"جنين 2023": محمد بكري لم تغادره جنين ولا مخيّمها!
يوسف الشايب 11 يناير 2024
سينما
مشهد من فيلم "جنين 2023"
شارك هذا المقال
حجم الخط
يعود المخرج الفلسطيني محمد بكري في فيلمه الوثائقي الأحدث "جنين 2023"، إلى فيلمه السابق الذي حقق شهرة عالمية، وأثار حنق دولة الاحتلال الإسرائيلي عليه، وهو "جنين جنين"، وأنجزه بينما كانت الدماء تنزف والجروح طازجة جدًا في أزقة مخيم جنين، بعد مجزرة الاحتلال فيها عام 2002، من بين مجازر عدّة متفرقة ارتكبتها الآلة الحربية العسكرية بجنودها وضبّاطها في أنحاء الضفة الغربية، خلال اجتياحها بقرار من رئيس وزراء الاحتلال السابق آريئيل شارون، فيما عرف بعملية "السور الواقي" إسرائيليًا ودوليًا، وعرف شعبيًا في فلسطين بـ"الاجتياح الكبير".
وبدأ الفيلم على لسان بكري كتابة، عن بداية الحكاية، مشيرًا إلى أنه "في العام 2002، ومباشرة بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي المدمّر لمخيم جنين، دخلتُ إلى المخيم لأوثق الحدث بفيلم (جنين جنين)، وفي الحال منعت الرقابة العسكرية الإسرائيلية عرض الفيلم في إسرائيل، وبعد سنتين من النضال القضائي، سمحت محكمة العدل العليا بعرض الفيلم، ولكن استمرت الملاحقات ضدّي وضد الفيلم 20 عامًا، حتى صدر مؤخرًا قرار المحكمة المركزية بمنع عرض الفيلم ثانية، ومصادرة كل نسخ الفيلم، وإكراهي على دفع غرامة تعويضات طائلة لضابط إسرائيلي ادعى أنه يظهر في الفيلم لمدة ثلاث ثوانٍ ونصف، مما يسيء إلى سمعته الطيبة".
وظهر بكري بكامل صورته على الشاشة ليروي الحكاية، فالتاريخ يعيد نفسه في مخيم جنين، مع فارق 23 عامًا، لتعود الاجتياحات المتكررة إلى المخيم ويعود هو إلى التصوير مرّة أخرى متحديًا الاحتلال وجرائمه، وما قد يترتب على عرض الفيلم هذه المرّة، بعد أكثر من عشرين عامًا في أروقة المحاكم والقرار الجائز إزاء الفيلم الأول في 2002.
يعيد بكري إلى الأذهان شخصيات محورية من فيلمه "جنين جنين"، كالشاب الأصم والأبكم محمود العموري الذي يروي المجزرة بلغة الإشارة بطريقة مفزعة، ليلتقيه مجددًا بعد أكثر من عشرين عامًا، ولم تتغير ملامحه كثيرًا، إلا أنه شاخ كما صاحب الفيلمين، وبات لديه ابن شهيد هو جميل العموري من مؤسسي الجماعات المسلحة لمقاومة الاحتلال في المخيم، فكان هدفًا رفقة أصدقائه لجيش الاحتلال الإسرائيلي وسلطاته المختلفة، فتم اغتياله في حادثة أسفرت عن استشهاد ثلاثة من عناصر الأمن الفلسطيني، وإصابة واعتقال الآخرين، ما جعل منه أيقونة داخل المخيم وخارجه، هو الذي كان في سن السادسة عند اجتياح 2002. ومن بين الشخصيات التي استعادها المخيم تلك الطفلة التي باتت أيقونة، بصوتها الواثق، ونظرات عينيها المتحدية التي تحمل فيما وراء الكثير من الحزن والغضب في آن، بمقولتها الشهيرة "الأمهات ما خلصوش، راح نضل ننجب أطفال، وننجب رجال، أقوى من اللي راحوا"، لتعود متشحة بالسواد، مؤكدة أن أيا كان لم يكن قادرًا على تلقينها ما قالته، لكنها الظروف الصعبة، التي جعلتها تكبر في أيام خلال اجتياح 2002، فشاخت الكلمات كما هم، لذا بدا ما قالته، حينذاك، أكبر من عمرها، هي التي باتت أمًّا لهند، وراشد، وناصر، ونورا، وتعيش في الإمارات.
ويلتقي بكري بنبيل الذي كان يجرّ طفليه في عربة عام 2002، مطلقًا صرخته بأنه نريد لهذا الاحتلال أن ينتهي، وأن نعيش حياة طبيعية... نبيل الذي يؤكد أن الأوضاع لم تتغيّر في المخيم كما عموم فلسطين، وإن كبر وهو وأبناؤه في العمر، فأحد الطفلين اللذين ظهرا داخل خيمة من بين خيام أعدتها الأونروا لمن دمّرت ديارهم في مجزرة المخيم قبل واحد وعشرين عامًا، أحدهما تخرّج من الجماعة، ويلاحقه بل يخنقه اليأس بمستقبل أفضل من كل جانب كما جدار الفصل العنصري الذي يخنقنا في الضفة الغربية.
وفي السرد المصوّر ما بين عشرين عامًا، يرافق الصحافي علي السمودي المخرج محمد بكري على مدار خمسين عامًا، ليس فقط في استعادة، وملاحقة من أمكن من شخصيات "جنين جنين" لمعرفة مآلاتهم، بل في الإضاءة على حكايات لمنكوبين جدد، ما يؤهل لـ"جنين 2050" مثلًا.
وكان لافتًا حضور مسرح الحرية في المخيم داخل الفيلم، والذي تعرض لتدمير جزئي العام الماضي، واعتقل مؤخرًا مديره العام مصطفى شتى، بحيث أشار الفنان أحمد طوباسي، المدير الفني للمسرح الذي أسسه جوليانو مير خميس، ويعرف الجيل الحالي من ممثليه بـ"أبناء جوليانو"، إلى أن طائرات الأباتشي لم تحلق في سماء المخيم منذ عشرين عامًا، وإلى أنه تم استبدالها في عام 2023 بالطائرات المسيّرة التي تقتل بلا طيّار، وكانت طريقة لم يعتد عليها سكّان المخيم، ليستعيد ذاكرته شابًا يافعًا في السابعة عشرة من عمره عندما سمع صوت دبابة (D9) المدمّرة، والتي مرت بجانبه في 2002، ورآها، وقتذاك، وحشًا يبتلع كل من وما في طريقه، مشيرًا إلى أن إدخال ثلاثة من دبّابات من هذا الطراز دفعة واحدة، جعله يدرك أن الاجتياح عام 2023 ليس عاديًّا، وهو حضور لافت لطوباسي الذي يقدم ليس فقط شهاداته كواحد من أبناء المخيم، بل تحليلًا عميقًا لما يحدث، ومن بينها مشاهد تهجير أهل المخيم القسرية، في نكبة جديدة ولكن عام 2023، ووالده المسن الذي أصر على البقاء في منزله بالحارة المهددة بالقصف والتدمير، مؤثرًا الموت في منزله، على كرسيه، يمجّ من السيجارة العربية، لا أن يتعرض للهجرة مرّة أخرى كلاجئ من أسرة هجرت ديارها عام 1948.
وأعاد بكري الأمور إلى نصابها بالحديث عن نكبة عام 1948، وتهجير العصابات الصهيونية لـ 745 ألف فلسطيني من ديارهم عنوة، وقتذاك، بعد أن هدمت ما يفوق 570 قرية فلسطينية، وللمفارقة، كما أشار، فإن إسرائيل تسمّي تلك السنة بـ"حرب التحرير والاستقلال"، بينما يسمّيها الفلسطينيون "سنة النكبة"، قبل أن يتحدث عن احتلال بقية الأراضي الفلسطينية وأراض سورية ولبنانية ومصرية عام 1967، ما رفع عدد اللاجئين الفلسطينيين حول العالم إلى ما يزيد عن تسعة ملايين لاجئ فلسطيني حرمتهم إسرائيل من حقهم في العودة.
حضور لافت للفنان أحمد طوباسي الذي يقدم ليس فقط شهاداته كواحد من أبناء المخيم، بل تحليلًا عميقًا لما يحدث |
والفيلم الذي كتبه وأخرجه محمد بكري، من تصوير ومونتاج محمود بكري، وتصوير إضائي لزياد بكري، وصوتيات يزن فارس، فيما كان سائد أنضوني مستشارًا للمونتاج، وقام عصام مراد بمهمة مكساج الصوت بمساعدة جون حنضل، بينما الموسيقى للعالمي روجر ووترز، وتم تصحيح الألوان من قبل نور كمال الدين في استوديوهات مؤسسة "فيلم لاب فلسطين" بمدينة رام الله، وإنتاج "بكري استوديوز"في البعنة في الجليل عام 2023.
ووجه بكري الشكر إلى كل من ظهر في الفيلم من مخيم جنين، وإلى عديد المؤسسات والأفراد بينها: التلفزيون العربي ومديره العام الكاتب عبّاد يحيى، ومراسله عميد شحادة، وقناة الجزيرة ومديرها في فلسطين وليد العمري، ومسرح الحرية ومديره العام الأسير حاليًا مصطفى شتا، ومديره الفني أحمد طوباسي، ومؤسسة "فيلم لاب فلسطين" ومديرها الفنّي حنا عطا الله.