دراسة بعض الغرائز .. الغَرِيزَة
دراسة بعض الغرائز
ونريد الآن أن نتكلم على بعض الغرائز ، وهي : ( ۱ ) الغرائز الفردية ، ( ٢ ) الغرائز الاجتماعية .
آ - الغرائز الفردية
أهم هذه الغرائز الفردية :
غريزة التغذي ، وغرائز الدفاع عن النفس .
ولنبحث الآن في كل غريزة من هذه الغرائز على حدتها :
۱ - غريزة التغذي .
- كل حيوان يحتاج إلى الغذاء في سبيل بقائه ، ولولا الطاقات التي يستمدها من غذائه لتعطلت حياته . انه يقوم بوظائف عضوية مختلفة ، ك الهضم والتنفس ، وإفراز العضلات ، وأولى هذه الوظائف وظيفة التغذي ، لأنه إذا امتنع عن الطعام تعطلت فيه وظائف الحياة شيئاً فشيئاً حتى يدركه الموت . أما الإنسان فإن الجوع يفقده كل معاني الإنسانية ، حق انه كثيراً ما يسوقه إلى ارتكاب أفظع الأجرام .
وقد بينا سابقاً أن غريزة الرضاعة فطرية ، وان الطفل يضع كل ما تقع عليه يده في فمه وانه قد يمص أنامله ، وان مص الأنامل قد يستمر مدة طويلة من الزمان . إن كثيراً من الوالدين يلاقون أشد الصعوبات في منع أطفالهم من مص أصابعهم فير بطون أيديهم بالمناديل ، أو يلبسونهم القفافيز ، أو يطلون أصابعهم بالصبر ، ومن ألطف التجارب : أن والدة استطاعت أن تمنع بنتها من مص أناملها بصبغ أظافرها بالأحمر ، وهذا يدل على أن ميل الفتاة إلى الزينة لا يقل قوة عن غريزة التغذي .
و من الصور التي تتصف بها غريزة البحث عن الطعام غريزة الصيد ، وهي موجودة للحيوان ، والإنسان . لقد كان الإنسان الأول يحصل على غذائه بطريق الصيد ، ولا يزال الإنسان المعاصر يحب الصيد لا للحصول على غذائه فحسب ، بل لأسباب اخرى ، كعب المطاردة ، والكر ، والفر ، والقنص ، والمغامرة . والطفل يلذ له أن يقتنص الحشرات في الحدائق ، وأن ينصب الفخاخ للعصافير ، وأن يصطاد السمك ، والطبقات الرفيعة من الناس تحب صيد الحيوانات البرية للهو والرياضة .
لم يبق لانتخاب الأطعمة في الشروط الاجتماعية الحاضرة أي صفة غريزية ، ومع ذلك فإن بعض الأطفال في المجتمع الحاضر يميلون إلى أكل اللحم النيء . ان هذه الشهوة تدل على أن ميول الطفل ليست مقيدة بعادات المحيط الذي يعيش فيه . فقد يكون أكل اللحم النيء ناشئاً عن ميل غريزي أولي ، وقد يكون ناشئاً عن تفنن بعض الناس في التلذذ بالشهوات العجيبة . لقد أصبح اعوجاج الذوق ، وانحراف الشعور بالجوع ، أو بالعطش ( كشدة الميل إلى الأكل ، والشرب ، أو الامتناع عنهما ) من الامور المألوفة في أيامنا هذه . وقد يكون الميل إلى أكل اللحم النيء إحدى هذه الحالات الشاذة .
۲ - غرائز الدفاع .
- انغرائز الدفاع كثيرة ويمكننا أن نقسمها قسمين : القسم الأول يشتمل على غرائز الدفاع البيولوجي عن الجسم ، والقسم الثاني يشتمل على غرائز حفظ البقاء ، كالخوف ، والهرب ، والكفاح ، والغضب .
آ - غرائز الدفاع البيولوجي عن الجسم .
- ان حفظ سلامة الجسم يتم بمجموعة من ردود الفعل : فمنها ما ليس له قيمة كبيرة في نظر العالم النفسي ، كالسعال ، والتثاؤب ، ومنها ما له صلة مباشرة بسلوك الإنسان ، كالنفور ، والتقزز .
النفورو التقزز .
- ان الطفل يضع في فمه كثيراً من الأشياء المختلفة ، ويرد كثيراً من الأشياء التي يكره رائحتها وطعمها ، والأصل في التقزز أن يكون دفاعاً عن الجهاز الهضمي ، ولكن الأمر ينتهي بالإنسان إلى تعود التقزز من أطعمة معينة ، لذلك نجد كثيراً من الأشياء تؤكل في قطر ، ويتقزز منها في قطر آخر . ان بعض الأقوام يأكلون لحم الكلاب ويستطيبونه ، بينما نحن نتقزز منه ، ويتصل بالتقزز كثير من الظواهر الجسمية ، كالبصق ، والاستفراغ . والظاهرة الجسمية النافعة في التعبير عن حالة نفسية معينة تنتقل إلى الأحوال الأخرى المماثلة لها .
أما النفور فهو الابتعاد عن الأشياء التي تضر سطح الجلد ، كبعض الحشرات الطفيلية التي تقع عليه ، ويقال أن الأصل في النظافة يرجع إلى هذه الغريزة ، حتى أن ( ويليم جيمس ) كان يعتقد أن الإنسان نظيف بالطبع ، ولكن هذا الأمر مشكوك فيه ، لأن الإنسان إذا ترك وشأنه لم يبد كبير عناية بالنظافة . أما الهرة فإنها تنظف نفسها بلحس جسمها بلسانها ، ومما قاله ( جيمس ) أيضاً : ان المواد العفنة ، والأحشاء ، والدم ، والبراز ، تحدث في الإنسان نفوراً طبيعياً ، وهذا أيضاً أمر مشكوك فيه . إن كثيراً من الناس بمخطون بأصابعهم ، والطفل لا يظهر أي نفور أو اشمئزاز من هذا الأمر ، . ومع ذلك فإن التقزز ، والنفور ، ميلان طبيعيان يهدفان إلى الدفاع البيولوجي عن الجسم ، ويتصل بها الاحتقار ، والكره ، والبغضاء . اننا نبغض بعض الأشخاص الذين تنفر منهم ، وما دمنا ننفر من بعض الأشخاص نفوراً طبيعياً ، فإن اعتراض علماء الأخلاق على شعورنا بالبغضاء لا يجدي نفعا .
وبالرغم من تقدم الإنسان وتحضره ، فإنه لا ينفك ينفر من بعض الأشياء ، ويتقزز منها . حق ان التقزز كثيراً ما يتحول عن الشيء المادي إلى الشيء المعنوي المشابه له . فكما نتقزز من قذارة بعض الأشخاص في معيشتهم ، كذلك نتقزز من تقمرهم في كلامهم ، أو تصنعهم في أخلاقهم . ومن السهل على المربي أن يستفيد من هذه الغريزة في التربية الاجتماعية والخلقية .
ففي تدريس التاريخ والأخلاق يصور ا الخيانة ، والخبث ، والدسائس ، وسوء السلوك ، تصويراً قبيحاً يثير هذه الغريزة ، ويوقظ ما تنطوي عليه الانفعالات . حق إذا ما عرضت هذه الامور للفتى نفر منها ، ونبذها ، واستكرهها .
ب - غرائز حفظ البقاء :
الخوف والهرب .
- كل كائن حي يحب الحياة ، ويسعى جهده للاحتفاظ بها ، ومهما تكن ظروفها قاسية وشاقة ، فأنه يتعلق بها ويستمسك بأهدابها . وسواء أعاش الإنسان في البلاد المجدبة ، أم في الصحارى الحارة ، أم في الأقاليم الباردة ، فإن شظف العيش فيها لا يبغض اليه الحياة ولا يحمله على التخلص منها . والدليل على ذلك : انه كلما أحدق به الخطر دافع عن نفسه دفاعاً شديداً حتى يديم حياته . إن غريزة حفظ البقاء غريزة مركبة مشتملة على عدة غرائز ، ولنحاول الآن إبراز بعضها .
يقولون ان الإنسان المهدد بالخطر يتعلق بأذيال الريح . فردود الفعل التي يدافع بها عن نفسه دون تفكير لا تعد ولا تحصى ، انه يقلص يده مثلا عند وخزه بدبوس ، ويغمض جفنيه عندما يدخل الغبار إلى عينيه ، ويمد ذراعيه مستغيثاً عند ما يسقط إلى الأرض . فهذه الحركات كلها أفعال منعكسة يدافع بها الكائن الحي عن جزء من جسمه ، و وهي تعد ظواهر معبرة عن الخوف . أما الخوف نفسه فهو دفاع عن الكائن الحي بأكمله ، وهو ليس خوفاً فقط ، وإنما هو حذر ، وتحرز من كل خطر .
وقد قيل أن الخوف انفعال نفساني فطري يتجلى في الهرب من الأخطار ، والابتعاد عنها ، وهذا أول ما يبدو من غرائز الطفل ، انه لا يبلغ الأسبوع السادس من سنه حتى تبدو عليه ظواهر الخوف بوضوح تام . والدليل على ذلك انه كلما طرق اذنه صوت شديد صرخ وصاح للتعبير عن خوفه وذعره .
ووسائل الدفاع عن النفس عند الخوف ثلاث الصياح ، والهرب ، والتوقف عن الحركة . فالطفل الصغير يصيح ، وعندما يكبر يهرب ، أو يقف في مكانه مشدوها ، وكلما تقدمت به السن تعلم كيف يملك نفسه ويتجلد .
وقد أضاف بعضهم إلى هذه الوسائل وسيلة رابعة خاصة بالإنسان . وهي أن الذي أحدق به الخطر يندفع مباشرة إلى الفعل ، فالصياد الذي فاجأه حيوان مفترس يصوب بندقيته ويطلق الرصاص عليه ، وسائق السيارة المهدد بالاصطدام يحول اتجاه سيارته ، أو يوقف حركتها ، وهذا كله صحيح ، إلا أن حركات الصياد ، والسائق ليست حركات غريزية ، وإنما هي حركات مكتسبة .
ومن أسباب الخوف عند الطفل الصغير ، الضوضاء ، والأصوات العالية المفاجئة ، والإشفاق من الوقوع على الأرض ، والظلام ، والوحدة ، ورؤية بعض الحيوانات .
والإنسان الأول والحيوان يخافان من الظواهر الطبيعية الشديدة . مثل الرعد القاضف ، والبرق الخاطف ، والعواصف الثائرة . إن بعض الكلاب تخاف مثلاً من صوت المدافع ، وتختبىء في كوة عند إطلاق القنابل .
وأغلب أسباب الخوف عند الإنسان مكتسبة ، ونستطيع أن نرجعها كلها إلى سبب . وهو الشعور بالخطر والأذى ، وقد يكون الخطر حقيقياً ، أو يكون وهميا ، وإذا كان حقيقياً كان ماديا ، أو معنوياً ، فمن الأمثلة الدالة على الخطر المادي . وجـود الشخص في منزل يحترق ، أو وجوده في باخرة مشرفة على الغرق ، أو طيارة معرضة للسقوط . الخ .. ومن الأمثلة الدالة على الخطر المعنوي تهديد الموظف بعزله عن منصبه والطالب بإسقاطه في الامتحان ، والخائن بفضح خيانته . وإذا كان الخطر وهميا كان ناشئاً عن أسباب خرافية أو خيالية ، كالخرافات التي تشيع في أذهان العامة ، أو الخوف من الجن ، والأشباح ، وغيرها .
لقد تغيرت الأسباب الباعثة على الخوف في العصر الحاضر . حتى أصبح الإنسان يخاف من فقدان مركزه الاجتماعي ، أو خسارة ثروته ، أو تألب أعدائه عليه .
ولو سألنا الناس عن أعظم خطر أحدق بهم في حياتهم ، لأجابنا كل واحد منهم بشيء مختلف عن الآخر ، فهذا يقول إن أعظم خطر أحدق به هو رسوبه في الامتحان ، وذاك يقول ان أعظم خطر أصابه هو وجوده في معركة حربية تطايرت فيها شظايا القنابل ، أو وقوعه مرة في أيدي قطاع الطريق . وذلك يقول ان أعظم خطر لقيه هو اخفاقه في مهمة سياسية أو حربية كان يتوقف عليها مصير وطنه . فتقدير قيمة الخطر يرجع إذن إلى مركز الشخص الاجتماعي ، وإلى المثل الاعلى الذي يهدف إلى تحقيقه .
وللخوف عدة درجات . فإذا كان ناشئاً عن توقع شر بعيد سمي . حذراً وحيلة ، وقد ينفرد الخوف وحده بالعمل ، وقد يكون له حلفاء وشركاء ، وهو يدخل في تركيب الاحترام ، والذعر الشديد ، وهما انفعالان هامان جداً أثرا تأثيراً عظيما في نشوء الديانات .
الكفاح والغضب .
- قلنا ان الغريزة الدفاع عن النفس مظهرين مختلفين أحدهما سلبي يعبر عنه الحيوان بالخوف والهرب ، والآخر ايجابي يعبر عنه بالكفاح والغضب . والكفاح غريزة تدفع الانسان إلى القتال ، والمقاومة ، والنضال في سبيل التغلب على الخطر المحدق به ، أو إلى الانتقام من الشخص الذي مسه بسوء .
و ليست غريزة الكفاح هذه مطلقة كغريزة الهرب . فان إناث بعض أجناس الحيوان لا يبدو عليها ميل إلى الكفاح . ولكنها عامة في الانسان ، وهي تشبه غريزة الهرب من حيث قوتها ، وشدة الانفعال الملازم لها ، والانفعال المقابل لغريزة الكفاح هو الغضب .
وقد تتعاون غريزة الكفاح وغريزة الهرب في كثير من المواقف ، فلا يقتصر الدفاع عن النفس على المظهر السلمي فحسب ، بل يشمل في الوقت نفسه المظهر الايجابي ، ان الحيوان لا يقف أمام عدوه ساكاً ، بل يفر منه تارة . ويهجم عليه اخرى . والطفل الذي اصطدمت رجله بخشبة ، قد يهرب منها صارخاً ، وقد يهجم عليها ويضربها .
ان ظواهر غريزة الكفاح كثيرة منها : الصراع ، والضرب باليدين ، أو القدمين ، والعض ، والصراخ ، ويمكنك مشاهدة هذه الظواهر عند الطفل في مهده ، انك اذا ربطت يديه ، أو رجليه ، أو رأسه . صرخ واضطرب ، وقد يهم بضربك بيديه ورجليه ، أو يعضك بأسنانه ، أو يجهش بالبكاء ، وكل اهانة تلحقها بالانسان الراشد تثيره ، وتدفعه الى القتال . ليس للإنسان أعداء طبيعيون ، ولكن كل شيء في الطبيعة قد ينقلب الى عدو له اذا خالف ميوله ، وحال بينه وبين الحصول على الضروري من حاجاته . وأول هذه الحاجات الضرورية : حاجة الحيوان إلى الغذاء ، ان الحيوانات التي تتغذى بالنباتات لا تقاتل في سبيل الحصول على غذائها . لأنها تجده في كل مكان . أما الحيوانات اللاحمة فإنها لا تجد غداءها متوافر أدائماً . فلا غرو إذا قاتلت في سبيل الحصول على مكان للصيد ، أو في سبيل الظفر بإحدى الفرائس . وسلوك الإنسان في أيام الشدائد يشبه سلوك هذه العجماوات . ومن الحاجات الطبيعية أيضاً الحاجات الجنسية ، ان الحيوانات العالية تتكافح في أوقات العلاقات الجنسية ، ولا فرق في ذلك بين آكلة اللحوم ، وبين الحيوانات المجترة . لأنها تقاتل أعداءها جميعاً في سبيل إرضاء شهواتها ، وما من حيوان في الأرض إلا على الكفاح اعتماده ، وإن كانت بعض إناثه أقل ميلا إلى الكفاح من ذكوره ، وكذلك الإنسان فهو لا يختلف عن الحيوان في قضاء لباناته . فإذا استولى عليه الهوى وأسكرته الشهوة لم تؤثر التربية والاعتبارات الاجتماعية في إيقافه عند حده ، وضبط نفسه والحكم عليها .
ومن الحاجات التي تدفع الإنسان إلى الكفاح الطموح ، فهو يدفع الإنسان إلى مغالبة صروف الحياة ، واجتياز العقبات في سبيل الشهوة والثروة والمجد ، والنفوذ ، والسلطان ، ولو كان كفاح الناس ناشئاً عن حاجات الغذاء ، وحاجات الجنس ، وحدها لسهل على المصلحين الاجتماعيين إيجاد تنظيم بشري كامل يمنع القتال ، ويزيل الحرب ولكن القتال لا يقف عند حد ، والحرب لا تزول في الحقيقة إلا إذا تخلى الإنسان عن طموحه ، ونعني بالطموح هنا كل ما يوسع حياة الإنسان ، ويزيد نفوذه وتأثيره . إن أساس كل صراع في العالم يرجع إلى رغبة الفرد في الاستعلاء ، والسيطرة ، والسلطان . فإذا أردنا أن نمنع الحرب ، ونزيل الكفاح ، والقتال ، وجب علينا أولاً أن تخفف من شدة الطموح ، وهذا الأمر ممكن في النهاية ، إلا أنه قد يحول بيننا وبين التقدم والارتقاء .
فغريزة الكفاح إذن فطرية ، وهي تعمل على إرضاء حاجات الإنسان الطبيعية ، إلا أنها قد تتخذصورة معنوية تدفع الإنسان إلى مغالبة صروف الحياة ، ومعارضة الشهوات ، والمناضلة في سبيل الفضيلة والعلم .
وإذا كان الكفاح فطرياً ، كان من الصعب علينا أن نسد عليه الطرق ، وغاية ما نستطيعه أن نصعد غريزته ، وأن نحولها إلى ما فيه خير الإنسان ونفعه ، أو إلى ما يتفق وشروط الحضارة ، من المثل العليا لا أن نتركها تجري في مجراها الطبيعي على صورة قتال وسفك دماء .
يمكننا لذلك أن نقلب المقاتلة الحقيقية إلى مقاتلة وهمية ، فبدلاً من أن يقاتل الانسان أخاه قتالاً حقيقياً يمكنه أن يقاتله في الألعاب الرياضية فيشبع غريزته من جهة ، ويكتسب صحة وقوة من جهة اخرى ، ذلك هو السبب في انتشار الألعاب الرياضية في أيام السلم . انها وسائل لتحويل غريزة الكفاح إلى ما هو نافع وممتع .
ونستطيع أيضاً أن نرضي غريزة الكفاح بتوجيهها إلى معاناة البحث العلمي ، فإذا انتصرنا على الجهل ، والمرض ، والفقر ، وكشفنا مجاهل العلم ، ودافعنا عن المبادىء الفكرية ، والدينية ، والسياسية ، والخلقية ، والوطنية . كان لنا في ذلك ما يوقينا من السوء والأذى .
إن مشتقات غريزة الكفاح كثيرة ، ولها عدة صور . فمما ذكره ( ريبو ) ان الغريزة المقاتلة ثلاث صور : ( ۱ ) المقاتلة الحقيقية ، ( ۲ ) المقاتلة المموهة ، ( ۳ ) المقاتلة المؤجلة المموهة هي فالمقاتلة الحقيقية هي المقاتلة التي تجري بين الانسان والحيوان للتغلب عليه ، والمقاتلة المقاتلة التي تجري بين الانسان وخصمه في الألعاب الرياضية ، والملاكمة ، والمصارعة . وغيرها ، والمقاتلة المؤجلة هي المقاتلة التي تشتمل على تحذير وتهديد ، وهي تدخل في البغضاء ، والحسد ، والحقد ، واللوم .
دراسة بعض الغرائز
ونريد الآن أن نتكلم على بعض الغرائز ، وهي : ( ۱ ) الغرائز الفردية ، ( ٢ ) الغرائز الاجتماعية .
آ - الغرائز الفردية
أهم هذه الغرائز الفردية :
غريزة التغذي ، وغرائز الدفاع عن النفس .
ولنبحث الآن في كل غريزة من هذه الغرائز على حدتها :
۱ - غريزة التغذي .
- كل حيوان يحتاج إلى الغذاء في سبيل بقائه ، ولولا الطاقات التي يستمدها من غذائه لتعطلت حياته . انه يقوم بوظائف عضوية مختلفة ، ك الهضم والتنفس ، وإفراز العضلات ، وأولى هذه الوظائف وظيفة التغذي ، لأنه إذا امتنع عن الطعام تعطلت فيه وظائف الحياة شيئاً فشيئاً حتى يدركه الموت . أما الإنسان فإن الجوع يفقده كل معاني الإنسانية ، حق انه كثيراً ما يسوقه إلى ارتكاب أفظع الأجرام .
وقد بينا سابقاً أن غريزة الرضاعة فطرية ، وان الطفل يضع كل ما تقع عليه يده في فمه وانه قد يمص أنامله ، وان مص الأنامل قد يستمر مدة طويلة من الزمان . إن كثيراً من الوالدين يلاقون أشد الصعوبات في منع أطفالهم من مص أصابعهم فير بطون أيديهم بالمناديل ، أو يلبسونهم القفافيز ، أو يطلون أصابعهم بالصبر ، ومن ألطف التجارب : أن والدة استطاعت أن تمنع بنتها من مص أناملها بصبغ أظافرها بالأحمر ، وهذا يدل على أن ميل الفتاة إلى الزينة لا يقل قوة عن غريزة التغذي .
و من الصور التي تتصف بها غريزة البحث عن الطعام غريزة الصيد ، وهي موجودة للحيوان ، والإنسان . لقد كان الإنسان الأول يحصل على غذائه بطريق الصيد ، ولا يزال الإنسان المعاصر يحب الصيد لا للحصول على غذائه فحسب ، بل لأسباب اخرى ، كعب المطاردة ، والكر ، والفر ، والقنص ، والمغامرة . والطفل يلذ له أن يقتنص الحشرات في الحدائق ، وأن ينصب الفخاخ للعصافير ، وأن يصطاد السمك ، والطبقات الرفيعة من الناس تحب صيد الحيوانات البرية للهو والرياضة .
لم يبق لانتخاب الأطعمة في الشروط الاجتماعية الحاضرة أي صفة غريزية ، ومع ذلك فإن بعض الأطفال في المجتمع الحاضر يميلون إلى أكل اللحم النيء . ان هذه الشهوة تدل على أن ميول الطفل ليست مقيدة بعادات المحيط الذي يعيش فيه . فقد يكون أكل اللحم النيء ناشئاً عن ميل غريزي أولي ، وقد يكون ناشئاً عن تفنن بعض الناس في التلذذ بالشهوات العجيبة . لقد أصبح اعوجاج الذوق ، وانحراف الشعور بالجوع ، أو بالعطش ( كشدة الميل إلى الأكل ، والشرب ، أو الامتناع عنهما ) من الامور المألوفة في أيامنا هذه . وقد يكون الميل إلى أكل اللحم النيء إحدى هذه الحالات الشاذة .
۲ - غرائز الدفاع .
- انغرائز الدفاع كثيرة ويمكننا أن نقسمها قسمين : القسم الأول يشتمل على غرائز الدفاع البيولوجي عن الجسم ، والقسم الثاني يشتمل على غرائز حفظ البقاء ، كالخوف ، والهرب ، والكفاح ، والغضب .
آ - غرائز الدفاع البيولوجي عن الجسم .
- ان حفظ سلامة الجسم يتم بمجموعة من ردود الفعل : فمنها ما ليس له قيمة كبيرة في نظر العالم النفسي ، كالسعال ، والتثاؤب ، ومنها ما له صلة مباشرة بسلوك الإنسان ، كالنفور ، والتقزز .
النفورو التقزز .
- ان الطفل يضع في فمه كثيراً من الأشياء المختلفة ، ويرد كثيراً من الأشياء التي يكره رائحتها وطعمها ، والأصل في التقزز أن يكون دفاعاً عن الجهاز الهضمي ، ولكن الأمر ينتهي بالإنسان إلى تعود التقزز من أطعمة معينة ، لذلك نجد كثيراً من الأشياء تؤكل في قطر ، ويتقزز منها في قطر آخر . ان بعض الأقوام يأكلون لحم الكلاب ويستطيبونه ، بينما نحن نتقزز منه ، ويتصل بالتقزز كثير من الظواهر الجسمية ، كالبصق ، والاستفراغ . والظاهرة الجسمية النافعة في التعبير عن حالة نفسية معينة تنتقل إلى الأحوال الأخرى المماثلة لها .
أما النفور فهو الابتعاد عن الأشياء التي تضر سطح الجلد ، كبعض الحشرات الطفيلية التي تقع عليه ، ويقال أن الأصل في النظافة يرجع إلى هذه الغريزة ، حتى أن ( ويليم جيمس ) كان يعتقد أن الإنسان نظيف بالطبع ، ولكن هذا الأمر مشكوك فيه ، لأن الإنسان إذا ترك وشأنه لم يبد كبير عناية بالنظافة . أما الهرة فإنها تنظف نفسها بلحس جسمها بلسانها ، ومما قاله ( جيمس ) أيضاً : ان المواد العفنة ، والأحشاء ، والدم ، والبراز ، تحدث في الإنسان نفوراً طبيعياً ، وهذا أيضاً أمر مشكوك فيه . إن كثيراً من الناس بمخطون بأصابعهم ، والطفل لا يظهر أي نفور أو اشمئزاز من هذا الأمر ، . ومع ذلك فإن التقزز ، والنفور ، ميلان طبيعيان يهدفان إلى الدفاع البيولوجي عن الجسم ، ويتصل بها الاحتقار ، والكره ، والبغضاء . اننا نبغض بعض الأشخاص الذين تنفر منهم ، وما دمنا ننفر من بعض الأشخاص نفوراً طبيعياً ، فإن اعتراض علماء الأخلاق على شعورنا بالبغضاء لا يجدي نفعا .
وبالرغم من تقدم الإنسان وتحضره ، فإنه لا ينفك ينفر من بعض الأشياء ، ويتقزز منها . حق ان التقزز كثيراً ما يتحول عن الشيء المادي إلى الشيء المعنوي المشابه له . فكما نتقزز من قذارة بعض الأشخاص في معيشتهم ، كذلك نتقزز من تقمرهم في كلامهم ، أو تصنعهم في أخلاقهم . ومن السهل على المربي أن يستفيد من هذه الغريزة في التربية الاجتماعية والخلقية .
ففي تدريس التاريخ والأخلاق يصور ا الخيانة ، والخبث ، والدسائس ، وسوء السلوك ، تصويراً قبيحاً يثير هذه الغريزة ، ويوقظ ما تنطوي عليه الانفعالات . حق إذا ما عرضت هذه الامور للفتى نفر منها ، ونبذها ، واستكرهها .
ب - غرائز حفظ البقاء :
الخوف والهرب .
- كل كائن حي يحب الحياة ، ويسعى جهده للاحتفاظ بها ، ومهما تكن ظروفها قاسية وشاقة ، فأنه يتعلق بها ويستمسك بأهدابها . وسواء أعاش الإنسان في البلاد المجدبة ، أم في الصحارى الحارة ، أم في الأقاليم الباردة ، فإن شظف العيش فيها لا يبغض اليه الحياة ولا يحمله على التخلص منها . والدليل على ذلك : انه كلما أحدق به الخطر دافع عن نفسه دفاعاً شديداً حتى يديم حياته . إن غريزة حفظ البقاء غريزة مركبة مشتملة على عدة غرائز ، ولنحاول الآن إبراز بعضها .
يقولون ان الإنسان المهدد بالخطر يتعلق بأذيال الريح . فردود الفعل التي يدافع بها عن نفسه دون تفكير لا تعد ولا تحصى ، انه يقلص يده مثلا عند وخزه بدبوس ، ويغمض جفنيه عندما يدخل الغبار إلى عينيه ، ويمد ذراعيه مستغيثاً عند ما يسقط إلى الأرض . فهذه الحركات كلها أفعال منعكسة يدافع بها الكائن الحي عن جزء من جسمه ، و وهي تعد ظواهر معبرة عن الخوف . أما الخوف نفسه فهو دفاع عن الكائن الحي بأكمله ، وهو ليس خوفاً فقط ، وإنما هو حذر ، وتحرز من كل خطر .
وقد قيل أن الخوف انفعال نفساني فطري يتجلى في الهرب من الأخطار ، والابتعاد عنها ، وهذا أول ما يبدو من غرائز الطفل ، انه لا يبلغ الأسبوع السادس من سنه حتى تبدو عليه ظواهر الخوف بوضوح تام . والدليل على ذلك انه كلما طرق اذنه صوت شديد صرخ وصاح للتعبير عن خوفه وذعره .
ووسائل الدفاع عن النفس عند الخوف ثلاث الصياح ، والهرب ، والتوقف عن الحركة . فالطفل الصغير يصيح ، وعندما يكبر يهرب ، أو يقف في مكانه مشدوها ، وكلما تقدمت به السن تعلم كيف يملك نفسه ويتجلد .
وقد أضاف بعضهم إلى هذه الوسائل وسيلة رابعة خاصة بالإنسان . وهي أن الذي أحدق به الخطر يندفع مباشرة إلى الفعل ، فالصياد الذي فاجأه حيوان مفترس يصوب بندقيته ويطلق الرصاص عليه ، وسائق السيارة المهدد بالاصطدام يحول اتجاه سيارته ، أو يوقف حركتها ، وهذا كله صحيح ، إلا أن حركات الصياد ، والسائق ليست حركات غريزية ، وإنما هي حركات مكتسبة .
ومن أسباب الخوف عند الطفل الصغير ، الضوضاء ، والأصوات العالية المفاجئة ، والإشفاق من الوقوع على الأرض ، والظلام ، والوحدة ، ورؤية بعض الحيوانات .
والإنسان الأول والحيوان يخافان من الظواهر الطبيعية الشديدة . مثل الرعد القاضف ، والبرق الخاطف ، والعواصف الثائرة . إن بعض الكلاب تخاف مثلاً من صوت المدافع ، وتختبىء في كوة عند إطلاق القنابل .
وأغلب أسباب الخوف عند الإنسان مكتسبة ، ونستطيع أن نرجعها كلها إلى سبب . وهو الشعور بالخطر والأذى ، وقد يكون الخطر حقيقياً ، أو يكون وهميا ، وإذا كان حقيقياً كان ماديا ، أو معنوياً ، فمن الأمثلة الدالة على الخطر المادي . وجـود الشخص في منزل يحترق ، أو وجوده في باخرة مشرفة على الغرق ، أو طيارة معرضة للسقوط . الخ .. ومن الأمثلة الدالة على الخطر المعنوي تهديد الموظف بعزله عن منصبه والطالب بإسقاطه في الامتحان ، والخائن بفضح خيانته . وإذا كان الخطر وهميا كان ناشئاً عن أسباب خرافية أو خيالية ، كالخرافات التي تشيع في أذهان العامة ، أو الخوف من الجن ، والأشباح ، وغيرها .
لقد تغيرت الأسباب الباعثة على الخوف في العصر الحاضر . حتى أصبح الإنسان يخاف من فقدان مركزه الاجتماعي ، أو خسارة ثروته ، أو تألب أعدائه عليه .
ولو سألنا الناس عن أعظم خطر أحدق بهم في حياتهم ، لأجابنا كل واحد منهم بشيء مختلف عن الآخر ، فهذا يقول إن أعظم خطر أحدق به هو رسوبه في الامتحان ، وذاك يقول ان أعظم خطر أصابه هو وجوده في معركة حربية تطايرت فيها شظايا القنابل ، أو وقوعه مرة في أيدي قطاع الطريق . وذلك يقول ان أعظم خطر لقيه هو اخفاقه في مهمة سياسية أو حربية كان يتوقف عليها مصير وطنه . فتقدير قيمة الخطر يرجع إذن إلى مركز الشخص الاجتماعي ، وإلى المثل الاعلى الذي يهدف إلى تحقيقه .
وللخوف عدة درجات . فإذا كان ناشئاً عن توقع شر بعيد سمي . حذراً وحيلة ، وقد ينفرد الخوف وحده بالعمل ، وقد يكون له حلفاء وشركاء ، وهو يدخل في تركيب الاحترام ، والذعر الشديد ، وهما انفعالان هامان جداً أثرا تأثيراً عظيما في نشوء الديانات .
الكفاح والغضب .
- قلنا ان الغريزة الدفاع عن النفس مظهرين مختلفين أحدهما سلبي يعبر عنه الحيوان بالخوف والهرب ، والآخر ايجابي يعبر عنه بالكفاح والغضب . والكفاح غريزة تدفع الانسان إلى القتال ، والمقاومة ، والنضال في سبيل التغلب على الخطر المحدق به ، أو إلى الانتقام من الشخص الذي مسه بسوء .
و ليست غريزة الكفاح هذه مطلقة كغريزة الهرب . فان إناث بعض أجناس الحيوان لا يبدو عليها ميل إلى الكفاح . ولكنها عامة في الانسان ، وهي تشبه غريزة الهرب من حيث قوتها ، وشدة الانفعال الملازم لها ، والانفعال المقابل لغريزة الكفاح هو الغضب .
وقد تتعاون غريزة الكفاح وغريزة الهرب في كثير من المواقف ، فلا يقتصر الدفاع عن النفس على المظهر السلمي فحسب ، بل يشمل في الوقت نفسه المظهر الايجابي ، ان الحيوان لا يقف أمام عدوه ساكاً ، بل يفر منه تارة . ويهجم عليه اخرى . والطفل الذي اصطدمت رجله بخشبة ، قد يهرب منها صارخاً ، وقد يهجم عليها ويضربها .
ان ظواهر غريزة الكفاح كثيرة منها : الصراع ، والضرب باليدين ، أو القدمين ، والعض ، والصراخ ، ويمكنك مشاهدة هذه الظواهر عند الطفل في مهده ، انك اذا ربطت يديه ، أو رجليه ، أو رأسه . صرخ واضطرب ، وقد يهم بضربك بيديه ورجليه ، أو يعضك بأسنانه ، أو يجهش بالبكاء ، وكل اهانة تلحقها بالانسان الراشد تثيره ، وتدفعه الى القتال . ليس للإنسان أعداء طبيعيون ، ولكن كل شيء في الطبيعة قد ينقلب الى عدو له اذا خالف ميوله ، وحال بينه وبين الحصول على الضروري من حاجاته . وأول هذه الحاجات الضرورية : حاجة الحيوان إلى الغذاء ، ان الحيوانات التي تتغذى بالنباتات لا تقاتل في سبيل الحصول على غذائها . لأنها تجده في كل مكان . أما الحيوانات اللاحمة فإنها لا تجد غداءها متوافر أدائماً . فلا غرو إذا قاتلت في سبيل الحصول على مكان للصيد ، أو في سبيل الظفر بإحدى الفرائس . وسلوك الإنسان في أيام الشدائد يشبه سلوك هذه العجماوات . ومن الحاجات الطبيعية أيضاً الحاجات الجنسية ، ان الحيوانات العالية تتكافح في أوقات العلاقات الجنسية ، ولا فرق في ذلك بين آكلة اللحوم ، وبين الحيوانات المجترة . لأنها تقاتل أعداءها جميعاً في سبيل إرضاء شهواتها ، وما من حيوان في الأرض إلا على الكفاح اعتماده ، وإن كانت بعض إناثه أقل ميلا إلى الكفاح من ذكوره ، وكذلك الإنسان فهو لا يختلف عن الحيوان في قضاء لباناته . فإذا استولى عليه الهوى وأسكرته الشهوة لم تؤثر التربية والاعتبارات الاجتماعية في إيقافه عند حده ، وضبط نفسه والحكم عليها .
ومن الحاجات التي تدفع الإنسان إلى الكفاح الطموح ، فهو يدفع الإنسان إلى مغالبة صروف الحياة ، واجتياز العقبات في سبيل الشهوة والثروة والمجد ، والنفوذ ، والسلطان ، ولو كان كفاح الناس ناشئاً عن حاجات الغذاء ، وحاجات الجنس ، وحدها لسهل على المصلحين الاجتماعيين إيجاد تنظيم بشري كامل يمنع القتال ، ويزيل الحرب ولكن القتال لا يقف عند حد ، والحرب لا تزول في الحقيقة إلا إذا تخلى الإنسان عن طموحه ، ونعني بالطموح هنا كل ما يوسع حياة الإنسان ، ويزيد نفوذه وتأثيره . إن أساس كل صراع في العالم يرجع إلى رغبة الفرد في الاستعلاء ، والسيطرة ، والسلطان . فإذا أردنا أن نمنع الحرب ، ونزيل الكفاح ، والقتال ، وجب علينا أولاً أن تخفف من شدة الطموح ، وهذا الأمر ممكن في النهاية ، إلا أنه قد يحول بيننا وبين التقدم والارتقاء .
فغريزة الكفاح إذن فطرية ، وهي تعمل على إرضاء حاجات الإنسان الطبيعية ، إلا أنها قد تتخذصورة معنوية تدفع الإنسان إلى مغالبة صروف الحياة ، ومعارضة الشهوات ، والمناضلة في سبيل الفضيلة والعلم .
وإذا كان الكفاح فطرياً ، كان من الصعب علينا أن نسد عليه الطرق ، وغاية ما نستطيعه أن نصعد غريزته ، وأن نحولها إلى ما فيه خير الإنسان ونفعه ، أو إلى ما يتفق وشروط الحضارة ، من المثل العليا لا أن نتركها تجري في مجراها الطبيعي على صورة قتال وسفك دماء .
يمكننا لذلك أن نقلب المقاتلة الحقيقية إلى مقاتلة وهمية ، فبدلاً من أن يقاتل الانسان أخاه قتالاً حقيقياً يمكنه أن يقاتله في الألعاب الرياضية فيشبع غريزته من جهة ، ويكتسب صحة وقوة من جهة اخرى ، ذلك هو السبب في انتشار الألعاب الرياضية في أيام السلم . انها وسائل لتحويل غريزة الكفاح إلى ما هو نافع وممتع .
ونستطيع أيضاً أن نرضي غريزة الكفاح بتوجيهها إلى معاناة البحث العلمي ، فإذا انتصرنا على الجهل ، والمرض ، والفقر ، وكشفنا مجاهل العلم ، ودافعنا عن المبادىء الفكرية ، والدينية ، والسياسية ، والخلقية ، والوطنية . كان لنا في ذلك ما يوقينا من السوء والأذى .
إن مشتقات غريزة الكفاح كثيرة ، ولها عدة صور . فمما ذكره ( ريبو ) ان الغريزة المقاتلة ثلاث صور : ( ۱ ) المقاتلة الحقيقية ، ( ۲ ) المقاتلة المموهة ، ( ۳ ) المقاتلة المؤجلة المموهة هي فالمقاتلة الحقيقية هي المقاتلة التي تجري بين الانسان والحيوان للتغلب عليه ، والمقاتلة المقاتلة التي تجري بين الانسان وخصمه في الألعاب الرياضية ، والملاكمة ، والمصارعة . وغيرها ، والمقاتلة المؤجلة هي المقاتلة التي تشتمل على تحذير وتهديد ، وهي تدخل في البغضاء ، والحسد ، والحقد ، واللوم .
تعليق