قلعـة حلــب
بنيت قلعة حلب فوق تل «أكروبول» تحتضن بقاياه كثيراً من آثار العصور التي مرت منذ أن كانت حلب مملكة عمورية، واسمها «يمحاض» من الألف الثاني ق.م، كما كشفت التنقيبات الحديثة في آثارها عن معبد ضخم ومتميز يعود للألف الأول ق.م. كانت القلعة في البدء تقع في الطرف الشرقي من مدينة حلب، إلا أن المدينة أخذت تتوسع تدريجياً نحو الشرق حتى أصبحت القلعة في وسطها تقريباً.
تعد قلعة حلب مثالاً جيداً لتطور الهندسة العسكرية، فهي كما كتبت الكاتبة والرحالة المستشرقة بل G.Bell تشبه الفنجان داخل صحنه.. الفنجان هو القلعة، والصحن هو مدينة حلب، وهي من أكبر قلاع العالم وأحصنها وأقدمها، لايعرف بدقة ـ حتى اليوم ـ تاريخ بنائها لقدمها؛ وإن كانت قد أخذت شكلها الحالي في العصر الأيوبي ثم المملوكي، ولم تفتح أبداً بالقوة، بل بالحيلة والخداع.
تقوم القلعة فوق تلة نصفها اصطناعي؛ لرفعها عن مستوى سطح المدينة، حيث ترتفع نحو (33) متراً فوق تل إهليلجي الشكل، يحيط بها سور حجري فيه (44) برجاً دفاعياً من أحجام وطرز مختلفة، طوله نحو 900م، وارتفاعه نحو 12م، وقد دعمّ بأعمدة حجرية ثبتت بشكل عرضي بمسامير حديدية. تعرضت القلعة لأكثر من حادث خراب وحريق عبر العصور؛ زلازل وهجمات التتار والمغول, وجرت فيها عمليات ترميم وإعادة بناء عدة. حجارة السور الكبيرة تعود إلى ما قبل الفتح العربي الإسلامي، والوسطى تعود إلى العهد الأيوبي، حيث قام الأيوبيون بتجديد القلعة ولا سيما الأقسام السفلى من أبراجها.. أما الحجارة الصغيرة فتعود إلى العهد المملوكي.
رصف ثلثا المنحدر المحيط بالقلعة بالأحجار؛ ليصعب تسلّقها ولحمايتها من التآكل بسبب مياه الخندق المحيط بها، وهو يلتف حول المنحدر؛ وعرضه نحو 32متراً، وعمقه نحو 22متراً، وبذلك يكون مجموع ارتفاع القلعة عن أرض الخندق نحو 55متراً، وكانت المياه تأتيه من نبع «حيلان».
المدخل الأول للقلعة برج مستطيل الشكل، ارتفاعه نحو 20م، بني في عام 608هـ/1211م، ورمم أكثر من مرّة، وهو يؤدي عبر جسر متحرك إلى المدخل الرئيس الحديدي، عليه كتابة تؤرخ صنعه في عهد الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر الميلادي، وعلى هذا المدخل باب خشبي عليه كتابة تؤرخ عهد السلطان قانصوه الغوري 913هـ/1507م، مع الإشارة إلى غنى القلعة بمختلف أنواع الكتابات الكوفية.
تضم القلعة عدداً من الأبراج والمداخل، منها ما هو برج منفرد كبرج المدخل المتقدم «البرج الأول» والبرج المتقدم الجنوبي، والبرج المتقدم الشمالي، ومنها ما هو متصل بسور القلعة، ومن أهمها برجا المدخل الرئيسان اللذان تقوم فوقهما قاعة العرش، ويطلق عليهما مع قاعة العرش في بعض الأحيان اسم «الحصن» لكثافة العناصر الدفاعية فيها؛ بما فيها كوى الرمي والبوابات المتعددة، وهي مزودة بالعديد من خزانات المياه والمستودعات.
وفي القلعة عدد من المعالم التاريخية، وأهمها:
ـ مسجد إبراهيم الخليل: كان سابقاً كنيسة، واشتهر بمحرابه الجميل الذي فقد في أثناء وجود الحامية الفرنسية في القلعة، جدده السلطان نور الدين زنكي عام563هـ/1167م، وتقول الأسطورة: لقد وجدت فيه صخرة كان النبي إبراهيم يجلس عليها؛ ليحلب بقرته الشهباء.
ـ الجامع الكبير: يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر الميلادي، جدده السلطان نور الدين زنكي، ولكنه احترق، فأعاد عمارته الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين في سنة 1200م، وعلى بابه كتابة تؤرخ البناء والباني.. الجامع مربع الشكل له باحة، وللمصلى ثلاثة مداخل وقبّة ومحرابان ونوافذ للإضاءة، ومئذنته يعود تاريخها إلى عام611هـ/1214م، مربعة الشكل، ارتفاعها نحو 20متراً، تشبه مئذنة جامع الدباغة في حلب، ولأنها عالية فقد كانت تستعمل للمراقبة والآذان معاً.. وقد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميمه حسب مخططه الأصلي.
ـ القصر الملكي والحمام: يعتقد أن هذا القصر الجميل كان ذا طابقين، بناه في أواخر العهد الأيوبي الملك صلاح الدين الناصر يوسف الثاني، وهناك من يرى أن القصر يعود إلى عهد أقدم. للقصر باب جميل تعلوه مقرنصات بديعة، وله باحة جميلة تتوسطها بحرة ماء، رصفت أرضياتها بالمرمر الجميل المتعدد الألوان، وتتصل الباحة بحمّام رصفت أرضه بالحجارة التي أخذت الأشكال الهندسية الجميلة، ويتألف من الأقسام المعروفة في معظم الحمامات العربية: (البراني الوسطاني ـ الجوّاني).
ـ قاعة العرش: رممت هذه القاعة الجميلة مّرات عدة، وهي في الأصل تعود إلى العهد المملوكي، جددها السلطان «قايتباي» بعد دمارها على يد المغول سنة 803هـ/1400م، تتألف كسوتها الخشبية من أحد عشر سقفاً مزيناً بزخارف نباتية، منها أربعة من الطراز العجمي، وثلاثة أخرى نقلت من دور دمشقية، وكسيت أرضها بمشقفات رخامية ذات أشكال مستوحاة من الدور الحلبية الأثرية، وتتوسطها بحيرة ماء على الطراز الأيوبي، وقد قامت مديرية الآثار بترميمها وزخرفتها بِنَفَس قلعة حلب، معجزة القلاع العربية. أعاد بناء القلعة السلوقيون، ثم الرومان، وكان البيزنطيون يرممونها كلما تهدمت حررها العرب المسلمون سنة 15هـ/636م بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح بعد أن سيطروا على أحد أبوابها، وأسروا قائدها البيزنطي. في القرن العاشر الميلادي أصبحت مقر سكن سيف الدولة الحمداني وحكمه، وبقيت القلعة تقاوم البيزنطيين، ومن بعدهم الصليبيين، وظلت حصن العرب المسلمين القوي في شمالي سورية، واستمر دورها المزدهر في عهد «المرداسيين» (416ـ472هـ/1025ـ1079م)، وفي العهد السلجوقي، وعهد السلطان نور الدين زنكي ازداد الاهتمام بالقلعة، حيث بنيت فيها مجموعة كبيرة من المباني الجديدة، كما رممت مبانيها ومعالمها القديمة، وأصبحت مقراً للحكم وللإقامة في عهد الأيوبيين. وبعد اندحار الصليبيين أصبح الظاهر غازي بن صلاح الدين ملكاً على حلب، وحكم بين 589ـ612هـ/1193ـ1215م) فاعتنى بالقلعة، وبنى فيها قصراً، واتخذها مركزاً لحكمه وسكنه، ثم غزاها المغول عام 659هـ/1260م بقيادة «هولاكو» الذي احتلها بعد حصار دام نحو شهرين، وخرّب أسوارها، ودمّر أبنيتها، لكن السلطان «الأشرف خليل بن قلاوون» قام سنة 692هـ/1292م بترميمها، ثم دمرت ثانية على يد «تيمورلنك» سنة 803هـ/1400م، فقام السلطان الناصر ابن برقوق سنة 818هـ/1415م بترميم سورها، كما قام السلطان «قانصوه الغوري» آخر سلاطنة المماليك بترميمها.
في العهد العثماني لم تلق الاهتمام اللائق بها وبتاريخها العريق، وأسهم الزلزال الذي تعرضت له حلب سنة 1828م في دمارها وزوال كثيرٍ من معالمها. وأجرى فيها إبراهيم باشا بعض الترميمات، وبنى فيها ثكنة عسكرية من أحجار منحدراتها.
علي القيم
بنيت قلعة حلب فوق تل «أكروبول» تحتضن بقاياه كثيراً من آثار العصور التي مرت منذ أن كانت حلب مملكة عمورية، واسمها «يمحاض» من الألف الثاني ق.م، كما كشفت التنقيبات الحديثة في آثارها عن معبد ضخم ومتميز يعود للألف الأول ق.م. كانت القلعة في البدء تقع في الطرف الشرقي من مدينة حلب، إلا أن المدينة أخذت تتوسع تدريجياً نحو الشرق حتى أصبحت القلعة في وسطها تقريباً.
تعد قلعة حلب مثالاً جيداً لتطور الهندسة العسكرية، فهي كما كتبت الكاتبة والرحالة المستشرقة بل G.Bell تشبه الفنجان داخل صحنه.. الفنجان هو القلعة، والصحن هو مدينة حلب، وهي من أكبر قلاع العالم وأحصنها وأقدمها، لايعرف بدقة ـ حتى اليوم ـ تاريخ بنائها لقدمها؛ وإن كانت قد أخذت شكلها الحالي في العصر الأيوبي ثم المملوكي، ولم تفتح أبداً بالقوة، بل بالحيلة والخداع.
المدخل الرئيسي لقلعة حلب |
رصف ثلثا المنحدر المحيط بالقلعة بالأحجار؛ ليصعب تسلّقها ولحمايتها من التآكل بسبب مياه الخندق المحيط بها، وهو يلتف حول المنحدر؛ وعرضه نحو 32متراً، وعمقه نحو 22متراً، وبذلك يكون مجموع ارتفاع القلعة عن أرض الخندق نحو 55متراً، وكانت المياه تأتيه من نبع «حيلان».
المدخل الأول للقلعة برج مستطيل الشكل، ارتفاعه نحو 20م، بني في عام 608هـ/1211م، ورمم أكثر من مرّة، وهو يؤدي عبر جسر متحرك إلى المدخل الرئيس الحديدي، عليه كتابة تؤرخ صنعه في عهد الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر الميلادي، وعلى هذا المدخل باب خشبي عليه كتابة تؤرخ عهد السلطان قانصوه الغوري 913هـ/1507م، مع الإشارة إلى غنى القلعة بمختلف أنواع الكتابات الكوفية.
قلعة حلب من الداخل |
وفي القلعة عدد من المعالم التاريخية، وأهمها:
ـ مسجد إبراهيم الخليل: كان سابقاً كنيسة، واشتهر بمحرابه الجميل الذي فقد في أثناء وجود الحامية الفرنسية في القلعة، جدده السلطان نور الدين زنكي عام563هـ/1167م، وتقول الأسطورة: لقد وجدت فيه صخرة كان النبي إبراهيم يجلس عليها؛ ليحلب بقرته الشهباء.
ـ الجامع الكبير: يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر الميلادي، جدده السلطان نور الدين زنكي، ولكنه احترق، فأعاد عمارته الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين في سنة 1200م، وعلى بابه كتابة تؤرخ البناء والباني.. الجامع مربع الشكل له باحة، وللمصلى ثلاثة مداخل وقبّة ومحرابان ونوافذ للإضاءة، ومئذنته يعود تاريخها إلى عام611هـ/1214م، مربعة الشكل، ارتفاعها نحو 20متراً، تشبه مئذنة جامع الدباغة في حلب، ولأنها عالية فقد كانت تستعمل للمراقبة والآذان معاً.. وقد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميمه حسب مخططه الأصلي.
ـ القصر الملكي والحمام: يعتقد أن هذا القصر الجميل كان ذا طابقين، بناه في أواخر العهد الأيوبي الملك صلاح الدين الناصر يوسف الثاني، وهناك من يرى أن القصر يعود إلى عهد أقدم. للقصر باب جميل تعلوه مقرنصات بديعة، وله باحة جميلة تتوسطها بحرة ماء، رصفت أرضياتها بالمرمر الجميل المتعدد الألوان، وتتصل الباحة بحمّام رصفت أرضه بالحجارة التي أخذت الأشكال الهندسية الجميلة، ويتألف من الأقسام المعروفة في معظم الحمامات العربية: (البراني الوسطاني ـ الجوّاني).
ـ قاعة العرش: رممت هذه القاعة الجميلة مّرات عدة، وهي في الأصل تعود إلى العهد المملوكي، جددها السلطان «قايتباي» بعد دمارها على يد المغول سنة 803هـ/1400م، تتألف كسوتها الخشبية من أحد عشر سقفاً مزيناً بزخارف نباتية، منها أربعة من الطراز العجمي، وثلاثة أخرى نقلت من دور دمشقية، وكسيت أرضها بمشقفات رخامية ذات أشكال مستوحاة من الدور الحلبية الأثرية، وتتوسطها بحيرة ماء على الطراز الأيوبي، وقد قامت مديرية الآثار بترميمها وزخرفتها بِنَفَس قلعة حلب، معجزة القلاع العربية. أعاد بناء القلعة السلوقيون، ثم الرومان، وكان البيزنطيون يرممونها كلما تهدمت حررها العرب المسلمون سنة 15هـ/636م بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح بعد أن سيطروا على أحد أبوابها، وأسروا قائدها البيزنطي. في القرن العاشر الميلادي أصبحت مقر سكن سيف الدولة الحمداني وحكمه، وبقيت القلعة تقاوم البيزنطيين، ومن بعدهم الصليبيين، وظلت حصن العرب المسلمين القوي في شمالي سورية، واستمر دورها المزدهر في عهد «المرداسيين» (416ـ472هـ/1025ـ1079م)، وفي العهد السلجوقي، وعهد السلطان نور الدين زنكي ازداد الاهتمام بالقلعة، حيث بنيت فيها مجموعة كبيرة من المباني الجديدة، كما رممت مبانيها ومعالمها القديمة، وأصبحت مقراً للحكم وللإقامة في عهد الأيوبيين. وبعد اندحار الصليبيين أصبح الظاهر غازي بن صلاح الدين ملكاً على حلب، وحكم بين 589ـ612هـ/1193ـ1215م) فاعتنى بالقلعة، وبنى فيها قصراً، واتخذها مركزاً لحكمه وسكنه، ثم غزاها المغول عام 659هـ/1260م بقيادة «هولاكو» الذي احتلها بعد حصار دام نحو شهرين، وخرّب أسوارها، ودمّر أبنيتها، لكن السلطان «الأشرف خليل بن قلاوون» قام سنة 692هـ/1292م بترميمها، ثم دمرت ثانية على يد «تيمورلنك» سنة 803هـ/1400م، فقام السلطان الناصر ابن برقوق سنة 818هـ/1415م بترميم سورها، كما قام السلطان «قانصوه الغوري» آخر سلاطنة المماليك بترميمها.
في العهد العثماني لم تلق الاهتمام اللائق بها وبتاريخها العريق، وأسهم الزلزال الذي تعرضت له حلب سنة 1828م في دمارها وزوال كثيرٍ من معالمها. وأجرى فيها إبراهيم باشا بعض الترميمات، وبنى فيها ثكنة عسكرية من أحجار منحدراتها.
علي القيم