نتيجة النظريات المختلفة .. الغَرِيزَة
النتيجة
ينتج من هذه النظريات المختلفة أن لكل من العقل والآلية أثراً في إيضاح حقيقة الغرائز المركبة . ومعنى هذا الأثر المزدوج أن تكوين الغريزة تابع لتأثير الآلية والعقل معاً .
ان الغرائز البسيطة تنحل إلى حركات أولية ، كالتروبيزم ، والتاكنيزم ، والحساسية التفاضلية ( ۱ ) ، والإيقاع الحيوي ( ۲ ) ، والذاكرة العضوية . فمن الغرائز التي يمكن إرجاعها إلى ( التروبيزم ) غريزة النبات المتسلق ، وتسمى حركة النبات الدائرية حول الجسم بالانتحاء اللمسي ( TropismeTactile ) . ومن الغرائز التي يمكن إرجاعها إلى ( التاكتيزم ) اتجاه الفراشة إلى النور ، واختباء يرقانتها في ساق النبات هربا من الضياء . ومن الغرائز ما يمكن إرجاعه إلى الحساسية التفاضلية ، كتظاهر بعض الحشرات بالموت ، وتنكر السرطان المسمى عنكبوت البحر ، واختباؤه وراء الأشنة ، ومنها ما هو ذاكرة عضوية ، كفريزة النمل التي تبعثه على الرجوع إلى الأوكار . وقد تكون هذه الذاكرة عضلية ، • أو شمية ، أو بصرية .
أما الغرائز المركبة فتتألف من اجتماع هذه الحركات المختلفة ، واختلاطها بعضها ببعض . وفي وسع العالم الطبيعي أن يكشف عن هذا التركيب باتباع طريق المقارنة ، فيقارن بين الأنواع القريبة ، ويشاهد غريزة من الغرائز في كل نوع منها ليطلع بذلك على أدوار تطورها المختلفة ، ويهتدي إلى معرفة أصولها وجذورها .
( شكل - ٦١ ) الاتجاه عند النمل
تخرج النملة من وكرها ( ه ) وتتجه إلى الشمس وهي في ( ش ) ، ثم تحبس في ( س ) من الساعة ( ۳ ) حتى الساعة ( ٥ ) بعد الظهر ، فإذا أفلتت عادت إلى وكرها باتجاه معكوس يشكل مع الاتجاه الأول زاوية قدرها ٣٠ درجة مساوية الزاوية التي أحدثتها الشمس بانتقالها من ( ش ) إلى ( ش ) . فالشمس كانت عند الذهاب في اتجاه الحركة ، فأصبحت عند الإياب في عكس اتجاهها .
مثال ذلك : أن ذوات المثاقب تبيض بيوضها بالقرب من فرائس حية ، وأن هناك أنواعاً متوسطة بين ذوات المثاقب ، والغشائية الأجنحة : منها ما يحمل إلى وكره فريسة ميتة قتلها بمثقبه ، ومنها ما يبيض في موضع ما ، ثم يذهب إلى الصيد ، فإذا خرجت اليرقانة من البيضة جاءها كل يوم بما يصيده من الحشرات ، ومنها ما يكتفي يجمع الحشرات الميتة .
فهذه الأمثلة وغيرها تثبت لنا أن الغريزة ترتفي ارتقاءاً تدريجياً بطريق التعلم ، تبدأ بالأعمال البسيطة ، ثم ترتقي منها إلى الأعمال المركبة ، فالعمل الأول قد يكون منعكسا بسيطاً ، كقرصة الزنبور عند لمسه جسما من الأجسام ، وقد يكون تغيراً عرضياً مفاجئاً . وأكثر هذه الأفعال الأولية البسيطة نافعة مباشرة للفرد ، إلا أن تكامل هذه الأفعال لا يتم إلا بتأثير العقل ، وفي تكاملها التدريجي نفع للنوع . فالغريزة إذن محتاجة إلى التعلم ، والعقل ، وهي مبنية في الوقت نفسه على الانتخاب الطبيعي .
فلا مفر إذن ، في بيان حقيقة الغريزة ، من الجمع بين مذهبي ( لامارك ) و ( داروين ) ولذلك قيل : ليس الفعل المنعكس مخالفاً للغريزة ، ولا الغريزة منافية للعقل ، ولكن كلا منهما متصل بالآخر . لقد قال ( سبنسر ) في مبادىء علم النفس ( Principes de 462. psychologie 1. P ) : ان الغريزة فعل منعكس مركب ، وانها تنقلب بالتدريج إلى شيء أسمى منها . وقال العالم النفسي الأمريكي فارن Warren ) : ان لتعقد الأفعال المنعكسة درجات مختلفة ، وانه من الصعب جداً على العالم أن يفرق بين حدود الأفعال المنعكسة المركبة ، وحدود الغرائز البسيطة . وكما يوجد بين الفعل المنعكس والغريزة اتصال ، فكذلك يوجد بين الغريزة والعقل ارتباط . فلا معنى إذن لاعتبار العقل منافياً للغريزة كما ظن ذلك ( هنري برغسون ) ( 316 , iron , a notion d'instinct . ان أكثر أبحاث العلماء المعاصرين قد أضعفت هذا الرأي . فالغريزة متصلة بالفعل المنعكس ، والعقل متصل بالغريزة أي أن آخر افق الأفعال المنعكسة متصل بأول افق الغريزة ، وأول افق الغريزة متصل بأول افق العقل ، فكأن مرتبة الغريزة مرتبة متوسطة بين طر في الأحوال النفسية المتطورة .
ولنبين الآن ما هي ميزة هذه المرتبة المتوسطة ، إن العقل الذي تسيره الغرائز يبقى عقلا ابتدائياً ، أعني أن عملياته تنحصر في ذاكرة التداعي الخاضعة للتجربة الفردية ، وعقل هذا شأنه لا يستيقظ من نومه الالحات قصيرة من الزمان ، وقد تكفي هذه اللمحات القصيرة لمؤالفة الظروف ، وتوجيه العمل إلى طريق جديدة ، إلا أنها سرعان ما تخبو وتصبح ظلاما ، فينقلب العمل بعدها إلى حركات آلية متتابعة ، ويتكرر وفقاً للروابط القديمة من غير تجديد ، ولا إبداع .
لقد شبه ( جورج كوفيه ) عمل الغريزة بالجولان في النوم ( Somnambulisme ) ، وهذا ، لأن الحيوان الذي تسيره الغريزة لا يشعر بالمؤثرات الخارجية ، مثال صحيح ذلك : أن النحلة تثابر على صب العسل في القرص المثقوب من غير أن تشعر بخروجه منه فهي تقوم إذن بعملها وفقاً للروابط القديمة ، فتتابع حركاتها بصورة آلية ، ويصعب عليها في أثناء الفعل ، أن توقف هذا التتابع الآلي ، وتعود سيرتها الاولى . و ( الاموفيل ) يملأ وكره من الحشرات المخدرة ، ثم يسده بالتراب ، فإذا صادف في طريقه بعد ذلك حشرة مخدرة جديدة ، فتح وكره ثانية ليضع هذه الحشرة فيه ، ولكنه يجده ممتلئاً فيترك الحشرة جانباً ويسده بالتراب ، فإذا صادف الحشرة المخدرة مرة ثانية عاد إلى الوكر وفتحه ، ثم سده عدة مرات ، وهكذا دواليك . فالغريزة تشبه إذن حالات الجولان في النوم ( ١ ) . وهي صورة من صور الفاعلية المحافظة ( Activite Conservatrice ) التي تكرر الماضي ، وتسترجع الروابط القديمة ، وهذه الفاعلية المحافظة أحط الوظائف النفسية وأوضعها .
و في سلوك الإنسان أفعال كثيرة مماثلة لهذه الغرائز ، منها حالة التلميذ الذي يلقي عليك قطعة من محفوظاته ، فإذا قاطعته اضطر إلى إعادتها من أولها . ومنها الأفعال التي يقوم بها الإنسان بتأثير الإيحاء من غير أن يشعر بما يحيط به ، ومنها الأفعال الناشئة عن الهوى ، قال ( رببو ) : ( لو كانت النحلة شاعرة وهي تبني خليتها بالغاية التي تتبعها ، وعالمة بضرورة اتباعها ، لكانت حالتها شبيهة بحالة المولع بأمر من الامور » . وللهيجان أيضا نتائج مماثلة لنتائج الغرائز . ان الراكب في القطار يهرب من المكان الذي تدهورت فيه القاطرة ، ويداوم على الهرب آلياً رغم ابتعاده عن مكان الحادث . وقد شبه ( بوفيه Bouvier ) حركات خلايا النحل بأفعال الجماعات الإنسانية .
ومع ذلك فإن الفاعلية المحافظة ليست مطلقة التأثير في الغريزة . لأن هناك أحوالاً تدل على أن الغريزة ليست مسخرة للماضي . نعم ان أفعال الحشرات تشبه فعل الجائل في نومه ، ولكن هذا النائم كثيراً ما يستيقظ عند الحاجة ، فلا غرو إذا تحرر فكر الإنسان من قيود الآلية ، واستبدل بالفاعلية المحافظة أفعالاً نفسية عالية يسمو بها إلى يفاع الاستبصار .
النتيجة
ينتج من هذه النظريات المختلفة أن لكل من العقل والآلية أثراً في إيضاح حقيقة الغرائز المركبة . ومعنى هذا الأثر المزدوج أن تكوين الغريزة تابع لتأثير الآلية والعقل معاً .
ان الغرائز البسيطة تنحل إلى حركات أولية ، كالتروبيزم ، والتاكنيزم ، والحساسية التفاضلية ( ۱ ) ، والإيقاع الحيوي ( ۲ ) ، والذاكرة العضوية . فمن الغرائز التي يمكن إرجاعها إلى ( التروبيزم ) غريزة النبات المتسلق ، وتسمى حركة النبات الدائرية حول الجسم بالانتحاء اللمسي ( TropismeTactile ) . ومن الغرائز التي يمكن إرجاعها إلى ( التاكتيزم ) اتجاه الفراشة إلى النور ، واختباء يرقانتها في ساق النبات هربا من الضياء . ومن الغرائز ما يمكن إرجاعه إلى الحساسية التفاضلية ، كتظاهر بعض الحشرات بالموت ، وتنكر السرطان المسمى عنكبوت البحر ، واختباؤه وراء الأشنة ، ومنها ما هو ذاكرة عضوية ، كفريزة النمل التي تبعثه على الرجوع إلى الأوكار . وقد تكون هذه الذاكرة عضلية ، • أو شمية ، أو بصرية .
أما الغرائز المركبة فتتألف من اجتماع هذه الحركات المختلفة ، واختلاطها بعضها ببعض . وفي وسع العالم الطبيعي أن يكشف عن هذا التركيب باتباع طريق المقارنة ، فيقارن بين الأنواع القريبة ، ويشاهد غريزة من الغرائز في كل نوع منها ليطلع بذلك على أدوار تطورها المختلفة ، ويهتدي إلى معرفة أصولها وجذورها .
( شكل - ٦١ ) الاتجاه عند النمل
تخرج النملة من وكرها ( ه ) وتتجه إلى الشمس وهي في ( ش ) ، ثم تحبس في ( س ) من الساعة ( ۳ ) حتى الساعة ( ٥ ) بعد الظهر ، فإذا أفلتت عادت إلى وكرها باتجاه معكوس يشكل مع الاتجاه الأول زاوية قدرها ٣٠ درجة مساوية الزاوية التي أحدثتها الشمس بانتقالها من ( ش ) إلى ( ش ) . فالشمس كانت عند الذهاب في اتجاه الحركة ، فأصبحت عند الإياب في عكس اتجاهها .
مثال ذلك : أن ذوات المثاقب تبيض بيوضها بالقرب من فرائس حية ، وأن هناك أنواعاً متوسطة بين ذوات المثاقب ، والغشائية الأجنحة : منها ما يحمل إلى وكره فريسة ميتة قتلها بمثقبه ، ومنها ما يبيض في موضع ما ، ثم يذهب إلى الصيد ، فإذا خرجت اليرقانة من البيضة جاءها كل يوم بما يصيده من الحشرات ، ومنها ما يكتفي يجمع الحشرات الميتة .
فهذه الأمثلة وغيرها تثبت لنا أن الغريزة ترتفي ارتقاءاً تدريجياً بطريق التعلم ، تبدأ بالأعمال البسيطة ، ثم ترتقي منها إلى الأعمال المركبة ، فالعمل الأول قد يكون منعكسا بسيطاً ، كقرصة الزنبور عند لمسه جسما من الأجسام ، وقد يكون تغيراً عرضياً مفاجئاً . وأكثر هذه الأفعال الأولية البسيطة نافعة مباشرة للفرد ، إلا أن تكامل هذه الأفعال لا يتم إلا بتأثير العقل ، وفي تكاملها التدريجي نفع للنوع . فالغريزة إذن محتاجة إلى التعلم ، والعقل ، وهي مبنية في الوقت نفسه على الانتخاب الطبيعي .
فلا مفر إذن ، في بيان حقيقة الغريزة ، من الجمع بين مذهبي ( لامارك ) و ( داروين ) ولذلك قيل : ليس الفعل المنعكس مخالفاً للغريزة ، ولا الغريزة منافية للعقل ، ولكن كلا منهما متصل بالآخر . لقد قال ( سبنسر ) في مبادىء علم النفس ( Principes de 462. psychologie 1. P ) : ان الغريزة فعل منعكس مركب ، وانها تنقلب بالتدريج إلى شيء أسمى منها . وقال العالم النفسي الأمريكي فارن Warren ) : ان لتعقد الأفعال المنعكسة درجات مختلفة ، وانه من الصعب جداً على العالم أن يفرق بين حدود الأفعال المنعكسة المركبة ، وحدود الغرائز البسيطة . وكما يوجد بين الفعل المنعكس والغريزة اتصال ، فكذلك يوجد بين الغريزة والعقل ارتباط . فلا معنى إذن لاعتبار العقل منافياً للغريزة كما ظن ذلك ( هنري برغسون ) ( 316 , iron , a notion d'instinct . ان أكثر أبحاث العلماء المعاصرين قد أضعفت هذا الرأي . فالغريزة متصلة بالفعل المنعكس ، والعقل متصل بالغريزة أي أن آخر افق الأفعال المنعكسة متصل بأول افق الغريزة ، وأول افق الغريزة متصل بأول افق العقل ، فكأن مرتبة الغريزة مرتبة متوسطة بين طر في الأحوال النفسية المتطورة .
ولنبين الآن ما هي ميزة هذه المرتبة المتوسطة ، إن العقل الذي تسيره الغرائز يبقى عقلا ابتدائياً ، أعني أن عملياته تنحصر في ذاكرة التداعي الخاضعة للتجربة الفردية ، وعقل هذا شأنه لا يستيقظ من نومه الالحات قصيرة من الزمان ، وقد تكفي هذه اللمحات القصيرة لمؤالفة الظروف ، وتوجيه العمل إلى طريق جديدة ، إلا أنها سرعان ما تخبو وتصبح ظلاما ، فينقلب العمل بعدها إلى حركات آلية متتابعة ، ويتكرر وفقاً للروابط القديمة من غير تجديد ، ولا إبداع .
لقد شبه ( جورج كوفيه ) عمل الغريزة بالجولان في النوم ( Somnambulisme ) ، وهذا ، لأن الحيوان الذي تسيره الغريزة لا يشعر بالمؤثرات الخارجية ، مثال صحيح ذلك : أن النحلة تثابر على صب العسل في القرص المثقوب من غير أن تشعر بخروجه منه فهي تقوم إذن بعملها وفقاً للروابط القديمة ، فتتابع حركاتها بصورة آلية ، ويصعب عليها في أثناء الفعل ، أن توقف هذا التتابع الآلي ، وتعود سيرتها الاولى . و ( الاموفيل ) يملأ وكره من الحشرات المخدرة ، ثم يسده بالتراب ، فإذا صادف في طريقه بعد ذلك حشرة مخدرة جديدة ، فتح وكره ثانية ليضع هذه الحشرة فيه ، ولكنه يجده ممتلئاً فيترك الحشرة جانباً ويسده بالتراب ، فإذا صادف الحشرة المخدرة مرة ثانية عاد إلى الوكر وفتحه ، ثم سده عدة مرات ، وهكذا دواليك . فالغريزة تشبه إذن حالات الجولان في النوم ( ١ ) . وهي صورة من صور الفاعلية المحافظة ( Activite Conservatrice ) التي تكرر الماضي ، وتسترجع الروابط القديمة ، وهذه الفاعلية المحافظة أحط الوظائف النفسية وأوضعها .
و في سلوك الإنسان أفعال كثيرة مماثلة لهذه الغرائز ، منها حالة التلميذ الذي يلقي عليك قطعة من محفوظاته ، فإذا قاطعته اضطر إلى إعادتها من أولها . ومنها الأفعال التي يقوم بها الإنسان بتأثير الإيحاء من غير أن يشعر بما يحيط به ، ومنها الأفعال الناشئة عن الهوى ، قال ( رببو ) : ( لو كانت النحلة شاعرة وهي تبني خليتها بالغاية التي تتبعها ، وعالمة بضرورة اتباعها ، لكانت حالتها شبيهة بحالة المولع بأمر من الامور » . وللهيجان أيضا نتائج مماثلة لنتائج الغرائز . ان الراكب في القطار يهرب من المكان الذي تدهورت فيه القاطرة ، ويداوم على الهرب آلياً رغم ابتعاده عن مكان الحادث . وقد شبه ( بوفيه Bouvier ) حركات خلايا النحل بأفعال الجماعات الإنسانية .
ومع ذلك فإن الفاعلية المحافظة ليست مطلقة التأثير في الغريزة . لأن هناك أحوالاً تدل على أن الغريزة ليست مسخرة للماضي . نعم ان أفعال الحشرات تشبه فعل الجائل في نومه ، ولكن هذا النائم كثيراً ما يستيقظ عند الحاجة ، فلا غرو إذا تحرر فكر الإنسان من قيود الآلية ، واستبدل بالفاعلية المحافظة أفعالاً نفسية عالية يسمو بها إلى يفاع الاستبصار .
تعليق