حنان قصّاب حسن: جماليّة الإبداع السوريّ تظلّ السمة الأهم
علاء الدين العالم
حوارات
شارك هذا المقال
حجم الخط
قبل عقد من الآن، كانت دمشق تحتفل كعاصمة للثقافة العربية، مدينة مفعمة بالنشاطات الثقافية والحراك الفني الذي تمنى السوريون أن يستمر وينتشر ليصل إلى كامل الأرض السورية. وحينها أشرفت على إدارة هذه الاحتفالية الدكتورة حنان قصّاب حسن، كونها متمرسة في الإدارة الثقافية بالإضافة لكونها مترجمة وباحثة وأستاذة جامعية.
عن الاحتفالية والإدارة الثقافية والإبداع السوري في زمن الانفجار كان لـ"ضفة ثالثة" هذا الحوار معها.
انكسار الأحلام
(*) مرت عشر سنوات على قيام احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية في 2008، والتي توليت إدارتها على مدار عام كامل، كيف تستذكرين تلك الاحتفالية، وهل كان لها أثر جذري على الثقافة السورية في ما بعد؟
- أتذكر بكثير من الحنين والفخر والقهر أيضًا هذه الاحتفالية. أتذكر كم كنا مفعمين بالأمل ونحن نحضر لها وننفذها، وأشعر بألم عميق عندما أرى كيف انكسرت تلك الأحلام أمام الواقع الذي نعيشه اليوم. كان التخطيط للاحتفالية ينطلق من رؤية جديدة للثقافة. فللمرة الأولى في تاريخ احتفاليات العواصم الثقافية العربية لم تكن وزارة الثقافة مسؤولة عن الحدث، وإنما مجموعة من الفنانين والمثقفين من اختصاصات مختلفة شكلوا الأمانة العامة للاحتفالية التي قامت بالتخطيط والتنفيذ. كان ذلك بمثابة تحدٍ كبير لنا كجهة منظمة، لذلك كانت النقاشات مهمة جدًا والتخطيط مدروساً بعناية والهدف الأساسي هو تحقيق التأثير المستدام على الثقافة السورية، وربط الثقافة بالتنمية. انطلقنا في انتقاء وبرمجة الفعاليات من محاور ثلاثة هي: أولًا، تأهيل البنى التحتية للأماكن الثقافية الموجودة واستكشاف أمكنة جديدة ممكن تحويلها إلى مساحات ثقافية فعالة في المدينة؛ ثانيًا، بناء قدرات الشباب واليافعين وخلق فرص عمل للفنانين؛ ثالثًا، ربط الثقافة بالمجتمع من خلال توسيع مروحة الجمهور المستهدف، والذهاب إليه في أماكن تواجده بدلًا من انتظار أن يأتي بنفسه إلى المسارح والمعارض والمنتديات.
ولأعطي أمثلة عما قمنا به ضمن هذه المحاور أذكر أننا بمناسبة معارض الفن التشكيلي قمنا بترميم وتصوير ورقمنة كل الأعمال التشكيلية التي تشكل مقتنيات المتحف الوطني، وبعض الأعمال الموجودة في مستودعات مديرية الفنون الجميلة. وثّقنا هذه الأعمال من خلال طباعتها في كاتالوغات أنيقة وعلى شرائط مدمجة رقمية، وقدمنا كل المواد التوثيقية والتسجيلية الرقمية إلى وزارة الثقافة ليصار إلى استخدامها في ما بعد. كذلك قمنا بتأهيل قاعات العرض في المتحف الوطني بدءًا من تجديد شبكة الكهرباء وحوامل اللوحات، وصولًا إلى رسم سينوغرافيا جديدة ومبتكرة للعرض. قمنا بصيانة وتأهيل متحف دمر وإعداده لاستقبال الجمهور وافتتحناه بمناسبة المعرض الاستعادي الثاني. أما بالنسبة لعرض أعمال الفنانين السوريين المعاصرين، فقد تم ذلك في معمل لتصنيع الألبسة العسكرية يتبع لوزارة الدفاع كان مغلقًا لسنوات طويلة. حوّلنا المعمل إلى صالة عرض جميلة ومبتكرة، وقمنا بتأهيل المنطقة المحيطة به وإنارة الحي الذي يقع فيه، مما حوّل المكان المهجور والمهمل إلى شارع أنيق يفيض بالحركة. قمنا أيضًا بتأهيل بعض الملاجئ الموجودة في الحدائق العامة واستخدمنا أحدها في عرض مسرحي، وكان يُفترض أن تُستخدم بقية الملاجئ كمكتبات عامة. وبمناسبة المكتبات تم تجهيز مكتبة نموذجية للأطفال في متحف دمر وتغذيتها بأعمال أدبية وألعاب تربوية للأطفال.
في ما يتعلق ببناء القدرات، كان الفريق العامل في الاحتفالية من الشباب الذين تم تدريبهم على الإدارة الثقافية، كما أن معظم النشاطات الفنية ترافقت مع محترفات تدريبية للشباب واليافعين والأطفال. قدمت الاحتفالية منحًا إنتاجية للشباب في مجالات مختلفة فطبعت لهم روايات ودواوين شعرية وأنتجت لهم أفلام رسوم متحركة ومسرحيات. وهكذا أحدثت الاحتفالية حراكًا ثقافيًا وخلقت فرص عمل وفتحت الباب أمام الممارسة الاحترافية للنشاطات الثقافية.
كذلك رغبت الاحتفالية بأن تذهب للناس في أماكن وجودهم وألا تقتصر على تقديم النشاطات في الأمكنة الثقافية الرسمية المغلقة. بهذا المنظور تم تنظيم جولات في المدينة لتعريف سكانها بأهم معالمها المجهولة، كما تم تقديم عروض موسيقية أسبوعية في الحدائق العامة، وتنظيم قراءات شعرية مفاجئة ومبتكرة في الحدائق والوزارات والمصارف والجامعات والشوارع؛ أقيمت ندوات ولقاءات مع الفنانين والكتاب في مقهى الروضة الشعبي، وتم تقديم أعمال مسرحية في محطة القدم للقطارات. وكانت واحدة من أجمل النشاطات الدورية الثقافية تخصيص يوم الجمعة من كل أسبوع لتقديم قطعة أثرية غير معروفة من مستودعات المتحف الوطني والتعريف بها بمصاحبة عزف موسيقي، وذلك بهدف تعويد الناس على زيارة المتحف الوطني. كان هناك عدد من الفعاليات الصغيرة المبتكرة التي طاولت جمهورًا لم يعتد الذهاب إلى المسارح والمنتديات الثقافية.
طبعًا كانت هناك مؤتمرات أدبية وندوات فكرية وعروض مسرحية وموسيقية وحفلات غنائية لأهم الفرق الموسيقية العالمية والعربية والسورية. لن أتحدث عن ذلك لكون هذه النشاطات أمرًا بديهيًا في مثل هذا الحدث ولا تخلو منها مناسبة ثقافية.
في ما يتعلق بالاستدامة، وتحقيق الأثر الواضح على الرؤية الثقافية، تقدمنا بمشروع أن تُخصص كل سنة من السنوات التالية للاحتفال تباعًا بالمدن السورية كعواصم ثقافية محلية؛ وأن يُقام في قلعة دمشق مهرجان سنوي يماثل مهرجانات بعلبك وبيت الدين وجرش، وأن تُسلم إدارة المراكز الثقافية الكثيرة في سورية لفنانين شباب بناء على تقديمهم رؤية واضحة لسياسة تشغيل هذه المراكز. لكن الأهم كان قرارنا تخصيص نصف ميزانية الاحتفالية لتنفيذ مشروع ثقافي كبير يبقى بعد نهاية عام 2008 هو بناء متحف الفن الحديث الذي تفتقد إليه سورية، أو مركز استكشاف الطفل وهو ما تم إقراره بالفعل.
بهذه الرؤية وهذه المحاور أردنا أن نحدث نقلة نوعية في النظر إلى الثقافة والتخطيط لها، وكان ذلك سيتحقق بشكل أكيد لولا ذلك الانقطاع الفج الذي سببه الإعصار الذي أحاق بسورية وأطاح كل محاولات التأثير في المشهد الثقافي. اليوم أنظر بأسى إلى ما آلت إليه الأمور إذ أشعر أنه بالإضافة إلى الظروف القاهرة التي تمنع الاستمرار بما تم التخطيط له، لم تتم الاستفادة من أية أعمال قامت بها الاحتفالية. فقد أغلقت صالة العرض في معمل الألبسة، ونامت الأسطوانات الرقمية والإصدارات الأنيقة والهامة التي نشرتها الاحتفالية في مستودعات وزارة الثقافة، استمر برنامج موسيقى على الطريق لعدة سنة بعد الاحتفالية ثم توقف…والحقيقة أشعر أن كل ذلك لم يعد مهمًا أمام الدمار الشامل الذي أحاق بالبلد.
معهد المسرح كان
جزيرة للفكر الحر
(*) أدرتِ المعهد العالي للفنون المسرحية وكيلةً (1987 ــ 1991)، ثم أدرته عميدةً (2006 ــ 2009)، كما كنتِ مديرة لدار أوبرا دمشق (2009 ــ 2011)، كيف تقيمين عمل هاتين المؤسستين خلال سنين النار، وما هي الحال التي صارت عليها هذه المؤسسات اليوم؟
- المعهد العالي للفنون المسرحية عزيز على قلبي لأنني بدأت التدريس فيه مع تأسيس قسم النقد عام 1985. كنت وقتها ضمن لجنة وضع مناهج التدريس التي شارك في صياغتها أهم العاملين في مجال المسرح، أذكر من بينهم د. غسان المالح عميد المعهد وقتها، والراحلين سعد الله ونوس وفواز الساجر، والمخرجين جواد الأسدي ونائلة الأطرش ود. ماري الياس وأنا. وقد تم تصميم تلك المناهج والخطط الدراسية بحيث يبتعد التعليم عن التلقين وحشو المعلومات بلا طائل، ويهدف إلى بناء وعيٍّ فكري وفضولٍ معرفيّ وحساسية فنية لدى الطلاب. ويسعدني أن أرى كيف كان لخريجي المعهد بفضل هذا التوجه التعليمي دورهم الفعّال والناجح في جميع المجالات التي عملوا فيها بدءًا من الإدارة الثقافية وصولًا إلى البحث العلمي والكتابة الصحافية وكتابة السيناريو والإخراج والتمثيل وتصميم الديكور والإضاءة والصوت. وأذكر هنا أنني مع زملائي ارتأينا أن يحتوي المعهد على جميع الاختصاصات التي تتكامل وتتضافر للوصول إلى أعمال مسرحية ناضجة، ولذلك افتُتحت فيه تباعًا جميع الأقسام التي تغطي الاختصاصات الضرورية مثل السينوغرافيا وتقنيات المسرح والرقص. خريجو المعهد هم اليوم من أفضل العاملين في مجال الثقافة والفنون في سورية وفي البلاد التي يعيشون فيها، كما أنهم من أنضج الناس فكريًا؛ وأنا أرى بكل حب وفخر نجاحهم في جميع المجالات التي عملوا فيها. معهد المسرح كان حقيقة جزيرة للفكر الحر والناضج وللحساسية الفنية الرفيعة، مما جعل منه مؤسسة متميزة ضمن المنظومة التعليمية السورية.
أما أوبرا دمشق فلا أستطيع أن أقول عنها الكثير، لأن الفترة التي أمضيتها فيها كانت قصيرة وقد تركت العمل في الوقت الذي توصلتُ فيه لوضع وعرض رؤية جديدة وبرمجة مبتكرة لتشغيلها. عرضتُ هذه الرؤية الجديدة في لقاء شبكة دور الأوبرا الأوروبية التي تضم أوبرا باريس وأوبرا برلين وفيينا ووارسو وغيرها، وبناء على تلك الرؤية الفنية تم اختيار أوبرا دمشق من بين بقية المؤسسات غير الأوروبية لتكون ضمن الشبكة، وهو إنجاز هام أفتخر به، وحالة أولى من نوعها، لكن للأسف لم يتم استثمار تلك الفرصة بعد ذلك.
ليست لدي أية فكرة عما يحصل اليوم في هاتين المؤسستين لأنني ابتعدت تمامًا عن الوسط الثقافي في سورية لأسباب شخصية وعائلية.
(*) "إننا، وربما لأول مرة، بإزاء مراكمة جدية لتاريخ المصطلح النقدي في المسرح العربي" هكذا يقدم سعد الله ونوس للمعجم المسرحي الذي ألّفتِه بالمشاركة مع د. ماري الياس. بعد قرابة ربع قرن على نشر المعجم، هل تطور العمل على المصطلح النقدي في المسرح العربي؟
- إن تطور المصطلح النقدي المسرحي رهن بتطور مناهج مقاربة المسرح نفسها، علمًا بأن هذه المناهج لم تعرف تطورًا ملموسًا في الغرب بعد فورة السبعينات والثمانينات. وهذا يعني أن المصطلح النقدي المسرحي لم يطرأ عليه جديد بشكل جذري لا باللغات الأجنبية ولا باللغة العربية. بالمقابل، هناك تطور كبير في مجال الدراسات الثقافية أدى إلى ولادة مصطلحات كثيرة قريبة من بعضها، مثل السياسة الثقافية، والدبلوماسية الثقافية، والمثاقفة، والناشطين الثقافيين، والفاعلين الثقافيين، والمانحين، والرعاة، وغير ذلك من المفردات التي تولد كل يوم وتحتاج إلى توضيح، وقد يكون من الضروري وضع معجم لها بالعربية. على كل الأحوال أظن أنه لم تجر محاولات جدية جديدة في مجال المصطلح النقدي باللغة العربية بعد مشاريع تعريب وتوحيد المصطلحات النقدية التي قام بها مكتب تنسيق التعريب في المغرب، ومجمع اللغة العربية في القاهرة، والمنظمة العربية للترجمة. هذه المشاريع تسير بشكل بطيء وهي محفوفة بالإشكاليات، خاصة مع اختلاف المفردات باللغة العربية بين المشرق والمغرب.
(*) ترجمتِ أعمالا لكولتيس وجينيه وبيكيت وغيرهم من الفرنسية، كيف تقيمين حركة الترجمة المسرحية العربية اليوم؟
- كانت هناك حركة ترجمة هامة للأعمال المسرحية العالمية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات لعبت دورًا فيها وزارات الثقافة العربية وعلى الأخص في مصر وسورية والعراق؛ كما أن الكويت لعبت لاحقًا دورًا محوريًا وجّه دفّة العروض المسرحية في العالم العربي من خلال الترجمات التي قدمتها سلسلة المسرح العالمي. على كل الأحوال، بعد التوجه لتقديم الأعمال المترجمة في المسرح، صار هناك ميل إلى الإعداد انطلاقًا من الأعمال المسرحية العالمية؛ ثم بدأنا نلحظ اليوم تطور الكتابة المسرحية لدى المؤلفين الشباب، وحفّزت الكتابة للمسرح دورات التدريب التي نظمها مسرح رويال كورت في بريطانيا بدعم من المجلس الثقافي البريطاني. معظم الذين حضروا تلك الدورات صاروا كتابًا مسرحيين، وقُدّمت أعمالهم في البلاد العربية وفي العالم، وهذا أمر إيجابي جدًا. كذلك هناك توجه أقل انتشارًا هو تقديم العروض المسرحية انطلاقًا من فكرة لا من نص مُنجز، وهو ما نلحظه في عروض الفرق أو المجموعات التي اعتادت العمل بشكل جماعي.
ثنائية داخل/خارج
من أخطر سمات المرحلة
(*) بسبب انتثار السوريين في العالم أجمع، تحضر ثنائية داخل/خارج في تصنيف العمل الفني السوري اليوم، كيف ترين هذه الثنائية اليوم، وما هي مخاطر الانطلاق منها في تقييم العمل الفني السوري أينما كان موقعه؟
- هذه الثنائية من أخطر سمات المرحلة، ولا شك في أن الاستسلام لها سيؤدي إلى دمار حقيقي للمجتمع السوري بالإضافة إلى العوامل الأخرى. أن نتحدث عن هذه الثنائية في تصنيف العمل الفني يعني أن نُخضع العمل الفني لمعايير تقييمية بدلًا من تحليله و"قراءته" بالمعنى السميولوجي واستقراء بنيته. النقد المعياري مرفوض أصلًا، فما بالك إن كان ينطلق من معايير جغرافية وسياسية وحتى طائفية لا من بحث جمالي؟ لا شك في أن الموقف السياسي للفنان أمر أساسي ويشكل خلفية واضحة أو مُضمرة لأي عمل فني، لكن تلخيص مقاربة العمل بكونه من الداخل أو من الخارج يعني الانطلاق من إشكالية خاطئة والتعامل مع العمل الفني برؤية تبسيطية وساذجة وفي كثير من الأحيان كيدية. من قال إن كل من في الداخل متساوون ومنسجمون، وكل من في الخارج يشكلون كتلة واحدة؟
مع ذلك لا يمكن أن ننكر وجود تفاوت ستظهر نتائجه لاحقًا ما بين فنانين سوريين موجودين في الداخل ويعملون في ظروف معيشية صعبة وتحت تأثير الخوف والقلق والتوتر وغياب فرص التمويل، وبين فنانين سوريين يعيشون مبعثرين في أنحاء العالم، وفي كثير من الأحيان معزولين عن بعضهم بعضاً، ناهيك عن أنهم وقعوا تحت تأثير صدمة التعامل مع ظروف معيشية وإدارية معقدة، ومع أشكال إنتاج فني جديدة، بالإضافة إلى صدمة التعامل مع لغات وثقافات مختلفة ومتنوعة. سيتولد من كل ذلك نتاج فني مختلف يحتاج لعدة سنوات لكي تظهر سماته بشكل واضح.
(*) ازدهرت في السنوات الخمس الأولى للانفجار السوري فرص دعم الفنانين السوريين لما كان للموضوع السوري من حضور في الساحة العالمية، هل بدأ هذا الدعم يتقلص؟ وكيف سيؤثر ذلك على الحقل الثقافي السوري؟
- لقد حذرت دائمًا في لقاءات وندوات من كون الفرص التي انهالت على الفنانين السوريين من المانحين الدوليين ومن المؤسسات الداعمة في العالم ستلعب دورها في توجيه أعمالهم الفنية باتجاه المباشرة، وستجبرهم بشكل أو بآخر على الخضوع لما يطلبه الجمهور. لا شك في أن بعض الأعمال كانت عميقة في طرحها للواقع السوري، ونالت نجاحًا تستحقه على المستوى العالمي، لكن هناك عدد من الأعمال الأخرى أُنتجت باستسهال وسرعة تلبية للطلب المتزايد وتحت تأثير الصدمة فأتت بمثابة بيان سياسي مباشر، أو محاولة لاستثارة التعاطف وإقناع الغرب ببشاعة ما حصل ويحصل. يمكن أن نفهم ونبرر ذلك في مرحلة ما، لكن الخطر هو أن تتحول تلك المباشرة إلى سمة عامة. نعم، بدأ الدعم يتقلص، وقد يكون هذا مفيدًا لإعادة التوازن بين ما يرغب الفنان بقوله وبين ما يُطلب منه أن يقول، ولتحقيق نضج أكبر في معالجة الواقع.
العمل الثقافي المستقل في
سورية واقع لا يمكن منعه
(*) تمكن العمل الثقافي المستقل من تثبيت قدم في الحقل الثقافي السوري، منذ إرهاصاته الأولى بدايات القرن الجديد وصولًا إلى تطور حضوره بعد الانفجار السوري، كيف تقيمين هذا العمل المستقل، وهل تمكنت المؤسسات الثقافية المستقلة (السورية والعربية) من دعم شرائح واسعة من الفنانين السوريين في كل أماكن وجودهم؟
- لا بد من تفسير تأخر ظهور العمل الثقافي المستقل في سورية مقارنة مع ما حصل في بقية البلاد العربية. صحيح أنه كان بمثابة تطور طبيعي وضروري بعد سنوات طويلة من إشراف الدولة على الثقافة ودعمها المباشر والوحيد له، لكن ذلك لم يتم بسهولة. فحين بدأت تظهر في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين مفاهيم جديدة علينا مثل المنظمات غير الحكومية والجمعيات والشبكات والمجتمع المدني، كان هناك حذر كبير في التعامل معها خوفًا من وجود أجندات سياسية خفية، وتفاديًا لتهمة التمويل من جهات أجنبية. كما أن الرقابة لعبت دورها في منع تشكيل أي تجمع ثقافي مستقل خشية من الدور السياسي والإيديولوجي الذي كان يلعبه المثقف في تلك الآونة. لكن انتشار الفكرة مع مرور الوقت والدور الذي لعبه الإنترنت في تحقيق علاقات ثقافية مباشرة لا تمر عبر الدولة، ويصعب رصدها والإحاطة بها كلها، ونجاح مفهوم التشبيك في خلق مجتمع ثقافي كوني مصغّر ينتج مشاريع مشتركة خارج أطر التعاون الثقافي الرسمي مع الدول الأخرى… كل ذلك جعل من العمل الثقافي المستقل في سورية واقعًا لا يمكن منعه. في تلك الفترة، أي مع بداية الألفية الثالثة، كان المستفيدون من دعم المؤسسات الثقافية المستقلة، والأوروبية منها على وجه الخصوص، هم من يتقنون لغات أجنبية ويعرفون كيف يتعاملون مع الطلبات المعقدة للجهات المانحة. كان ذلك أمرًا مؤسفًا ساهم في تشكيل "نخبة" قليلة العدد لكنها متميزة بدأت تشارك في أعمال خارج سورية، في حين ظلت شريحة كبيرة من الفنانين الشباب غريبة عن مثل تلك الفرص. بعد ذلك، حصل تحول ضمن الاتحاد الأوروبي وفي المؤسسات المانحة الكبيرة وراح باتجاه التوقف عن تقديم الدعم بشكل مباشر للفنانين وإنما تقديمه لمؤسسات ثقافية إقليمية ومحلية مانحة تقوم هي بدورها بدعم المشاريع الثقافية المحلية. عند ذلك صار هذا الوسيط هو الذي يحدد احتياجات المشهد الثقافي الإقليمي والمحلي، ويقدم الدعم عبر فهمه لهذه الاحتياجات. في البداية كان هناك تخبط وفوضى، خاصة مع تفاقم أزمة النازحين التي أصبحت حجة قوية ومطية للحصول على دعم مالي في مشاريع آنية لا تحقق أية استمرارية أو لا تحمل أية أهمية حقيقية. بعد ذلك بدأت المشاريع تصبح أكثر ارتباطًا بالاحتياجات الثقافية كدعم الأبحاث ورصد وتوثيق تحولات البنية الثقافية الرسمية والمستقلة، وتقديم منح إنتاجية ودعم التجوال. مع ذلك، لا نستطيع أن نقول إن هناك شرائح واسعة من الفنانين السوريين استفادت من هذا الدعم، فمن هم داخل سورية محرومون منه إلا في حالات استثنائية، أو يستفيدون منه بشكل غير معلن في كثير من الأحيان خوفًا مما يمكن أن يسببه ذلك من مشاكل لهم؛ ومن هم في الخارج لديهم احتياجات تختلف تمامًا عن الشروط المطروحة. لا بد برأيي من مراجعة لما قامت به هذه المؤسسات الثقافية المستقلة، ودراسة الأثر الذي أجرته من خلال متابعة المستفيدين وما آلوا إليه، وتقصي مدى التحول الذي أجرته في المشهد الثقافي المحلي والعربي.