النتائج ، عوامل الاكتساب وقوانينه .. العادة
ج - النتائج . عوامل الاكتساب وقوانينه
ولنذكر الآن بعض نتائج هذه الدراسات التجريبية :
١ - قانون الاكتساب .
- يتبين من هذه الدراسات التجريبية أن قانون الاكتساب هو قانون ( رد الفعل ) الفيزيولوجي . فلا فرق بين التكيف الحيوي ، وبين اكتساب العادات بالتكرار ، إلا من حيث تعقد المؤثر . إن الإيقاع الحيوي الذي تكلمنا عنه في فصل الغريزة عادة أولية . أضف إلى ذلك أنه لا فرق في تعلم العادات الميكانيكية المحضة بين الحيوان والإنسان . فإذا قايسنا بين منحنيات الاكتساب في عالم الإنسان ، وعالم الحيوان . تبين لنا أنها لا تختلف اختلافاً جوهريا من عالم إلى آخر ، بل تدل على وظيفة حيوية أولية مشتركة بين الإنسان وسائر الحيوانات . وإذا تابعنا : تقدم العادة حسب سرعة الأفعال ، أو عدد الأفعال الصحيحة ذات السرعة الثابتة ، لا بحسب تناقص الزمان أو الأخطاء ، كما فعلنا سابقاً ( شكل ( ٦٤ حصلنا على خط بياني من نوع ( S ) شبيه بالمنحني الدال على المطابقة بين تغيرات المؤثر ورد الفعل ، ( ٦۳۸ - ٦٣٩ ) ، وهذا القانون ينطبق على جميع العادات ، بسيطة كانت ، أو مركبة .
يتبين لنا من دراسة هذا المنحني أن سرعة التقدم والتحسن في كسب عادة ما ليست واحدة ولا مطردة . إذ كثيراً ما يكون التقدم في البداية سريعاً لشدة اهتمام المبتدىء وولعه ، وجدة الموضوع ، وروعته ، أو البساطة الحركات المطلوبة في البداية ، ثم يتوقف التقدم بعد ذلك ويتجه المنحني اتجاهاً افقيا والسبب في هذا الاتجاه الافقي تضاؤل الاهتمام والانتباه ، وضرورة استقرار العادات ونضجها ، ووصول المرء في تعلمه إلى حد من الكمال لا يستطيع أن يتعداه .
۲ - عوامل الاكتساب المختلفة .
- وقد دلت هذه الدراسات التجريبية على أن عوامل اكتساب العادات كثيرة ، فمنها :
آ - تکرار التمارين وتصحيح .
- تتكون المادة الحركية كما يقول ( جيننكس Jennings ) بتكرار التمارين ، وتصحيح الأخطاء ( Trial and errors ) ، أعني أن تكرار التمارين المختلفة ، والحصول بها على شيء من النجاح ، يقويان بعض الأفعال ، ويسقطان منها ما ليس نافعاً . فاكتساب هذه العادات إذن آلي لا إرادي ، بل هو شبيه باكتساب المادة العضوية ، أو التكيف الحيوي .
ب - تفريق التمارين .
- قانون ( جوست Lo de Jost ) : ومن الامور التي أثبتتها التجربة أيضاً : أن سرعة اكتساب العادات وتحسينها يقتضيان الفصل بين فعل وآخر ، إذ لا حاجة إلى تكرار الأفعال بعضها وراء بعض من غير فاصلة زمانية ، وكلما كانت التمارين أكثر انفصالاً بعضها عن بعض ، كان العدد اللازم منها لاكتساب العادات أقل . إلا أنه يوجد فاصلة زمانية عظمى لا ينبغي تجاوزها ، وهي مدة يوم تقريباً بالنسبة إلى الإنسان ، وقانون ( جوست ) هذا ينطبق على الحيوان أيضاً ، لأن الأنواع الحيوانية لا تختلف في ذلك بعضها عن بعض إلا بالأزمنة الفاصلة بين فعل وآخر .
٣ - نضج العادة .
- والسبب في منفعة هذه الفواصل هو اتصاف المادة بالنضج الحيوي ( Maturation biologique ) ( بيرون ) ، وهو ضروري لرسوخ العــادة واستقرارها ، وانتظام عناصرها ، واتساقها . فقد دلت تجارب ( بوردون Bourdon ) على أن العادة قد تبلغ بنفسها درجة عظيمة من التقدم ، وذلك بعد الانقطاع عنها مدة من غير تمرين جديد ، وفي الحياة ، كما ذكر ( بيرون ) ، أمثلة كثيرة تدل على ذلك . منها أن الإنسان كثيراً ما يميل إلى تعلم السباحة ، فيتمرن عليها مدة دون فائدة ، ثم يعرض عنها شهوراً طويلة ، لا بل سنوات كثيرة ، ثم تسوقه الظروف يوماً إلى استئناف ذلك فيجد نفسه عالما بما جهل . وقد يعرض ذلك للإنسان في تعلم بعض القطع الموسيقية ، أو بعض الألعاب . فقانون نضج العادة يوضح لنا اسطورة تولد العادة من الفعل الأول . نعم إن كل عمل يترك أثراً في النفس ، والأصل في العادة هو التغير الأول ، وبقاء آثار الفعل في النفس أساس الذاكرة العضوية . إلا أن هذا الأثر الأول تغير بسيط ، ومن الصعب أن لذلك عادة لا تتكون الغادة إلا بعد استقرار التغيرات المكتسبة ورسوخها ، والنضج الحيوي ضروري لهذا الاستقرار . وإذا تعمقنا في دراسة العادات المتولدة من الفعل الأول تبين لنا أنها تقتضي استعداداً سابقاً ، أو عادة خفية كامنة في النفس كمونا لا شعورياً ، فلا غرو إذا انتقل هذا الاستعداد من القوة إلى الفعل ، وتم نضج العادة ، بتغير بسيط ظاهر ينضم إلى العوامل الباطنة . حق لقد قال ( دويلشوفر ) : ( ان العادة لا تتولد من التغير الأول ، ولا من التكرار ، بل من الاستعداد الذي يولده التكرار في الجملة العصبية ) .
مناقشة بعض الأمثلة :
إن بعض الأشخاص يستظهر قطعة من الشعر ، أو النثر بعد قراءتها مرة واحدة . فإما أن يكون هذا الاستعداد فطريا كما في حالات التجسيم الخارجي للصور المتولدة من الخيال ) Eidétisme ) . وإما أن يكون مكتسباً بطريق الذاكرة . وقد ذكر لنا ( دويلشوفر ) نفسه مثالاً آخر ، قال : إن أحد الشبان تعلم بعض الألعاب لمجرد الاطلاع عليها ، فلم يمارسها إلا قليلا ، ثم صادف في العطلة رفيقاً دعاه إلى اللعب بالورق ، فكان ذلك كافياً لتوليد العادة فيه . فهذا المثال أيضا يدل على استعداد سابق للتجربة الاولى . لأن الألعاب التي تعلمها هذا الشاب من قبل ولدت في نفسه استعداداً للألعاب الجديدة ، ثم جاءت لعبة الورق متممة لاستعداده السابق ، فأكملت عناصر العادة ، وأنضجتها ، ونقلتها من القوة إلى الفعل .
٤ - تقسيم الفعل وتدريج الصعوبات .
- ولابد في اكتساب العــادة من أن يقسم الفعل : عدة أجزاء ، وأن يتعلم الإنسان كل جزء على حدته ، وأن تجمع هذه الأجزاء بعد ذلك بعضها إلى بعض . فلتعلم الكتابة مثلاً يرسم الطفل أجزاء الحروف من خطوط مستقيمة ومنحنية ، ثم يجمع هذه الأجزاء لتأليف الحروف ، ثم يجمع الحروف لتأليف الكلمات . ولتعلم المسايفة يقسم الفعل إلى حركات أولية : كمد الذراع ، وإمالة السيف ذات اليمين وذات اليسار ، ولتعلم الرقص تقسم الخطوات المختلفة إلى حركات بسيطة . فيجب إذن أن ينقسم الفعل إلى حركات أولية ، وأن يعهد في كل حركة منها إلى عضلة من العضلات ، حتى تصبح كل عضلة مختصة بحركة محددة ، وهكذا يتكون الفعل من تركيب هذه الحركات الجزئية وتنظيمها .
وينبغي أيضاً لاكتساب العادات أن تدرج الصعوبات ، وأن لا يتكرر الفعل كله دفعة واحدة ، بل تكتسب حركاته بالتدريج من السهل إلى الصعب . ان العادة الحيوية تحتاج إلى هذا التدريج ، فلا يجوز أن يزاد مقدار المؤثر دفعة واحدة ، لأن ذلك يشوش توازن الجسم ، ويبطل التكيف ، وقد يسبب الموت . فالإنسان لا يتعود الإقامة في الجبال العالية إلا إذا تدرج في الارتفاع شيئاً فشيئا ، ولا يتعود امتصاص المقادير الكبيرة من السم إلا إذا تعود امتصاص المقادير القليلة والمتوسطة أولاً . والعادة الحركية نفسها تحتاج أيضاً إلى تدريج التمارين ، بعد تقسيم الفعل إلى حركات بسيطة وكلما كان الفعل أكثر تركيباً . كانت الحاجة إلى تدريج التمارين أشد . لأن العادة لا تتولد من تكرار الفعل على نمط واحد ، بل يجب في كل مرحلة من المراحل أن يبدل تركيب الحركات ، وأن تصحح الحركات الاولى بانضمام الحركات الثانية اليها . فتعلم الكتابة مثلا ليس تكراراً للحركات الاولى على نمط واحد ، وتعلم الرقص ليس تكراراً من غير تصحيح وتنظيم وتنسيق .
٥ - العوامل النفسية المحضة .
- ومما يسهل اكتساب العادات عند الإنسان والحيوانات العالية تأثير العوامل النفسية المحضة ، كالاهتمام ، والجهد ، والانتباه الإرادي ، والعقل . فالاهتمام بالعمل أقوى عوامل الانتباه التلقائي ، كما أن الجهد والانتباه الإرادي يسهلان اكتساب العادات . ان تركيز الانتباه ضروري كل الضرورة في بداية الفعل ، لأنه يوفر كثيراً من الجهد ، ويغني عن كثير من الحركات الزائدة على الحاجة . وليس الانتباه في الواقع سوى التفكير في الحركة المراد اكتسابها تفكيراً واضحاً وجليا . وكلما كان الانتباه أقوى كان الاكتساب أسهل ، لذلك كان التكرار الذهني أصلح للاستظهار من القراءة الفعلية عدة مرات . وهذا يبين لها أيضاً أن للقوى العقلية تأثيراً عميقاً في اكتساب العادات . قال ( دولاكرو ) : ( ان الانتباه ، وإرادة التعلم ، وكيفية تصور العمل ، ومقايسة النتائج بالغاية المقصودة ، وحالة الذهن في أثناء الكسب ، والنضج ، وقياس التقدم ، ومؤالفة التعلم مؤالفة معقولة ؛ كل ذلك يؤثر في تكوين العادات ، حق أنه ليؤثر في الذاكرة الميكانيكية ، كما يؤثر في الذاكرة العقلية ) .
وقد بين العلماء أن تأثير العوامل النفسية المحضة ليس خاصاً بالإنسان وحده ، وأن الحيوان أيضاً يستعين بها على اكتساب العادات . مثال ذلك : أن تأثير العوامل العقلية يرفع منحني الاكتساب عند كل منهما .
قال ( بيرون ) : إذا رأيت منحني الاكتساب قد ارتفع فجأة عند الإنسان ، والحيوان ، فذلك دليل على أن العقل قد استبدل بالكسب الأعمى البطىء كسباً عاقلا ، فالإنسان ، والحيوان لا يتشابهان في ذلك فحسب ، بل يتفقان ويتحدان . والفرق بين حيوان وآخر أعظم من الفرق بين الإنسان والحيوانات الثديية . وإذا كان للإنسان في اكتساب العادات تفوق وتقدم ، فذلك راجع إلى قدرته على إبداع الروابط الذهنية المركبة . وقصارى القول : أن اكتساب العادات عند الإنسان والحيوانات العالية ، لا يستند إلى الذاكرة العضلية فحسب Memoire musculaire ) ، بل يستند في تقـ دمه إلى الجملة العصبية كلها ، فهو ليس إذن حركياً فقط ، وإنما هو ذهني أيضاً .
ج - النتائج . عوامل الاكتساب وقوانينه
ولنذكر الآن بعض نتائج هذه الدراسات التجريبية :
١ - قانون الاكتساب .
- يتبين من هذه الدراسات التجريبية أن قانون الاكتساب هو قانون ( رد الفعل ) الفيزيولوجي . فلا فرق بين التكيف الحيوي ، وبين اكتساب العادات بالتكرار ، إلا من حيث تعقد المؤثر . إن الإيقاع الحيوي الذي تكلمنا عنه في فصل الغريزة عادة أولية . أضف إلى ذلك أنه لا فرق في تعلم العادات الميكانيكية المحضة بين الحيوان والإنسان . فإذا قايسنا بين منحنيات الاكتساب في عالم الإنسان ، وعالم الحيوان . تبين لنا أنها لا تختلف اختلافاً جوهريا من عالم إلى آخر ، بل تدل على وظيفة حيوية أولية مشتركة بين الإنسان وسائر الحيوانات . وإذا تابعنا : تقدم العادة حسب سرعة الأفعال ، أو عدد الأفعال الصحيحة ذات السرعة الثابتة ، لا بحسب تناقص الزمان أو الأخطاء ، كما فعلنا سابقاً ( شكل ( ٦٤ حصلنا على خط بياني من نوع ( S ) شبيه بالمنحني الدال على المطابقة بين تغيرات المؤثر ورد الفعل ، ( ٦۳۸ - ٦٣٩ ) ، وهذا القانون ينطبق على جميع العادات ، بسيطة كانت ، أو مركبة .
يتبين لنا من دراسة هذا المنحني أن سرعة التقدم والتحسن في كسب عادة ما ليست واحدة ولا مطردة . إذ كثيراً ما يكون التقدم في البداية سريعاً لشدة اهتمام المبتدىء وولعه ، وجدة الموضوع ، وروعته ، أو البساطة الحركات المطلوبة في البداية ، ثم يتوقف التقدم بعد ذلك ويتجه المنحني اتجاهاً افقيا والسبب في هذا الاتجاه الافقي تضاؤل الاهتمام والانتباه ، وضرورة استقرار العادات ونضجها ، ووصول المرء في تعلمه إلى حد من الكمال لا يستطيع أن يتعداه .
۲ - عوامل الاكتساب المختلفة .
- وقد دلت هذه الدراسات التجريبية على أن عوامل اكتساب العادات كثيرة ، فمنها :
آ - تکرار التمارين وتصحيح .
- تتكون المادة الحركية كما يقول ( جيننكس Jennings ) بتكرار التمارين ، وتصحيح الأخطاء ( Trial and errors ) ، أعني أن تكرار التمارين المختلفة ، والحصول بها على شيء من النجاح ، يقويان بعض الأفعال ، ويسقطان منها ما ليس نافعاً . فاكتساب هذه العادات إذن آلي لا إرادي ، بل هو شبيه باكتساب المادة العضوية ، أو التكيف الحيوي .
ب - تفريق التمارين .
- قانون ( جوست Lo de Jost ) : ومن الامور التي أثبتتها التجربة أيضاً : أن سرعة اكتساب العادات وتحسينها يقتضيان الفصل بين فعل وآخر ، إذ لا حاجة إلى تكرار الأفعال بعضها وراء بعض من غير فاصلة زمانية ، وكلما كانت التمارين أكثر انفصالاً بعضها عن بعض ، كان العدد اللازم منها لاكتساب العادات أقل . إلا أنه يوجد فاصلة زمانية عظمى لا ينبغي تجاوزها ، وهي مدة يوم تقريباً بالنسبة إلى الإنسان ، وقانون ( جوست ) هذا ينطبق على الحيوان أيضاً ، لأن الأنواع الحيوانية لا تختلف في ذلك بعضها عن بعض إلا بالأزمنة الفاصلة بين فعل وآخر .
٣ - نضج العادة .
- والسبب في منفعة هذه الفواصل هو اتصاف المادة بالنضج الحيوي ( Maturation biologique ) ( بيرون ) ، وهو ضروري لرسوخ العــادة واستقرارها ، وانتظام عناصرها ، واتساقها . فقد دلت تجارب ( بوردون Bourdon ) على أن العادة قد تبلغ بنفسها درجة عظيمة من التقدم ، وذلك بعد الانقطاع عنها مدة من غير تمرين جديد ، وفي الحياة ، كما ذكر ( بيرون ) ، أمثلة كثيرة تدل على ذلك . منها أن الإنسان كثيراً ما يميل إلى تعلم السباحة ، فيتمرن عليها مدة دون فائدة ، ثم يعرض عنها شهوراً طويلة ، لا بل سنوات كثيرة ، ثم تسوقه الظروف يوماً إلى استئناف ذلك فيجد نفسه عالما بما جهل . وقد يعرض ذلك للإنسان في تعلم بعض القطع الموسيقية ، أو بعض الألعاب . فقانون نضج العادة يوضح لنا اسطورة تولد العادة من الفعل الأول . نعم إن كل عمل يترك أثراً في النفس ، والأصل في العادة هو التغير الأول ، وبقاء آثار الفعل في النفس أساس الذاكرة العضوية . إلا أن هذا الأثر الأول تغير بسيط ، ومن الصعب أن لذلك عادة لا تتكون الغادة إلا بعد استقرار التغيرات المكتسبة ورسوخها ، والنضج الحيوي ضروري لهذا الاستقرار . وإذا تعمقنا في دراسة العادات المتولدة من الفعل الأول تبين لنا أنها تقتضي استعداداً سابقاً ، أو عادة خفية كامنة في النفس كمونا لا شعورياً ، فلا غرو إذا انتقل هذا الاستعداد من القوة إلى الفعل ، وتم نضج العادة ، بتغير بسيط ظاهر ينضم إلى العوامل الباطنة . حق لقد قال ( دويلشوفر ) : ( ان العادة لا تتولد من التغير الأول ، ولا من التكرار ، بل من الاستعداد الذي يولده التكرار في الجملة العصبية ) .
مناقشة بعض الأمثلة :
إن بعض الأشخاص يستظهر قطعة من الشعر ، أو النثر بعد قراءتها مرة واحدة . فإما أن يكون هذا الاستعداد فطريا كما في حالات التجسيم الخارجي للصور المتولدة من الخيال ) Eidétisme ) . وإما أن يكون مكتسباً بطريق الذاكرة . وقد ذكر لنا ( دويلشوفر ) نفسه مثالاً آخر ، قال : إن أحد الشبان تعلم بعض الألعاب لمجرد الاطلاع عليها ، فلم يمارسها إلا قليلا ، ثم صادف في العطلة رفيقاً دعاه إلى اللعب بالورق ، فكان ذلك كافياً لتوليد العادة فيه . فهذا المثال أيضا يدل على استعداد سابق للتجربة الاولى . لأن الألعاب التي تعلمها هذا الشاب من قبل ولدت في نفسه استعداداً للألعاب الجديدة ، ثم جاءت لعبة الورق متممة لاستعداده السابق ، فأكملت عناصر العادة ، وأنضجتها ، ونقلتها من القوة إلى الفعل .
٤ - تقسيم الفعل وتدريج الصعوبات .
- ولابد في اكتساب العــادة من أن يقسم الفعل : عدة أجزاء ، وأن يتعلم الإنسان كل جزء على حدته ، وأن تجمع هذه الأجزاء بعد ذلك بعضها إلى بعض . فلتعلم الكتابة مثلاً يرسم الطفل أجزاء الحروف من خطوط مستقيمة ومنحنية ، ثم يجمع هذه الأجزاء لتأليف الحروف ، ثم يجمع الحروف لتأليف الكلمات . ولتعلم المسايفة يقسم الفعل إلى حركات أولية : كمد الذراع ، وإمالة السيف ذات اليمين وذات اليسار ، ولتعلم الرقص تقسم الخطوات المختلفة إلى حركات بسيطة . فيجب إذن أن ينقسم الفعل إلى حركات أولية ، وأن يعهد في كل حركة منها إلى عضلة من العضلات ، حتى تصبح كل عضلة مختصة بحركة محددة ، وهكذا يتكون الفعل من تركيب هذه الحركات الجزئية وتنظيمها .
وينبغي أيضاً لاكتساب العادات أن تدرج الصعوبات ، وأن لا يتكرر الفعل كله دفعة واحدة ، بل تكتسب حركاته بالتدريج من السهل إلى الصعب . ان العادة الحيوية تحتاج إلى هذا التدريج ، فلا يجوز أن يزاد مقدار المؤثر دفعة واحدة ، لأن ذلك يشوش توازن الجسم ، ويبطل التكيف ، وقد يسبب الموت . فالإنسان لا يتعود الإقامة في الجبال العالية إلا إذا تدرج في الارتفاع شيئاً فشيئا ، ولا يتعود امتصاص المقادير الكبيرة من السم إلا إذا تعود امتصاص المقادير القليلة والمتوسطة أولاً . والعادة الحركية نفسها تحتاج أيضاً إلى تدريج التمارين ، بعد تقسيم الفعل إلى حركات بسيطة وكلما كان الفعل أكثر تركيباً . كانت الحاجة إلى تدريج التمارين أشد . لأن العادة لا تتولد من تكرار الفعل على نمط واحد ، بل يجب في كل مرحلة من المراحل أن يبدل تركيب الحركات ، وأن تصحح الحركات الاولى بانضمام الحركات الثانية اليها . فتعلم الكتابة مثلا ليس تكراراً للحركات الاولى على نمط واحد ، وتعلم الرقص ليس تكراراً من غير تصحيح وتنظيم وتنسيق .
٥ - العوامل النفسية المحضة .
- ومما يسهل اكتساب العادات عند الإنسان والحيوانات العالية تأثير العوامل النفسية المحضة ، كالاهتمام ، والجهد ، والانتباه الإرادي ، والعقل . فالاهتمام بالعمل أقوى عوامل الانتباه التلقائي ، كما أن الجهد والانتباه الإرادي يسهلان اكتساب العادات . ان تركيز الانتباه ضروري كل الضرورة في بداية الفعل ، لأنه يوفر كثيراً من الجهد ، ويغني عن كثير من الحركات الزائدة على الحاجة . وليس الانتباه في الواقع سوى التفكير في الحركة المراد اكتسابها تفكيراً واضحاً وجليا . وكلما كان الانتباه أقوى كان الاكتساب أسهل ، لذلك كان التكرار الذهني أصلح للاستظهار من القراءة الفعلية عدة مرات . وهذا يبين لها أيضاً أن للقوى العقلية تأثيراً عميقاً في اكتساب العادات . قال ( دولاكرو ) : ( ان الانتباه ، وإرادة التعلم ، وكيفية تصور العمل ، ومقايسة النتائج بالغاية المقصودة ، وحالة الذهن في أثناء الكسب ، والنضج ، وقياس التقدم ، ومؤالفة التعلم مؤالفة معقولة ؛ كل ذلك يؤثر في تكوين العادات ، حق أنه ليؤثر في الذاكرة الميكانيكية ، كما يؤثر في الذاكرة العقلية ) .
وقد بين العلماء أن تأثير العوامل النفسية المحضة ليس خاصاً بالإنسان وحده ، وأن الحيوان أيضاً يستعين بها على اكتساب العادات . مثال ذلك : أن تأثير العوامل العقلية يرفع منحني الاكتساب عند كل منهما .
قال ( بيرون ) : إذا رأيت منحني الاكتساب قد ارتفع فجأة عند الإنسان ، والحيوان ، فذلك دليل على أن العقل قد استبدل بالكسب الأعمى البطىء كسباً عاقلا ، فالإنسان ، والحيوان لا يتشابهان في ذلك فحسب ، بل يتفقان ويتحدان . والفرق بين حيوان وآخر أعظم من الفرق بين الإنسان والحيوانات الثديية . وإذا كان للإنسان في اكتساب العادات تفوق وتقدم ، فذلك راجع إلى قدرته على إبداع الروابط الذهنية المركبة . وقصارى القول : أن اكتساب العادات عند الإنسان والحيوانات العالية ، لا يستند إلى الذاكرة العضلية فحسب Memoire musculaire ) ، بل يستند في تقـ دمه إلى الجملة العصبية كلها ، فهو ليس إذن حركياً فقط ، وإنما هو ذهني أيضاً .
تعليق