرعته ، وتقلل الخطأ ، والتعب ، وتجعل العادة متقنة ، ومحكمة ، حق لقد قيل : ان العادة تتقدم بالتهديم كما تتكامل بالانشاء ، فهي تحذف من الفعل كثيراً من الحركات الزائدة ، وتصحح بما تضمه اليه من الحديث . مثال ذلك : أن الطفل الذي يتعلم الكتابة تصدر عنه في البداية حركات لا علاقة لها بانجاز الفعل كإخراج اللسان ، وتقطيب الحاجبين ، وإمالة الرأس ، ولكنه بعد اكتساب مملكة الكتابة توزع حركاته الجزئية على الأعضاء المخصوصة وهكذا ، فإن العادة تحرر فاعليتنا من القيود الزائدة ، لأنها تعهد في القسم الأعظم منها إلى الآلية ، وتجعلنا نوجه انتباهنا إلى أمور أعلى منها .
٣ - والعادات النفسية تولد أيضاً نفس النتائج التي تولدها العادات الحركية ، والحيوية لأنها تؤلف آليات فكرية ، ( كملكة استعمال الدساتير الجبرية مثلا ) ، ونظما منطقية شبيهة بالآليات التي تكلمنا عنها في العادات الحركية . ويؤدي ذلك كله إلى سرعة تفهم البراهين ومؤ الفتها ، وسهولة استعمالها ، وتجنب الطرائق الفاسدة ، والتجارب العويصة ، وتسمى هذه المؤالفة بتسمم البراهين الصحيحة ، لأنها تجعل العالم ينتخب أحسن الحجج ، ويختار أدق النتائج ، ويبتعد عن العمليات الفكرية الزائدة . فعادة التفكير إذن عامل من عوامل التقدم ، لأنها تحرر الفكر من ربقة الاتباع ، وتوجهه إلى الغاية التي ينبجس منها النور . وهذا حال جميع الذين اوتوا من العلم قسطاً وافراً . فقد ذكر ( ليبيغ ) أن اكتشافاته الاولى ترجع إلى السهولة التي تعودها في استعمال الآلات ، وإنجاز التجارب . وقال ( لوروا ) عند كلامه على منطق الاختراع ، أن الابداع يقتضي تنظيم الأحكام العملية السابقة ، وتنضيد الأفكار ، وترتيبها ترتيباً يسهل الرجوع اليها ، فإذا تجرد الباحث عن هذه العوائق ، وخلص إلى فضاء الفكر المحض ، أمكنه أن يبدع ويخترع ، ولكنه إذا انصرف إلى الوسائل بعدت عنه الغايات والمقاصد .
يضاف إلى ذلك أن الحركات اللارإدية ( الاوتوماتية ) ضرورية للحياة الخلقية نعم ان فيها بعض المخاطر ، ولكن اكتساب العادات ثروة عظيمة ضرورية لكل تقدم فكري ، وتحرر خلقي . وكثير من الفضائل التي نفخر بها ، ونمدح من أجلها ، إن هي إلا عادات . وما يقال على الفرد ، يقال أيضاً على المجتمع ، لأن العادات . العامل الفعال هي في حفظ النظام الاجتماعي . وهي التي تجعل كل فرد راضيا إلى حد ما بما قدر له ( ١ ) ، حتى لقد قال ( دور كهايم ) ( ١ ) : و ان تنظيم السلوك وظيفة خلقية أساسية ، وقال أيضاً : « إن الأخلاق تقتضي أن يكون عند الانسان استعداد لتكرار الأفعال نفسها في الظروف نفسها ، وأن يكون له عادات ثابتة ، وحياة منظمة ( ٢ ) .
تعليق