عبدالرحمن طهمازي شاعر العزلة الخلاقة الواقف خارج السرب
طهمازي كان، ومنذ ظهوره، واحدا من قلة من المثقفين الذين ربطوا الثقافة بقدرتها على إحداث تغيير اجتماعي.
الأحد 2023/12/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
شاعر واقف بين الشعر والنثر
“إن الهواء/ هنا في العراق يضيع/ مَن الذي يقيس مناسيب الهواء/ يا أمُّ ما هي مهنتك/ أدرب اليقين على الشك/ وأنت أيها الأب/ أدرب الشك على اليقين”.
أهي نتيجة مقنعة لأكثر من خمسين سنة من الصراع بين الواقع والثقافة عاشها في العراق مثقف بحجم عبدالرحمن طهمازي وعمقه؟
المصائر المتقاطعة
كان طهمازي ومنذ ظهوره واحدا من قلة من المثقفين الذين ربطوا الثقافة بقدرتها على إحداث تغيير اجتماعي. لم يكن سياسيا بمعنى الاحتراف غير أنه لم يجد بدّا من معالجة الأمور السياسية من جهة نظر وجودية.
لقد وضع الشاعر الذي عُرف باهتماماته النقدية في مجال الفن ثقافته في خدمة هدفها الأسمى وهو الارتقاء بالمجتمع وإنقاذه والخروج به إلى عصر تسوده قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام الذات الخلاقة.
◙ صوت هادئ لم تخالطه الرغبة في الاستعراض
عبدالرحمن طهمازي هو ابن جيل أدبي يعتقد الكثيرون أنه الأهم في تاريخ الحداثة في العراق وهو الجيل الذي ظهر بعد عام 1965. ذلك الجيل الذي حرر الثقافة من هيمنة أسئلة الهوية المحلية وانفتح بها على أسئلة أكثر تعقيدا غير أنها فتحت الطرق أمامها لفهم ما يجري في العالم من تحولات. وهو ما ظهر جليا في الشعر والقصة القصيرة اللذين تحولا إلى مسرح لمواجهة المصائر، إن على مستوى اللغة أو على مستوى استعراض الفرد لتمرده.
كان طهمازي واحدا من أهم الفاتحين الذين وهبوا الاعتراض والاحتجاج والاختلاف طابعا أدبيا، انسجموا من خلاله مع ثقافتهم، فكان أن تحققت على أيديهم وحدة الفكر والفعل. فما فكّروا فيه فعلوه وما فعلوه كان بمثابة إيذانا لدخول أفكارهم إلى حيز الفهم بعد أن أُشيحت عنها غلالة الغموض.
ما يزال عبدالرحمن طهمازي حاضرا بقوة في الثقافة العراقية، لكن بالطريقة التي تناسبه. فبالرغم من أنه كان من أكبر المحتجين غير أن ما كتبه في مجالي الشعر والفكر لم يكشف إلا عن صوت هادئ لم تخالطه الرغبة في الاستعراض. كان يعرف أن صرخته ستصل حتى من خلال الصمت.
ربما اعتبره الكثيرون مقلاّ في كتابة الشعر (نشره على الأقل). ليس ذلك هو الحكم الصائب إذا ما أخذت القيمة الفنية في عين الاعتبار. شعر طهمازي قليل غير أن قراءته تحتاج إلى وقت طويل فهو شعر يدفع إلى التأمل الصامت الذي هو ميزة كل شعر لا يُقرأ بصوت عال.
قصيدة "تمرين على اليقين"
ولد عبدالرحمن طهمازي في سامراء عام 1946. تخرّج عام 1968 في كلية الآداب، فرع اللغة العربية بجامعة بغداد. نشر أشعاره ومقالاته في الفكر والنقد الفني في مجلات وجرائد عراقية وعربية عديدة. أصدر عام 1974 كتابه الشعري الأول “ذكرى الحاضر”. عام 1986 أصدر كتابه الشعري الثاني “تقريظ الطبيعة” ونشر أيضا دراسة مع مختارات عن “محمود البريكان” في بيروت عام 1989.
مؤخرا صدر كتاب بعنوان “الطائر المنكود في البحث عن اليقين المفقود” لنادية هناوي هو عبارة عن دراسة لقصيدة طهمازي النثرية الطويلة “تمرين على اليقين”.
◙ واحد من أهم الفاتحين الذين وهبوا الاعتراض والاحتجاج والاختلاف طابعا أدبيا، وانسجموا من خلاله مع ثقافتهم
وصفت الناقدة قصيدة طهمازي تلك بـ”فلتة شعرية” وهي ليست كذلك في سياق أسلوب طهمازي الفني وتقنياته الكتابية التي عمل على تطويرها حين كان يكتب قصائد ذات إيقاع موسيقي مستعار من العروض. كان له إيقاعه الشخصي دائما. وهو إيقاع الشاعر المفكر.
كان من الصعب تصنيفه منذ “ذكرى الحاضر”. لقد وقف خارج السرب دائما ولم ينتم إلى اتجاه بعينه في الشعرية العراقية. لذلك لم تكن “تمرين على اليقين” قصيدة أعجوبة كما وصفتها الناقدة هناوي.
مَن قرأ طهمازي جيدا لا بد أن يكون قد توقع أن يصل إلى هذه القصيدة. أما وقد تعرض العراق للهزات الكارثية بعد حروبه التي انتهت بالاحتلال الذي أسس لدرجة هائلة من الضياع فإن شاعرا بعمق نظرته النقدية لا بد أن يفجر لغته في وجه العالم لا من أجل تغييره بل من أجل تحديه.
سأجازف لو أنني صنفت طهمازي كونه النموذج المثالي للمثقف اللامنتمي الذي لم تفارق روحه مسؤولية الالتزام. وهو التزام لا ينحصر في ما هو سياسي. بل قد تكون السياسة هي أضعف وآخر أبعاده.
الشاعر بسحره وعزلته
“مرت الساعة لا تشبهنا إلا قليلا/ أهو الطفل الذي/ يسبق النوم إلى اليقظة والذئب الذي يسمع صوته/ أهي بغداد التي نذهب فيها لأقاصي الذاكرة/ قاطعين الطرق المزدحمة/ كاسرين الجمجمة”.
أليست تلك نبوءة شاعر ملهم؟
العراق الذي عرفه طهمازي هو عراق منفصل عن نفسه. ذلك ليس عراق اليوم بل هو عراق الذاكرة. العراق الذي عرفه الشاعر في المقاهي والشوارع الجانبية ومكتبات الرصيف والمعتقلات والأخطاء المجانية والحروب والقتلى. لم يقل “أنا أكثر عراقية منكم”. كان عراقه يبتعد ولم يكن عراقنا يقترب. لقد عرفته عن بعد ولم يكن يعرف أنّني كنت احتفظ بمقاله الأسبوعي الذي كان ينشره في صحيفة “الجمهورية” العراقية لكي أقرأه مرات عديدة. لا من أجل أن أفهمه بل من أجل أن أتمتع بلغته الساحرة. يملك طهمازي خيالا يقفز بالمفردات من دلالتها الواقعية في اتجاه خيالها. في كل ما قرأته كان طهمازي مدهشا ومستفزا وعميقا بنثره.
لم يكن عبدالرحمن طهمازي جزءا من مهرجان الشعر الذي شهده العراق في سبعينات القرن العشرين. لقد حرص على ألاّ يكون كذلك. حرص على أن يشق طريقه وحيدا. لم يكن له ذكر في كل اللقاءات التي شهدتها بغداد. ليس لأنه لا يميل إلى الاستعراض فحسب، بل لأنه أيضا يفكر في الشعر برؤية مختلفة عمّا كان سائدا. أما حين اختار أن يؤلف كتابا عن الشاعر العراقي الرائد الصامت محمود البريكان فإنه وجد في البريكان ما يذكّره بنفسه. فالاثنان لم تُفرض عليهما العزلة بل كانت خيارهما الوجودي.
ربما كان طهمازي أكثر شفافية حين اخترق جدار تلك العزلة فصار يكتب في الصحف اليومية كما لو أنه كائن قد تمكن المجتمع من تدجينه. وهو ليس كذلك بالتأكيد.
كتب طهمازي نثرا يستحق أن يكون مادة لكتب عديدة. فهو إذ يفكر بالعالم باعتباره خميرة شعرية فإنه يفكك مشكلاته بطريقة يغلب عليها ترف اللغة.
كتب الشاعر “ما ذقتُ هذا الخبزَ. كيف أذوقُ خبزًا؟ أنتَ ذقتَ مرارتي، ورعيتَ صومي/ يا أيها الطيرُ الذي كلّفتني حزْنًا ستشرحُ لي المسرّةْ/ سترى طريقًا عند بابي رابضًا وترى خطايْ/ يمضي بها نبضي ويختلفُ المسيرْ/ إنّ الطريقَ إلى بلادي/ هي كالبلادِ على طريقي/ شيءٌ يدورُ فيستديرْ/ مَنْ ذا سيختمُ قصة/ رُويَتْ وتُرْوى لي تباعا/ إني رأيتُ الريحَ تخبطُ مرتينْ/ ورأيتها تعلو اتساعا/ يد طفلتي في الغاب قد عرفتْ أباها وأنا أشدُّ على سواها”.
◙ شاعر يفكر في العالم باعتباره خميرة شعرية
ShareWhatsAppTwitterFacebook
فاروق يوسف
كاتب عراقي
طهمازي كان، ومنذ ظهوره، واحدا من قلة من المثقفين الذين ربطوا الثقافة بقدرتها على إحداث تغيير اجتماعي.
الأحد 2023/12/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
شاعر واقف بين الشعر والنثر
“إن الهواء/ هنا في العراق يضيع/ مَن الذي يقيس مناسيب الهواء/ يا أمُّ ما هي مهنتك/ أدرب اليقين على الشك/ وأنت أيها الأب/ أدرب الشك على اليقين”.
أهي نتيجة مقنعة لأكثر من خمسين سنة من الصراع بين الواقع والثقافة عاشها في العراق مثقف بحجم عبدالرحمن طهمازي وعمقه؟
المصائر المتقاطعة
كان طهمازي ومنذ ظهوره واحدا من قلة من المثقفين الذين ربطوا الثقافة بقدرتها على إحداث تغيير اجتماعي. لم يكن سياسيا بمعنى الاحتراف غير أنه لم يجد بدّا من معالجة الأمور السياسية من جهة نظر وجودية.
لقد وضع الشاعر الذي عُرف باهتماماته النقدية في مجال الفن ثقافته في خدمة هدفها الأسمى وهو الارتقاء بالمجتمع وإنقاذه والخروج به إلى عصر تسوده قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام الذات الخلاقة.
◙ صوت هادئ لم تخالطه الرغبة في الاستعراض
عبدالرحمن طهمازي هو ابن جيل أدبي يعتقد الكثيرون أنه الأهم في تاريخ الحداثة في العراق وهو الجيل الذي ظهر بعد عام 1965. ذلك الجيل الذي حرر الثقافة من هيمنة أسئلة الهوية المحلية وانفتح بها على أسئلة أكثر تعقيدا غير أنها فتحت الطرق أمامها لفهم ما يجري في العالم من تحولات. وهو ما ظهر جليا في الشعر والقصة القصيرة اللذين تحولا إلى مسرح لمواجهة المصائر، إن على مستوى اللغة أو على مستوى استعراض الفرد لتمرده.
كان طهمازي واحدا من أهم الفاتحين الذين وهبوا الاعتراض والاحتجاج والاختلاف طابعا أدبيا، انسجموا من خلاله مع ثقافتهم، فكان أن تحققت على أيديهم وحدة الفكر والفعل. فما فكّروا فيه فعلوه وما فعلوه كان بمثابة إيذانا لدخول أفكارهم إلى حيز الفهم بعد أن أُشيحت عنها غلالة الغموض.
ما يزال عبدالرحمن طهمازي حاضرا بقوة في الثقافة العراقية، لكن بالطريقة التي تناسبه. فبالرغم من أنه كان من أكبر المحتجين غير أن ما كتبه في مجالي الشعر والفكر لم يكشف إلا عن صوت هادئ لم تخالطه الرغبة في الاستعراض. كان يعرف أن صرخته ستصل حتى من خلال الصمت.
ربما اعتبره الكثيرون مقلاّ في كتابة الشعر (نشره على الأقل). ليس ذلك هو الحكم الصائب إذا ما أخذت القيمة الفنية في عين الاعتبار. شعر طهمازي قليل غير أن قراءته تحتاج إلى وقت طويل فهو شعر يدفع إلى التأمل الصامت الذي هو ميزة كل شعر لا يُقرأ بصوت عال.
قصيدة "تمرين على اليقين"
ولد عبدالرحمن طهمازي في سامراء عام 1946. تخرّج عام 1968 في كلية الآداب، فرع اللغة العربية بجامعة بغداد. نشر أشعاره ومقالاته في الفكر والنقد الفني في مجلات وجرائد عراقية وعربية عديدة. أصدر عام 1974 كتابه الشعري الأول “ذكرى الحاضر”. عام 1986 أصدر كتابه الشعري الثاني “تقريظ الطبيعة” ونشر أيضا دراسة مع مختارات عن “محمود البريكان” في بيروت عام 1989.
مؤخرا صدر كتاب بعنوان “الطائر المنكود في البحث عن اليقين المفقود” لنادية هناوي هو عبارة عن دراسة لقصيدة طهمازي النثرية الطويلة “تمرين على اليقين”.
◙ واحد من أهم الفاتحين الذين وهبوا الاعتراض والاحتجاج والاختلاف طابعا أدبيا، وانسجموا من خلاله مع ثقافتهم
وصفت الناقدة قصيدة طهمازي تلك بـ”فلتة شعرية” وهي ليست كذلك في سياق أسلوب طهمازي الفني وتقنياته الكتابية التي عمل على تطويرها حين كان يكتب قصائد ذات إيقاع موسيقي مستعار من العروض. كان له إيقاعه الشخصي دائما. وهو إيقاع الشاعر المفكر.
كان من الصعب تصنيفه منذ “ذكرى الحاضر”. لقد وقف خارج السرب دائما ولم ينتم إلى اتجاه بعينه في الشعرية العراقية. لذلك لم تكن “تمرين على اليقين” قصيدة أعجوبة كما وصفتها الناقدة هناوي.
مَن قرأ طهمازي جيدا لا بد أن يكون قد توقع أن يصل إلى هذه القصيدة. أما وقد تعرض العراق للهزات الكارثية بعد حروبه التي انتهت بالاحتلال الذي أسس لدرجة هائلة من الضياع فإن شاعرا بعمق نظرته النقدية لا بد أن يفجر لغته في وجه العالم لا من أجل تغييره بل من أجل تحديه.
سأجازف لو أنني صنفت طهمازي كونه النموذج المثالي للمثقف اللامنتمي الذي لم تفارق روحه مسؤولية الالتزام. وهو التزام لا ينحصر في ما هو سياسي. بل قد تكون السياسة هي أضعف وآخر أبعاده.
الشاعر بسحره وعزلته
“مرت الساعة لا تشبهنا إلا قليلا/ أهو الطفل الذي/ يسبق النوم إلى اليقظة والذئب الذي يسمع صوته/ أهي بغداد التي نذهب فيها لأقاصي الذاكرة/ قاطعين الطرق المزدحمة/ كاسرين الجمجمة”.
أليست تلك نبوءة شاعر ملهم؟
العراق الذي عرفه طهمازي هو عراق منفصل عن نفسه. ذلك ليس عراق اليوم بل هو عراق الذاكرة. العراق الذي عرفه الشاعر في المقاهي والشوارع الجانبية ومكتبات الرصيف والمعتقلات والأخطاء المجانية والحروب والقتلى. لم يقل “أنا أكثر عراقية منكم”. كان عراقه يبتعد ولم يكن عراقنا يقترب. لقد عرفته عن بعد ولم يكن يعرف أنّني كنت احتفظ بمقاله الأسبوعي الذي كان ينشره في صحيفة “الجمهورية” العراقية لكي أقرأه مرات عديدة. لا من أجل أن أفهمه بل من أجل أن أتمتع بلغته الساحرة. يملك طهمازي خيالا يقفز بالمفردات من دلالتها الواقعية في اتجاه خيالها. في كل ما قرأته كان طهمازي مدهشا ومستفزا وعميقا بنثره.
لم يكن عبدالرحمن طهمازي جزءا من مهرجان الشعر الذي شهده العراق في سبعينات القرن العشرين. لقد حرص على ألاّ يكون كذلك. حرص على أن يشق طريقه وحيدا. لم يكن له ذكر في كل اللقاءات التي شهدتها بغداد. ليس لأنه لا يميل إلى الاستعراض فحسب، بل لأنه أيضا يفكر في الشعر برؤية مختلفة عمّا كان سائدا. أما حين اختار أن يؤلف كتابا عن الشاعر العراقي الرائد الصامت محمود البريكان فإنه وجد في البريكان ما يذكّره بنفسه. فالاثنان لم تُفرض عليهما العزلة بل كانت خيارهما الوجودي.
ربما كان طهمازي أكثر شفافية حين اخترق جدار تلك العزلة فصار يكتب في الصحف اليومية كما لو أنه كائن قد تمكن المجتمع من تدجينه. وهو ليس كذلك بالتأكيد.
كتب طهمازي نثرا يستحق أن يكون مادة لكتب عديدة. فهو إذ يفكر بالعالم باعتباره خميرة شعرية فإنه يفكك مشكلاته بطريقة يغلب عليها ترف اللغة.
كتب الشاعر “ما ذقتُ هذا الخبزَ. كيف أذوقُ خبزًا؟ أنتَ ذقتَ مرارتي، ورعيتَ صومي/ يا أيها الطيرُ الذي كلّفتني حزْنًا ستشرحُ لي المسرّةْ/ سترى طريقًا عند بابي رابضًا وترى خطايْ/ يمضي بها نبضي ويختلفُ المسيرْ/ إنّ الطريقَ إلى بلادي/ هي كالبلادِ على طريقي/ شيءٌ يدورُ فيستديرْ/ مَنْ ذا سيختمُ قصة/ رُويَتْ وتُرْوى لي تباعا/ إني رأيتُ الريحَ تخبطُ مرتينْ/ ورأيتها تعلو اتساعا/ يد طفلتي في الغاب قد عرفتْ أباها وأنا أشدُّ على سواها”.
◙ شاعر يفكر في العالم باعتباره خميرة شعرية
ShareWhatsAppTwitterFacebook
فاروق يوسف
كاتب عراقي