رحلة مخرج - بول شريدر
عُرف بول شريدر بأفلام تطرح قصص حياة شخصيات غامضة تتضارب في داخلها القيم الأخلاقية والإنسانية وهو ما يمنح أعماله عمقا نفسيا متميزا. فأبطاله ذكور مرهقون في منتصف العمر يعانون من صراعات داخلية ولديهم فكرة ضبابية عن مستقبلهم ويجدون صعوبة في الجمع بين ماضيهم وحاضرهم وهم يمثلون تجسيدا واقعيا وحقيقيا لعبارة الكاتب الأميركي الجنوبي توماس وولف "رجل الله الوحيد". ومعنى هذه العبارة هي أن هناك رجالا يشعرون أن أمامهم هدفا يرغبون في تحقيقه ولكن العالم المحيط بهم مليئ بالمساوئ والأفعال القذرة التي تعرقل مسيراتهم. هؤلاء الرجال مهزومون أيضا وتناقض أعمالهم أفكارهم ويبذلون جهدا لاكتشاف ذواتهم الحقيقية ويضطرون إلى العيش في ما أشبه بالعزلة ثم يتحولون إلى معادين للمجتمع الذي يعيشون فيه. كما إن لكل واحد منهم أيضا ماضيا يود لو أنه لا يتذكره، وكان قد عاشه عندما كانت الأفكار مختلفة والأعذار متوفرة.
***
حياته
وُلد بول شريدر في 22 تموز/يوليو في عام 1946 في ولاية مشيغان ونشأ في أسرة كالفينية صارمة لم تسمح له بمشاهدة أي فيلم لحين بلوغه السابعة عشرة من العمر وهي تجربة أثرت في عمله لاحقا. ولكنه سرعان ما عوض تلك السنوات عندما درس السينما وحصل على شهادة الماجستير في دراسات الأفلام من مدرسة السينما في جامعة كاليفورنيا.
بدأ شريدر حياته المهنية كناقد سينمائي ونشر كتابا نقديا في عام 1972 ثم انتقل إلى كتابة السيناريو اعتبارا من عام 1974 فلفت بمقالاته النقدية والسيناريوهات التي كتبها انتباه المخرج المعروف مارتن سكورسيزي الذي تعاون معه في فيلم "سائق التكسي" إنتاج عام 1976 وكانت كتابة سيناريو هذا الفيلم أول نجاح حقيقي لشريدر وهو الذي عُرف على مدى تاريخه المهني لاحقا بأنه أفضل كاتب سيناريو لم يتم ترشيحه لجائزة أوسكار، حتى عام 2017 على أية حال عندما حصل على جائزة أفضل سيناريو أصلي عن فيلمه "الإصلاح الأول - First Reformed".
بعد تعاونه المثمر مع سكورسيزي تحول بول شريدر إلى الإخراج مع فيلمه "Blue Collar - الياقة الزرقاء" وهي عبارة تستخدم للإشارة إلى العمال. وهذا الفيلم دراما عن العاملين في مجال صناعة السيارات من بطولة ريتشارد بريور وهارفي كيتل وهو من إنتاج 1978.
ومنذ ذلك التاريخ واصل شريدر في مجال الإخراج إلى جانب كتابة سيناريوهات أفلامه، وركز على قضايا مثل استكشاف الذات ومحاسبتها على الذنوب وأوضاع العالم والفكر والوجودي. من أهم أعماله "American Gigolo" في عام 1980 و "ميشيما: حياة في أربعة فصول" في عام 1985 ثم "Light Sleeper" في عام 1992.
***
أسلوبه
طالما ارتبط اسم شريدر بأسماء عدد من كبار الأشقياء في عالم السينما من أمثال ستيفن سبيلبرج، ومارتن سكورسيزي، وفرانسيس فورد كوبولا، وجورج لوكاس، وبريان دي بالما، وما إلى ذلك، ولكنه يختلف أيضا عن كل هؤلاء. إذ عُرف بسيناريوهاته المكثفة والمعقدة على الصعيد النفسي وبقدرته الخاصة على استكشاف الجوانب المظلمة في النفس البشرية وقد اعتاد تناول ثيمات مثل الوجودية والشعور بالذنب. وغالبا ما تتضمن أفلام شريدر قضايا دينية وروحية أيضا وهو انعكاس لسنوات حياته الأولى ونشوئه في كنف أسرة دينية متزمتة. يظهر هذا التوجه واضحا في فيلمه "الإصلاح الأول" بشكل خاص حيث يعالج قضايا الإيمان ومشاكل البيئة في سياق يتفاقم بسبب اضطرابات نفسية لدى البطل.
أما على صعيد الإخراج فنرى نوعا من التكامل بين اسلوبه في كتابة السيناريو وفي الإخراج حيث يجعل المشاهد يتابع عن كثب وبأدق التفاصيل أفكار الشخصية الرئيسية في الفيلم ونظرتها إلى ما يحيط بها لتعبر عما تفكر فيه. تمثل شخصياته انعكاسا لظاهرة "الاغتراب الحضري" وهي شخصيات تعيش داخل مجتمع ضخم وكامل ولكنها منفصلة عنه تماما وتعاني من حالة صراع لا ينتهي.
ما يميز شريدر أن له معرفة عميقة واهتماما كبيرا بنظريات السينما والأفلام وهو ما يظهر بشكل واضح في أعماله فقد بدأ حياته ناقدا سينمائيا يتمتع بنظرة ثاقبة ورأي حاسم إزاء كل ما يشاهده وقد طبق المفاهيم النظرية على صناعة أفلامه. ولذلك نلمس في أفلامه مزيجا فريدا من العمق النفسي ومن التعقيد الأخلاقي ثم الثراء الموضوعي وهو ما جعل منه كاتبا ومخرجا متميزا جدا في عالم السينما.
***
التعاون مع مارتن سكورسيزي
يمثل هذا التعاون أبرز الجوانب في مسيرة شريدر المهنية إذ عمل الإثنان على أفلام مهمة لا تُنسى تركت أثرا كبيرا في تاريخ السينما بدأت بسائق التكسي في 1976. ومن افلامهما المشتركة الثور الهائج إنتاج 1980 والإغراء الأخير للمسيح من إنتاج 1988 وهو فيلم رفضته الكنيسة تماما.
ولأن شريدر متبحر في مجال علوم السينما ولأنه كان ناقدا في الأساس فقد اعتاد الإشارة إلى بعض نقاط الضعف في الأفلام التي يخرجها آخرون.
وفي هذا الإطار، بعد عرض فيلم "قتلة زهرة القمر - Killers of the Flour Moon" انتقد شريدر اختيار ليوناردو دي كابريو لدور البطولة الرئيسية في الفيلم وقال إنه "كان يفضل أن يؤدي دور الشرطي بدلا من دور الأبله" وأضاف "قضاء ثلاث ساعات ونصف الساعة بصحبة أحمق وقت طويل".
وفي الواقع كان المخرج مارتن سكورسيزي قد اختار دي كابريو في البداية لأداء دور العميل من مكتب التحقيقات الفيدرالي توم وايت الذي أداه جيسي بليمونز في النهاية.
****
ثلاثية "الرجل في الغرفة"
في هذا الثلاثية التي يُشار إليها عادة بهذا الاسم نكتشف ثلاث شخصيات لا يجمع بينها غير إحساسها بالضياع ووقوفها عند مفترق طرق بين حياة ماضية وأخرى حاضرة وثالثة مجهولة. الثلاثة يجلسون إلى طاولاتهم ويكتبون يوميات يعبرون فيها عما في نفوسهم.
هؤلاء منعزلون ومرهقون ويعانون من أزمة أو أزمات وهم وحيدون ويسعون إلى الخلاص بوسائل مختلفة.
تدور أحداث هذه الأفلام الثلاثة في أماكن محصورة وضيقة مثل بلدة صغيرة أو كازينو أو حديقة وهو ما استغله المخرج لعرض صراعاتهم الداخلية الخفية.
عند النظر إلى هذه الأفلام من الخارج لا يجد المرء أي علاقة بينها غير أن شريدر نفسه هو من اعلن أنها تشكل ثلاثية ولو من بعيد.
1- الإصلاح الأول - First Reformed
عُرض هذا الفيلم لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي في 2017 وقد استقبله النقاد بترحاب كبير وأثنوا على أداء بطله الرئيسي إيثان هوك واعتبر واحدا من أفضل الأفلام في عام 2018 وقد حصل شريدر بفضله على جائزة اختيار النقاد وجائزة أوسكار لأفضل سيناريو أصلي كما ترشح لجائزتي أفضل فيلم وأفضل مخرج.
يروي الفيلم قصة القس إرنست تولر راعي كنيسة صغيرة في شمال ولاية نيويورك ويتطرق إلى موضوعات مهمة مثل الإيمان والمخاطر التي تتعرض لها البيئة واليأس من الوجود.
يتفق النقاد على أن إيثان هوك قدم أداءً متميزا بدور تولر إذ نجح في التعبير عن صراعاته الداخلية والأزمة الروحية والإنسانية داخله بدقة كبيرة ونجح مدير التصوير ألكسندر دينان في سرد القصة من خلال الصورة وزوايا الالتقاط وفي تجسيد النَفَس الدرامي للقصة والطابع التأملي بشكل عام.
يرى نقاد أن إحدى نقاط القوة في هذا الفيلم هي تعرضه لقضايا معقدة ومثيرة للجدل مثل العلاقة بين البيئة وجشع المؤسسات الكبرى والحس الإنساني. ويُذكر هنا أن نهاية الفيلم تترك الباب مفتوحا أمام تفسيرات متعددة وتطرح أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها.
فيلم "الإصلاح الأول" ليس للجميع لأن موضوعه فكري ونفسي يثير الحاجة إلى التفكير والتعمق في الأمور.
2- فيلم "عداد أوراق اللعب - The Card Counter
نتابع هنا قصة وليام تيل وهو محقق عسكري سابق تحول إلى مقامر محترف. وتكمن مشكلته في إحساسه بأن ماضيه يطارده فيما يسعى هو للخلاص منه وتجاوزه. يتضمن الفيلم حبكات متعددة الطبقات فيها التشويق والفكرة وإحساس عميق بالذنب.
صدر الفيلم في 2021 وأدى دور البطولة فيه أوسكار اسحق وهو يسلط الضوء على شخصيات معقدة ويكشف عن تفاعلات تقود إلى أفكار اعتاد شريدر طرحها والتعامل معها مثل الشعور بالذنب وغموض المستقبل ولا جدوى الحاضر. ويدعو الفيلم إلى التأمل خاصة مع تصوير ألكسندر دينان الذي نجح هنا أيضا في التعبير بالصورة وبألوانها وبالإنارة، عن الفكرة والتفاعلات الداخلية من خلال النظر إليها من زوايا مختلفة.
3- البستاني Master Gardener
من إنتاج 2022 وهو يروي قصة البستاني نارفل المسؤول عن العناية بحديقة غناء تعود ملكيتها لامرأة ثرية. أدى جويل آدغرتن دور نارفل وهو شخص قليل الكلام يشرف على عدد من العاملين في مجال العناية بالحدائق وهو عارف بتخصصه حيث يعلمهم تاريخ البستنة وعلومها.
في هذا الفيلم قضايا تتعلق بالعنصرية وبالعنف المرتبط بها وبتفوق الجنس الأبيض ولكن فيها أيضا عزوفا عن الماضي وانقطاعا عنه ومحاولة للتخلص منه بشكل أو بآخر. وهو ما يحرص المخرج بول شريدر على طرحه بكل وضوح في أفلامه.
لم يستقبل جميع النقاد هذا الفيلم بترحاب كبير ورأى عدد منهم أنه أضعف من سابقَيه فيما وصفه آخرون بأنه رائع. ومع ذلك يتفق الجميع على أن الصورة نجحت مرة أخرى في سرد القصة كما في الفيلمين الأولين.
تجدون رابطي "الإصلاح الأول" و "البستاني" في التعليقين الأول والثاني.
عُرف بول شريدر بأفلام تطرح قصص حياة شخصيات غامضة تتضارب في داخلها القيم الأخلاقية والإنسانية وهو ما يمنح أعماله عمقا نفسيا متميزا. فأبطاله ذكور مرهقون في منتصف العمر يعانون من صراعات داخلية ولديهم فكرة ضبابية عن مستقبلهم ويجدون صعوبة في الجمع بين ماضيهم وحاضرهم وهم يمثلون تجسيدا واقعيا وحقيقيا لعبارة الكاتب الأميركي الجنوبي توماس وولف "رجل الله الوحيد". ومعنى هذه العبارة هي أن هناك رجالا يشعرون أن أمامهم هدفا يرغبون في تحقيقه ولكن العالم المحيط بهم مليئ بالمساوئ والأفعال القذرة التي تعرقل مسيراتهم. هؤلاء الرجال مهزومون أيضا وتناقض أعمالهم أفكارهم ويبذلون جهدا لاكتشاف ذواتهم الحقيقية ويضطرون إلى العيش في ما أشبه بالعزلة ثم يتحولون إلى معادين للمجتمع الذي يعيشون فيه. كما إن لكل واحد منهم أيضا ماضيا يود لو أنه لا يتذكره، وكان قد عاشه عندما كانت الأفكار مختلفة والأعذار متوفرة.
***
حياته
وُلد بول شريدر في 22 تموز/يوليو في عام 1946 في ولاية مشيغان ونشأ في أسرة كالفينية صارمة لم تسمح له بمشاهدة أي فيلم لحين بلوغه السابعة عشرة من العمر وهي تجربة أثرت في عمله لاحقا. ولكنه سرعان ما عوض تلك السنوات عندما درس السينما وحصل على شهادة الماجستير في دراسات الأفلام من مدرسة السينما في جامعة كاليفورنيا.
بدأ شريدر حياته المهنية كناقد سينمائي ونشر كتابا نقديا في عام 1972 ثم انتقل إلى كتابة السيناريو اعتبارا من عام 1974 فلفت بمقالاته النقدية والسيناريوهات التي كتبها انتباه المخرج المعروف مارتن سكورسيزي الذي تعاون معه في فيلم "سائق التكسي" إنتاج عام 1976 وكانت كتابة سيناريو هذا الفيلم أول نجاح حقيقي لشريدر وهو الذي عُرف على مدى تاريخه المهني لاحقا بأنه أفضل كاتب سيناريو لم يتم ترشيحه لجائزة أوسكار، حتى عام 2017 على أية حال عندما حصل على جائزة أفضل سيناريو أصلي عن فيلمه "الإصلاح الأول - First Reformed".
بعد تعاونه المثمر مع سكورسيزي تحول بول شريدر إلى الإخراج مع فيلمه "Blue Collar - الياقة الزرقاء" وهي عبارة تستخدم للإشارة إلى العمال. وهذا الفيلم دراما عن العاملين في مجال صناعة السيارات من بطولة ريتشارد بريور وهارفي كيتل وهو من إنتاج 1978.
ومنذ ذلك التاريخ واصل شريدر في مجال الإخراج إلى جانب كتابة سيناريوهات أفلامه، وركز على قضايا مثل استكشاف الذات ومحاسبتها على الذنوب وأوضاع العالم والفكر والوجودي. من أهم أعماله "American Gigolo" في عام 1980 و "ميشيما: حياة في أربعة فصول" في عام 1985 ثم "Light Sleeper" في عام 1992.
***
أسلوبه
طالما ارتبط اسم شريدر بأسماء عدد من كبار الأشقياء في عالم السينما من أمثال ستيفن سبيلبرج، ومارتن سكورسيزي، وفرانسيس فورد كوبولا، وجورج لوكاس، وبريان دي بالما، وما إلى ذلك، ولكنه يختلف أيضا عن كل هؤلاء. إذ عُرف بسيناريوهاته المكثفة والمعقدة على الصعيد النفسي وبقدرته الخاصة على استكشاف الجوانب المظلمة في النفس البشرية وقد اعتاد تناول ثيمات مثل الوجودية والشعور بالذنب. وغالبا ما تتضمن أفلام شريدر قضايا دينية وروحية أيضا وهو انعكاس لسنوات حياته الأولى ونشوئه في كنف أسرة دينية متزمتة. يظهر هذا التوجه واضحا في فيلمه "الإصلاح الأول" بشكل خاص حيث يعالج قضايا الإيمان ومشاكل البيئة في سياق يتفاقم بسبب اضطرابات نفسية لدى البطل.
أما على صعيد الإخراج فنرى نوعا من التكامل بين اسلوبه في كتابة السيناريو وفي الإخراج حيث يجعل المشاهد يتابع عن كثب وبأدق التفاصيل أفكار الشخصية الرئيسية في الفيلم ونظرتها إلى ما يحيط بها لتعبر عما تفكر فيه. تمثل شخصياته انعكاسا لظاهرة "الاغتراب الحضري" وهي شخصيات تعيش داخل مجتمع ضخم وكامل ولكنها منفصلة عنه تماما وتعاني من حالة صراع لا ينتهي.
ما يميز شريدر أن له معرفة عميقة واهتماما كبيرا بنظريات السينما والأفلام وهو ما يظهر بشكل واضح في أعماله فقد بدأ حياته ناقدا سينمائيا يتمتع بنظرة ثاقبة ورأي حاسم إزاء كل ما يشاهده وقد طبق المفاهيم النظرية على صناعة أفلامه. ولذلك نلمس في أفلامه مزيجا فريدا من العمق النفسي ومن التعقيد الأخلاقي ثم الثراء الموضوعي وهو ما جعل منه كاتبا ومخرجا متميزا جدا في عالم السينما.
***
التعاون مع مارتن سكورسيزي
يمثل هذا التعاون أبرز الجوانب في مسيرة شريدر المهنية إذ عمل الإثنان على أفلام مهمة لا تُنسى تركت أثرا كبيرا في تاريخ السينما بدأت بسائق التكسي في 1976. ومن افلامهما المشتركة الثور الهائج إنتاج 1980 والإغراء الأخير للمسيح من إنتاج 1988 وهو فيلم رفضته الكنيسة تماما.
ولأن شريدر متبحر في مجال علوم السينما ولأنه كان ناقدا في الأساس فقد اعتاد الإشارة إلى بعض نقاط الضعف في الأفلام التي يخرجها آخرون.
وفي هذا الإطار، بعد عرض فيلم "قتلة زهرة القمر - Killers of the Flour Moon" انتقد شريدر اختيار ليوناردو دي كابريو لدور البطولة الرئيسية في الفيلم وقال إنه "كان يفضل أن يؤدي دور الشرطي بدلا من دور الأبله" وأضاف "قضاء ثلاث ساعات ونصف الساعة بصحبة أحمق وقت طويل".
وفي الواقع كان المخرج مارتن سكورسيزي قد اختار دي كابريو في البداية لأداء دور العميل من مكتب التحقيقات الفيدرالي توم وايت الذي أداه جيسي بليمونز في النهاية.
****
ثلاثية "الرجل في الغرفة"
في هذا الثلاثية التي يُشار إليها عادة بهذا الاسم نكتشف ثلاث شخصيات لا يجمع بينها غير إحساسها بالضياع ووقوفها عند مفترق طرق بين حياة ماضية وأخرى حاضرة وثالثة مجهولة. الثلاثة يجلسون إلى طاولاتهم ويكتبون يوميات يعبرون فيها عما في نفوسهم.
هؤلاء منعزلون ومرهقون ويعانون من أزمة أو أزمات وهم وحيدون ويسعون إلى الخلاص بوسائل مختلفة.
تدور أحداث هذه الأفلام الثلاثة في أماكن محصورة وضيقة مثل بلدة صغيرة أو كازينو أو حديقة وهو ما استغله المخرج لعرض صراعاتهم الداخلية الخفية.
عند النظر إلى هذه الأفلام من الخارج لا يجد المرء أي علاقة بينها غير أن شريدر نفسه هو من اعلن أنها تشكل ثلاثية ولو من بعيد.
1- الإصلاح الأول - First Reformed
عُرض هذا الفيلم لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي في 2017 وقد استقبله النقاد بترحاب كبير وأثنوا على أداء بطله الرئيسي إيثان هوك واعتبر واحدا من أفضل الأفلام في عام 2018 وقد حصل شريدر بفضله على جائزة اختيار النقاد وجائزة أوسكار لأفضل سيناريو أصلي كما ترشح لجائزتي أفضل فيلم وأفضل مخرج.
يروي الفيلم قصة القس إرنست تولر راعي كنيسة صغيرة في شمال ولاية نيويورك ويتطرق إلى موضوعات مهمة مثل الإيمان والمخاطر التي تتعرض لها البيئة واليأس من الوجود.
يتفق النقاد على أن إيثان هوك قدم أداءً متميزا بدور تولر إذ نجح في التعبير عن صراعاته الداخلية والأزمة الروحية والإنسانية داخله بدقة كبيرة ونجح مدير التصوير ألكسندر دينان في سرد القصة من خلال الصورة وزوايا الالتقاط وفي تجسيد النَفَس الدرامي للقصة والطابع التأملي بشكل عام.
يرى نقاد أن إحدى نقاط القوة في هذا الفيلم هي تعرضه لقضايا معقدة ومثيرة للجدل مثل العلاقة بين البيئة وجشع المؤسسات الكبرى والحس الإنساني. ويُذكر هنا أن نهاية الفيلم تترك الباب مفتوحا أمام تفسيرات متعددة وتطرح أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها.
فيلم "الإصلاح الأول" ليس للجميع لأن موضوعه فكري ونفسي يثير الحاجة إلى التفكير والتعمق في الأمور.
2- فيلم "عداد أوراق اللعب - The Card Counter
نتابع هنا قصة وليام تيل وهو محقق عسكري سابق تحول إلى مقامر محترف. وتكمن مشكلته في إحساسه بأن ماضيه يطارده فيما يسعى هو للخلاص منه وتجاوزه. يتضمن الفيلم حبكات متعددة الطبقات فيها التشويق والفكرة وإحساس عميق بالذنب.
صدر الفيلم في 2021 وأدى دور البطولة فيه أوسكار اسحق وهو يسلط الضوء على شخصيات معقدة ويكشف عن تفاعلات تقود إلى أفكار اعتاد شريدر طرحها والتعامل معها مثل الشعور بالذنب وغموض المستقبل ولا جدوى الحاضر. ويدعو الفيلم إلى التأمل خاصة مع تصوير ألكسندر دينان الذي نجح هنا أيضا في التعبير بالصورة وبألوانها وبالإنارة، عن الفكرة والتفاعلات الداخلية من خلال النظر إليها من زوايا مختلفة.
3- البستاني Master Gardener
من إنتاج 2022 وهو يروي قصة البستاني نارفل المسؤول عن العناية بحديقة غناء تعود ملكيتها لامرأة ثرية. أدى جويل آدغرتن دور نارفل وهو شخص قليل الكلام يشرف على عدد من العاملين في مجال العناية بالحدائق وهو عارف بتخصصه حيث يعلمهم تاريخ البستنة وعلومها.
في هذا الفيلم قضايا تتعلق بالعنصرية وبالعنف المرتبط بها وبتفوق الجنس الأبيض ولكن فيها أيضا عزوفا عن الماضي وانقطاعا عنه ومحاولة للتخلص منه بشكل أو بآخر. وهو ما يحرص المخرج بول شريدر على طرحه بكل وضوح في أفلامه.
لم يستقبل جميع النقاد هذا الفيلم بترحاب كبير ورأى عدد منهم أنه أضعف من سابقَيه فيما وصفه آخرون بأنه رائع. ومع ذلك يتفق الجميع على أن الصورة نجحت مرة أخرى في سرد القصة كما في الفيلمين الأولين.
تجدون رابطي "الإصلاح الأول" و "البستاني" في التعليقين الأول والثاني.