**الراحل الأستاذ : طلال سلمان..
رئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية..
بقلم الناقد الفني: أحمد بزون
Ahmed Bazzoun
*ربما كان يجب أن تبقى أرض الجريدة خضراء كي تكون حديقةً لجسدك المسجّى، ويبقى الحبر الذي عشقت رائحته يتدفق من رأس قلمك نهراً، قبل أن يجف ويسقط وتنكسر ريشته. أتصور المشهد مهاباً أكثر لو أنك ودّعت محرري الجريدة وتلامذتك النجباء وأصدقاءك الخلّص من الطابق السادس أو التاسع للجريدة، قبل أن يسقط آخر رأي من عينيك، وآخر سخرية من لسانك. كنا نتمنى ألا تجادل الموت خارج زمنك، وألا نراك تُهزم أمام مرض، أنت الذي كان يخشاك شياطين السياسة ودهاتها، ويحسب لك الجميع ألف حساب.
كان يجب أن نشكك في رحيلك، ولا نصدق أن قامتك تلك، التي امتد حضورها على مساحة وطن وأكثر، يمكن أن يلويها موت. وكان يمكن أن نغلف صمتك هذا بجريدة طازجة حارة، ترفّ فوقها حمائم "السفير" قبل أن يتعبها السفر...
في آخر مرة التقيت طلال سلمان، كان تعبُ السنين قد حل على جسده، والعجز عن الكتابة قد خلف فيه جرحاً لا يدمله عرس. شعرت بأن الفراغ الذي تركه الرجل لا يزال مسكوناً بالقلق، وأن القلق الذي في داخله يكاد يهزم رجلاً مثله، تماماً مثل الذين أخذتهم صباحاته ولمّا تزل تقتلهم الحسرة. قلت له: من سواك ردف الصحافة العربية والمحلية بكل هؤلاء الأعلام في الصحافة والفكر السياسي! ألم تكن من فضائل "السفير" أنها لعبت دوراً أكاديمياً مسؤولاً عن المهنة ومرشداً لطالبيها. ألا يكفي ما تركتَ من أثر في نخبة واسعة من المثقفين اللبنانيين والعرب. كان طلال سلمان يعرف حجمه، لكنه لم يكن من أولئك الذين يتوقفون عند حد أو نقطة، إنما من الذين يرفضون أنفسهم كي يتجددوا. ثم هو لم يكن مسالماً أو مهادناً أو دبلوماسياً، فإذا قصد جرَح بقلمه، وحوّل الكلمة رصاصة. وهو الذي يعرف كيف يهندس غضبه السياسي بالأدب، ويجنّد الأدب لصوغ موقفه السياسي، ويعرف كيف يروّس انفعالاته، ويطلق مواقفه بلا خوف ولا وجل.
لكن الغاضب في السياسة رحب داخل الجريدة، شرط ألا تمس الرحابة الثوابت والصفحات الأساسية التي تحمل موقف الجريدة الصريح، ودائما كانت المواقف صريحة، فأسلوب طلال سلمان في الخبر والمقالة وسواهما من مفردات العمل الصحفي صريح وشفاف ولا يحتمل تآويل عدة، فهو يقدم كتابة منحازة في الأساس، بعكس ما اتبعته "نهار" غسان تويني من أسلوب يبدو محايداً وهو غير ذلك. أما ما يهمنا في القسم الثقافي الذي عملت فيه محرراً ورئيس قسم مدة 23 سنة، أن هامش الحرية كان مفتوحاً إلى أبعد حد، وقد نشر العديد من الزملاء مقالات معاكسة للموقف الرسمي للجريدة، ولم يعترض صاحب الجريدة أو يعاقب أو يتململ، بل أثبت بالفعل أنه ديموقراطي، ويحترم المثقفين، ويقدر الاختلاف معهم. وصدف أن كتبت مقالة مرة عن مهرجان ثقافي ذي طابع سياسي، في اليوم نفسه لنشره موقفاً معاكساً في عموده المعروف "على الطريق"، ما حرض محاوره في إحدى القنوات التلفزيونية، على سؤاله عن اختلاف المواقف على صفحات الجريدة في تاريخ واحد. فكانت إجابته التي نعهدها دائماً أن الجريدة تتسع للجميع. وهذا ما كان يحرص عليه عندما يستضيف أقلاماً تحسب على الآخر السياسي.
كنت في بداية عملي في الجريدة، عندما فاجأني طلال سلمان بطلب مرافقته إلى إيران لإجراء حوار مع الرئيس رفسنجاني، مع أنني كنت حينها محرراً جديداً في القسم الثقافي. لم أرفض مثل هذا الطلب، وليكن تجربة مختلفة لي في السفر جنباً إلى جنب مع صاحب الجريدة ورئيس تحريرها. تهيبت الموقف بالطبع، لكنه فاجأني بحسن تعامله معي، وتواضعه المطمئن، وتقديمي لكل من التقيناه بطريقة لائقة، وبكل احترام. أشعرني حينها بأني فرد من أسرته، أو رفيق درب، أو صديق، مستبعداً كل الصفات التراتبية بيني وبينه. لن أخوض في تفاصيل تلك الرحلة، لكن، للأمانة، أورد حادثة معبرة جرت معنا، إذ أثناء حوار كان يجريه مع وزير الخارجية الإيرانية حينها علي أكبر ولايتي، أورد الأخير في سياق كلامه اسم "الخليج الفارسي"، وقد رأيت وجه طلال سلمان الأسمر توشى بالحمرة وبأمارات الغضب، وتحرك حسه القومي بشكل فاجأ الوزير المضيف، وقال له أنا لا أسمح بتسمية "الخليج العربي" بـ"الفارسي"، ولو أنك قلت "الإسلامي" لربما سكتّ. انصدم ولايتي بذلك الصحافي الذي جاء كصديق، وأوقفه عند حدود قوميته. مهما يكن فتلك لعمري شجاعة قد يغبطه عليها الوزير نفسه.
ومن الموقف السياسي إلى الموقف الإنساني، أريد أن أفشي سراً كان طلال سلمان يحرص على الحفاظ عليه، لكن بعدما أغمض المعلم عينيه، يمكن أن نفتح أعيننا على مآثره التي كان يغطيها تواضعاً. فأشهد أن طلال سلمان الذي كان يعتز دائماً بصداقاته لعدد كبير من المثقفين والكتاب والشعراء اللبنانيين والعرب، كان يتوّج تلك الصداقات بمساعدة من حط به الدهر منهم، فيستر حاله ببعض المساعدات التي تعينه على الاستمرار في الحياة، وقد شهدتُ على عدد منها، اضطر للتصريح لي بها، من مساعدة في إجراء عمليات جراحية، وما إلى ذلك من مساعدات صحية، إلى أن عدداً من المثقفين المعوزين كان يقدم لهم مخصصات رمزية شهرية، وعندما راجعته في شأن حصة أحدهم من الاستكتاب في "السفير الثقافي"، قال لي: "له حق علينا، صعب أن تكبر في السن ولا تجد أحداً يحميك من الجوع، لا تحرموه من أي مبلغ". وعندما علم أنني أود عيادة أحد الكتّاب العرب الذي كان يرقد في مستشفى ببيروت، حمّلني ظرفاً فيه مبلغ من المال لمساعدته، وكان يحرص دائماً ألا أخبر أحداً، ولم أفعل حينها، ثم لن أسمي أحداً. ويعلم العديد من الزملاء في "السفير" أنه لم يكن يرد زميلاً يطلب مساعدة إذا وقع في أزمة، فذاك هو أحد وجوه طلال سلمان الإنسان.
لترقد روحك بسلام وسكينة، فقد أديت قسطك للأرض والسماء. وسوف تبقى الأجيال تستضيء بنتاجك ما بقي الإعلام معاصراً والصحافة وسيلة.
رئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية..
بقلم الناقد الفني: أحمد بزون
Ahmed Bazzoun
*ربما كان يجب أن تبقى أرض الجريدة خضراء كي تكون حديقةً لجسدك المسجّى، ويبقى الحبر الذي عشقت رائحته يتدفق من رأس قلمك نهراً، قبل أن يجف ويسقط وتنكسر ريشته. أتصور المشهد مهاباً أكثر لو أنك ودّعت محرري الجريدة وتلامذتك النجباء وأصدقاءك الخلّص من الطابق السادس أو التاسع للجريدة، قبل أن يسقط آخر رأي من عينيك، وآخر سخرية من لسانك. كنا نتمنى ألا تجادل الموت خارج زمنك، وألا نراك تُهزم أمام مرض، أنت الذي كان يخشاك شياطين السياسة ودهاتها، ويحسب لك الجميع ألف حساب.
كان يجب أن نشكك في رحيلك، ولا نصدق أن قامتك تلك، التي امتد حضورها على مساحة وطن وأكثر، يمكن أن يلويها موت. وكان يمكن أن نغلف صمتك هذا بجريدة طازجة حارة، ترفّ فوقها حمائم "السفير" قبل أن يتعبها السفر...
في آخر مرة التقيت طلال سلمان، كان تعبُ السنين قد حل على جسده، والعجز عن الكتابة قد خلف فيه جرحاً لا يدمله عرس. شعرت بأن الفراغ الذي تركه الرجل لا يزال مسكوناً بالقلق، وأن القلق الذي في داخله يكاد يهزم رجلاً مثله، تماماً مثل الذين أخذتهم صباحاته ولمّا تزل تقتلهم الحسرة. قلت له: من سواك ردف الصحافة العربية والمحلية بكل هؤلاء الأعلام في الصحافة والفكر السياسي! ألم تكن من فضائل "السفير" أنها لعبت دوراً أكاديمياً مسؤولاً عن المهنة ومرشداً لطالبيها. ألا يكفي ما تركتَ من أثر في نخبة واسعة من المثقفين اللبنانيين والعرب. كان طلال سلمان يعرف حجمه، لكنه لم يكن من أولئك الذين يتوقفون عند حد أو نقطة، إنما من الذين يرفضون أنفسهم كي يتجددوا. ثم هو لم يكن مسالماً أو مهادناً أو دبلوماسياً، فإذا قصد جرَح بقلمه، وحوّل الكلمة رصاصة. وهو الذي يعرف كيف يهندس غضبه السياسي بالأدب، ويجنّد الأدب لصوغ موقفه السياسي، ويعرف كيف يروّس انفعالاته، ويطلق مواقفه بلا خوف ولا وجل.
لكن الغاضب في السياسة رحب داخل الجريدة، شرط ألا تمس الرحابة الثوابت والصفحات الأساسية التي تحمل موقف الجريدة الصريح، ودائما كانت المواقف صريحة، فأسلوب طلال سلمان في الخبر والمقالة وسواهما من مفردات العمل الصحفي صريح وشفاف ولا يحتمل تآويل عدة، فهو يقدم كتابة منحازة في الأساس، بعكس ما اتبعته "نهار" غسان تويني من أسلوب يبدو محايداً وهو غير ذلك. أما ما يهمنا في القسم الثقافي الذي عملت فيه محرراً ورئيس قسم مدة 23 سنة، أن هامش الحرية كان مفتوحاً إلى أبعد حد، وقد نشر العديد من الزملاء مقالات معاكسة للموقف الرسمي للجريدة، ولم يعترض صاحب الجريدة أو يعاقب أو يتململ، بل أثبت بالفعل أنه ديموقراطي، ويحترم المثقفين، ويقدر الاختلاف معهم. وصدف أن كتبت مقالة مرة عن مهرجان ثقافي ذي طابع سياسي، في اليوم نفسه لنشره موقفاً معاكساً في عموده المعروف "على الطريق"، ما حرض محاوره في إحدى القنوات التلفزيونية، على سؤاله عن اختلاف المواقف على صفحات الجريدة في تاريخ واحد. فكانت إجابته التي نعهدها دائماً أن الجريدة تتسع للجميع. وهذا ما كان يحرص عليه عندما يستضيف أقلاماً تحسب على الآخر السياسي.
كنت في بداية عملي في الجريدة، عندما فاجأني طلال سلمان بطلب مرافقته إلى إيران لإجراء حوار مع الرئيس رفسنجاني، مع أنني كنت حينها محرراً جديداً في القسم الثقافي. لم أرفض مثل هذا الطلب، وليكن تجربة مختلفة لي في السفر جنباً إلى جنب مع صاحب الجريدة ورئيس تحريرها. تهيبت الموقف بالطبع، لكنه فاجأني بحسن تعامله معي، وتواضعه المطمئن، وتقديمي لكل من التقيناه بطريقة لائقة، وبكل احترام. أشعرني حينها بأني فرد من أسرته، أو رفيق درب، أو صديق، مستبعداً كل الصفات التراتبية بيني وبينه. لن أخوض في تفاصيل تلك الرحلة، لكن، للأمانة، أورد حادثة معبرة جرت معنا، إذ أثناء حوار كان يجريه مع وزير الخارجية الإيرانية حينها علي أكبر ولايتي، أورد الأخير في سياق كلامه اسم "الخليج الفارسي"، وقد رأيت وجه طلال سلمان الأسمر توشى بالحمرة وبأمارات الغضب، وتحرك حسه القومي بشكل فاجأ الوزير المضيف، وقال له أنا لا أسمح بتسمية "الخليج العربي" بـ"الفارسي"، ولو أنك قلت "الإسلامي" لربما سكتّ. انصدم ولايتي بذلك الصحافي الذي جاء كصديق، وأوقفه عند حدود قوميته. مهما يكن فتلك لعمري شجاعة قد يغبطه عليها الوزير نفسه.
ومن الموقف السياسي إلى الموقف الإنساني، أريد أن أفشي سراً كان طلال سلمان يحرص على الحفاظ عليه، لكن بعدما أغمض المعلم عينيه، يمكن أن نفتح أعيننا على مآثره التي كان يغطيها تواضعاً. فأشهد أن طلال سلمان الذي كان يعتز دائماً بصداقاته لعدد كبير من المثقفين والكتاب والشعراء اللبنانيين والعرب، كان يتوّج تلك الصداقات بمساعدة من حط به الدهر منهم، فيستر حاله ببعض المساعدات التي تعينه على الاستمرار في الحياة، وقد شهدتُ على عدد منها، اضطر للتصريح لي بها، من مساعدة في إجراء عمليات جراحية، وما إلى ذلك من مساعدات صحية، إلى أن عدداً من المثقفين المعوزين كان يقدم لهم مخصصات رمزية شهرية، وعندما راجعته في شأن حصة أحدهم من الاستكتاب في "السفير الثقافي"، قال لي: "له حق علينا، صعب أن تكبر في السن ولا تجد أحداً يحميك من الجوع، لا تحرموه من أي مبلغ". وعندما علم أنني أود عيادة أحد الكتّاب العرب الذي كان يرقد في مستشفى ببيروت، حمّلني ظرفاً فيه مبلغ من المال لمساعدته، وكان يحرص دائماً ألا أخبر أحداً، ولم أفعل حينها، ثم لن أسمي أحداً. ويعلم العديد من الزملاء في "السفير" أنه لم يكن يرد زميلاً يطلب مساعدة إذا وقع في أزمة، فذاك هو أحد وجوه طلال سلمان الإنسان.
لترقد روحك بسلام وسكينة، فقد أديت قسطك للأرض والسماء. وسوف تبقى الأجيال تستضيء بنتاجك ما بقي الإعلام معاصراً والصحافة وسيلة.