"الهشيم": خلطة فكرية
مسرح
مشهد من "الهشيم"
شارك هذا المقال
حجم الخط
توقظ مسرحية "الهشيم"، للكاتب والمُخرج والممثِّل العراقي عبد الأمير شمخي، المعروضة على خشبة مسرح قصر الثقافة باللاذقية (سينوغرافيا واختيارات موسيقية وإخراج: هاشم غزال، تمثيل: عبد الوهاب عيَّان، وافي شحادة، رولا عبد الباقي، وبشار عدرة. إضاءة: وفاء غزال)، الإحساس بالحريَّة عند الإنسان، في واقع تضخُّم الاسترقاق البشري لدى الأنظمة التي تحكم شعوبها بالجنازير والزنازين.
ثلاثة رجال وامرأة يقعون في فخ الحرب على أرضٍ ساقتهم إليها العاصفة فتحوَّلت إلى هشيم، وفقدوا فيها بوصلتهم إلاَّ من عربة ستأتي لتقلهم، ولمَّا تأتي لا تكون العربة المرجوة حيث تأخذهم إلى مصائر ومنافٍ جديدة فيبقون في الانتظار؛ انتظار ولكن لا أمل. فالزوج- أدَّى دوره الممثِّل بشار عدرة، والزوجة- أدَّت دورها الممثِّلة رولا عبد الباقي، والشاب- أدَّى دوره الممثِّل عبد الوهاب عيَّان، كانوا وفي هذه الأرض المُهشَّمة قد تعرَّفوا على الرجل الثالث الذي جمعتهم به الصدفة- أدَّى دوره الممثِّل وافي شحادة- بصفته السجَّان الذي عذَّبهم، فقد قام بإخصاء الشاب، الذي حاول الزواج مرَّة ومرتين وثلاثًا عسى تُنجب له أيٌّ من النساء ولَدًا ولكن لا أمل، وقَتَلَ الطفلَ الوليد للزوجة الذي استعاضت عنه بجمجمة، فنرى الكل يحاولون مقاضاته بتوجيه الاتِّهامات إليه كمجرمٍ لا رحمة ولا شفقة في قلبه. المؤلِّف عبد الأمير الشمخي، وليس المُخرج هاشم غزال، وَضَعَنا في حوارات ذهنية من مفردات بدت ألاعيب لغوية تُحَمِّي الانفعالات عند الشخصيات وليس الصراع؛ إذ لا صراعات في المسرحية لأنَّها من حوار ذهني لا جدال فيه. فالشخصيات في حواراتها مع السجَّان/ السلطة القاهرة والتي تحاصر مواطنيها بالجوع والجهل وقد وقع بالصدفة في فخِّها- بين أياديها، لم تذهب إلى الصدام فتصفِّي حسابها معه- تنتقم لكرامتها، فتتعارك معه عراك العبيد مع السيِّد ولو بالأيادي إنْ لم تقتله.
المسرحية، عندما تتحوَّل إلى عرض، يتحوَّل المتفرِّج إلى مستهلك (نخبوي) يتشارك مع أسرة المسرحية في إنتاج نصٍّ/ وَعْيٍ جديد، إنتاج فكرٍ يشكِّل ويحفِّز على الانتقال إلى حال اجتماعي وسياسي واقتصادي ناعمٍ وليس خشنًا، كما في مسرحية "الهشيم"، وهذه العملية يقودها المخرج، إذ يقوم بكسر سلطة المؤلِّف لصالح المتفرِّج في تقديم رؤية إنسانية تتوافق مع الحقوق المدنية- رؤية ليست وحشية ولا متوحِّشة ذات استمرارية زمنية تُحرِّك أسئلةً وتقيم جدلًا مفتوحًا وهادفًا مع السلطات ذات الأذرع الذرائعية. المؤلِّف عبد الأمير الشمخي في مسرحيته "الهشيم"، كما شاهدنا في هذا العرض، قدَّم خلطة فكرية في سياق دفاعه عن حريَّات الناس، خلطة مُشوِّهة ومُمَزِّقة للفعل الدرامي/ الصراع. لا تشظيات إنْ في اللغة الحوارية التي كانت تعاني من اختلالات في بنيتها وإشاراتها، أو في تنامي الصراع الذي لم يتطوَّر ويتجسَّد في حركة الممثلين على الخشبة وكأنَّها شخصيات- روبوتات، لأنها تحمل أفكارًا سطحية واهمة وهازلة لم تتطوَّر كما ذكرت فتنتقم لشرفها. فالشخصيات الأربع؛ السجَّان والضحايا، أو السيِّد والعبيد، بقوا في أرض المعركة التي ساقتهم إليها العاصفة بقوا في حالة الانتظار؛ انتظار العربة وكأن العبيد تصالحوا مع سيِّدهم!. في حين أنَّ مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت والتي أخذ عنها عبد الأمير الشمخي مسرحيته "الهشيم"، كان العبيد يسخرون من سيِّدهم الذي ينتظرونه لينقذهم. شخصيات بيكيت: بوزو ولكي واستراغون وفلاديمير، وإن كانت شخصيات (عدمية)، إنَّما تدافع عن الوجود- وجودها بالسخرية والتهكُّم؛ شخصيات مُبدعة تتحكَّم بمصائرها، وتدير الأحداث ولو إنَّها من فكر فلسفي، لدرجةٍ يُخيَّلُ إليكَ أنَّكَ أحد أطراف الصراع، بينما في مسرحية "الهشيم" كان الصراع ذهنيًا إنشائيًا فيه تكرار حكي عن آلام الضحايا وهم ينتظرون العربة (الأمل). لا أفعال؛ حكي وحكي غير متماسك يذهب إلى الثرثرة. فالإنسان في مسرحية "في انتظار غودو" لبيكيت وبغض النظر عن محمولاته الفكرية؛ قوميًا ووطنيًا وإنسانيًا، يقوم بفعلٍ خلاّق وهو يتهكَّم منتظرًا غودو فيُحيلنا إنْ في النص، أو كما شاهدنا في بعض العروض العربية والأجنبية، على لحظةً نقضية للجدل بين الراهن والماضي، بين السيد والعبد، وليس كما في مسرحية "الهشيم" حيث الزمن بدا ساكنًا خوفًا من مواجهة الضياع. ضياع بددته (السينوغرافيا) التي لعبت دورًا جماليًا ساحرًا، فكانت البطل الفائز في العرض، إذ كانت تحيطنا بمأساوية الانتظار، وتزيد من شعورنا بعبثية الوجود أكثر بكثير من الحوارات، حتى إنَّ وقع الآدمي الافتراضي الذي هبط على شكل سترة وبنطال من سقف المسرح، وقام الممثِّل بضربه للتشفي منه كان أكثر تأثيرًا كحدث خرقَ زمن الحكي، والحكي بانفعالات بائسة ويائسة. ولا شكَّ في أنَّ الممثلين الأربعة كانوا رغم إفراطهم في قسوة حركاتهم وانفعالاتهم على مدى زمن العرض يؤدُّون أدوارًا شبه نمطية، إنَّما، وفي ملاساناتهم كُنَّا نحسُّ بلحظات الجمال في أعماقهم وهم ينشرونها في فضاء الخشبة.
مسرحية "الهشيم" حاولت أن تهجو الحروب، فيما أغفلت الوعي بالمآسي التي تخلفها، فنرى دراما/ صراعات فيها انتقامٌ من الطاغية وقد حان وقتها في هذا الهشيم، بدل أن تتركنا مع شخصيات تعيش الألم؛ بل وتضاعفه وهي بانتظار العربة/ المخلِّص الذي لن يجيء.
مسرح
مشهد من "الهشيم"
شارك هذا المقال
حجم الخط
توقظ مسرحية "الهشيم"، للكاتب والمُخرج والممثِّل العراقي عبد الأمير شمخي، المعروضة على خشبة مسرح قصر الثقافة باللاذقية (سينوغرافيا واختيارات موسيقية وإخراج: هاشم غزال، تمثيل: عبد الوهاب عيَّان، وافي شحادة، رولا عبد الباقي، وبشار عدرة. إضاءة: وفاء غزال)، الإحساس بالحريَّة عند الإنسان، في واقع تضخُّم الاسترقاق البشري لدى الأنظمة التي تحكم شعوبها بالجنازير والزنازين.
ثلاثة رجال وامرأة يقعون في فخ الحرب على أرضٍ ساقتهم إليها العاصفة فتحوَّلت إلى هشيم، وفقدوا فيها بوصلتهم إلاَّ من عربة ستأتي لتقلهم، ولمَّا تأتي لا تكون العربة المرجوة حيث تأخذهم إلى مصائر ومنافٍ جديدة فيبقون في الانتظار؛ انتظار ولكن لا أمل. فالزوج- أدَّى دوره الممثِّل بشار عدرة، والزوجة- أدَّت دورها الممثِّلة رولا عبد الباقي، والشاب- أدَّى دوره الممثِّل عبد الوهاب عيَّان، كانوا وفي هذه الأرض المُهشَّمة قد تعرَّفوا على الرجل الثالث الذي جمعتهم به الصدفة- أدَّى دوره الممثِّل وافي شحادة- بصفته السجَّان الذي عذَّبهم، فقد قام بإخصاء الشاب، الذي حاول الزواج مرَّة ومرتين وثلاثًا عسى تُنجب له أيٌّ من النساء ولَدًا ولكن لا أمل، وقَتَلَ الطفلَ الوليد للزوجة الذي استعاضت عنه بجمجمة، فنرى الكل يحاولون مقاضاته بتوجيه الاتِّهامات إليه كمجرمٍ لا رحمة ولا شفقة في قلبه. المؤلِّف عبد الأمير الشمخي، وليس المُخرج هاشم غزال، وَضَعَنا في حوارات ذهنية من مفردات بدت ألاعيب لغوية تُحَمِّي الانفعالات عند الشخصيات وليس الصراع؛ إذ لا صراعات في المسرحية لأنَّها من حوار ذهني لا جدال فيه. فالشخصيات في حواراتها مع السجَّان/ السلطة القاهرة والتي تحاصر مواطنيها بالجوع والجهل وقد وقع بالصدفة في فخِّها- بين أياديها، لم تذهب إلى الصدام فتصفِّي حسابها معه- تنتقم لكرامتها، فتتعارك معه عراك العبيد مع السيِّد ولو بالأيادي إنْ لم تقتله.
المسرحية، عندما تتحوَّل إلى عرض، يتحوَّل المتفرِّج إلى مستهلك (نخبوي) يتشارك مع أسرة المسرحية في إنتاج نصٍّ/ وَعْيٍ جديد، إنتاج فكرٍ يشكِّل ويحفِّز على الانتقال إلى حال اجتماعي وسياسي واقتصادي ناعمٍ وليس خشنًا، كما في مسرحية "الهشيم"، وهذه العملية يقودها المخرج، إذ يقوم بكسر سلطة المؤلِّف لصالح المتفرِّج في تقديم رؤية إنسانية تتوافق مع الحقوق المدنية- رؤية ليست وحشية ولا متوحِّشة ذات استمرارية زمنية تُحرِّك أسئلةً وتقيم جدلًا مفتوحًا وهادفًا مع السلطات ذات الأذرع الذرائعية. المؤلِّف عبد الأمير الشمخي في مسرحيته "الهشيم"، كما شاهدنا في هذا العرض، قدَّم خلطة فكرية في سياق دفاعه عن حريَّات الناس، خلطة مُشوِّهة ومُمَزِّقة للفعل الدرامي/ الصراع. لا تشظيات إنْ في اللغة الحوارية التي كانت تعاني من اختلالات في بنيتها وإشاراتها، أو في تنامي الصراع الذي لم يتطوَّر ويتجسَّد في حركة الممثلين على الخشبة وكأنَّها شخصيات- روبوتات، لأنها تحمل أفكارًا سطحية واهمة وهازلة لم تتطوَّر كما ذكرت فتنتقم لشرفها. فالشخصيات الأربع؛ السجَّان والضحايا، أو السيِّد والعبيد، بقوا في أرض المعركة التي ساقتهم إليها العاصفة بقوا في حالة الانتظار؛ انتظار العربة وكأن العبيد تصالحوا مع سيِّدهم!. في حين أنَّ مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت والتي أخذ عنها عبد الأمير الشمخي مسرحيته "الهشيم"، كان العبيد يسخرون من سيِّدهم الذي ينتظرونه لينقذهم. شخصيات بيكيت: بوزو ولكي واستراغون وفلاديمير، وإن كانت شخصيات (عدمية)، إنَّما تدافع عن الوجود- وجودها بالسخرية والتهكُّم؛ شخصيات مُبدعة تتحكَّم بمصائرها، وتدير الأحداث ولو إنَّها من فكر فلسفي، لدرجةٍ يُخيَّلُ إليكَ أنَّكَ أحد أطراف الصراع، بينما في مسرحية "الهشيم" كان الصراع ذهنيًا إنشائيًا فيه تكرار حكي عن آلام الضحايا وهم ينتظرون العربة (الأمل). لا أفعال؛ حكي وحكي غير متماسك يذهب إلى الثرثرة. فالإنسان في مسرحية "في انتظار غودو" لبيكيت وبغض النظر عن محمولاته الفكرية؛ قوميًا ووطنيًا وإنسانيًا، يقوم بفعلٍ خلاّق وهو يتهكَّم منتظرًا غودو فيُحيلنا إنْ في النص، أو كما شاهدنا في بعض العروض العربية والأجنبية، على لحظةً نقضية للجدل بين الراهن والماضي، بين السيد والعبد، وليس كما في مسرحية "الهشيم" حيث الزمن بدا ساكنًا خوفًا من مواجهة الضياع. ضياع بددته (السينوغرافيا) التي لعبت دورًا جماليًا ساحرًا، فكانت البطل الفائز في العرض، إذ كانت تحيطنا بمأساوية الانتظار، وتزيد من شعورنا بعبثية الوجود أكثر بكثير من الحوارات، حتى إنَّ وقع الآدمي الافتراضي الذي هبط على شكل سترة وبنطال من سقف المسرح، وقام الممثِّل بضربه للتشفي منه كان أكثر تأثيرًا كحدث خرقَ زمن الحكي، والحكي بانفعالات بائسة ويائسة. ولا شكَّ في أنَّ الممثلين الأربعة كانوا رغم إفراطهم في قسوة حركاتهم وانفعالاتهم على مدى زمن العرض يؤدُّون أدوارًا شبه نمطية، إنَّما، وفي ملاساناتهم كُنَّا نحسُّ بلحظات الجمال في أعماقهم وهم ينشرونها في فضاء الخشبة.
مسرحية "الهشيم" حاولت أن تهجو الحروب، فيما أغفلت الوعي بالمآسي التي تخلفها، فنرى دراما/ صراعات فيها انتقامٌ من الطاغية وقد حان وقتها في هذا الهشيم، بدل أن تتركنا مع شخصيات تعيش الألم؛ بل وتضاعفه وهي بانتظار العربة/ المخلِّص الذي لن يجيء.