مسألة الحفظ .. الذاكرة
مسألة الحفظ
ولكن أين تحفظ الذكريات ؟ وإلى أين تذهب بعد خروجها من ساحة الشعور ؟ فإما أن يقال إن الأحوال النفسية التي تخرج من ساحة الشعور تبقى في الدماغ ، واما أن يقال إنها لا تزول عن النفس ، بل تبقى كامنة في اللاشعور . ولنبحث الآن في كل من هذين المذهبين :
۱ - النظرية الفيسيولوجية : زعم الماديون أن الذكريات مخزونة في خلايا المخ . لأن الإدراك يترك أثراً في الخلايا ، فإذا . حدث تأثير جديد انبعث ذلك الإدراك القديم من سباته . ولو لم يكن الأمر على هذه الصورة لما كان الفساد خلايا المخ أو لاضطراب الجسد تأثير البتة . على أن التجربة تثبت لنا أن لاختلال الهضم ودوران الدم والتنفس تأثيراً في التذكر ، وأن بعض المواد التي تهيج الجملة العصبية أو تسكنها تنبه الذاكرة ، أو تضعفها ، وأن فساد المخ يولد فقدان الذاكرة ( الامنيزيا ( الكلي أو الجزئي . وقد أثبتت تجارب ) بروكا ) أن نزيفاً دموياً في قاعدة التلفيف الثالث من ناحية الجبهة الشمالية يولد مرض الحبسة ( phasis ) ( ۱ ) ، وان فساد التلفيف الثاني من يسار الناحية الجدارية يولد العمى النطقي أو اللفظي ( Cécite verbale ، وان فساد التلفيف الأول من يسار الجبهة يولد الصمم النطقي أو اللفظى ( Surdit verbale ؛ حتى لقد قال ( ريبو ) : « ان الذاكرة ظاهرة حيوية بالذات ، نفسية بالعرض . لأن من خواص الأعضاء حفظ الآثار وتكرارها . فالذاكرة إذن عادة ، أو هي بالأحرى وظيفة من وظائف الجهاز العصبي وكلما كان تماسك الآثار أقوى كان الحفظ أثبت .
وقد اختلف الفيسيولوجيون في كيفية حفظ المخ لهذه الآثار ، فقال ( ديكارت ) : ان الأرواح الحيوانية توقظ الذكريات من نومها عند مرورها بغضون المسالك العصبية المضافة إلى امور كانت موجودة في الماضى . وقال ( هارتلي Hartley ) : ان الدماغ يحفظ ذلك على صورة اهتزاز ، وقال ( موليشوت Moleschott : انه بحفظه على صورة ( تفسفر ) ) وقال غيرهم : على صورة تفاعل كيميائي .
مناقشة هذه النظرية : لو اقتصر الفيسيولوجيون على القول ان للدماغ أثراً في الذاكرة ، أو - على الأخص - في استرجاع بعض الحالات السابقة ، لما تبادر إلى الذهن نقدهم ؛ ولكنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك ، وقالوا أن لكل صورة ذهنية خلية عصبية خاصة بها ، وهذا شبيه بما قاله أصحاب نظرية الشعور الملحق . أي نظرية الظاهرة الثانوية ناقشناها سابقاً ( ص ۸۸ ) ، ولنناقش الفيسيولوجيين الآن في أدلتهم :
۱ - الحبسة : أو فقدان النطق : مرض ينشأ عن آفة تحدث فساداً في قاعدة التلفيف الثالث من ناحية الجبهة الشمالية ، من غير أن يكون هناك خلل في أعضاء الصوت . فلو كانت نظرية الفيسيولوجيين صحيحة لوجب أن يكون بين فساد الخلايا الدماغية وخلل الكلام مطابقة ، ولكان ينبغي للمريض أن ينسى في أول الأمر بعض الألفاظ دون غيرها إلا أن ( هنري برغسون ) قد أثبت أن المرض يولد ضعفاً عاماً في تذكر الألفاظ ، فلا يجد المريض ألفاظه التي يريد التعبير بها عن أفكاره ، بل يتردد في الكلام . وكثيراً ما يعسر عليه إيجاد اللفظ ، فيستبدل به عبارة تدل على المعنى المقصود . فكأن الدماغ آلة تترجم عن الفكر ، أو كأنه واسطة لانتقال الذكريات من القوة إلى الفعل . ثم أن ( هنري برغسون ( يبيّن أيضاً أن قانون ( ريبو ) ( ١ ) لا يؤيد النظرية الفيسيولوجية ، قال : لو كانت الذكريات مخزونة في خلايا المخ ، لوجب أن يختلف النسيان باختلاف الفساد الذي يطرأ عليها ، على أن النسيان يلحق أولاً الأسماء الخاصة ، فالأسماء العامة . ثم يعم الأفعال ، ولا يمكننا أن نقول أن فساد الخلايا يتبع في كل مرة نظاماً ثابتاً شبيهاً بهذا النظام ( ۲ ) .
٢ - الصمم النطقي والعمى النطقي : ينسى المصاب بالصمم النطقي معاني الألفاظ فيسمعها ولا يفهمها كأنك تكلمه بلغة أجنبية . فلو كانت الذكرى مخزونه في الخلية على صورة انطباع مادي لوجب أن تكون خلية الادراك عين خلية التذكر – فإذا حدث فساد في خزائن الذكريات السمعية عقبه بالضرورة خلل في فهم معاني الألفاظ وفي سماع أصواتها معاً . على أن المريض يسمع الألفاظ ولا يفهم معانيها ، أو يراها ولا يدرك معنى • صورها ، وهذا يدل على أن الانطباع المادي في خلايا المخ لا يكفي لتعليل التذكر الأمنزيا العامة : ينسى المصاب بهذا المرض ذكريات عشر أو خمس عشرة سنة من علما حياته ، أو ينسى . ا من العلوم . فالنسيان في هذا المرض محدود بين زمانين ، وهو واضح
الأطراف ، لكنه ليس مصحوباً بفساد ثابت معين ، فلو صحت النظرية الفيسيولوجية لتولد النسيان من خلل معين . إلا أن هذه الأمنزيا العامة تنشأ في الغالب عن اصطدام ، أو عن جرح ، أو هيجان شديد ، الخ . أو من غير أن يؤدي ذلك مادي معنوی إلى فساد ناحية معينة من الدماغ .
النتيجة : هل يمكننا أن نستنتج من هذه المناقشات بطلان كل تأويل فيسيولوجي ؟ . ان انتقاد ) هنري برغسون ( لا يبطل علاقة الذاكرة بالدماغ . بل يهدم النظرية التي تحل الذكريات بمراكز دماغية ثابتة لقد دلت دراسة الاضطرابات النفسية المتولدة من الحرب ( ۱ ) على أن بين أمراض الذاكرة وفساد الدماغ صلة عميقة . إلا أنه من الضروري تأويل هذه الصلة تأويلا متناسباً مع اتجاهات علم النفس الحديث . الصور ليست مخزونة في خلايا المخ كالرسوم في الألواح ، لأن في الدماغ سطوحاً مختلفة ومراكز منظمة تتوزع ما ينقل إليها من تأثيرات الحواس وتجمعه . وقد بين العلماء أن لهذه المراكز المنظمة أثراً في استرجاع الذكريات ، واستبدلوا بالخزائن الساكنة مراكز ووظائف حركية . ولكن كيف ينقلب الأثر العضوي إلى صورة نفسية ؟ هذا ما نؤجل البحث فيه إلى علم بعد الطبيعة ما •
۲ - النظرية النفسية : يستنتج من المناقشة في النظرية الفيسيولوجية انه لا يمكن إرجاع الذكريات إلى رسوم منطبعة في خلايا المخ ، ولا إرجاع الذاكرة إلى العادة . ولذلك رأى ) هنري برغسون ) ان يقسم الذاكرة قسمين ، فقال : ان الماضي يعود إلى مسرح النفس بصورتين مختلفتين :
إحداهما صورة حركات مخزونة في الجسد ، وثانيتهما صورة ذكريات نفسية محضة مستقلة عن الدماغ . وقد بين ( هنري برغسون ذلك بمثال ، قال : إذا أردت حفظ قطعة من الشعر قسمتها بيتا بيتاً ، ثم كررتها عدة مرات ، وكلما أعدتها مرة تحسن حفظي لها ، وارتبطت الألفاظ بعضها ببعض ، فلا يقال اني حفظتها إلا إذا أصبحت قادراً على تكرارها دون ا وهي جملة من الحركات مجتمعة في الأعضاء الصوتية ، لم أكتسبها إلا بالتكرار المتتابع
وبتقسيم الحركات ، وجمعها بعضها إلى بعض ، كما تكتسب كل عادة فاعلة مبنية على الحركة . ونتيجة هذا التكرار تنظيم سلسلة من الحركات في جسدي ، فإذا بدأت الحركة الاولى جاءت الحركات الاخرى بعدها في نظام . ان هذه الذاكرة شبيهة بالعادة الحركية .
ثم اني أستطيع أن أتذكر أثر كل قراءة مفردة في نفسي ، فأتذكر ما أحدثه هذا الشعر في من الأحاسيس عند قراءته للمرة الأولى . ان هذه الذكرى الثانية لاتشبه العادة ، ولا تحتاج إلى التكرار ، لأن التكرار قد يمحوها . انها ذكرى حادثة واحدة من حياتي لا ينفعها التكرار ، بل قد يضعفها . ان لها تاريخاً . انها تامة منذ ولادتها لا يكسبها المستقبل شيئاً . وهي صورة نفسية محضة يمكننا استرجاعها في كل وقت ، ولا نحتاج في هذا الاسترجاع إلى زمان طويل . أما الذكرى الحركية فنحتاج في استعادتها إلى وقت ، لأنها فعل ، وكل فعل يحتاج إلى زمان .
يتبين مما تقدم ان هناك ذاكرتين : ذاكرة حركية ، وذاكرة نفسية . الأولى أشبه شيء بالعادة منها بالذاكرة . والثانية ذاكرة الصور النفسية ، لأنها تتمثل الماضي وتستحضره . أما الذاكرة الحركية فإنها لا تتمثل الماضي بل تستفيد منه . مثال ذلك أنك إذا تعودت الرقص رقصت من غير أن تتذكر الاستاذ الذي علمك الرقص والظروف التي تعلمته فيها . وقد تنسى أنك تعلمت الرقص ، وتحسب هذه الحركات طبيعية لك ، وأنت لو رجعت إلى ذاتك وجدت أنك إنما تعيد أموراً مضت ولكنك تستفيد منها من غير أن تتمثل ماضيها . ولو لم تر الأطفال يتعلمون المشي لما استطعت أن تعلم أنك قد اكتسبت هذه العادة مثلهم ، م ، فأنت كلما مشيت استفدت من الماضي ولكن من غير أن تتصوره وتتذكره . وكلما اكتسبت عادة حركية كفتك هذه العادة مؤونة تصور الماضي فتحسبها جزء أمن الحاضر ، وتظنها غريزية ، ولولا ذاكرة الصور التي تنير الماضي لكورت جميع هذه الحركات كالآلة .
وعلى ذلك ، فإذا اصيب المخ بآفة ، أثرت هذه الآفة مباشرة في الذكريات الحركية لا في الذكريات النفسية المحضة ؛ لأن الذكريات الحركية مخزونة في الدماغ والجسد ، أما الذكريات النفسية فمحفوظة في اللاشعور ، فلا تعود إلى ساحة الشعور إلا عند الحاجة ، ولا تنتقل من القوة إلى الفعل إلا بوساطة المخ نفسه . كأن المخ مصفاة تصفى به الذكريات الضرورية للفعل الحاضر . فللمخ إذن أثر في استرجاع الذكريات النفسية لا في حفظها .
وصفوة القول أن التفسير الفيسيولوجي لا ينطبق إلا على الذاكرة الحركية ، لأنها شبيهة بالعادة ، وهي تكتسب بالتكرار كسائر الاستعدادات المكتسبة . أما الذاكرة النفسة ، أي ذاكرة الصور المحضة ، فهي مستقلة عن الحركات .
- نقد النظرية النفسية : تتميز النظرية النفسية بانتقادها نظرية الفيسيولوجيين وبتقسيمها الذاكرة قسمين . ولا غبار على هذا التقسيم لولا ان ( هنري برغسون ) قد بالغ فيه بتأثير بعض الغايات الفلسفية . وقد بين العلماء اليوم ان للتكرار الارادي تأثيراً في اكتساب بعض الذكريات النفسية ، وان الإنسان قد يحفظ قطعة صغيرة من الشعر من غير تكرار . وان الحركات الجسدية ضرورية أيضاً لرجوع الذكريات النفسية . وان النظرية النفسية لاتبين لنا أين تحفظ الذكريات المحضة ، لأن فرضية اللاشعور لا توضح كيفية حفظ الذكريات ولا تبدد جميع الظلمات فهل اللاشعور وعاء غير مقيد بالزمان والمكان أو قربة لا تمتلىء . لقد دلت التجارب على أن للذاكرة أساساً عضوياً . وان لها أيضاً أساساً اجتماعياً ، فهي إذن فعل مركب لا تشابه بينه وبين خطور الصور للنفس في حالة النوم .
وقد حاول الاجتماعيون ان يرجعوا الذاكرة إلى عوامل اجتماعية ، فقالوا : ان الماضي إنما يحفظ في ذاكرة الجماعة لا في ذاكرة الفرد وحدها ، وان للاسرة كما للطائفة والامة تاريخاً وتقاليد تنظم عقد الذكريات الشخصية . فإذا تذكر الفرد أمراً تذكره داخل نطاق الاسرة أو المدرسة أو المهنة . وهذا يدل على تأثير الحياة الاجتماعية في حفظ الذكريات ، إلا أنه لا يكفي لإرجاع الذاكرة إلى عوامل اجتماعية محضة .
وقصارى القول إذا كانت الذاكرة أمراً مركباً صعب إيضاحها بالعامل الفيسيولوجي وحده ، لأنها في الواقع مبنية على ثلاثة عوامل :
العامل العضوي ، والعامل الاجتماعي ؛ والعامل النفسي .
مسألة الحفظ
ولكن أين تحفظ الذكريات ؟ وإلى أين تذهب بعد خروجها من ساحة الشعور ؟ فإما أن يقال إن الأحوال النفسية التي تخرج من ساحة الشعور تبقى في الدماغ ، واما أن يقال إنها لا تزول عن النفس ، بل تبقى كامنة في اللاشعور . ولنبحث الآن في كل من هذين المذهبين :
۱ - النظرية الفيسيولوجية : زعم الماديون أن الذكريات مخزونة في خلايا المخ . لأن الإدراك يترك أثراً في الخلايا ، فإذا . حدث تأثير جديد انبعث ذلك الإدراك القديم من سباته . ولو لم يكن الأمر على هذه الصورة لما كان الفساد خلايا المخ أو لاضطراب الجسد تأثير البتة . على أن التجربة تثبت لنا أن لاختلال الهضم ودوران الدم والتنفس تأثيراً في التذكر ، وأن بعض المواد التي تهيج الجملة العصبية أو تسكنها تنبه الذاكرة ، أو تضعفها ، وأن فساد المخ يولد فقدان الذاكرة ( الامنيزيا ( الكلي أو الجزئي . وقد أثبتت تجارب ) بروكا ) أن نزيفاً دموياً في قاعدة التلفيف الثالث من ناحية الجبهة الشمالية يولد مرض الحبسة ( phasis ) ( ۱ ) ، وان فساد التلفيف الثاني من يسار الناحية الجدارية يولد العمى النطقي أو اللفظي ( Cécite verbale ، وان فساد التلفيف الأول من يسار الجبهة يولد الصمم النطقي أو اللفظى ( Surdit verbale ؛ حتى لقد قال ( ريبو ) : « ان الذاكرة ظاهرة حيوية بالذات ، نفسية بالعرض . لأن من خواص الأعضاء حفظ الآثار وتكرارها . فالذاكرة إذن عادة ، أو هي بالأحرى وظيفة من وظائف الجهاز العصبي وكلما كان تماسك الآثار أقوى كان الحفظ أثبت .
وقد اختلف الفيسيولوجيون في كيفية حفظ المخ لهذه الآثار ، فقال ( ديكارت ) : ان الأرواح الحيوانية توقظ الذكريات من نومها عند مرورها بغضون المسالك العصبية المضافة إلى امور كانت موجودة في الماضى . وقال ( هارتلي Hartley ) : ان الدماغ يحفظ ذلك على صورة اهتزاز ، وقال ( موليشوت Moleschott : انه بحفظه على صورة ( تفسفر ) ) وقال غيرهم : على صورة تفاعل كيميائي .
مناقشة هذه النظرية : لو اقتصر الفيسيولوجيون على القول ان للدماغ أثراً في الذاكرة ، أو - على الأخص - في استرجاع بعض الحالات السابقة ، لما تبادر إلى الذهن نقدهم ؛ ولكنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك ، وقالوا أن لكل صورة ذهنية خلية عصبية خاصة بها ، وهذا شبيه بما قاله أصحاب نظرية الشعور الملحق . أي نظرية الظاهرة الثانوية ناقشناها سابقاً ( ص ۸۸ ) ، ولنناقش الفيسيولوجيين الآن في أدلتهم :
۱ - الحبسة : أو فقدان النطق : مرض ينشأ عن آفة تحدث فساداً في قاعدة التلفيف الثالث من ناحية الجبهة الشمالية ، من غير أن يكون هناك خلل في أعضاء الصوت . فلو كانت نظرية الفيسيولوجيين صحيحة لوجب أن يكون بين فساد الخلايا الدماغية وخلل الكلام مطابقة ، ولكان ينبغي للمريض أن ينسى في أول الأمر بعض الألفاظ دون غيرها إلا أن ( هنري برغسون ) قد أثبت أن المرض يولد ضعفاً عاماً في تذكر الألفاظ ، فلا يجد المريض ألفاظه التي يريد التعبير بها عن أفكاره ، بل يتردد في الكلام . وكثيراً ما يعسر عليه إيجاد اللفظ ، فيستبدل به عبارة تدل على المعنى المقصود . فكأن الدماغ آلة تترجم عن الفكر ، أو كأنه واسطة لانتقال الذكريات من القوة إلى الفعل . ثم أن ( هنري برغسون ( يبيّن أيضاً أن قانون ( ريبو ) ( ١ ) لا يؤيد النظرية الفيسيولوجية ، قال : لو كانت الذكريات مخزونة في خلايا المخ ، لوجب أن يختلف النسيان باختلاف الفساد الذي يطرأ عليها ، على أن النسيان يلحق أولاً الأسماء الخاصة ، فالأسماء العامة . ثم يعم الأفعال ، ولا يمكننا أن نقول أن فساد الخلايا يتبع في كل مرة نظاماً ثابتاً شبيهاً بهذا النظام ( ۲ ) .
٢ - الصمم النطقي والعمى النطقي : ينسى المصاب بالصمم النطقي معاني الألفاظ فيسمعها ولا يفهمها كأنك تكلمه بلغة أجنبية . فلو كانت الذكرى مخزونه في الخلية على صورة انطباع مادي لوجب أن تكون خلية الادراك عين خلية التذكر – فإذا حدث فساد في خزائن الذكريات السمعية عقبه بالضرورة خلل في فهم معاني الألفاظ وفي سماع أصواتها معاً . على أن المريض يسمع الألفاظ ولا يفهم معانيها ، أو يراها ولا يدرك معنى • صورها ، وهذا يدل على أن الانطباع المادي في خلايا المخ لا يكفي لتعليل التذكر الأمنزيا العامة : ينسى المصاب بهذا المرض ذكريات عشر أو خمس عشرة سنة من علما حياته ، أو ينسى . ا من العلوم . فالنسيان في هذا المرض محدود بين زمانين ، وهو واضح
الأطراف ، لكنه ليس مصحوباً بفساد ثابت معين ، فلو صحت النظرية الفيسيولوجية لتولد النسيان من خلل معين . إلا أن هذه الأمنزيا العامة تنشأ في الغالب عن اصطدام ، أو عن جرح ، أو هيجان شديد ، الخ . أو من غير أن يؤدي ذلك مادي معنوی إلى فساد ناحية معينة من الدماغ .
النتيجة : هل يمكننا أن نستنتج من هذه المناقشات بطلان كل تأويل فيسيولوجي ؟ . ان انتقاد ) هنري برغسون ( لا يبطل علاقة الذاكرة بالدماغ . بل يهدم النظرية التي تحل الذكريات بمراكز دماغية ثابتة لقد دلت دراسة الاضطرابات النفسية المتولدة من الحرب ( ۱ ) على أن بين أمراض الذاكرة وفساد الدماغ صلة عميقة . إلا أنه من الضروري تأويل هذه الصلة تأويلا متناسباً مع اتجاهات علم النفس الحديث . الصور ليست مخزونة في خلايا المخ كالرسوم في الألواح ، لأن في الدماغ سطوحاً مختلفة ومراكز منظمة تتوزع ما ينقل إليها من تأثيرات الحواس وتجمعه . وقد بين العلماء أن لهذه المراكز المنظمة أثراً في استرجاع الذكريات ، واستبدلوا بالخزائن الساكنة مراكز ووظائف حركية . ولكن كيف ينقلب الأثر العضوي إلى صورة نفسية ؟ هذا ما نؤجل البحث فيه إلى علم بعد الطبيعة ما •
۲ - النظرية النفسية : يستنتج من المناقشة في النظرية الفيسيولوجية انه لا يمكن إرجاع الذكريات إلى رسوم منطبعة في خلايا المخ ، ولا إرجاع الذاكرة إلى العادة . ولذلك رأى ) هنري برغسون ) ان يقسم الذاكرة قسمين ، فقال : ان الماضي يعود إلى مسرح النفس بصورتين مختلفتين :
إحداهما صورة حركات مخزونة في الجسد ، وثانيتهما صورة ذكريات نفسية محضة مستقلة عن الدماغ . وقد بين ( هنري برغسون ذلك بمثال ، قال : إذا أردت حفظ قطعة من الشعر قسمتها بيتا بيتاً ، ثم كررتها عدة مرات ، وكلما أعدتها مرة تحسن حفظي لها ، وارتبطت الألفاظ بعضها ببعض ، فلا يقال اني حفظتها إلا إذا أصبحت قادراً على تكرارها دون ا وهي جملة من الحركات مجتمعة في الأعضاء الصوتية ، لم أكتسبها إلا بالتكرار المتتابع
وبتقسيم الحركات ، وجمعها بعضها إلى بعض ، كما تكتسب كل عادة فاعلة مبنية على الحركة . ونتيجة هذا التكرار تنظيم سلسلة من الحركات في جسدي ، فإذا بدأت الحركة الاولى جاءت الحركات الاخرى بعدها في نظام . ان هذه الذاكرة شبيهة بالعادة الحركية .
ثم اني أستطيع أن أتذكر أثر كل قراءة مفردة في نفسي ، فأتذكر ما أحدثه هذا الشعر في من الأحاسيس عند قراءته للمرة الأولى . ان هذه الذكرى الثانية لاتشبه العادة ، ولا تحتاج إلى التكرار ، لأن التكرار قد يمحوها . انها ذكرى حادثة واحدة من حياتي لا ينفعها التكرار ، بل قد يضعفها . ان لها تاريخاً . انها تامة منذ ولادتها لا يكسبها المستقبل شيئاً . وهي صورة نفسية محضة يمكننا استرجاعها في كل وقت ، ولا نحتاج في هذا الاسترجاع إلى زمان طويل . أما الذكرى الحركية فنحتاج في استعادتها إلى وقت ، لأنها فعل ، وكل فعل يحتاج إلى زمان .
يتبين مما تقدم ان هناك ذاكرتين : ذاكرة حركية ، وذاكرة نفسية . الأولى أشبه شيء بالعادة منها بالذاكرة . والثانية ذاكرة الصور النفسية ، لأنها تتمثل الماضي وتستحضره . أما الذاكرة الحركية فإنها لا تتمثل الماضي بل تستفيد منه . مثال ذلك أنك إذا تعودت الرقص رقصت من غير أن تتذكر الاستاذ الذي علمك الرقص والظروف التي تعلمته فيها . وقد تنسى أنك تعلمت الرقص ، وتحسب هذه الحركات طبيعية لك ، وأنت لو رجعت إلى ذاتك وجدت أنك إنما تعيد أموراً مضت ولكنك تستفيد منها من غير أن تتمثل ماضيها . ولو لم تر الأطفال يتعلمون المشي لما استطعت أن تعلم أنك قد اكتسبت هذه العادة مثلهم ، م ، فأنت كلما مشيت استفدت من الماضي ولكن من غير أن تتصوره وتتذكره . وكلما اكتسبت عادة حركية كفتك هذه العادة مؤونة تصور الماضي فتحسبها جزء أمن الحاضر ، وتظنها غريزية ، ولولا ذاكرة الصور التي تنير الماضي لكورت جميع هذه الحركات كالآلة .
وعلى ذلك ، فإذا اصيب المخ بآفة ، أثرت هذه الآفة مباشرة في الذكريات الحركية لا في الذكريات النفسية المحضة ؛ لأن الذكريات الحركية مخزونة في الدماغ والجسد ، أما الذكريات النفسية فمحفوظة في اللاشعور ، فلا تعود إلى ساحة الشعور إلا عند الحاجة ، ولا تنتقل من القوة إلى الفعل إلا بوساطة المخ نفسه . كأن المخ مصفاة تصفى به الذكريات الضرورية للفعل الحاضر . فللمخ إذن أثر في استرجاع الذكريات النفسية لا في حفظها .
وصفوة القول أن التفسير الفيسيولوجي لا ينطبق إلا على الذاكرة الحركية ، لأنها شبيهة بالعادة ، وهي تكتسب بالتكرار كسائر الاستعدادات المكتسبة . أما الذاكرة النفسة ، أي ذاكرة الصور المحضة ، فهي مستقلة عن الحركات .
- نقد النظرية النفسية : تتميز النظرية النفسية بانتقادها نظرية الفيسيولوجيين وبتقسيمها الذاكرة قسمين . ولا غبار على هذا التقسيم لولا ان ( هنري برغسون ) قد بالغ فيه بتأثير بعض الغايات الفلسفية . وقد بين العلماء اليوم ان للتكرار الارادي تأثيراً في اكتساب بعض الذكريات النفسية ، وان الإنسان قد يحفظ قطعة صغيرة من الشعر من غير تكرار . وان الحركات الجسدية ضرورية أيضاً لرجوع الذكريات النفسية . وان النظرية النفسية لاتبين لنا أين تحفظ الذكريات المحضة ، لأن فرضية اللاشعور لا توضح كيفية حفظ الذكريات ولا تبدد جميع الظلمات فهل اللاشعور وعاء غير مقيد بالزمان والمكان أو قربة لا تمتلىء . لقد دلت التجارب على أن للذاكرة أساساً عضوياً . وان لها أيضاً أساساً اجتماعياً ، فهي إذن فعل مركب لا تشابه بينه وبين خطور الصور للنفس في حالة النوم .
وقد حاول الاجتماعيون ان يرجعوا الذاكرة إلى عوامل اجتماعية ، فقالوا : ان الماضي إنما يحفظ في ذاكرة الجماعة لا في ذاكرة الفرد وحدها ، وان للاسرة كما للطائفة والامة تاريخاً وتقاليد تنظم عقد الذكريات الشخصية . فإذا تذكر الفرد أمراً تذكره داخل نطاق الاسرة أو المدرسة أو المهنة . وهذا يدل على تأثير الحياة الاجتماعية في حفظ الذكريات ، إلا أنه لا يكفي لإرجاع الذاكرة إلى عوامل اجتماعية محضة .
وقصارى القول إذا كانت الذاكرة أمراً مركباً صعب إيضاحها بالعامل الفيسيولوجي وحده ، لأنها في الواقع مبنية على ثلاثة عوامل :
العامل العضوي ، والعامل الاجتماعي ؛ والعامل النفسي .
تعليق