نظرية التوليد المباشر .. معرفة العالم الخارجي
نظرية التوليد المباشر
أن المناقشة في النظريات السابقة تسوقنا إلى القول ان فكرة الامتداد تتولد مباشرة من الاحساس ، وان الامتداد صفة ملازمة لجميع الاحساسات .
ولهذه النظرية أشكال مختلفة ، يجب المقايسة بينها . وهي قديمة ، حتى لقد قال بها ( بركلي ) و ( موللر ) ( ۱۸۰۱ - ۱۸۵۸ ) و ( هرينغ ( ( Hering ) و ( ستوصف ) وأتبعهم أيضاً في الأيام الأخيرة ) ويليم جيمس ) . فمنهم من يقول إن الامتداد يتولد من احساس واحد ، ومنهم من يقول انه يتولد من احساسين ، ومنهم من يقول إن الامتداد صفة ملازمة لجميع الاحساسات .
ولذلك انقسمت نظريات التوليد المباشر إلى الأقسام التالية :
۱ - النظريات القائلة بتوليد فكرة الامتداد من احساس واحد . وهي على قسمين :
الرأي الأول : يجعل الامتداد متولداً من الاحساس البصرى .
والرأي الثاني : يجعل الامتداد متولداً من الاحساس اللمسي .
٢ - النظريات القائلة بتوليد فكرة الامتداد من احساسين : الاحساس البصري ، والاحساس اللمسي .
٣ - النظريات القائلة باشتراك الاحساسات كلها في توليد فكرة الامتداد ، لأن الامتداد في نظرها صفة ملازمة لجميع الاحساسات .
اولا - القول بنولد فكرة المكان من الاحساس البصري :
لا قيمة للنظريات التي تجعل الامتداد متولداً من الاحساس اللمسي وحده ، اللهم الا اذا أدخلنا في هذه النظريات رأي ( بركلي ) ، ولكننا سنرى عند البحث في نظرية ( بركلي ) أن هذا الفيلسوف لا يعري الاحساس البصري من صفة الامتداد ، بل يقول ان هذا الاحساس لا يطلعنا على المسافة ، ولا على البارز والناتى من الاشكال ، وانه لا صلة للمكان البصري بالمكان اللمسي ، وان المكان الذي تبحث فيه الهندسة هو المكان اللمسي ، فإذا أخرجت نظرية ( بركلي ) من هذه النظريات ، لم يبق فيها ما هو جدير بالذكر ، فلنبحث اذن في النظرية القائلة بتولد فكرة الامتداد من الاحساس البصري .
ان هذه النظرية منسوبة إلى الطبيب الألماني ( ارنست بلاتنر - Ernest Platner ) وقد ذهب ( لا شليه ) أيضاً إلى ما ذهب اليه هذا الطبيب ، ونقل ملاحظاته إلى اللغة الفرنسية ، ودافع عنها دفاعاً قوياً . وتلخص ملاحظات ( بلاتنر ) بأن الا كمه لا يعرف المكان ، وان الزمان ينوب عنده عن المكان ، وان البعد والقرب لا يدلان عنده إلا على الزمان اللازم للانتقال من محل إلى آخر ، وان الاحساسات اللمسية التي تفصلنا عن الشيء البعيد أكثر عدداً من الاحساسات اللمسية التي تفصلنا عن الشيء القريب .
ان الاعتراضات على هذه النظرية كثيرة ، إلا أننا نقتصر على واحد منها ، لأنه القول الفصل في ذلك أن الاكمه يستطيع فهم الهندسة كما يستطيع تعيين مواقع . وهو البلدان على المخطط الجغرافي ، وهو يستطيع أيضاً أن يسير بأمان ، وان يهتدي إلى الاماكن المألوفة ، ولا يتم له ذلك إلا اذا كانت احساساته اللمسية والعضلية قادرة على توليد فكرة المكان في نفسه ، فهو لا يدرك المدة والشدة فحسب ، بل يدرك ابعاد المكان الثلاثة ، ويعرف المحيط والمحاط . ولولا ذلك لما استطاع أن يفهم معنى فوق ، وأسفل ، ويمين ، ويسار ، وخلف ، وقدام ، ولما انتظمت حر كاته واهتدى في سيره .
ثانيا - القول بتولد فكرة المكان من احساسي البصر واللمس :
ان هذه النظرية أكمل من الأولى ، لأنها تقول بتولد فكرة المكان من احساسين لا من احساس واحد ، إلا ان أكثر القائلين بها يجعلون نصيب اللمس من . ذلك ابلغ من نصيب البصر ، فيقولون مثلا : ان حاسة البصر تطلعنا على الألوان الممتدة والأشكال المنبسطة على سطح واحد ، ولكنها لا تطلعنا على الحيز ذي الأبعاد الثلاثة ، ولا على الأشكال البارزة والمسافات . وهم يثبتون زعمهم هذا بالأدلة التالية :
١ - ان الاكمه يقول ، إذا استرجع بصره ، انه يرى الاشياء على سطح مماس للعين ، حق أن أحدهم قال : للدكتور شزلدن ، ( Dr Cheselden ، بعد شفائه : « إن الأشياء تلمس عينيه » .
٢ - إن الطفل يخطىء كثيراً في تقدير المسافات ، فيمد يده للقبض على الأشياء البعيدة .
٣ - ان العين تخطىء في رؤية الأشكال ، فترى الألوان المنبسطة بارزة ، كأنها ذات أبعاد ثلاثة . وهذا دليل على أن المين لا تدرك البعد الثالث مباشرة ، وان الفكر هو الذي يستنبط هذا البعد من رؤية بعض الخطوط والظلال .
٤ - وهذا الدليل الأخير منسوب إلى بركلي ، قال : إن المسافة خط مستقيم عمودي على العين ، وان مرتسم هذا الخط العمودي نقطة ، وهي لا تختلف باختلاف طول الخط أو قصره ، وكما انك لا تستطيع أن تعرف طول العصا بلمس طرفها ، فكذلك لا تستطيع العين أن تدرك المسافة بهذه النقطة وحدها .
المناقشة في هذه الأدلة :
ان قيمة هذه الأدلة مختلفة .
فالدليل الاول : يرجع : إلى تجربة الجراح الانكليزي شزلدن ( ۱۸۳۷ ) الذي قال : « ان الاكمه الذي استرجع بصره لا يستطيع في أول أمره أن يقدر المسافة ، بل يخيل اليه ان الأشياء التي يراها تلمس عينيه ، وهذه الكلمة البسيطة جعلت قسماً كبيراً من علماء النفس يتوهمون أن ادراك المسافة بحاسة البصر أمر مكتسب لا أمر طبيعي . وقد أصاب ( بول جانه ) في قوله بوجوب البحث عن كلمة لمس عند الاكمه ، فربما كان معنى اللمس عنده مساوياً لمعنى الادراك ، لانه تعود أن : ، يدرك العالم الخارجي بطريق اللمس ، فلا عجب إذا استعمل هذه الكلمة بمعنى الادراك ، دع أن كثيراً من التجارب قد كذبت قول « شزلدن » .
ان كثيرين من الكمه لا يضعون أيديهم على أعينهم بعد شفائهم ، بل يمدونها إلى الامام للقبض على الأشياء التي يشاهدونها . فهم اذن يدركون المسافة ، ولكنهم يخطئون كالأطفال في تقديرها .
ان تقدير المسافة يحتاج إلى تجربة تجمع فيها النفس بين الاحساسات البصرية الحاضرة وذكريات الحركات السابقة .
ثم ان الحيوان قادر على ادراك المسافة ، مثال ذلك : ان فرخ الدجاجة عند خروجه من البيضة يهتدي بحاسة البصر إلى الحب . وقد جرب ( كوفيه ) و ( شفرول ) تجربة التفريخ في الظلمة ـ الغاية من الظلام منع حاسة البصر من الاكتساب قبل التجربة - فأحاطا البيضة بثلاثة صفوف من الأوتاد المخمسة الوضع ، وجعلا الحب بعيداً عنها ، فكان الفرخ يهتدي بحاسة البصر إلى الحب بالرغم من الأوتاد . وهذا يدل على أن ادراك المسافة عند الحيوان ليس مكتسباً ، وانما هو طبيعي .
والدليل الثاني : ليس أقوى من الأول . لأنه لا يثبت لنا إلا شيئاً واحداً ، وهو أن الطفل يدرك المسافة ، ولكنه يخطى في تقديرها ، فيمديده للقبض على الأشياء البعيدة كأنها قريبة منه .
ان القدرة على تقدير المسافة تحتاج إلى تربية وتمرين : فالأذن تدرك الصوت مباشرة ، ولكنها لا تستطيع أن تقدر الفواصل الموسيقية الصغيرة إلا بعد التربية ورسوخ العادة ، نعم ، ان الطفل يمد يده إلى الامام للقبض على القمر ، ولكنه لو لم يدرك المسافة لما مــد يده إلى الامام ، ولوضعها على عينيه وأنفه .
وخير ما نصف به حال الطفل قولنا انه لا يستطيع تقدير المسافة إلا إذا جمع بين احساساته البصرية ، وحركاته المطابقة لهذه الاحساسات .
الدليل الثالث : لا يثبت شيئاً . إذا كانت بعض الخطوط والظلال توهم أن هناك بعداً ثالثاً ، فهل يستدل من ذلك على أن هذا البعد لا يدرك إلا بهذه الخطوط ؟ ان الخطأ ناشيء عن تربية الحس ، ونحن لا نتوهم الألوان المبسوطة بارزة إلا لأننا نضم إلى هذه الألوان بعداً ثالثاً نتوهمه بذاكرتنا ونتصوره بخيالنا .
ان خطأ الحواس ناشيء عن التأويل ، ولولا إدراكنا الأولى للمسافة لما خدعنا بهذه الخطوط وهذه الظلال ، ولما خيل الينا أن الاشكال المسطحة أشكال مجسمة .
اما الدليل الرابع : فهو دليل ( بركلي ) ، وهو ضعيف أيضاً ، لأنه لا ينظر إلى كيفية قيام العين بفعل الرؤية ، فلو كان الشيء الخارجي نقطة واحدة ، وكان لا يرى إلا بعين واحدة ثابتة ، لكان دليل ) بركلي ( قوياً . الا أننا ندرك من الشيء الخارجي سطحاً لا نقطة ، ونحتاج في ادراكه إلى تغيير تحدب الجسم البلوري . ويسمى هذا الفعل بالتكيف أو المطابقة ( Accommodation ) .
وهي : تلاقي ان هذه الحركات لا تطلعنا إلا على المسافات الصغيرة ، لأن التكيف واحد بالنسبة إلى أربعة أمتار وما فوق . غير أن للعين واسطة أخرى لإدراك المسافة ، . شعاعي البصر ؛ فإن زاوية التلاقي تختلف بحسب بعد الأجسام ، وكذلك يختلف الفرق بين الشبحين المرتسمين على الطبقتين الشبكيتين ، وهذا كله يعين حاسة البصر على ادراك المسافة .
والخلاصة أن حاسة البصر تدرك حيزاً ذا أبعاد ثلاثة كحاسة اللمس ، والمكان الذي تدركه حاسة البصر ، ليس كما قال ( بركلي ) مبايناً تماماً للمكان اللمسي ، وانما هو متصل به ، لأننا نوفق بالتجربة بين اطلاعات البصر واطلاعات اللمس ، ولأن الأكمه قادر على تعلم الهندسة وفهمها . وهذا الاتصال لا يجعل المكان اللمسي مساوياً للمكان البصري ، لأن العين تدرك حيزاً أعظم من المكان الذي يدركه اللمس ، ويختلف حجم الجسم بحسب بعده عن العين ، أما بالنسبة الى اللمس فان الحجم لا يتغير .
ثالثا - الامتداد يتولد من جميع الاحساسات
هذه النظرية أكمل من النظريات السابقة ، لأنها تجعل الامتداد صفة ملازمة لجميع الاحساسات . وفي الحق أن الجميع حواسنا أثراً في توليد فكرة المكان . أنظر إلى حاسة التوازن : انها تطلعنا على تغير أوضاع الرأس والجسد . كما أن حاسة الحركة ، تطلعنا على حركات اعضائنا وأوضاعها . وكما أن حاسة الشم ، تهدينا إلى مواضع الأشياء ، فإن حاسة السمع تطلعنا على أصوات مختلفة الحجم . ان صوت الناقوس مثلا أعظم حجماً من صوت القيثارة .
قال ويليم جيمس » : « ان الحجمية هي كالشدة صفة مشتركة بين جميع الإحساسات ولشد ما نستحسن أن نقول : ان دوي الرعد أعظم حجماً من صرير القلم على اللوح الحجري ، إذا دخلت حماماً حاراً شعرت بإحساس أغلظ من احساسك بخمش الدبوس . إن الألم العصبي الخفيف الذي تجده في وجهك . دقيقاً كخيط المنكبوت ، لأقل عمقاً من ألم الدمل الثقيل ، أو ألم المغص الكثيف ، أو ألم الأقطان . ان النجمة المنفردة تظهر لك أقل سعة من سماء الظهر . وللاحساسات العضلية حجم كاحساسات القنوات نصف الدائرية و احساسات الشم والذوق . ( 1 )
وقصارى القول : ان جميع الاحساسات تشترك في توليد تصور الامتداد المشخص المفعم بالصفات الحسية ، وان النفس تجرد من هذا المكان المشخص معنى المكان الهندسي المجرد الذي ذكرنا صفاته عند البحث في نظرية ( كانت ) .
نظرية التوليد المباشر
أن المناقشة في النظريات السابقة تسوقنا إلى القول ان فكرة الامتداد تتولد مباشرة من الاحساس ، وان الامتداد صفة ملازمة لجميع الاحساسات .
ولهذه النظرية أشكال مختلفة ، يجب المقايسة بينها . وهي قديمة ، حتى لقد قال بها ( بركلي ) و ( موللر ) ( ۱۸۰۱ - ۱۸۵۸ ) و ( هرينغ ( ( Hering ) و ( ستوصف ) وأتبعهم أيضاً في الأيام الأخيرة ) ويليم جيمس ) . فمنهم من يقول إن الامتداد يتولد من احساس واحد ، ومنهم من يقول انه يتولد من احساسين ، ومنهم من يقول إن الامتداد صفة ملازمة لجميع الاحساسات .
ولذلك انقسمت نظريات التوليد المباشر إلى الأقسام التالية :
۱ - النظريات القائلة بتوليد فكرة الامتداد من احساس واحد . وهي على قسمين :
الرأي الأول : يجعل الامتداد متولداً من الاحساس البصرى .
والرأي الثاني : يجعل الامتداد متولداً من الاحساس اللمسي .
٢ - النظريات القائلة بتوليد فكرة الامتداد من احساسين : الاحساس البصري ، والاحساس اللمسي .
٣ - النظريات القائلة باشتراك الاحساسات كلها في توليد فكرة الامتداد ، لأن الامتداد في نظرها صفة ملازمة لجميع الاحساسات .
اولا - القول بنولد فكرة المكان من الاحساس البصري :
لا قيمة للنظريات التي تجعل الامتداد متولداً من الاحساس اللمسي وحده ، اللهم الا اذا أدخلنا في هذه النظريات رأي ( بركلي ) ، ولكننا سنرى عند البحث في نظرية ( بركلي ) أن هذا الفيلسوف لا يعري الاحساس البصري من صفة الامتداد ، بل يقول ان هذا الاحساس لا يطلعنا على المسافة ، ولا على البارز والناتى من الاشكال ، وانه لا صلة للمكان البصري بالمكان اللمسي ، وان المكان الذي تبحث فيه الهندسة هو المكان اللمسي ، فإذا أخرجت نظرية ( بركلي ) من هذه النظريات ، لم يبق فيها ما هو جدير بالذكر ، فلنبحث اذن في النظرية القائلة بتولد فكرة الامتداد من الاحساس البصري .
ان هذه النظرية منسوبة إلى الطبيب الألماني ( ارنست بلاتنر - Ernest Platner ) وقد ذهب ( لا شليه ) أيضاً إلى ما ذهب اليه هذا الطبيب ، ونقل ملاحظاته إلى اللغة الفرنسية ، ودافع عنها دفاعاً قوياً . وتلخص ملاحظات ( بلاتنر ) بأن الا كمه لا يعرف المكان ، وان الزمان ينوب عنده عن المكان ، وان البعد والقرب لا يدلان عنده إلا على الزمان اللازم للانتقال من محل إلى آخر ، وان الاحساسات اللمسية التي تفصلنا عن الشيء البعيد أكثر عدداً من الاحساسات اللمسية التي تفصلنا عن الشيء القريب .
ان الاعتراضات على هذه النظرية كثيرة ، إلا أننا نقتصر على واحد منها ، لأنه القول الفصل في ذلك أن الاكمه يستطيع فهم الهندسة كما يستطيع تعيين مواقع . وهو البلدان على المخطط الجغرافي ، وهو يستطيع أيضاً أن يسير بأمان ، وان يهتدي إلى الاماكن المألوفة ، ولا يتم له ذلك إلا اذا كانت احساساته اللمسية والعضلية قادرة على توليد فكرة المكان في نفسه ، فهو لا يدرك المدة والشدة فحسب ، بل يدرك ابعاد المكان الثلاثة ، ويعرف المحيط والمحاط . ولولا ذلك لما استطاع أن يفهم معنى فوق ، وأسفل ، ويمين ، ويسار ، وخلف ، وقدام ، ولما انتظمت حر كاته واهتدى في سيره .
ثانيا - القول بتولد فكرة المكان من احساسي البصر واللمس :
ان هذه النظرية أكمل من الأولى ، لأنها تقول بتولد فكرة المكان من احساسين لا من احساس واحد ، إلا ان أكثر القائلين بها يجعلون نصيب اللمس من . ذلك ابلغ من نصيب البصر ، فيقولون مثلا : ان حاسة البصر تطلعنا على الألوان الممتدة والأشكال المنبسطة على سطح واحد ، ولكنها لا تطلعنا على الحيز ذي الأبعاد الثلاثة ، ولا على الأشكال البارزة والمسافات . وهم يثبتون زعمهم هذا بالأدلة التالية :
١ - ان الاكمه يقول ، إذا استرجع بصره ، انه يرى الاشياء على سطح مماس للعين ، حق أن أحدهم قال : للدكتور شزلدن ، ( Dr Cheselden ، بعد شفائه : « إن الأشياء تلمس عينيه » .
٢ - إن الطفل يخطىء كثيراً في تقدير المسافات ، فيمد يده للقبض على الأشياء البعيدة .
٣ - ان العين تخطىء في رؤية الأشكال ، فترى الألوان المنبسطة بارزة ، كأنها ذات أبعاد ثلاثة . وهذا دليل على أن المين لا تدرك البعد الثالث مباشرة ، وان الفكر هو الذي يستنبط هذا البعد من رؤية بعض الخطوط والظلال .
٤ - وهذا الدليل الأخير منسوب إلى بركلي ، قال : إن المسافة خط مستقيم عمودي على العين ، وان مرتسم هذا الخط العمودي نقطة ، وهي لا تختلف باختلاف طول الخط أو قصره ، وكما انك لا تستطيع أن تعرف طول العصا بلمس طرفها ، فكذلك لا تستطيع العين أن تدرك المسافة بهذه النقطة وحدها .
المناقشة في هذه الأدلة :
ان قيمة هذه الأدلة مختلفة .
فالدليل الاول : يرجع : إلى تجربة الجراح الانكليزي شزلدن ( ۱۸۳۷ ) الذي قال : « ان الاكمه الذي استرجع بصره لا يستطيع في أول أمره أن يقدر المسافة ، بل يخيل اليه ان الأشياء التي يراها تلمس عينيه ، وهذه الكلمة البسيطة جعلت قسماً كبيراً من علماء النفس يتوهمون أن ادراك المسافة بحاسة البصر أمر مكتسب لا أمر طبيعي . وقد أصاب ( بول جانه ) في قوله بوجوب البحث عن كلمة لمس عند الاكمه ، فربما كان معنى اللمس عنده مساوياً لمعنى الادراك ، لانه تعود أن : ، يدرك العالم الخارجي بطريق اللمس ، فلا عجب إذا استعمل هذه الكلمة بمعنى الادراك ، دع أن كثيراً من التجارب قد كذبت قول « شزلدن » .
ان كثيرين من الكمه لا يضعون أيديهم على أعينهم بعد شفائهم ، بل يمدونها إلى الامام للقبض على الأشياء التي يشاهدونها . فهم اذن يدركون المسافة ، ولكنهم يخطئون كالأطفال في تقديرها .
ان تقدير المسافة يحتاج إلى تجربة تجمع فيها النفس بين الاحساسات البصرية الحاضرة وذكريات الحركات السابقة .
ثم ان الحيوان قادر على ادراك المسافة ، مثال ذلك : ان فرخ الدجاجة عند خروجه من البيضة يهتدي بحاسة البصر إلى الحب . وقد جرب ( كوفيه ) و ( شفرول ) تجربة التفريخ في الظلمة ـ الغاية من الظلام منع حاسة البصر من الاكتساب قبل التجربة - فأحاطا البيضة بثلاثة صفوف من الأوتاد المخمسة الوضع ، وجعلا الحب بعيداً عنها ، فكان الفرخ يهتدي بحاسة البصر إلى الحب بالرغم من الأوتاد . وهذا يدل على أن ادراك المسافة عند الحيوان ليس مكتسباً ، وانما هو طبيعي .
والدليل الثاني : ليس أقوى من الأول . لأنه لا يثبت لنا إلا شيئاً واحداً ، وهو أن الطفل يدرك المسافة ، ولكنه يخطى في تقديرها ، فيمديده للقبض على الأشياء البعيدة كأنها قريبة منه .
ان القدرة على تقدير المسافة تحتاج إلى تربية وتمرين : فالأذن تدرك الصوت مباشرة ، ولكنها لا تستطيع أن تقدر الفواصل الموسيقية الصغيرة إلا بعد التربية ورسوخ العادة ، نعم ، ان الطفل يمد يده إلى الامام للقبض على القمر ، ولكنه لو لم يدرك المسافة لما مــد يده إلى الامام ، ولوضعها على عينيه وأنفه .
وخير ما نصف به حال الطفل قولنا انه لا يستطيع تقدير المسافة إلا إذا جمع بين احساساته البصرية ، وحركاته المطابقة لهذه الاحساسات .
الدليل الثالث : لا يثبت شيئاً . إذا كانت بعض الخطوط والظلال توهم أن هناك بعداً ثالثاً ، فهل يستدل من ذلك على أن هذا البعد لا يدرك إلا بهذه الخطوط ؟ ان الخطأ ناشيء عن تربية الحس ، ونحن لا نتوهم الألوان المبسوطة بارزة إلا لأننا نضم إلى هذه الألوان بعداً ثالثاً نتوهمه بذاكرتنا ونتصوره بخيالنا .
ان خطأ الحواس ناشيء عن التأويل ، ولولا إدراكنا الأولى للمسافة لما خدعنا بهذه الخطوط وهذه الظلال ، ولما خيل الينا أن الاشكال المسطحة أشكال مجسمة .
اما الدليل الرابع : فهو دليل ( بركلي ) ، وهو ضعيف أيضاً ، لأنه لا ينظر إلى كيفية قيام العين بفعل الرؤية ، فلو كان الشيء الخارجي نقطة واحدة ، وكان لا يرى إلا بعين واحدة ثابتة ، لكان دليل ) بركلي ( قوياً . الا أننا ندرك من الشيء الخارجي سطحاً لا نقطة ، ونحتاج في ادراكه إلى تغيير تحدب الجسم البلوري . ويسمى هذا الفعل بالتكيف أو المطابقة ( Accommodation ) .
وهي : تلاقي ان هذه الحركات لا تطلعنا إلا على المسافات الصغيرة ، لأن التكيف واحد بالنسبة إلى أربعة أمتار وما فوق . غير أن للعين واسطة أخرى لإدراك المسافة ، . شعاعي البصر ؛ فإن زاوية التلاقي تختلف بحسب بعد الأجسام ، وكذلك يختلف الفرق بين الشبحين المرتسمين على الطبقتين الشبكيتين ، وهذا كله يعين حاسة البصر على ادراك المسافة .
والخلاصة أن حاسة البصر تدرك حيزاً ذا أبعاد ثلاثة كحاسة اللمس ، والمكان الذي تدركه حاسة البصر ، ليس كما قال ( بركلي ) مبايناً تماماً للمكان اللمسي ، وانما هو متصل به ، لأننا نوفق بالتجربة بين اطلاعات البصر واطلاعات اللمس ، ولأن الأكمه قادر على تعلم الهندسة وفهمها . وهذا الاتصال لا يجعل المكان اللمسي مساوياً للمكان البصري ، لأن العين تدرك حيزاً أعظم من المكان الذي يدركه اللمس ، ويختلف حجم الجسم بحسب بعده عن العين ، أما بالنسبة الى اللمس فان الحجم لا يتغير .
ثالثا - الامتداد يتولد من جميع الاحساسات
هذه النظرية أكمل من النظريات السابقة ، لأنها تجعل الامتداد صفة ملازمة لجميع الاحساسات . وفي الحق أن الجميع حواسنا أثراً في توليد فكرة المكان . أنظر إلى حاسة التوازن : انها تطلعنا على تغير أوضاع الرأس والجسد . كما أن حاسة الحركة ، تطلعنا على حركات اعضائنا وأوضاعها . وكما أن حاسة الشم ، تهدينا إلى مواضع الأشياء ، فإن حاسة السمع تطلعنا على أصوات مختلفة الحجم . ان صوت الناقوس مثلا أعظم حجماً من صوت القيثارة .
قال ويليم جيمس » : « ان الحجمية هي كالشدة صفة مشتركة بين جميع الإحساسات ولشد ما نستحسن أن نقول : ان دوي الرعد أعظم حجماً من صرير القلم على اللوح الحجري ، إذا دخلت حماماً حاراً شعرت بإحساس أغلظ من احساسك بخمش الدبوس . إن الألم العصبي الخفيف الذي تجده في وجهك . دقيقاً كخيط المنكبوت ، لأقل عمقاً من ألم الدمل الثقيل ، أو ألم المغص الكثيف ، أو ألم الأقطان . ان النجمة المنفردة تظهر لك أقل سعة من سماء الظهر . وللاحساسات العضلية حجم كاحساسات القنوات نصف الدائرية و احساسات الشم والذوق . ( 1 )
وقصارى القول : ان جميع الاحساسات تشترك في توليد تصور الامتداد المشخص المفعم بالصفات الحسية ، وان النفس تجرد من هذا المكان المشخص معنى المكان الهندسي المجرد الذي ذكرنا صفاته عند البحث في نظرية ( كانت ) .
تعليق