عن السينما والحرب ومذبحة غزة
أحمد طمليه 4 يناير 2024
سينما
تفتيت جمجمة طفل فلسطيني هدف مشروع للجندي الإسرائيلي (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لن يمر العدوان الإسرائيلي على غزة، مهما مر عليه الزمن. وكما سوف يسجله التاريخ، سوف تحاول الكاميرا أن توثقه، أو تعيد توثيقه صوتًا وصورة. وسوف تتم إعادة صياغته بأكثر من صورة وصورة. وسوف يحاول كل طرف تجيير الصورة لصالحه. وسوف نشهد كذبًا وتضليلًا من المعتدي حتى يظهر بعكس الصورة التي كان عليها. وسوف يناضل الأحرار من أجل بيان الصورة على حقيقتها. حملات تضليل سوف تتبع مذبحة غزة، يقابلها حملات لبيان الحقيقة، وتفاصيل المذبحة التي تعد عار القرن.
فيديو كليب
"إسرائيل"، من جانبها، استعجلت المضي في هذا المجال، في محاولة تصديق الكذب الذي تجسده، ففي ذروة إيغالها بالدم الفلسطيني، انتشر فيديو كليب يظهر أطفالًا إسرائيليين ينشدون أغنية بالعبرية تحرض على إبادة غزة، وتحاول أن تظهر جنود الاحتلال وكأنهم حماة وطن. وهذه مجرد بداية لحرب من نوع آخر ستلي مذبحة غزة.
لكن السؤال: في سياق السيناريو الهمجي الذي يقدمه الاحتلال في عدوانه على غزة، ماذا يمكن أن يترك للكاميرا حتى تكذب فيه، إذا الفيديو المشار إليه سارعت سلطات الاحتلال إلى سحبه من العرض، فقد أدانهم ترديد أطفال لمفردات عنصرية ينبغي أن تكون بعيدة عن ألسنتهم. هذا ناهيكم عن معطيات الأمر الواقع التي تستأصل أي كذب من جذوره؟
في المقابل، تغص غزة بما يمكن توثيقة، ولا يحتاج التوثيق إلى خيال وابتكار، فالصور الواقعية، وحدها، تعبّر عن هول وفجاعة واقع الحال، وحقيقة المذبحة التي وقعت على مرأى العالم كله، وأهداف هذه المذبحة، التي لا معنى لها إلا التهجير، والتطهير العرقي. وتبرز، بالمقابل، بسالة، ومقاومة الشعب الفلسطيني. صديق قال: ما يحدث في غزة يعجز أمامه الكلام. قلت: لكنه يشعل المخيلة بالكثير... الكثير من الأفكار.
الجنة الآن
ما أن تنتهي الحرب، أية حرب، حتى تشرع وسائل الإعلام إلى إعادة صياغة تلك الحرب، وتحاول كل دولة، عبر الإعلام، تجيير معطيات الحرب لصالحها. وقد بقيت السينما من أهم الوسائل التي يمكن لها أن تعيد صياغة الحدث، وتوظيفه حسب الحاجة السياسية لهذه الدولة أو تلك، ذلك أن السينما هي فن إعادة صياغة الواقع، وبالتالي إذا كان الفيلم السينمائي محكمًا فيمكن أن يكون له مردود معنوي على صعيد الرأي العام لا يضاهى. ويمكن أن يشكل رأيًا عامًا لا يستهان به، ويمكن أن يقلب حقائق، وأن يزور حقائق، وأن يكذب، وأن يجعل الناس، في حالات كثيرة، تصدق كذبه. لكن الأمر لا يخلو من مغالطات وأخطاء تجعل السحر ينقلب على الساحر.
أذكر، في هذا السياق، الفيلم الفلسطيني "الجنة الآن" إنتاج 2005، للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد. فقد بذل القائمون على هذا الفيلم مجهودًا كبيرًا لنجاح الفيلم، رغم تناوله قضية في منتهى الحساسية، ألا وهي قضية العمليات الاستشهادية في "إسرائيل"، إذ تم تقديم تنازل كبير، من قبل القائمين على الفيلم، بمحاولة إدانة هذه العمليات، والدعوة إلى البحث عن سبل مقاومة أخرى، لعل الفيلم يصل إلى العالم، وتراه الناس. ومع ذلك، فقد هوجم الفيلم فلسطينيًا وإسرائيليًا، لأسباب سياسية بحتة، بعيدًا عن تنفيذه كفيلم سينمائي، فقد أخذ عليه فلسطينيًا إنه لم يعط القضية الفلسطينية حقها، فيما هوجم إسرائيليًا لمجرد أنه فيلم فلسطيني. علما أن الفيلم نجح فنيًا، إذ وصل إلى العالمية، ورشح للأوسكار.
يعرض الفيلم آخر 48 ساعة في حياة شابين فلسطينيين، سعيد (قيس ناشف) وخالد (علي سليمان)، من مدينة نابلس، يعملان في كراج سيارات، ويستعدان لتنفيذ عملية استشهادية في "تل أبيب". يبدو سعيد هادئًا، أميل إلى اختصار المشاكل، فيما يبدو خالد عنيفًا، لا يتوانى عن التعبير عن رد فعله مهما كان الثمن.
وحين تحين لحظة تنفيذ العملية الاستشهادية، نجد أن الشاب الهادئ هو الذي يقوم بتنفيذ العملية، فيما خالد يعود أدراجه، داعيًا إلى التعقل والبحث عن سبل مقاومة أخرى، لتكشف هذه الخلاصة أن العملية الاستشهادية من نصيب الصامتين، المقهورين، العاجزين عن إبداء رأيهم فيما يجري، مما يجعلهم أميل إلى الانفجار، وربما الانتحار عند أول منعطف مهم في حياتهم.
وقد نجح المخرج بمساعيه، وذلك بإيصال فيلمه إلى العالمية، وترشيحه للأوسكار. وأهمية هذا الترشيح تكمن في أن رسالة الفيلم لم تقتصر على الجانب المشار إليه، بل إنه قدّم صورة واسعة ومهمة للحال الفلسطينية في ظل الاحتلال. غير أن هذا لم يشفع له، إذ وجدنا في الجانب الفلسطيني من ينتقده، ويعتبره مقصّرًا في إعطاء القضية الفلسطينية حقها، وبعدها الحقيقي. ووجدنا في الجانب الإسرائيلي من يهاجمه، ويقيم الحصون أمامه.
ليلة سقوط بغداد
على صعيد آخر، ومن الأخطاء الفادحة في كيفية تناول السينما للحرب، ما يتصل بكيفية تعامل السينما المصرية التجارية مع الحرب على العراق، إذ جاءت الإشارة بفيلمين كوميديين، هما "ليلة سقوط بغداد" و"معلش احنا بنتبهدل". ومن شاهد هذين الفيلمين يتمنى لو أن صانعيه بقوا بعيدًا عن الجرح العراقي، بدل الابتذال والابتزاز.
ما ظهر في الفيلمين يدل على أن الغاية منه هي الضحك: الضحك على حساب جراحنا وكرامتنا. لا أعرف لماذا تم اللجوء إلى الكوميديا، من خلال ممثلين كوميديين، للتعبير عن جرح مسّ كل مواطن عربي شريف. ولا أعرف بماذا أصف من يطلق نكاتًا سمجة في مأتم كبير.
إنقاذ الجندي ريان
السينما الأميركية لها باع طويل في هذا المجال، وقد انشغلت كثيرًا في إنتاج أفلام لا غاية منها سوى تلميع صور جنودها، من دون أن تستند تلك الأفلام إلى منطق. أفلام كثيرة تتناول قصص جنودهم والحروب التي يخوضونها على جبهات القتال المختلفة في شتى أنحاء العالم، وأغلب تلك الأفلام، إن لم يكن جميعها، وعلى الرغم من بشاعة ما تصوره من معارك طاحنة على الجبهات، إلا أنها لا تدين الحرب التي تستحق الإدانة لأكثر من سبب وجيه، أقلها أنها حروب عدوانية على شعوب مسالمة، صاحبة أرض وحق، بل إن مثل هذه الأفلام تصب الزيت على النار من خلال تركيزها على انضباط الجندي الأميركي، ومدى انتمائه، وإبراز الجانب الإنساني في شخصيته، في محاولة للتدليل على أن الحرب التي يخوضها مقدسة، وذات دوافع وطنية، ولها علاقة بالشرف والانتماء والهوية الأميركية.
وعلى الرغم من سقوط مثل هذه الشعارات بمجرد أن تفندها معطيات الأمر الواقع، إلا أن ما يستوقف الانتباه هي الدوافع التي تكمن وراء الغزارة في إنتاج مثل هذه الأفلام رغم كلفتها الإنتاجية الباهظة، وهي دوافع يمكن الاستدلال عليها من خلال النظر إلى ما تعكسه تلك الحروب، التي كان لا يجب خوضها، على معنويات الجنود الأميركيين الذين لا يجنون من وراء تلك الحروب إلا المزيد من العنف والدم والجثث، والأهم من ذلك الاختلال النفسي وعدم القدرة على التأقلم مع الحياة المدنية ثانية.
لقد أصبح اختلال الجنود النفسي بعد العودة من الحرب ظاهرة مرعبة، دفعت الكثيرين إلى التهافت على إنتاج أفلام يدفع عليها الملايين لمجرد القول إن الجندي الأميركي (بني آدم) من لحم ودم، له مشاعر وأحاسيس. وهو قول غير مسموع طالما أن الأساس الذي تقوم عليه الحرب باطل.
يمكننا أن نتخيل معنويات الجندي العائد من حرب لا تعنيه، وقد دفع إليها دفعًا تنفيذًا لقرار سياسي غالبا ما يتضح عدم دقته، ولا يتضح ذلك، عادة، إلا بعد أن تقع الفأس بالرأس، ويكون العيار قد خرج من بيت النار، وحصدت بالتالي أرصفة المدن الأميركية المزيد من الجنود الخائبين، العائدين من جبهات القتال وقد رأوا الموت بأعينهم، ومارسوا البطش والتنكيل بآلاف الأبرياء، من دون أن يجدوا، في لحظة صفاء، سببًا موجبًا لكل ما جرى.
قبل فترة عرضت إحدى الفضائيات العربية فيلمًا أميركيًا يحكي قصة جندي عائد من الجبهة، لكنه يظل مسكونًا بشبح الحرب لدرجة أنه في لحظات كثيرة يعتقد أن ثمة غارة قادمة، أو يتخيل رفاقه وقد تحولوا على مرأى منه إلى أشلاء متناثرة. فلا يتمكن هذا الجندي من مسايرة أفراد أسرته في شؤونهم اليومية، ويبدو غريب الأطوار عاجزًا عن التأقلم مع الحياة المدنية من جديد.
وينتهي الفيلم نهاية مأساوية عندما يحاول الجندي قتل أفراد أسرته لاعتقاده أنهم هم الذين زجوا به في حرب ضروس. والإشارة هنا، لا تنحصر في الأسرة فقط، بل تشمل إدانة للمجتمع الأميركي بكافة مؤسساته، الذين زجّوا به في حرب كان يمكن تفاديها. وعلى الرغم من أن الفيلم وضع الأصابع على الجراح من حيث طبيعة المعاناة التي يعيشها الجندي في حياته المدنية بعد العودة من جبهة القتال، الا أن صناع الفيلم زيّفوا هذه الحقيقة حين أظهروا هذا الجندي المتمرد على المجتمع الأميركي معتوهًا ومختلًا عقليًا.
قبل ذلك كان الإعلام الأميركي قد (طبّل وزمر) لفيلم (إنقاذ الجندي ريان) للمخرج سبيلبرغ، وبطولة توم هانكس، وقد وصل الترويج الإعلامي له لدرجة دفعه لنيل أكثر من جائزة، مع العلم أن الفيلم يقوم على فكرة ساذجة مفادها أن ثمة شقيقين في الجيش الأميركي موزعين على جبهتين مختلفتين، ويصل خبر إلى القيادة بأن أحد الشقيقين قد قتل، فتقرر القيادة إرسال فريق لإنقاذ الجندي (ريان) وإحضاره من الجبهة تخفيفًا على مصاب والدته، وأثناء قيام الفرقة بمهمتها (الإنسانية) تدخل في معارك تقشعر لها الأبدان، ويقتل عدد من أفراد الفرقة في مشاهد حرب بشعة، كل ذلك لإعادة الجندي ريان لوالدته. وينتهي الفيلم بنهاية نرجسية على الطريقة الأميركية وذلك عندما يرفض الجندي ريان، بعد العثور عليه، أمر العودة ويصر على مواصلة الحرب أسوة بزملائه، علمًا بأن الحرب ليست حربه، وهي اعتداء على شعب لا يشكل وجوده أي خطر عليه.
وهناك فيلم (كنا جنودًا) للمخرج راندي والس وبطولة ميل جبسون، وقد قيل إن الفيلم يحكي قصة حقيقية وقعت لإحدى فرق الجيش الأميركي في حرب فيتنام، وقيل إنه تم الاستعانة بشهادات جنود قدامى شاركوا بالحرب فعليا لإضفاء الواقعية على مجريات الفيلم، وقيل إن الهدف من الفيلم هو إعادة الاعتبار للجنود الذين عادوا من فيتنام من دون أن يحفل بهم أحد، تمامًا كالجنود الأميركيين الذين عادوا من العراق ومن أفغانستان ومن جبهات مشتعلة أخرى في العالم دون أن يحفل بهم أحد.
يركز فيلم (كنا جنودًا) على شخصية الجنرال هال مور (ميل جبسون) الذي يكلّف مع مجموعة الذهاب إلى فيتنام لسحق المقاومة هناك، ويطيل الفيلم، بداية، في الوقوف على حياة الجنرال مور الشخصية، ويظهره أبًا عطوفًا لأسرة مسالمة، وكيف أنه خرج من أحضان أسرته الدافئة لخوض تلك الحرب تنفيذًا لواجبه الوطني. ورغم أن الفيلم يحاول أن يروّج إلى خلاصة مفادها (نكره الحرب ولكننا نحب المحاربين) كما أشير إلى ذلك، إلا أن النرجسية الأميركية المريضة ظلت غالبة في الفيلم، ومن المشاهد المثيرة للتقزز: الجنرال مور يدعو ربه قبل الذهاب إلى الجبهة "أن يساعده إلى اقتياد عدوه إلى جهنم"، والمقصود بالعدو طبعًا، أولئك الذين يتشبثون بأرضهم ويدافعون عن وطنهم وكرامتهم وعرضهم!!
آلة أميركية نشطة وأفلام يدفع على إنتاجها الملايين لتقديم الجانب الإنساني في شخصية الجندي الأميركي، ذلك الجندي الذي فقد إنسانيته على الجبهة، من خلال خوضه لحروب مجانية، ويفقد كل يوم إنسانيته في موطنه بعد أن طغت المادية على القيم والمشاعر الإنسانية، لدرجة صار يشك فيها بوجود أسر أميركية حقيقية تعيش حياة عادية، في أجواء أسرية طبيعية، طالما أن الأرصفة الأميركية تحتشد بالمزيد من الجنود العائدين من جبهات القتال والصدمة تخيم عليهم من هول ما واجهوا واقترفوا.
ومع ذلك فإن أساليب معالجة هذه الظاهرة المتنامية سينمائيا يشوبها الكثير من عدم الموضوعية وطغيان النرجسية المريضة، إلى حد أن صناع مثل هذه الأفلام لا يختلفون عن الساسة الذين اتخذوا قرارات شن الحروب، طالما أن الفريقين يروجون للحرب دون أن يتخلوا عن نرجسيتهم المريضة، ودون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر الى تداعيات الحرب وإفرازاتها الخطيرة على أرض الواقع، فبدلا من إدانة الحرب باعتبار أنها حرب غير عادلة وغير أخلاقية، ويكفي أنها تقام على أراض ليست أميركية، وضد ناس لا علاقة لهم بأميركا، نجدهم يحاولون الإشادة، بمعنويات الجنود في محاولات غير أخلاقية منهم لتبرير تلك الحروب، وتحويلها من اعتداء على شعوب أخرى، إلى حرب يفرضها الواجب الوطني!
عودة إلى الجانب الإسرائيلي في عدوانه على غزة، لم يترك الساسة في "إسرائيل"، مجالًا ولو محدودًا ليجد الجندي الإسرائيلي العائد من مذبحة غزة، ما يحفظ له ماء الوجه، أمام نفسه، أسرته، محيطه، فقد وضعوه في حلقة من الدم، وزرعوا فيه أن القتل سهل، وأن تفتيت طلقة البندقية لجمجمة طفل فلسطيني هدف مشروع، وأن إعدام الآباء على مرأى من أسرهم أمر تفرح له القلوب، وأن تشتيت الأسر الفلسطينية، وتجويعها، ومعاملتها مثلما تعامل الحيوانات وأقل، واجب يدعو له دينهم، حتى الدين لم يسلم منهم. كل هذا وغيره، يدل على أن السحر سوف ينقلب على الساحر، إذا فكروا، مجرد تفكير، بإعادة صياغة مذبحة غزة على شاشة السينما.
أحمد طمليه 4 يناير 2024
سينما
تفتيت جمجمة طفل فلسطيني هدف مشروع للجندي الإسرائيلي (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لن يمر العدوان الإسرائيلي على غزة، مهما مر عليه الزمن. وكما سوف يسجله التاريخ، سوف تحاول الكاميرا أن توثقه، أو تعيد توثيقه صوتًا وصورة. وسوف تتم إعادة صياغته بأكثر من صورة وصورة. وسوف يحاول كل طرف تجيير الصورة لصالحه. وسوف نشهد كذبًا وتضليلًا من المعتدي حتى يظهر بعكس الصورة التي كان عليها. وسوف يناضل الأحرار من أجل بيان الصورة على حقيقتها. حملات تضليل سوف تتبع مذبحة غزة، يقابلها حملات لبيان الحقيقة، وتفاصيل المذبحة التي تعد عار القرن.
فيديو كليب
"إسرائيل"، من جانبها، استعجلت المضي في هذا المجال، في محاولة تصديق الكذب الذي تجسده، ففي ذروة إيغالها بالدم الفلسطيني، انتشر فيديو كليب يظهر أطفالًا إسرائيليين ينشدون أغنية بالعبرية تحرض على إبادة غزة، وتحاول أن تظهر جنود الاحتلال وكأنهم حماة وطن. وهذه مجرد بداية لحرب من نوع آخر ستلي مذبحة غزة.
لكن السؤال: في سياق السيناريو الهمجي الذي يقدمه الاحتلال في عدوانه على غزة، ماذا يمكن أن يترك للكاميرا حتى تكذب فيه، إذا الفيديو المشار إليه سارعت سلطات الاحتلال إلى سحبه من العرض، فقد أدانهم ترديد أطفال لمفردات عنصرية ينبغي أن تكون بعيدة عن ألسنتهم. هذا ناهيكم عن معطيات الأمر الواقع التي تستأصل أي كذب من جذوره؟
في المقابل، تغص غزة بما يمكن توثيقة، ولا يحتاج التوثيق إلى خيال وابتكار، فالصور الواقعية، وحدها، تعبّر عن هول وفجاعة واقع الحال، وحقيقة المذبحة التي وقعت على مرأى العالم كله، وأهداف هذه المذبحة، التي لا معنى لها إلا التهجير، والتطهير العرقي. وتبرز، بالمقابل، بسالة، ومقاومة الشعب الفلسطيني. صديق قال: ما يحدث في غزة يعجز أمامه الكلام. قلت: لكنه يشعل المخيلة بالكثير... الكثير من الأفكار.
الجنة الآن
ما أن تنتهي الحرب، أية حرب، حتى تشرع وسائل الإعلام إلى إعادة صياغة تلك الحرب، وتحاول كل دولة، عبر الإعلام، تجيير معطيات الحرب لصالحها. وقد بقيت السينما من أهم الوسائل التي يمكن لها أن تعيد صياغة الحدث، وتوظيفه حسب الحاجة السياسية لهذه الدولة أو تلك، ذلك أن السينما هي فن إعادة صياغة الواقع، وبالتالي إذا كان الفيلم السينمائي محكمًا فيمكن أن يكون له مردود معنوي على صعيد الرأي العام لا يضاهى. ويمكن أن يشكل رأيًا عامًا لا يستهان به، ويمكن أن يقلب حقائق، وأن يزور حقائق، وأن يكذب، وأن يجعل الناس، في حالات كثيرة، تصدق كذبه. لكن الأمر لا يخلو من مغالطات وأخطاء تجعل السحر ينقلب على الساحر.
أذكر، في هذا السياق، الفيلم الفلسطيني "الجنة الآن" إنتاج 2005، للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد. فقد بذل القائمون على هذا الفيلم مجهودًا كبيرًا لنجاح الفيلم، رغم تناوله قضية في منتهى الحساسية، ألا وهي قضية العمليات الاستشهادية في "إسرائيل"، إذ تم تقديم تنازل كبير، من قبل القائمين على الفيلم، بمحاولة إدانة هذه العمليات، والدعوة إلى البحث عن سبل مقاومة أخرى، لعل الفيلم يصل إلى العالم، وتراه الناس. ومع ذلك، فقد هوجم الفيلم فلسطينيًا وإسرائيليًا، لأسباب سياسية بحتة، بعيدًا عن تنفيذه كفيلم سينمائي، فقد أخذ عليه فلسطينيًا إنه لم يعط القضية الفلسطينية حقها، فيما هوجم إسرائيليًا لمجرد أنه فيلم فلسطيني. علما أن الفيلم نجح فنيًا، إذ وصل إلى العالمية، ورشح للأوسكار.
تم تقديم تنازل كبير، من قبل القائمين على فيلم "الجنة الآن"، بمحاولة إدانة هذه العمليات، والدعوة إلى البحث عن سبل مقاومة أخرى، لعل الفيلم يصل إلى العالم |
وحين تحين لحظة تنفيذ العملية الاستشهادية، نجد أن الشاب الهادئ هو الذي يقوم بتنفيذ العملية، فيما خالد يعود أدراجه، داعيًا إلى التعقل والبحث عن سبل مقاومة أخرى، لتكشف هذه الخلاصة أن العملية الاستشهادية من نصيب الصامتين، المقهورين، العاجزين عن إبداء رأيهم فيما يجري، مما يجعلهم أميل إلى الانفجار، وربما الانتحار عند أول منعطف مهم في حياتهم.
وقد نجح المخرج بمساعيه، وذلك بإيصال فيلمه إلى العالمية، وترشيحه للأوسكار. وأهمية هذا الترشيح تكمن في أن رسالة الفيلم لم تقتصر على الجانب المشار إليه، بل إنه قدّم صورة واسعة ومهمة للحال الفلسطينية في ظل الاحتلال. غير أن هذا لم يشفع له، إذ وجدنا في الجانب الفلسطيني من ينتقده، ويعتبره مقصّرًا في إعطاء القضية الفلسطينية حقها، وبعدها الحقيقي. ووجدنا في الجانب الإسرائيلي من يهاجمه، ويقيم الحصون أمامه.
ليلة سقوط بغداد
على صعيد آخر، ومن الأخطاء الفادحة في كيفية تناول السينما للحرب، ما يتصل بكيفية تعامل السينما المصرية التجارية مع الحرب على العراق، إذ جاءت الإشارة بفيلمين كوميديين، هما "ليلة سقوط بغداد" و"معلش احنا بنتبهدل". ومن شاهد هذين الفيلمين يتمنى لو أن صانعيه بقوا بعيدًا عن الجرح العراقي، بدل الابتذال والابتزاز.
ما ظهر في الفيلمين يدل على أن الغاية منه هي الضحك: الضحك على حساب جراحنا وكرامتنا. لا أعرف لماذا تم اللجوء إلى الكوميديا، من خلال ممثلين كوميديين، للتعبير عن جرح مسّ كل مواطن عربي شريف. ولا أعرف بماذا أصف من يطلق نكاتًا سمجة في مأتم كبير.
إنقاذ الجندي ريان
السينما الأميركية لها باع طويل في هذا المجال، وقد انشغلت كثيرًا في إنتاج أفلام لا غاية منها سوى تلميع صور جنودها، من دون أن تستند تلك الأفلام إلى منطق. أفلام كثيرة تتناول قصص جنودهم والحروب التي يخوضونها على جبهات القتال المختلفة في شتى أنحاء العالم، وأغلب تلك الأفلام، إن لم يكن جميعها، وعلى الرغم من بشاعة ما تصوره من معارك طاحنة على الجبهات، إلا أنها لا تدين الحرب التي تستحق الإدانة لأكثر من سبب وجيه، أقلها أنها حروب عدوانية على شعوب مسالمة، صاحبة أرض وحق، بل إن مثل هذه الأفلام تصب الزيت على النار من خلال تركيزها على انضباط الجندي الأميركي، ومدى انتمائه، وإبراز الجانب الإنساني في شخصيته، في محاولة للتدليل على أن الحرب التي يخوضها مقدسة، وذات دوافع وطنية، ولها علاقة بالشرف والانتماء والهوية الأميركية.
وعلى الرغم من سقوط مثل هذه الشعارات بمجرد أن تفندها معطيات الأمر الواقع، إلا أن ما يستوقف الانتباه هي الدوافع التي تكمن وراء الغزارة في إنتاج مثل هذه الأفلام رغم كلفتها الإنتاجية الباهظة، وهي دوافع يمكن الاستدلال عليها من خلال النظر إلى ما تعكسه تلك الحروب، التي كان لا يجب خوضها، على معنويات الجنود الأميركيين الذين لا يجنون من وراء تلك الحروب إلا المزيد من العنف والدم والجثث، والأهم من ذلك الاختلال النفسي وعدم القدرة على التأقلم مع الحياة المدنية ثانية.
من شاهد هذين الفيلمين "ليلة سقوط بغداد" و"معلش احنا بنتبهدل" تمنى لو أن صانعيه بقوا بعيدًا عن الجرح العراقي، بدل الابتذال والابتزاز |
يمكننا أن نتخيل معنويات الجندي العائد من حرب لا تعنيه، وقد دفع إليها دفعًا تنفيذًا لقرار سياسي غالبا ما يتضح عدم دقته، ولا يتضح ذلك، عادة، إلا بعد أن تقع الفأس بالرأس، ويكون العيار قد خرج من بيت النار، وحصدت بالتالي أرصفة المدن الأميركية المزيد من الجنود الخائبين، العائدين من جبهات القتال وقد رأوا الموت بأعينهم، ومارسوا البطش والتنكيل بآلاف الأبرياء، من دون أن يجدوا، في لحظة صفاء، سببًا موجبًا لكل ما جرى.
قبل فترة عرضت إحدى الفضائيات العربية فيلمًا أميركيًا يحكي قصة جندي عائد من الجبهة، لكنه يظل مسكونًا بشبح الحرب لدرجة أنه في لحظات كثيرة يعتقد أن ثمة غارة قادمة، أو يتخيل رفاقه وقد تحولوا على مرأى منه إلى أشلاء متناثرة. فلا يتمكن هذا الجندي من مسايرة أفراد أسرته في شؤونهم اليومية، ويبدو غريب الأطوار عاجزًا عن التأقلم مع الحياة المدنية من جديد.
"لم يترك الساسة في "إسرائيل"، مجالًا ولو محدودًا ليجد الجندي الإسرائيلي العائد من مذبحة غزة، ما يحفظ له ماء الوجه، أمام نفسه، أسرته، محيطه، فقد وضعوه في حلقة من الدم، وزرعوا فيه أن القتل سهل، وأن تفتيت طلقة البندقية لجمجمة طفل فلسطيني هدف مشروع" |
قبل ذلك كان الإعلام الأميركي قد (طبّل وزمر) لفيلم (إنقاذ الجندي ريان) للمخرج سبيلبرغ، وبطولة توم هانكس، وقد وصل الترويج الإعلامي له لدرجة دفعه لنيل أكثر من جائزة، مع العلم أن الفيلم يقوم على فكرة ساذجة مفادها أن ثمة شقيقين في الجيش الأميركي موزعين على جبهتين مختلفتين، ويصل خبر إلى القيادة بأن أحد الشقيقين قد قتل، فتقرر القيادة إرسال فريق لإنقاذ الجندي (ريان) وإحضاره من الجبهة تخفيفًا على مصاب والدته، وأثناء قيام الفرقة بمهمتها (الإنسانية) تدخل في معارك تقشعر لها الأبدان، ويقتل عدد من أفراد الفرقة في مشاهد حرب بشعة، كل ذلك لإعادة الجندي ريان لوالدته. وينتهي الفيلم بنهاية نرجسية على الطريقة الأميركية وذلك عندما يرفض الجندي ريان، بعد العثور عليه، أمر العودة ويصر على مواصلة الحرب أسوة بزملائه، علمًا بأن الحرب ليست حربه، وهي اعتداء على شعب لا يشكل وجوده أي خطر عليه.
انشغلت السينما الأميركية كثيرًا في إنتاج أفلام لا غاية منها سوى تلميع صور جنودها، من دون أن تستند تلك الأفلام إلى منطق |
يركز فيلم (كنا جنودًا) على شخصية الجنرال هال مور (ميل جبسون) الذي يكلّف مع مجموعة الذهاب إلى فيتنام لسحق المقاومة هناك، ويطيل الفيلم، بداية، في الوقوف على حياة الجنرال مور الشخصية، ويظهره أبًا عطوفًا لأسرة مسالمة، وكيف أنه خرج من أحضان أسرته الدافئة لخوض تلك الحرب تنفيذًا لواجبه الوطني. ورغم أن الفيلم يحاول أن يروّج إلى خلاصة مفادها (نكره الحرب ولكننا نحب المحاربين) كما أشير إلى ذلك، إلا أن النرجسية الأميركية المريضة ظلت غالبة في الفيلم، ومن المشاهد المثيرة للتقزز: الجنرال مور يدعو ربه قبل الذهاب إلى الجبهة "أن يساعده إلى اقتياد عدوه إلى جهنم"، والمقصود بالعدو طبعًا، أولئك الذين يتشبثون بأرضهم ويدافعون عن وطنهم وكرامتهم وعرضهم!!
آلة أميركية نشطة وأفلام يدفع على إنتاجها الملايين لتقديم الجانب الإنساني في شخصية الجندي الأميركي، ذلك الجندي الذي فقد إنسانيته على الجبهة، من خلال خوضه لحروب مجانية، ويفقد كل يوم إنسانيته في موطنه بعد أن طغت المادية على القيم والمشاعر الإنسانية، لدرجة صار يشك فيها بوجود أسر أميركية حقيقية تعيش حياة عادية، في أجواء أسرية طبيعية، طالما أن الأرصفة الأميركية تحتشد بالمزيد من الجنود العائدين من جبهات القتال والصدمة تخيم عليهم من هول ما واجهوا واقترفوا.
ومع ذلك فإن أساليب معالجة هذه الظاهرة المتنامية سينمائيا يشوبها الكثير من عدم الموضوعية وطغيان النرجسية المريضة، إلى حد أن صناع مثل هذه الأفلام لا يختلفون عن الساسة الذين اتخذوا قرارات شن الحروب، طالما أن الفريقين يروجون للحرب دون أن يتخلوا عن نرجسيتهم المريضة، ودون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر الى تداعيات الحرب وإفرازاتها الخطيرة على أرض الواقع، فبدلا من إدانة الحرب باعتبار أنها حرب غير عادلة وغير أخلاقية، ويكفي أنها تقام على أراض ليست أميركية، وضد ناس لا علاقة لهم بأميركا، نجدهم يحاولون الإشادة، بمعنويات الجنود في محاولات غير أخلاقية منهم لتبرير تلك الحروب، وتحويلها من اعتداء على شعوب أخرى، إلى حرب يفرضها الواجب الوطني!
عودة إلى الجانب الإسرائيلي في عدوانه على غزة، لم يترك الساسة في "إسرائيل"، مجالًا ولو محدودًا ليجد الجندي الإسرائيلي العائد من مذبحة غزة، ما يحفظ له ماء الوجه، أمام نفسه، أسرته، محيطه، فقد وضعوه في حلقة من الدم، وزرعوا فيه أن القتل سهل، وأن تفتيت طلقة البندقية لجمجمة طفل فلسطيني هدف مشروع، وأن إعدام الآباء على مرأى من أسرهم أمر تفرح له القلوب، وأن تشتيت الأسر الفلسطينية، وتجويعها، ومعاملتها مثلما تعامل الحيوانات وأقل، واجب يدعو له دينهم، حتى الدين لم يسلم منهم. كل هذا وغيره، يدل على أن السحر سوف ينقلب على الساحر، إذا فكروا، مجرد تفكير، بإعادة صياغة مذبحة غزة على شاشة السينما.