حقيقة المعاني من الوجهة النفسية .. التجريد والتعميم
حقيقة المعاني من الوجهة النفسية
هل المعاني العامة موجودة خارج النفس ، أم هي موجودة في النفس لا غير ؟ هل هي مطابقة للأشياء الخارجية ، أم هي مجرد اصطلاحات أبدعها العقل بنفسه ؟
اننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال الفلسفي إلا بعد اطلاعنا على حقيقة المعاني من الوجهة النفسية . والغاية من ذلك أن نعلم هل للمعاني وجود حقيقي في النفس ؟ أم هي صور وألفاظ لا غير ، وإذا كان لها وجود حقيقي في النفس ؛ فكيف حصلت النفس عليها ؟
۱ - الفكرة والاحساس
نظرية كوندياك . - ان حواسنا آلات تجريد
قال كوندياك : المعانى المجردة تتولد من الحواس ، وقال ( لاروميغير Laromiguiere ) : كل حاسة من حواسي تجرد صفة من صفات الشيء . فأنا لا ادرك بالعين الا الألوان ، ولا أطلع بالاذن الا على الأصوات ، ولا ادرك بالشم الا الروائح . ان الانــــــان مجهز بخمس حواس ظاهرة ، تعينه على اكتساب أنواع خاصة من المعاني . وبدنه يحلل الأشياء المحسوسة الى أجزاء من الكيفيات . فكان البدن آلة للتجريد .
. المناقشة
- ان هذه النظرية ناقصة ، لأن الحواس لا تجرد الا الكيفيات . والمعاني المجردة لا تنحل كلها اليها ، ذلك لأن هناك مجردات من نوع آخر : كمعنى العلة ، والمعلول ، والتابع ( الدالة ) ، والعدد ، وغير ذلك : أضف الى ذلك أن العين لا تدرك اللون مجوداً عن كل شيء . بل تدركه من حيث هو ذو شكل . فهي اذن لا تكفي لتجريد اللون عن الشكل . - واذا صحت هذه النظرية فإنها - لا توضح لنا الا عدداً قليلاً من المجردات . فقد تكون حواسنا عشراً ، وقد تكون أكثر من ذلك ، ولكن ما أقل هذا العدد اذا نسب الى ما نتعقله من المجردات ان الانسان الابتدائي قوي الحواس كامل القوى البدنية ، الا أنه ضعيف التجريد ، عاجز عن الارتقاء الى ما فوق التجربة الحسية والصور المشخصة .
نظرية سبنسر
- قال ( سبنسر ) : لا يتم التجريد بفعل الادراك المحض ، بل يتم بالمقارنة ( Comparaison ) . فإذا اقتصر الذهن على ادراك شخصي واحد ، ولم يدرك غيره عجز عن التجريد ، ولكنه اذا قارن بين هذا الادراك وغيره من الادراكات ، ورأى أنه يشبهها ببعض العناصر ويختلف عنها ببعضها الآخر ، تمكن من انتزاع الصفة المشتركة بينها وبينه . قال ( سبنسر ) : و اذا كانت الخاصة مصحوبة هنا بـ ( ب ، ح ، د ) ، وكانت مصحوبة هناك بـ ( ح ) ، ق ، ل ) ، وهنالك بـ ( ك ) ، م ، ( ب ) ، فإن تكرار التجارب يؤدي الى انفصال آثار هذه العناصر واستقلالها بعضها عن بعض .
وقد أخذ ( ويليم جمس ) بهذه النظرية وأوضحها ببعض الأمثلة ، قال : لو كان كل بارد رطباً ، وكل رطب بارداً ، وكل سائل شفافاً ، وكل كثيف صلباً ، لصعب علينا التفريق بين البارد ، والرطب ، والسائل ، والشفاف ... ولكن الصفة التي توجد تارة لشيء ، واخرى لغيره ، تنزع الى مفارقتها معاً ، وتصبح بالنسبة الى الذهن موضوع تأمل مجرد ، ويمكننا أن نسمي ذلك بقانون التلازم في التغير . فالتجريد اذن تفريق آلي ينشأ عن اشتراك الأشياء المختلفة في صفات واحدة ، والفكر هو الذي يقايس بين هذه الأشياء لينتزع منها ما هو مشترك ، ويهمل ما هو متباين .
المناقشة
- قد نجد في هذه النظرية لأول وهلة شيئا من السحر ، ولكننا اذا دققنا فيها كما هي عليه عند ( هربرت سبنسر ، وجدناها ترجع النفس الى آلة تسجل الآثار الخارجية دون أقل فاعلية ، فإذا وجدت النفس صفة ( ۱ ) واحدة مشتركة بين الأشياء ( ا + ب + ح + د ) ، ( ا + ق + ح + د ) ، ( ا + ل + م + ب ) استطاعت أن تنتزعها منها لأنها مشتركة بينها ، فالنفس اذن قابلة لا فاعلة .
واذا رمزنا الى هذه الأشياء الثلاثة بـ ( ي ، هـ ، و ) لم نجد ( ي ) مركب من ( ا + ب + ح + د )
ولا ( هـ ) مؤلفاً من ب ( ا + ق + ح + د )
ولا ( و ) مؤلفاً من ( ا + ل + م + ب ) لأننا إذا فرضناها مركبة على هذه الصورة من صفات متفرقة ، لزم عن ذلك أن تكون المجردات موجودة في العالم الخارجي قبل وجودها في النفس . فإذا أرادت النفس أن تكتسبها تعرضت لها . ولكن كيف تستطيع النفس أن تدرك هذه الصفات المجردة إذا كانت غير قادرة على التجريد ؟ انها لا ترى إذ ذاك بين ( ي ) و ( هـ ) و ( و ) إلا مشابهة غامضة ، ولا تستطيع أن تعلل هذا التشابه بالصفات المشتركة إلا إذا كانت قادرة على التجريد . فكأن ( سبنسر ) لا يوضح تولد المعاني المجردة في النفس إلا بفرضها موجودة فيها . وهذا دور ـ فاسد .
وعلى ذلك فانه لا معنى لنظرية ( سبنسر ) إلا بالنسبة إلى عالم مؤلف من اجتماع صفات وجود مستقل ، على مثال العالم الذي تصوره ( ( أفلاطون ) . فكأن كل شيء من الأشياء الخارجية مؤلف من صفات مستقلة بعضها عن بعض ، فإذا تكررت الصفة الواحدة في أشياء مختلفة انطبعت في النفس ، وثبتت ، وتجردت عن غيرها من الصفات المشاركة لها في الوجود . فالتجريد كان إذن في الأشياء ، ثم انتقل إلى النفس ، والنفس تكشف بالتجريد عن مفاصل الوجود ، إلا أن كشفها عنها ليس ناشئاً عن فاعليتها ، بل عن انطباع المجردات الخارجية فيها كانطباع الخاتم في قطعة الشمع اللينة .
التجريد والانتباه
- وقد أدرك الفلاسفة المتأخرون ما لهذه الفاعلية النفسة من أثر في التجريد ، فقالوا ان التجريد يرجع إلى قوة الانتباه . ونحن نعلم أن الانتباه هـــــو توجيه الذهن إلى صفة من صفات الشيء ، وتضييق ساحة الشعور ، وقصره على عنصر واحد دون غيره . فهو إذن تجريد ، وقد قال ( استوارت ميل ) : « لا يوجد في النفس تصورات عامة ، بل يوجد فيها معان معقدة لأشياء مشخصة ، ونحن نستطيع أن ننتبه لبعض أقسام المعنى المشخص ، ونستطيع بانتباهنا هذا أن نجدد مجرى أفكارنا . وقال ( ريبو ) : ( ان للتجريد أسباباً انفعالية تنحل في النهاية إلى الانتباه ) .
المناقشة
- ان هذه النظرية تجعل لفاعلية النفس أثراً في حصول التجريد ، ولكن هل هي تفسير نهائي له ؟ لنبين أولاً ما هو الانتباه . هل هو تقسيم أم تحليل ؟ فإذا كان . الانتباه يؤدي كالتقسيم إلى ملاحظة رجل الكرسي دون الكرسي كان والتجريد على طرفي ، لأن معنى رجل الكرسي ليس أكثر تجريداً من معنى الكرسي . وإذا كان الانتباه يؤدي كالتحليل إلى رد المركب إلى البسيط ، وانتزاع بعض العناصر عن بعض ، كان والتجريد شيئاً واحداً . إن انتباهي لبياض الورق دون الورق يقتضي رد المركب إلى البسيط ، لأن بياض الورق ليس أصغر من الورق ، وإنما هو أبسط منه . . إلا أن التجريد ليس تحليلاً عادياً ، ولكنه تحليل من نوع خاص . إن اقتصاري على ملاحظة أحد العناصر المشخصة ، أو إحدى الصفات الحسية الموجودة في شيء من الأشياء ليس تجريداً حقيقياً ، لأنني إذا انتزعت مثلا هذا الأبيض من هذا الورق لم أحصل على معنى البياض المجرد ، لأن تصور البياض المجرد لا يتولد في نفسي إلا إذا جاوزت الأبيض الجزئي ، وانتقلت إلى البياض العام الموجود في الأشياء المختلفة . فالمعنى لا يكون مجرداً إلا إذا كان عاماً . وقد أشار ( ليبنز ) إلى ذلك في معرض الكلام على تجريد الحيوان ، إذ زعم أن الحيوان عاجز عن التجريد لأنه يقتصر على إدراك صفة من صفات الأشياء الجزئية من دون أن ينتزعها منها ويعممها ( ١ ) . وهذا يدلنا على فساد النظريات التي جعلت المعنى المجرد صورة مستخرجة من الشيء الخارجي ، أي صورة أفقر من الادراك . ان التجريد التام ليس انتباهاً تلقائياً لبعض صفات الأشياء المدركة ، أو إدراكا ناقصاً يقتصر على اصطفاء بعض مسلمات الحدس الحسي ، وإنما هو فعل ذهني غير منفصل عن التعميم ، والمعنى لا يكون مجرداً . إلا إذا كان عاماً . وسيتضح لنا ذلك عند كلامنا على نشوء المعاني العامة .
حقيقة المعاني من الوجهة النفسية
هل المعاني العامة موجودة خارج النفس ، أم هي موجودة في النفس لا غير ؟ هل هي مطابقة للأشياء الخارجية ، أم هي مجرد اصطلاحات أبدعها العقل بنفسه ؟
اننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال الفلسفي إلا بعد اطلاعنا على حقيقة المعاني من الوجهة النفسية . والغاية من ذلك أن نعلم هل للمعاني وجود حقيقي في النفس ؟ أم هي صور وألفاظ لا غير ، وإذا كان لها وجود حقيقي في النفس ؛ فكيف حصلت النفس عليها ؟
۱ - الفكرة والاحساس
نظرية كوندياك . - ان حواسنا آلات تجريد
قال كوندياك : المعانى المجردة تتولد من الحواس ، وقال ( لاروميغير Laromiguiere ) : كل حاسة من حواسي تجرد صفة من صفات الشيء . فأنا لا ادرك بالعين الا الألوان ، ولا أطلع بالاذن الا على الأصوات ، ولا ادرك بالشم الا الروائح . ان الانــــــان مجهز بخمس حواس ظاهرة ، تعينه على اكتساب أنواع خاصة من المعاني . وبدنه يحلل الأشياء المحسوسة الى أجزاء من الكيفيات . فكان البدن آلة للتجريد .
. المناقشة
- ان هذه النظرية ناقصة ، لأن الحواس لا تجرد الا الكيفيات . والمعاني المجردة لا تنحل كلها اليها ، ذلك لأن هناك مجردات من نوع آخر : كمعنى العلة ، والمعلول ، والتابع ( الدالة ) ، والعدد ، وغير ذلك : أضف الى ذلك أن العين لا تدرك اللون مجوداً عن كل شيء . بل تدركه من حيث هو ذو شكل . فهي اذن لا تكفي لتجريد اللون عن الشكل . - واذا صحت هذه النظرية فإنها - لا توضح لنا الا عدداً قليلاً من المجردات . فقد تكون حواسنا عشراً ، وقد تكون أكثر من ذلك ، ولكن ما أقل هذا العدد اذا نسب الى ما نتعقله من المجردات ان الانسان الابتدائي قوي الحواس كامل القوى البدنية ، الا أنه ضعيف التجريد ، عاجز عن الارتقاء الى ما فوق التجربة الحسية والصور المشخصة .
نظرية سبنسر
- قال ( سبنسر ) : لا يتم التجريد بفعل الادراك المحض ، بل يتم بالمقارنة ( Comparaison ) . فإذا اقتصر الذهن على ادراك شخصي واحد ، ولم يدرك غيره عجز عن التجريد ، ولكنه اذا قارن بين هذا الادراك وغيره من الادراكات ، ورأى أنه يشبهها ببعض العناصر ويختلف عنها ببعضها الآخر ، تمكن من انتزاع الصفة المشتركة بينها وبينه . قال ( سبنسر ) : و اذا كانت الخاصة مصحوبة هنا بـ ( ب ، ح ، د ) ، وكانت مصحوبة هناك بـ ( ح ) ، ق ، ل ) ، وهنالك بـ ( ك ) ، م ، ( ب ) ، فإن تكرار التجارب يؤدي الى انفصال آثار هذه العناصر واستقلالها بعضها عن بعض .
وقد أخذ ( ويليم جمس ) بهذه النظرية وأوضحها ببعض الأمثلة ، قال : لو كان كل بارد رطباً ، وكل رطب بارداً ، وكل سائل شفافاً ، وكل كثيف صلباً ، لصعب علينا التفريق بين البارد ، والرطب ، والسائل ، والشفاف ... ولكن الصفة التي توجد تارة لشيء ، واخرى لغيره ، تنزع الى مفارقتها معاً ، وتصبح بالنسبة الى الذهن موضوع تأمل مجرد ، ويمكننا أن نسمي ذلك بقانون التلازم في التغير . فالتجريد اذن تفريق آلي ينشأ عن اشتراك الأشياء المختلفة في صفات واحدة ، والفكر هو الذي يقايس بين هذه الأشياء لينتزع منها ما هو مشترك ، ويهمل ما هو متباين .
المناقشة
- قد نجد في هذه النظرية لأول وهلة شيئا من السحر ، ولكننا اذا دققنا فيها كما هي عليه عند ( هربرت سبنسر ، وجدناها ترجع النفس الى آلة تسجل الآثار الخارجية دون أقل فاعلية ، فإذا وجدت النفس صفة ( ۱ ) واحدة مشتركة بين الأشياء ( ا + ب + ح + د ) ، ( ا + ق + ح + د ) ، ( ا + ل + م + ب ) استطاعت أن تنتزعها منها لأنها مشتركة بينها ، فالنفس اذن قابلة لا فاعلة .
واذا رمزنا الى هذه الأشياء الثلاثة بـ ( ي ، هـ ، و ) لم نجد ( ي ) مركب من ( ا + ب + ح + د )
ولا ( هـ ) مؤلفاً من ب ( ا + ق + ح + د )
ولا ( و ) مؤلفاً من ( ا + ل + م + ب ) لأننا إذا فرضناها مركبة على هذه الصورة من صفات متفرقة ، لزم عن ذلك أن تكون المجردات موجودة في العالم الخارجي قبل وجودها في النفس . فإذا أرادت النفس أن تكتسبها تعرضت لها . ولكن كيف تستطيع النفس أن تدرك هذه الصفات المجردة إذا كانت غير قادرة على التجريد ؟ انها لا ترى إذ ذاك بين ( ي ) و ( هـ ) و ( و ) إلا مشابهة غامضة ، ولا تستطيع أن تعلل هذا التشابه بالصفات المشتركة إلا إذا كانت قادرة على التجريد . فكأن ( سبنسر ) لا يوضح تولد المعاني المجردة في النفس إلا بفرضها موجودة فيها . وهذا دور ـ فاسد .
وعلى ذلك فانه لا معنى لنظرية ( سبنسر ) إلا بالنسبة إلى عالم مؤلف من اجتماع صفات وجود مستقل ، على مثال العالم الذي تصوره ( ( أفلاطون ) . فكأن كل شيء من الأشياء الخارجية مؤلف من صفات مستقلة بعضها عن بعض ، فإذا تكررت الصفة الواحدة في أشياء مختلفة انطبعت في النفس ، وثبتت ، وتجردت عن غيرها من الصفات المشاركة لها في الوجود . فالتجريد كان إذن في الأشياء ، ثم انتقل إلى النفس ، والنفس تكشف بالتجريد عن مفاصل الوجود ، إلا أن كشفها عنها ليس ناشئاً عن فاعليتها ، بل عن انطباع المجردات الخارجية فيها كانطباع الخاتم في قطعة الشمع اللينة .
التجريد والانتباه
- وقد أدرك الفلاسفة المتأخرون ما لهذه الفاعلية النفسة من أثر في التجريد ، فقالوا ان التجريد يرجع إلى قوة الانتباه . ونحن نعلم أن الانتباه هـــــو توجيه الذهن إلى صفة من صفات الشيء ، وتضييق ساحة الشعور ، وقصره على عنصر واحد دون غيره . فهو إذن تجريد ، وقد قال ( استوارت ميل ) : « لا يوجد في النفس تصورات عامة ، بل يوجد فيها معان معقدة لأشياء مشخصة ، ونحن نستطيع أن ننتبه لبعض أقسام المعنى المشخص ، ونستطيع بانتباهنا هذا أن نجدد مجرى أفكارنا . وقال ( ريبو ) : ( ان للتجريد أسباباً انفعالية تنحل في النهاية إلى الانتباه ) .
المناقشة
- ان هذه النظرية تجعل لفاعلية النفس أثراً في حصول التجريد ، ولكن هل هي تفسير نهائي له ؟ لنبين أولاً ما هو الانتباه . هل هو تقسيم أم تحليل ؟ فإذا كان . الانتباه يؤدي كالتقسيم إلى ملاحظة رجل الكرسي دون الكرسي كان والتجريد على طرفي ، لأن معنى رجل الكرسي ليس أكثر تجريداً من معنى الكرسي . وإذا كان الانتباه يؤدي كالتحليل إلى رد المركب إلى البسيط ، وانتزاع بعض العناصر عن بعض ، كان والتجريد شيئاً واحداً . إن انتباهي لبياض الورق دون الورق يقتضي رد المركب إلى البسيط ، لأن بياض الورق ليس أصغر من الورق ، وإنما هو أبسط منه . . إلا أن التجريد ليس تحليلاً عادياً ، ولكنه تحليل من نوع خاص . إن اقتصاري على ملاحظة أحد العناصر المشخصة ، أو إحدى الصفات الحسية الموجودة في شيء من الأشياء ليس تجريداً حقيقياً ، لأنني إذا انتزعت مثلا هذا الأبيض من هذا الورق لم أحصل على معنى البياض المجرد ، لأن تصور البياض المجرد لا يتولد في نفسي إلا إذا جاوزت الأبيض الجزئي ، وانتقلت إلى البياض العام الموجود في الأشياء المختلفة . فالمعنى لا يكون مجرداً إلا إذا كان عاماً . وقد أشار ( ليبنز ) إلى ذلك في معرض الكلام على تجريد الحيوان ، إذ زعم أن الحيوان عاجز عن التجريد لأنه يقتصر على إدراك صفة من صفات الأشياء الجزئية من دون أن ينتزعها منها ويعممها ( ١ ) . وهذا يدلنا على فساد النظريات التي جعلت المعنى المجرد صورة مستخرجة من الشيء الخارجي ، أي صورة أفقر من الادراك . ان التجريد التام ليس انتباهاً تلقائياً لبعض صفات الأشياء المدركة ، أو إدراكا ناقصاً يقتصر على اصطفاء بعض مسلمات الحدس الحسي ، وإنما هو فعل ذهني غير منفصل عن التعميم ، والمعنى لا يكون مجرداً . إلا إذا كان عاماً . وسيتضح لنا ذلك عند كلامنا على نشوء المعاني العامة .
تعليق