إرجاع الغريزة إلى الآلية .. الغَرِيزَة
إرجاع الغريزة إلى الآلية
الغريزة في هذا المذهب ليست متولدة من العقل ، وإنما هي فعل ميكانيكي ناشيء عن حركات آلية محضة .
الحيوان آلة . - فمن الذين ذهبوا الى ذلك ( ديكارت ) ، في قوله : ان الحيوان آلة مركبة ، لا شعور فيها ، ولا عقل ، وهو لا يفعل شيئاً عن علم ، ولا يدرك ما يفعل ، لا بل ان أفعاله متولدة من كيفية تركيب أعضائه وترتيبها ، والدليل على ذلك أن الحيوان لا يتعلم ، وأن غرائزه متخصصة ، وانه إذا كان حاذقاً في فعل كان جاهلا في الأفعال الاخرى ، فهو إذن لا يفكر ، بل يتحرك كالآلة كأنه ساعة مؤلفة من لوالب ودواليب ، تدل على الوقت دلالة دقيقة من غير أن تكون عالمة بما تفعل .
وقد أخذ بنظرية ( ديكارت ) هذه بعض العلماء المعاصرين ك ( مودسلي ) الإنكليزي و ( برت ) الألماني .
المناقشة . - لم يقم على نظرية ( ديكارت ) هذه دليل قاطع ، ، لأنه ليس في وسع الإنسان ، كما صرح بذلك ( ديكارت ) نفسه ، أن يدخل قلب الحيوان ، ويطلع على ما يجري في نفسه ، ولا يمكننا أن نفرق بين أفعاله الشعورية ، وأفعاله اللاشعورية ، وأن نوضح آلية غرائزه من غير أن نستند ، كما في النظرية السابقة ، إلى عامل الوراثة .
الغرائز سلاسل من الأفعال المنعكسة .
- زعم أصحاب المذهب الدارويني الجديد . أن الغريزة مجموع أفعال منعكسة مركبة ، أو مجموع تغيرات عرضية أبقاها الانتخاب الطبيعي . وقد علل ( داروين ) قبلهم تبدلات الكائنات الحية بتغيرات خلقية ، أو كما يقول تلاميذه المعاصرون ، بتغيرات انتقالية ، فإذا كانت هذه التغيرات نافعة احتفظ بها الفرد لنفسه ، وتفوق بها على غيره في تنازع البقاء . فأولاد بطن واحد لا تكون صفاتهم واحدة ، بل يختلفون بعضهم عن بعض كثيراً ، ولا يفوز في معترك الحياة إلا من كان منهم متصفاً بالصفات النافعة ، وهكذا لا يزول إلا الضعيف ، ولا يبقى إلا الأقوى ، والأصلح . وليست هذه التغيرات بدنية فحسب كتغير الطول ، أو اللون ، أو تناسب الأعضاء ، وإنما كذلك نفسية ، كتغير الاستعداد لفعل من الأفعال ، أو لرد فعل مطابق للحاجة الصعب أن يحصل الفرد دفعة واحدة على تغير خلقي شبيه بالغرائز العجيبة الموجودة للحشرات ، ولكن الغريزة تنقسم إلى سلسلة من الأفعال المنعكسة ، وكل منعکس بسيط ، فهو تغير خلقي أقره الانتخاب الطبيعي . فمن الممكن إذن أن تتجمع آثار هذه التغيرات بعضها فوق بعض ، وأن تولد الفعل الغريزي بتجمعها .
تغير الغريزة .
- ولكن أمراً واحداً يحول بيننا وبين قبول هذا الرأي ، وهو اتصاف الغريزة بالكمال ، فلو كانت الغريزة سلسلة من الأفعال المنعكسة لما كانت كاملة منذ ظهورها ، بل لتغيرت تبعاً للتطور ، وهذا ما ذهب اليه ( داروين ) ، إذ صرح بتغير الغريزة ، وذكر لنا أمثلة كثيرة تدل على ذلك . نعم أن الفرد لا يستطيع أن يضيف شيئاً إلى الغرائز الثابتة في النوع ، ولكن إطلاق هذا الحكم على الأنواع القديمة خطأ فاحش ، فقد يكون الثابت في الحاضر متغيراً في الماضي ، وليس أدل على تغيرات الماضي من التغيرات التي نشاهدها اليوم في الأنواع التي لم يثبت التطور بعد غرائزها . فمن التغيرات التي ذكرها ( داروين ) أن الزنابير تصنع في بعض الأحيان خلايا منفصلة ، وغير دائرية ، وأن حشرة تعيش في المكسيك تدعى ( مليبوناد و مستيكا Melipona Domestica ) تصنع قرصاً من الشمع مركباً من خلايا اسطوانية ، وان نحل بلادنا يصنع خلايا مسدسة الشكل . فالنحلة لم تحل إذن هذه المسألة الهندسية دفعة واحدة ، ولم تصل إلى هذه النتيجة إلا بالتدريج والتردد الطويل . ولكن هذا التردد وهذه المحاولات المتتابعة لم تكن بالضرورة مصحوبة بإرادة ، وعقل ، بل ربما كانت نتيجة الاتفاق والمصادفة . فإذا أصاب الفرد تغيراً خلقياً ما ، وكان هذا التغير نافعاً له في معترك الحياة ، احتفظ به ، ومتى تجمعت بعد ذلك آثار هذه التغيرات المتتابعة أدى تجمعها إلى تكوين الغرائز . فالغريزة لم تتولد إذن من العادات المكتسبة كما زعم ( لامارك ) وتلاميذه ، بل تولدت من ادخار التغيرات الخلقية العرضية .
فالنظرية ( الداروينية ) الجديدة تتجنب المسائل الخلافية التي أوقعتنا فيها نظرية ( لامارك ) كوراثة الصفات المكتسبة ، وإرجاع الغريزة الى العقل ، والإرادة ، الا أنها كما بينا تجعل ظهور التغيرات العرضية تابعاً للاتفاق والمصادفة ، وهذا القول مشتمل على شبهة جديدة أقبح وأشنع من الشبهة الاولى .
رأي هنري فابر .
- ولبعض العلماء اعتراض على الداروينيين مقتبس من ( هنري فابر . قالوا : ان السفكس ) مثلا جراح ماهر ، يصطاد فريسته فيطعنها تسع طعنات متوالية في مراكزها العصبية المختلفة ، ثم يمرث رأسها لا ليقتلها ، بل ليخدرها ،
ويتركها بالقرب من بيضته ، مع انه لن يرى اليرقانة التي ستخرج منها . فلو فرضنا أن غريزة ( السفكس ) سلسلة من الأفعال المنعكسة ، وإنها لم تتكون دفعة واحدة ، بل تكاملت بالتدريج لما استطاع ( السفكس ) أن يستفيد منها . لأنه إذا أخل بشرط من شرائط الفعل ، أبطل حكمة الغريزة ، فلو قتل فريسته بدلاً من أن يخدرها لأفسد لحمها قبل زمن التفريخ ، ولو قصر في تخديرها لفرت منه ، وفي كلا الحالين لا تجد اليرقانة بالقرب منها غذاء . فتموت ، وينقرض النوع بموتها . ولذلك وجب أن تكون غريزة ( السفكس ) كاملة منذ ظهورها ، لا أن تتكامل بالتدريج ، ولا يمكن تفسير هذا الكمال الخلقي بنظرية الانتخاب الطبيعي .
ولكن ملاحظات العلماء المعاصرين تضعف هذه الاعتراضات المبنية على ملاحظات ( هنري فابر ) ، لأنها تبين لنا ان علم ( السفكس ) ليس سوى اسطورة ، فهو يطعن فريسته كيفها يتفق له ذلك ، أي في الجهة التي يستطيع الوصول اليها ، فإذا كان عدوه من مستقيمة الجناح ذات المخالب الخلفية ، ثبت نفسه على ظهره ، أو ثنى بطنه للوصول اليه ، وإذا صادف حلقات البطن أولج إبرته فيها وفقاً لخطوط المقاومة الضعيفة ، فهو إذن يطمن عدوه حيث يستطيع إلى ذلك سبيلاً ، فلا يصيب مراكزه العصبية دائماً ، بل يصيبها ويصيب ما دونها ، ولا يمرث رأس فريسته ليخدرها ، بل ليدافع عن نفسه ، ويهاجم عدوه بقسوة وشدة من غير أن يعنى بقواعد الجراحة ، فليس إذن في غريزة ( السفكس ) أسرار وعجائب ، انه يهجم على فريسته ، فيتجنب أولاً مخالبها ثم يمد جسمه ليتمكن منها ، ثم يولج حمته بين أقسامها الصلبة . وفعله هذا غريزي كفعل الثور الذي يحرك رأسه استعداداً للنطاح ، أو كحركة الفرس الذي يضرب برجله الأرض ، أو كحركة الأرجل في الحيوانات القشرية ، أو الحشرات المستقيمة الجناح ، أو كحركة الإنسان عند مواجهة الخطر . فلا تعجب اذن ( للسفكس ) كيف يدافع عن نفسه ، وكيف يتقي الخطر عند الهجوم على عدوه ، ولا تجعل منه عالما يفن الجراحة ، لأن هذا العلم أشبه شيء بأسطورة .
المشكلات الباقية .
- ولكن هذه الملاحظات التي جاء بها العلماء المعاصرون لم تبدد جميع المشكلات ، بل أبقت منها واحدة خطيرة ، وهي قولنا كيف يقاتل ( السفكس ) حيوانا لا يحتاج اليه ؟ إنه من آكلة النبات ، ويرقانته من آكلة اللحوم ، فهو إذن يعمل بغير علم لمستقبل نوعه ، ويصطاد الحشرات ليرقانته لا لنفسه ، فكيف يفعل هذا بسائق المصادفة والاتفاق ، لو قلنا انه كان في الماضي أطول حياة مما هو عليه الآن ، وانه كان كير قانته من آكلة اللحوم ، يصطاد الحشرات لنفسه ولأعقابه معا ، لما بددنا جميع الشبهات ، لأنه يرد على ذلك سؤال وهو لماذا تبدلت غريزة ( السفكس ) عندما أصبح حولياً ، يكتفي بتخدير فريسته بدلاً من قتلها ، أليدخرها لنفسه . كلا ، انه يخدرها الآن لتتغذى بها اليرقانة بعد خروجها من البيضة ، فكأن الطبيعة قد عوضته من خسارته بإكسابه منعكساً جديداً ينفع في بقاء النوع ، ان تلاميذ ( داروين ) يعتبرون هذا المنعكس الجديد تغيراً عرضياً واتفاقا ، ولكن ليت شعري ، أليس القول بالاتفاق أو المصادفة إقراراً بعجز العقل عن التفسير ؟
ان الانتخاب الطبيعي نفسه يستلزم وجود غريزة أولية .
- و مما يقال أيضاً في الرد على الداروينيين أن فكرة الانتخاب الطبيعي تقتضي هي نفسها وجود غريزة أولية . فهم قد جعلوا الغريزة فعلا منعكساً مركباً ، وقالوا ان الانتخاب الطبيعي يثبت هذه الأفعال المنعكسة في النوع ، ولكن الانتخاب الطبيعي مبني على غريزة الحياة ، لا وجود له إلا بها ، لأنها هي التي تسوق إلى تنازع البقاء ، حق لقد سماها ( سبينوزا ) بنزوع الموجود الى الثبوت في الوجود ، وسماها ( شوبنهاور ) ارادة الحياة . فهي التي تدفع الكائن الحي الى البحث عن : غذائه ، ولولاها لهلك لا محالة ، فلا معنى اذن لتنازع البقاء الا ا اذا بني على غريزة الحياة .
داروین ( ۱۸۰۹ - ۱۸۸۲ )
( شکل ٦٠ )
وإذا قيل أن هذه الغريزة الأولية هي والحياة شيء واحد ، وإنها لا تحتاج إلى توضيح لأنها أولية ، قلنا ربما كانت الغرائز الاخرى مساوية لغريزة الحياة في حاجتها إلى التوضيح فلا معنى إذه لتفسيرها بالأفعال المنعكسة المركبة ، مع ترك غريزة الحياة دون تفسير . ويكفي لإبطال نظرية من النظريات أن يشذ عنها حادث واحد ، لأنه لا علم إلا بالكليات ، فإذا كانت نظرية داروين تعلل جميع الغرائز ، وتعجز عن تعليل غريزة الحياة ، قلنا ان تعليلها جزئي ، لا كلي ، وكل تعليل جزئي فهو لا يفيد علماً كلياً .
الغريزة لم تتولد من تجمع الأفعال المنعكسة .
- ونقول في نهاية هذه المناقشات أن تدقيقاً بسيطاً في النظرية الداروينية الجديدة يبين لنا أن الغريزة لم تتولد من جمع الأفعال المنعكسة بعضها إلى بعض ، لأن التجربة تدل على أن هذا الجمع لا يجعل الأفعال الجديدة مع الحاجة ، إلا إذ كان مصحوبا بتبدل في الحركات السابقة ، لنفرض أن ( السفكس ) كان يصطاد الحشرات لنفسه وليرقانته معاً ، فإنه في هذه الحالة لا يهتم ببقاء فريسته حية بعده . ولا يتورع من ضربها حيث يشاء لقتلها ، ولنفرض أن شرائط الحياة قد تغيرت بالنسبة إلى ( السفكس ) حتى أدى اشتداد البرد في الشتاء إلى موته بعد زمن البيض . ثم لنفرض أن الطبيعة قد أضافت في هذه الحالة إلى التغيرات العرضية السابقة تغيراً جديداً ، فجعلت السفكس ) يستبدل بطريقة القتل طريقة التخدير . ان هذا الإبدال لا يتم بإضافة منعكس جديد إلى الفعل المنعكس الأول بل يقتضي تغير الحركات الجزئية السابقة ، ولا يمكن أن يكون هذا التغير المتناسق ثمرة المصادفة والاتفاق .
إرجاع الغريزة إلى الآلية
الغريزة في هذا المذهب ليست متولدة من العقل ، وإنما هي فعل ميكانيكي ناشيء عن حركات آلية محضة .
الحيوان آلة . - فمن الذين ذهبوا الى ذلك ( ديكارت ) ، في قوله : ان الحيوان آلة مركبة ، لا شعور فيها ، ولا عقل ، وهو لا يفعل شيئاً عن علم ، ولا يدرك ما يفعل ، لا بل ان أفعاله متولدة من كيفية تركيب أعضائه وترتيبها ، والدليل على ذلك أن الحيوان لا يتعلم ، وأن غرائزه متخصصة ، وانه إذا كان حاذقاً في فعل كان جاهلا في الأفعال الاخرى ، فهو إذن لا يفكر ، بل يتحرك كالآلة كأنه ساعة مؤلفة من لوالب ودواليب ، تدل على الوقت دلالة دقيقة من غير أن تكون عالمة بما تفعل .
وقد أخذ بنظرية ( ديكارت ) هذه بعض العلماء المعاصرين ك ( مودسلي ) الإنكليزي و ( برت ) الألماني .
المناقشة . - لم يقم على نظرية ( ديكارت ) هذه دليل قاطع ، ، لأنه ليس في وسع الإنسان ، كما صرح بذلك ( ديكارت ) نفسه ، أن يدخل قلب الحيوان ، ويطلع على ما يجري في نفسه ، ولا يمكننا أن نفرق بين أفعاله الشعورية ، وأفعاله اللاشعورية ، وأن نوضح آلية غرائزه من غير أن نستند ، كما في النظرية السابقة ، إلى عامل الوراثة .
الغرائز سلاسل من الأفعال المنعكسة .
- زعم أصحاب المذهب الدارويني الجديد . أن الغريزة مجموع أفعال منعكسة مركبة ، أو مجموع تغيرات عرضية أبقاها الانتخاب الطبيعي . وقد علل ( داروين ) قبلهم تبدلات الكائنات الحية بتغيرات خلقية ، أو كما يقول تلاميذه المعاصرون ، بتغيرات انتقالية ، فإذا كانت هذه التغيرات نافعة احتفظ بها الفرد لنفسه ، وتفوق بها على غيره في تنازع البقاء . فأولاد بطن واحد لا تكون صفاتهم واحدة ، بل يختلفون بعضهم عن بعض كثيراً ، ولا يفوز في معترك الحياة إلا من كان منهم متصفاً بالصفات النافعة ، وهكذا لا يزول إلا الضعيف ، ولا يبقى إلا الأقوى ، والأصلح . وليست هذه التغيرات بدنية فحسب كتغير الطول ، أو اللون ، أو تناسب الأعضاء ، وإنما كذلك نفسية ، كتغير الاستعداد لفعل من الأفعال ، أو لرد فعل مطابق للحاجة الصعب أن يحصل الفرد دفعة واحدة على تغير خلقي شبيه بالغرائز العجيبة الموجودة للحشرات ، ولكن الغريزة تنقسم إلى سلسلة من الأفعال المنعكسة ، وكل منعکس بسيط ، فهو تغير خلقي أقره الانتخاب الطبيعي . فمن الممكن إذن أن تتجمع آثار هذه التغيرات بعضها فوق بعض ، وأن تولد الفعل الغريزي بتجمعها .
تغير الغريزة .
- ولكن أمراً واحداً يحول بيننا وبين قبول هذا الرأي ، وهو اتصاف الغريزة بالكمال ، فلو كانت الغريزة سلسلة من الأفعال المنعكسة لما كانت كاملة منذ ظهورها ، بل لتغيرت تبعاً للتطور ، وهذا ما ذهب اليه ( داروين ) ، إذ صرح بتغير الغريزة ، وذكر لنا أمثلة كثيرة تدل على ذلك . نعم أن الفرد لا يستطيع أن يضيف شيئاً إلى الغرائز الثابتة في النوع ، ولكن إطلاق هذا الحكم على الأنواع القديمة خطأ فاحش ، فقد يكون الثابت في الحاضر متغيراً في الماضي ، وليس أدل على تغيرات الماضي من التغيرات التي نشاهدها اليوم في الأنواع التي لم يثبت التطور بعد غرائزها . فمن التغيرات التي ذكرها ( داروين ) أن الزنابير تصنع في بعض الأحيان خلايا منفصلة ، وغير دائرية ، وأن حشرة تعيش في المكسيك تدعى ( مليبوناد و مستيكا Melipona Domestica ) تصنع قرصاً من الشمع مركباً من خلايا اسطوانية ، وان نحل بلادنا يصنع خلايا مسدسة الشكل . فالنحلة لم تحل إذن هذه المسألة الهندسية دفعة واحدة ، ولم تصل إلى هذه النتيجة إلا بالتدريج والتردد الطويل . ولكن هذا التردد وهذه المحاولات المتتابعة لم تكن بالضرورة مصحوبة بإرادة ، وعقل ، بل ربما كانت نتيجة الاتفاق والمصادفة . فإذا أصاب الفرد تغيراً خلقياً ما ، وكان هذا التغير نافعاً له في معترك الحياة ، احتفظ به ، ومتى تجمعت بعد ذلك آثار هذه التغيرات المتتابعة أدى تجمعها إلى تكوين الغرائز . فالغريزة لم تتولد إذن من العادات المكتسبة كما زعم ( لامارك ) وتلاميذه ، بل تولدت من ادخار التغيرات الخلقية العرضية .
فالنظرية ( الداروينية ) الجديدة تتجنب المسائل الخلافية التي أوقعتنا فيها نظرية ( لامارك ) كوراثة الصفات المكتسبة ، وإرجاع الغريزة الى العقل ، والإرادة ، الا أنها كما بينا تجعل ظهور التغيرات العرضية تابعاً للاتفاق والمصادفة ، وهذا القول مشتمل على شبهة جديدة أقبح وأشنع من الشبهة الاولى .
رأي هنري فابر .
- ولبعض العلماء اعتراض على الداروينيين مقتبس من ( هنري فابر . قالوا : ان السفكس ) مثلا جراح ماهر ، يصطاد فريسته فيطعنها تسع طعنات متوالية في مراكزها العصبية المختلفة ، ثم يمرث رأسها لا ليقتلها ، بل ليخدرها ،
ويتركها بالقرب من بيضته ، مع انه لن يرى اليرقانة التي ستخرج منها . فلو فرضنا أن غريزة ( السفكس ) سلسلة من الأفعال المنعكسة ، وإنها لم تتكون دفعة واحدة ، بل تكاملت بالتدريج لما استطاع ( السفكس ) أن يستفيد منها . لأنه إذا أخل بشرط من شرائط الفعل ، أبطل حكمة الغريزة ، فلو قتل فريسته بدلاً من أن يخدرها لأفسد لحمها قبل زمن التفريخ ، ولو قصر في تخديرها لفرت منه ، وفي كلا الحالين لا تجد اليرقانة بالقرب منها غذاء . فتموت ، وينقرض النوع بموتها . ولذلك وجب أن تكون غريزة ( السفكس ) كاملة منذ ظهورها ، لا أن تتكامل بالتدريج ، ولا يمكن تفسير هذا الكمال الخلقي بنظرية الانتخاب الطبيعي .
ولكن ملاحظات العلماء المعاصرين تضعف هذه الاعتراضات المبنية على ملاحظات ( هنري فابر ) ، لأنها تبين لنا ان علم ( السفكس ) ليس سوى اسطورة ، فهو يطعن فريسته كيفها يتفق له ذلك ، أي في الجهة التي يستطيع الوصول اليها ، فإذا كان عدوه من مستقيمة الجناح ذات المخالب الخلفية ، ثبت نفسه على ظهره ، أو ثنى بطنه للوصول اليه ، وإذا صادف حلقات البطن أولج إبرته فيها وفقاً لخطوط المقاومة الضعيفة ، فهو إذن يطمن عدوه حيث يستطيع إلى ذلك سبيلاً ، فلا يصيب مراكزه العصبية دائماً ، بل يصيبها ويصيب ما دونها ، ولا يمرث رأس فريسته ليخدرها ، بل ليدافع عن نفسه ، ويهاجم عدوه بقسوة وشدة من غير أن يعنى بقواعد الجراحة ، فليس إذن في غريزة ( السفكس ) أسرار وعجائب ، انه يهجم على فريسته ، فيتجنب أولاً مخالبها ثم يمد جسمه ليتمكن منها ، ثم يولج حمته بين أقسامها الصلبة . وفعله هذا غريزي كفعل الثور الذي يحرك رأسه استعداداً للنطاح ، أو كحركة الفرس الذي يضرب برجله الأرض ، أو كحركة الأرجل في الحيوانات القشرية ، أو الحشرات المستقيمة الجناح ، أو كحركة الإنسان عند مواجهة الخطر . فلا تعجب اذن ( للسفكس ) كيف يدافع عن نفسه ، وكيف يتقي الخطر عند الهجوم على عدوه ، ولا تجعل منه عالما يفن الجراحة ، لأن هذا العلم أشبه شيء بأسطورة .
المشكلات الباقية .
- ولكن هذه الملاحظات التي جاء بها العلماء المعاصرون لم تبدد جميع المشكلات ، بل أبقت منها واحدة خطيرة ، وهي قولنا كيف يقاتل ( السفكس ) حيوانا لا يحتاج اليه ؟ إنه من آكلة النبات ، ويرقانته من آكلة اللحوم ، فهو إذن يعمل بغير علم لمستقبل نوعه ، ويصطاد الحشرات ليرقانته لا لنفسه ، فكيف يفعل هذا بسائق المصادفة والاتفاق ، لو قلنا انه كان في الماضي أطول حياة مما هو عليه الآن ، وانه كان كير قانته من آكلة اللحوم ، يصطاد الحشرات لنفسه ولأعقابه معا ، لما بددنا جميع الشبهات ، لأنه يرد على ذلك سؤال وهو لماذا تبدلت غريزة ( السفكس ) عندما أصبح حولياً ، يكتفي بتخدير فريسته بدلاً من قتلها ، أليدخرها لنفسه . كلا ، انه يخدرها الآن لتتغذى بها اليرقانة بعد خروجها من البيضة ، فكأن الطبيعة قد عوضته من خسارته بإكسابه منعكساً جديداً ينفع في بقاء النوع ، ان تلاميذ ( داروين ) يعتبرون هذا المنعكس الجديد تغيراً عرضياً واتفاقا ، ولكن ليت شعري ، أليس القول بالاتفاق أو المصادفة إقراراً بعجز العقل عن التفسير ؟
ان الانتخاب الطبيعي نفسه يستلزم وجود غريزة أولية .
- و مما يقال أيضاً في الرد على الداروينيين أن فكرة الانتخاب الطبيعي تقتضي هي نفسها وجود غريزة أولية . فهم قد جعلوا الغريزة فعلا منعكساً مركباً ، وقالوا ان الانتخاب الطبيعي يثبت هذه الأفعال المنعكسة في النوع ، ولكن الانتخاب الطبيعي مبني على غريزة الحياة ، لا وجود له إلا بها ، لأنها هي التي تسوق إلى تنازع البقاء ، حق لقد سماها ( سبينوزا ) بنزوع الموجود الى الثبوت في الوجود ، وسماها ( شوبنهاور ) ارادة الحياة . فهي التي تدفع الكائن الحي الى البحث عن : غذائه ، ولولاها لهلك لا محالة ، فلا معنى اذن لتنازع البقاء الا ا اذا بني على غريزة الحياة .
داروین ( ۱۸۰۹ - ۱۸۸۲ )
( شکل ٦٠ )
وإذا قيل أن هذه الغريزة الأولية هي والحياة شيء واحد ، وإنها لا تحتاج إلى توضيح لأنها أولية ، قلنا ربما كانت الغرائز الاخرى مساوية لغريزة الحياة في حاجتها إلى التوضيح فلا معنى إذه لتفسيرها بالأفعال المنعكسة المركبة ، مع ترك غريزة الحياة دون تفسير . ويكفي لإبطال نظرية من النظريات أن يشذ عنها حادث واحد ، لأنه لا علم إلا بالكليات ، فإذا كانت نظرية داروين تعلل جميع الغرائز ، وتعجز عن تعليل غريزة الحياة ، قلنا ان تعليلها جزئي ، لا كلي ، وكل تعليل جزئي فهو لا يفيد علماً كلياً .
الغريزة لم تتولد من تجمع الأفعال المنعكسة .
- ونقول في نهاية هذه المناقشات أن تدقيقاً بسيطاً في النظرية الداروينية الجديدة يبين لنا أن الغريزة لم تتولد من جمع الأفعال المنعكسة بعضها إلى بعض ، لأن التجربة تدل على أن هذا الجمع لا يجعل الأفعال الجديدة مع الحاجة ، إلا إذ كان مصحوبا بتبدل في الحركات السابقة ، لنفرض أن ( السفكس ) كان يصطاد الحشرات لنفسه وليرقانته معاً ، فإنه في هذه الحالة لا يهتم ببقاء فريسته حية بعده . ولا يتورع من ضربها حيث يشاء لقتلها ، ولنفرض أن شرائط الحياة قد تغيرت بالنسبة إلى ( السفكس ) حتى أدى اشتداد البرد في الشتاء إلى موته بعد زمن البيض . ثم لنفرض أن الطبيعة قد أضافت في هذه الحالة إلى التغيرات العرضية السابقة تغيراً جديداً ، فجعلت السفكس ) يستبدل بطريقة القتل طريقة التخدير . ان هذا الإبدال لا يتم بإضافة منعكس جديد إلى الفعل المنعكس الأول بل يقتضي تغير الحركات الجزئية السابقة ، ولا يمكن أن يكون هذا التغير المتناسق ثمرة المصادفة والاتفاق .
تعليق