الناقد الصحفي والمجاملات وتراجع الوعي أفقدوا النقد مكانته

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الناقد الصحفي والمجاملات وتراجع الوعي أفقدوا النقد مكانته


    الناقد الصحفي والمجاملات وتراجع الوعي أفقدوا النقد مكانته


    نقاد وكتاب سوريون: غياب النقد خطر على الثقافة.


    حين يصمت الناقد يفسد الأدب (لوحة للفنانة سندس عبدالملك)

    انتهت العلاقة الإشكالية بين النقد والإبداع إلى طلاق بائن، خاصّة بعدما استعلى النقد على الإبداع، واتّهم المبدعون الناقد بالغموض والتباهي بالمصطلحات الغريبة؛ التي دفعت القارئ إلى البحث عن البديل، فيما احتج النقاد بتردي المنجز الذي لا يمكن التأسيس عليه، وهي خصومة يبدو أنها أضرت بالأدب بشكل لافت. وتميزت سوريا على امتداد تاريخها بتجارب نقدية مميزة، وفي ما يلي رصد لمآلات الساحة النقدية السورية راهنا.

    دمشق – لطالما اتهم النقد الأدبي في العالم العربي بأنه خاضع للشللية، أي أن يعلي “الناقد” من شأن المقرّبين منه أيديولوجيا أو فكريا أو اجتماعيا، ولو كان نتاجهم لا يرقى إلى الدرجة الصفر من الكتابة؛ أو لقانون العرض والطلب، أي أن يثيب النقاد من يجزل لهم العطاء، أيا ما تكن صيغته، بمقالات مدحية تنزّل المعطي منزلة الفحول. بل إن ثمة من هو متخصص في بعض الأسماء، من تلك التي تدفع بسخاء، ولا يكتب في الغالب إلا عنها.

    وأما النقد الأكاديمي، الذي يفترض فيه أن يتوسّل بمناهج نقدية من ابتكاره لتفكيك الأثر الأدبي والوقوف على جوانب القوة والضعف فيه، فهو في عمومه يعاني بدوره من هنات كثيرة رغم أهميته.
    النقد ضروري


    يتهم النقد الأدبي الأكاديمي غالبا بأنه منشغل بذاته، يبحث في مدونة القدماء عن نظريات نقدية قد تصلح لمقاربة الأدب الحديث؛ أو أنه آثر اقتفاء خطى السابقين ليمعن في تكريس من لم يعد في حاجة إلى تكريس، ويعيد إنتاج ما كتب عمن صاروا من الأعلام؛ أو هو مفتون بالمناهج الغربية يَلوث مصطلحاتها بغير بيان، ويجهد في فرضها على نصوص من بيئة غير البيئة التي وضعت لها.

    النقد المعاصر يحاكي في بعض اتجاهاته مناهج ونظريات غربية إلا أنه لم يشكل مناخا ثقافيا ونقديا عاما

    ولم يخرج النقد الأدبي في سوريا منذ نشأته مطلع القرن العشرين عن كونه إبداعا فوق إبداع من خلال أسماء أدبية كبيرة حملت لواءه وسارت به جنبا إلى جنب مع الأدب ليحمل الراية من بعدهم نقاد أكاديميون ومتخصصون حققوا ريادة عربية ولاسيما مع عقد السبعينات، ولكن رغم البدايات المهمة والمؤثرة عربيا فإن واقع النقد في سوريا تغيّر في السنوات الأخيرة.

    تغير المشهد الأدبي لاسيما بعد الحرب التي شهدتها سوريا، وبالتالي تراجع معه المشهد النقدي، كما نرى من خلال آراء عدد من المختصين في هذا الشأن.

    يجد الناقد نذير جعفر الذي ظل مقررا لجمعية النقد الأدبي في اتحاد الكتاب العرب لثلاث دورات أن النقد المعاصر لدينا يحاكي في بعض اتجاهاته مناهج ونظريات غربية إلا أنه لم يشكل مناخا ثقافيا ونقديا عاما.

    ويعول مؤلف كتاب “بنية الخطاب السردي” على دور النقد في النهوض بالأدب لأنه لم يعد ملحقا سطحيا له ووظيفته انتقلت من شكلها الكلاسيكي إلى ضرورة الوعي الفلسفي بالعصر وبالأدب وأجناسه وشروط تحققه عبر منظومة نظرية جمالية فكرية يتحاور في ضوئها الناقد مع النصوص ويحاول أن يكشف عن أنساقها ويستبطن أعماقها ودلالتها ورسالتها.

    وقريبا من وجهة نظر جعفر تصف الناقدة ريما دياب النقد الأدبي بأنه فن وإبداع يقوم على تفسير وتأويل وتحليل الأعمال الأدبية بغرض الكشف عن مواطن الجمال وتقويم نقاط الضعف فيها، لافتة إلى أن الناقد ليقوم بهذه الوظائف لا بد أن يمتلك أدوات تمكنه من قراءة النص والولوج إلى عالمه الخفي بحيث يقرأ ما لا يقرؤه القارئ.

    وحول واقع النقد الأدبي في سوريا تقول دياب “نشهد اليوم غيابا للنقد الحقيقي عن الساحة الثقافية فكثيرا ما نجد احتفاء بالشعراء أو الأدباء ولكن لا نجد نقدا للنصوص وتقويما لها، وهذا بدوره يشكل برأيها خطرا على الثقافة وخاصة مع ما نشاهده على صفحات التواصل الاجتماعي التي تطلق أشخاصا يدعون النقد وهم لا يمتلكون معرفة أو ثقافة نقدية”.
    الناقد الصحفي


    الملاحظ في السنوات الأخيرة انتشار الكتابات الصحفية السطحية التي تدعي النقد، وهي مقالات سريعة وعارضة، فيها من المحاباة قدر كبير، وفيها من النزوع إلى تصفية حسابات سابقة أو لاحقة ما يجعل الدارس حذرا مما يقف عليه من أحكام، إذ عادة ما يتجاوز التعريف بالأثر وإحلاله موقعه من المنجز الأدبي، إلى التشهير بصاحبه ووصمه بما ليس فيه، أو مدحه بما لا يستحق، لاعتبارات مزاجية ونفعية، وغالبا ما يكون الموقف من الأثر المنقود متسما بالاِنطباعية والاِرتجال.

    ولا تخفي دياب، مدرسة النقد العربي القديم في جامعة دمشق مخاوفها من ظهور المجاملة والمحاباة والعلاقات الشخصية والمصالح الذاتية على الساحة النقدية وهذا برأيها يسهم في تضليل وظيفة النقد الحقيقية في حين يجب أن تسود الثقة بين المبدع والناقد الذي يجب أن يكون أكثر اطلاعا لكي يستطيع الإحاطة بالمنجز الأدبي من خلال سعة معرفته أولا ومن ثم يأتي الذوق تاليا.

    أما الأديب منذر يحيى عيسى رئيس فرع طرطوس لاتحاد الكتاب وصاحب التجربة التي جمعت الشعر والدراسة النقدية، فيؤكد أيضاً على عملية الثقة بين المبدع والناقد وتوسيع الأخير لمعارفه لكي يحيط بالعمل بحيادية مع عدم مراعاة العلاقات الشخصية.
    هناك مخاوف يبديها الكثيرون من هيمنة المجاملة والمحاباة والعلاقات الشخصية والمصالح الذاتية على الساحة النقدية العربية

    والنهوض بعملية النقد يستدعي من القائمين عليه كما يؤكد عيسى دقة الملاحظة ومن ثم تليها خطوات أخرى من تفسير النص ومن ثم الحكم على القيمة.

    وفي معرض الحديث عن واقع النقد الأدبي اليوم تعرب الشاعرة والأكاديمية زينب حسين، المدرسة في المعهد العالي للغات، عن اعتقادها بأننا نعيش أزمة نقد أدبي اليوم ولكن لا بد من مراجعة لواقع النتاج الأدبي والثقافة الذي يعاني من تراجع دور المراكز التي خرجت لنا أهم النقاد، وتشدد على ضرورة تفعيل دور الجامعات وتطوير ما يقدم فيها من مواد وبرامج لتوجد نقادا في ظل التطور المعرفي والثقافي.

    وتبدي معدة برنامج مبتدأ الكلام الذي يتناول سير حياة مبدعين أسفها لطغيان الناقد الصحفي على الأدبي في الساحة الثقافية لأن الأول ينظر للنص نظرة وصفية بعيدة عن التحليل الحقيقي فيما على الناقد أن يبحث في النص من دون النظر لصاحبه.
    الألتراس الأدبي يفضح الوجه الاستبدادي للمثقف العربي


    "الذين قتلوا مي" لشعبان يوسف يكشف القشرة الوهميّة للحداثة.
    الأحد 2022/05/08
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    مي زيادة اكتوت بنار الذكورية

    مفهوم القبيلة الأدبيّة أو الألتراس الأدبي، واحد من المفاهيم الأكثر خطورة على الإبداع، وهو ما كان سببا غير مباشر في الأزمة التي يعاني منها النقد في عالمنا العربي قديما وحاليا، لما يمثّله من وصايا وقيود وحجر وإقصاء على الإبداع، وهذه الصفة مثلما تدفع بأحد الأدباء إلى القمة، تخفض بالآخر إلى القاع، بفضل تأثير هذا الألتراس الأدبي ودوره في الترويج لكتابة ما أو كاتب بعينه وغض الطرف عمن يستحق، وقد اختلفت صيغة وشكل القبيلة الأدبية/ الألتراس الأدبي مع اختلاف العصور وحركة التطور التي تلحق بالمجتمع وبنيته.

    قديما كان الألتراس الأدبي يتمثّل في جانبين، الأوّل مساندة الكاتب بالدفاع عن كل ما يكتبه، سواء أكان ذا قيمة حقيقيّة، أو كتابة متواضعة، والثاني بالهجوم على من يخالفه الرأي أو يشذ عن الجماعة، وأحيانا بالتقليل من منجزه، أو بالتغاضي عنه كلية. أما حديثا فقد ظهر الألتراس الأدبي في صيغة أكثر تطورا تتواكب مع الفضاء السبراني الذي غزا عالم اليوم، وهو حاضر بصورة لافتة في قنوات الكتب على محتوى “يوتيوب”، وأيضا في جروبات الكتب التي تمتلئ بها صفحات السوشيال ميديا، والتقييمات على جود ريدز وأبجد وغيرها من مدونات القراءة.

    لعب الألتراس الأدبي دورا خطيرا في تهميش كتابات تستحق الإشادة والاحتفاء، وكبت أصواتا حقيقية غردت خارج السرب، لأسباب مجهولة بعضها يرتبط بمناخات العصر وثقافته، وإن كانت تكشف عن أنساق مضمرة تتعلّق بالهوّة الكبيرة بين شعارات التحرّر والليبراليّة التي رفعها الرجال، وممارستها على أرض الواقع، وهو ما كشف من جانب مواز عن مناخ فكري مقيّد وراديكالي، وإن كان متخفيّا في ثياب حداثة وهمية لا تؤمن بالآخر، ولا تقبل بالتعدّد والمشاركة، بل هذا المناخ، بصورة أعمّ، قاتل لروح الإبداع ومجهض لكلّ فكر حرّ خلاّق.

    ثانيا إن ما يمارسه الآن الألتراس الأدبي وإن كان مدفوعا بعوامل مادية بعيدا عن القيمة الأدبيّة والجماليّة، عوامل مرتبطة في المقام الأول بسلطة دور النشر المهيمنة على سوق الكتابة، في الترويج لبعض الأعمال الركيكة على حساب أخرى أكثر جودة ورصانة، فلو تأمّلنا صفحات تاريخنا الثقافي والفكري، لاكتشفنا أن هذا الدور لعبته، بلا مواربة، قامات فكرية كبيرة، وإن كان بصورة مختلفة جزئيا عما هو الآن، حيث همشت وأقصت عن المشهد كتابات كثيرة ذات قيمة، وبالأحرى لكاتبات، انتهى بأصحابها الحال إلى الموت كمدا، كما ذكر شعبان يوسف في كتاب حمل هذا التساؤل “لماذا تموت الكاتبات كمدا؟”.


    المرأة دائما في صورة يرسمها الذكور (لوحة للفنان محمد خياطة)


    وبالمثل كانت حكاية عنايات الزيات، التي استعرضتها إيمان مرسال في كتابها “في أثر عنايات الزيات”، واحدة من الحكايات، المؤسفة، التي كشفت عن استبداديّة ذكوريّة، وقمع فكري لنصفه الثاني، وأن التهميش الذي طالته المرأة المفكرة والمبدعة، تمتد جذوره إلى بداية القرن التاسع عشر، على الرغم من الادعاءات بالثورات الفكرية، وما تضمنته من دعوات إلى تحرّر المرأة من الكثير من القيود، والمطالبة بحقّ التعليم والاستقلال والمساواة بالرجل، بل وصلت إلى المناداة برفع الوصايا الذكورية كاملة.

    استبدادية الرجل، وتهميشه لكتابات المرأة تحديدا، حرّضت الرجل، في نوع من المغالاة، على البحث عن أسباب ندرة النتاج الفكري والنقدي للمرأة العربية، في مقابل شيوع كتابات الرجل، وفي حقيقة الأمر لو تأمّلنا صيغة السؤال والإجابات التي عدّدها الرجل لشعرنا بنبرة التباهي والاستعلاء في ثناياهما، وإن كانت في حقيقة الأمر أسباب الندرة تبعث بمزيج من الدهشة والاستنكار، لا بسبب كون المرأة تابعة للرّجل الذي تسيّد، ومع الأسف لم تستطع أن تتجاوزه (كما ظن)، أو حتى تتحرّر من الهيمنة الذكورية التي فرضها بوسائل عدّة أقرب ما تكون إلى الوصايا عليها، وإنما لوجود إدانة حقيقية للرجل، بوصفه أحد الأسباب الرئيسيّة المعوّقة لعدم ظهور المرأة كشريك له في الإنتاج الفكري والنقدي، وكأنه يشير – ولو من بعيد – إلى تمييز بيولوجي جنسي/ جندري: ذكر مقابل أنثى كتقليل من مكانة المرأة، أو محاولة إلزام المرأة بأدوار اجتماعية تتناسب مع طبيعتها البيولوجية.

    فالرجل الذي دعا إلى تحرّر المرأة، ونادى بمساواتها له، هو نفسه – ويا للعجب!– الذي أنكر عليها حقها في التفكير، بل مارس بكل ضراوة وعنف الإقصاء على كل نتاجها الإبداعي والفكري النقدي! وهو ما يضعنا أمام مأزق حقيقي، بين دعاة التنوير، وهذه العقليات الراديكاليّة، مع أن المسافة بين التنوير والحجر بعيدة، فلا يمكن أن يلتقي أصحاب الفكر التنويري والظلامي في نقطة مشتركة، إلّا أنّه مع الأسف في مسألة المرأة التقى الاثنان، وهو ما كشف عن قشرة الحداثة الوهمية التي يدعيها التنويريون وأصحاب دعوات الحريات، والمساواة، فوجود المرأة في دائرة الرجل، ما هو إلا وجود رمزي أو شكلي مناقض لطبيعتها في وعيه الفردي والجمعي.

    تاريخ المرأة وتحديدا تاريخ الكتابة حافل بنماذج عديدة من الشخصيات الأدبيّة التي وقعت فريسة وضحية لتسيّد الرجل واستبداديته الفكرية معا، والكاتبة مي زيادة (1886 – 1941) بكل ما عانته من تهميش واستخفاف على المستوى الشخصي والإبداعي، هي النموذج والعنوان لمثل هذه الممارسات الذكورية الفجّة في حق المرأة المبدعة، فما عانته مي زيادة هو صورة من معاناة أكبر للمرأة، وخاصة المرأة المبدعة والمفكرة، من الرجل الذي كان يدّعي مناصرته لها ولقضاياها، نماذج نسائية كثيرة عانت ليس من الإهمال والإنكار لكتاباتها وموهبتها، بل عانت أيضا من العنف الذي تساوى بالقتل المعنوي لموهبتها.

    يشير الشاعر والناقد شعبان يوسف في كتابه الجديد “الذين قتلوا مي” (الصادر عن كتاب أخبار اليوم / بالقاهرة) إلى أن نموذج مي زيادة الشاعرة والكاتبة والصحافيّة والناقدة، يعدُّ الأكثر تمثيلا لقهر الذكوريّة للإبداع، وهو ما حدا به إلى أن يصف هذا الفعل (المؤذي) بالقتل، حتى ولو كان المقصد القتل المعنوي وليس الفيزيقي.
    نساء الهامش


    كتاب شعبان يوسف على الرغم من أنه مخصص للحديث عن تجربة مي زيادة وعلاقتها بالذكورية التي كانت قتلا بالمعنى المجازي لموهبتها، كما يحدّد في مقدمة الكتاب، إلا أن أحد أهدافه الأساسية هو تسليط الضوء على ثقافة عصر، تمثّلت لكل ما هو عداء للمرأة عموما، والمرأة المبدعة على وجه الخصوص، لا فرق بين أسماء قامات وأعلام كطه حسين والعقاد والرافعي والمازني وميخائيل نعيمة وغيرهم، تساوى الجميع في عدائهم للمرأة، وإن تنوّعت أساليب محاربتهم لها.

    كتاب شعبان يوسف على الرغم من أنه مخصص للحديث عن تجربة مي زيادة وعلاقتها بالذكورية، إلا أنه تناول خفايا أخرى

    هذا العداء عانت منه نساء مبدعات كثيرات على مر التاريخ كشاهد على ظلم الرجل/ المثقف وأنانيته، وكشف عوار أدعياء المساواة والتنوير، الذين مارسوا غبنا وظلما بحق كاتبات مثل: ملك حفني ناصف (باحثة البادية) وعائشة التيمورية وجليلة رضا ودرية شفيق ونبوية موسى، وصولا إلى ليلى الشربيني ونعمات البحيري وأروى صالح وابتهال سالم ومديحة أبوزيد وغيرهن من كاتبات ورائدات في مجال إبداع وكتابة المرأة، وذلك على مدى القرن العشرين. وهو ما يضعنا أمام مواجهة مع ثقافة أبوية استبعادية وتهمشية بامتياز للنصف الثاني.

    يتخذ شعبان يوسف من نموذج مي زيادة وسيلة لقراءة التاريخ الخلفي للثقافة المصرية والعربية أو التنقيب في الأرشيف السّري للثقافة، في حقبة مهمة من أنصع حقبها معرفة وثراء على مرّ التاريخ الحديث، حيث النوابغ والجهابذة في كافة مجالات الأدب وفنونه، فيحصي عددا لا حصر له من النساء الكاتبات اللاتي تعرضن لمسلسل التهميش والتسخيف والتقليل والهجوم، الممتد على مدار عقود طويلة وعديدة في القرن العشرين، وهو ما شبهه بقتل مع سبق الإصرار والترصد والتخطيط الفكري والثقافي والبحثي. الغريب والمثير حقا أن هذا التخطيط، حسب قوله، لم يأت من جهات رجعية أو متطرفة أو محافظة “سعت ضمن أيديولوجتها القائمة والمرتكزة على نفي المرأة وعدم الاعتراف بإبداعاتها، وتجلياتها المختلفة، الفنية والثقافية والفكرية في الحياة العامة”، بل بوجودها وماهيتها من الأساس، أي الاحتكام إلى نظرة جندرية.

    ومن ثم تتدافع الأسئلة من قبيل: ما هي السياقات والعوامل التي دفعت كبار الكتاب إلى أن يتعاملوا مع المرأة بهذه الصورة؟ هل ثمة تناقض بين الأفكار الليبراليّة عن تحرر المرأة والدعوة إلى مبدأ المساواة، وهذا الموقف المعادي للمرأة بصفة عامة؟ هل كان إبداع المرأة عائقا أمام تفوق الرجل أم أنها كانت أكثر منه موهبة؟ أسئلة كثيرة تتردد على الذهن أثناء قراءة عنوان الكتاب “الذين قتلوا مي”، وما يتضمنه من جريمة حتى ولو بالمعنى المجازي، تحيل إلى متهمين محددين بالاسم!

    لا يلقي شعبان يوسف بتهمة التهميش على عاتق أحمد أمين، أو حتى غيره من الكتاب والباحثين الذين تصدوا لكتابة ورصد تاريخ الفكر والأدب وأسقطوا عمدا ذكر المرأة منه، وإنما يرجع الأمر إلى عوامل كثيرة يبرز في مقدمتها المناخ الفكري والثقافي المتطرف الذي كان سائدا بضراوة، بغض النظر عن الحديث الناقص دائما عن ليبراليّة، ويرى أنّ هذا المناخ المعيوب، هو الموجّه الأساسي للأفكار في تلك الفترة والمسؤول عن الخلل والقصور، دون التقليل من عوامل أخرى مثل التأويلات الدينيّة المتطرفة التي عززتها “سلطات رجعيّة ومتخلّفة، وكذلك جماعات تتمترس خلف تلك التأويلات وتعمل على ترويجها وتسويقها بشكل فردي أو عبر جماعات أو مؤسسات”.

    يضرب يوسف مثالا وافيا على مناخ الإقصاء والإهمال والاستبعاد المتعمد، الذي مارسته الذكوريّة ضدّ المرأة المفكّرة والناقدة والإصلاحيّة، فثمة أسماء كثيرة، ولنقل على وجه الدقة قامات علمية كبيرة، هي التي تعمدت تشويه صورة مي، سواء بالكتابة عنها بصورة سلبية، أو بمعلومات من شأنها تدعو إلى الريبة والتوجّس في شخصيتها.

    وجاءت صور الإقصاء أو التشويه في شكلين، الأول إقصاؤها تماما عن المشهد ليس مي فقط، بل المرأة بصفة عامة، بإغفال ذكرها والتنويه بأدوارها في كتاباتهم، كما فعل أحمد أمين في كتاب “زعماء الإصلاح”، فاستبعد النساء من حديثه عن زعماء الإصلاح، وقصر فعله على الذكور فقط، كما يفهم من عنوانه، وهو ما أكده بنماذج لشخصيات ذكورية دون غيرها، وبالمثل فعل عباس محمود العقاد في حديثه عن الشعراء وبيئاتهم (1937)، فقد أغفل عن عمد شاعرات مهمات، واكتفى بعائشة التيمورية وذلك لأسباب خاصة، تتعلّق بمكانة الأسرة الخاصة في الحياة الاجتماعيّة، ومع ذكره لها إلا أن نزعته الذكورية تغلبت، وظهرت، فأنكر بصفة عامة “أن تكون المرأة شاعرة، حتى ولو نالت قسطا كبيرا من التعليم”، والأغرب هو تبريره حيث “عزا مسألة الشعر إلى استعدادات خاصة وفطرية، نادر تحققها عند المرأة”.

    الشكل الثاني من أنواع الإقصاء، تمثّل في ممارسة كافة أشكال العنف والقسوة ضدّ كتاباتها أو شخصيتها، وهو ما مارسه الدكتور طه حسين، الذي أغفل دورها ومكانتها الأدبيّة بما قدمته من نتاجات أدبية ونقدية، كانت بمثابة الريادة في مجال النقد النسوي، ثم هجومه العنيف على كتاباتها ورفضه أن تتساوى بما يكتبه الرجل، وهو ما وصل به إلى السّخرية والتسخيف عليها.

    وهناك محمد حسين هيكل صاحب رواية زينب (1913)، الذي هاجم أفكار مي زيادة، بطريقة غريبة، إذ قال على لسانها إنها ترى “أن المساواة بين الرجل والمرأة عدوان على الرجل والمرأة معا”، معظم ما قاله الدكتور هيكل في حفل التأبين يأتي نقيضا لما دافعت عنه مي، فهو مثلا يقول إنها كانت تنفر من فكرة حق الانتخاب بالنسبة للمرأة، أما أعظم الآراء غرابة فهو مناداتها بأن أعظم عنوان لرجولية الرجل، هو “كمال رجوليته”، والعكس بالنبسة للمرأة، فإن أكبر فخر للمرأة هو “كمال أنوثتها”.

    لا فرق بين أسماء قامات وأعلام كطه حسين والعقاد والرافعي والمازني وميخائيل نعيمة وغيرهم في عدائهم للمرأة

    وعمد يوسف وهو يستعرض تناقض الفكر الليبرالي، في أول اختبار حقيقي له لإثبات إيمانه بما يدعو إليه، إلى أن يستعرض لآراء مي زيادة، وأفكارها التي كانت بمثابة ثورة في وقتها، وتأكيدا لعبقرية لم ينكرها هؤلاء المبدعون في بادئ الأمر، على نحو ما فعل سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وميخائيل نعيمة. فشعبان يوسف إلى جانب نقده (أو نقضه) للآراء الهدامة التي همّشت إبداع مي الأدبي، وريادتها في النقد النسوي، والكتابة الصحافية التي تضع تجربة مي في منطقة مستقلة لأسبقية هذه الأفكار التي وضعت المستقبل في بؤرة الحاضر، فإنه في الوقت ذاته يُسلّط الضوء على هذه الأفكار ويستعرضها بالمزيد من التفصيل، كأدلة نفي على ما روّجه الفكر الذكوري الاستبدادي، عن شخصية مي وسيرتها الفكرية، دون تشنجات أو حتى صراخ بالدفاع عنها، فهو قدّم أمام كل فكرة هاجمها بها المتعصبون ما يثبت عكسها.

    على مدار تاريخ مي زيادة تعدّدت الكتابات التي تناولت ما يمكن أن نطلق عليه “ظاهرة مي” بما مثّلته مي زيادة بكتاباتها في الصحف وغيرها، وصالونها الأدبي، من إثراء للمشهد الثقافي في هذه الفترة، إلا أن الكتابات على اختلاف الأسماء التي وقعت تحتها، قصرت شخصية مي في جانب واحد، ألا وهو جانب الجسد بعيدا عن الجانب العقلي، وكأن كتابات مي لا قيمة لها، لذا نرى شعبان يوسف بوصفه مدافعا ضد هذا الغبن الذي لحق بسيرة هذه الشخصية الفريدة والاستثنائية في حياتها وبعد مماتها، ينتقد هذه الصورة النمطية التي سعت الذكورية لتكريسها، وهي تتناول سيرتها الشخصيّة.

    الأغرب في ظاهرة مي أنها كشفت تناقض الرجل، فهناك البعض ممّن مدح موهبتها اللافتة، وملكاتها المتعدّدة، ثم بعد ذلك، في ردة مجهولة الأسباب، ثار عليها، وانتقص من قيمتها بكتابات جافت الحقيقة، وإن فاقمت مأساتها، على نحو ما فعل المفكر سلامة موسى الذي قدم كتابها “مد وجذر” عام 1924، وذكر صراحة غبطته لما كتبت قائلا “إننا نغبطها جميعا لذكائها وسعة ثقافتها، ونود أن نجد عددا كبيرا من فتيات سوريا ومصر يقتفين أثرها في خدمة الحياة القومية العربيّة والعمل على رقيها ورفعها”، ثم بعد ذلك تنكّر لما قاله سابقا، والجرأة التي وصفها بها صارت جبنا وشارك في حفلة الهجوم والتهميش بحقها.

    وهذا التشويه لسيرة مي، كان نتيجة لأن معظم من تناولوا حياتها وتاريخها الشخصي، وأخبار مأساتها، تحوّلوا إلى قضاة وجلادين، بل تحولوا إلى “محللين وبيولوجيين واجتماعيين بإفراط”، وهذه التحليلات جعلت البعض يغالي في وصمها بالجنون والاكتئاب المزمن والنزق والوسوسة، ومنهم من اتخذ الكتابة كآلية انتقام منها لأسباب مجهولة، بمحاولة العبث وتشويه تاريخها الشخصي، بتمرير معلومات خاطئة عنها.

    وهناك من أغفل مي كاكتبة ومفكرة، إلا أنه لم يأت ذكرا في كتابه ما يشذ به عنهم. وهذا حاضر في كتاب فتحي رضوان “عصر ورجال” 1967، وقد أفرد فيه فصلا عن مي، إلا أنه قصر حديثه على حياتها الشخصية وقصص حبها، وعلاقاتها المتعدّدة وصوتها العذب ولمساتها وهمساتها وغيرها من معلومات تسعى لترسيخ جانب معين في شخصية مي، هو الجانب التافه بعيدا عن الجانب الرصين المتمثّل في أفكارها وآرائها، وكتاباتها، الغريب في كتاب فتحي رضوان أن الكتاب يروّج لمعلومات خاطئة في حقّ مي كعلاقتها بجبران، أو أن الندوة كانت بمثابة شَرَك لاصطياد الرجال، وأيضا ما هو متعلّق بتاريخ ولادتها، الذي يذكر أنه في عام 1886 على غير الحقيقة، وهو ما يتردد في كتاب طاهر الطناحي “أطياف من حياة مي” (1974).

    يؤكد شعبان يوسف أن معظم من تناولوا سيرة مي ابتعدوا عن خصوصيتها الحقيقية، باعتبارها كاتبة، بل ورائدة في بعض الأعمال كما تجلّى بصورة واضحة في كتابها عن “باحثة البادية” (1920) الذي قدم مي زيادة كرائدة من رائدات النقد النسوي، انتصرت فيه لقضية المرأة على المستوى الاجتماعي والفكري والأدبي والثقافي، كما رصدت فيه ملامح كتابة المرأة، وهو ما أردفته بكتابات عن عائشة التيمورية، ووردة اليازجي. فتغافلت كتاباتهم عن سيرة هذه الكتب المهمة، باستثناء منصور فهمي، الذي دعاه ساطع الحصري 1954، لكي يلقي بعضا من محاضرات عن معهد الدراسات العربية، وبالمثل اكتفى العقاد بقصيدة في تأبينها، ذكر فيها أن ما جذبه إليها “الحديث الحلو واللحن الشجي”، وعندما كتب مقالا عنها بعنوان “رجال حول مي”، لم يتحدث فيه، كما يقول يوسف، إلا عن دعابات شبلي شميل، وعشقه لمي، ومشاكسته للأدباء، وأيضا غمغمات مصطفى المنفلوطي، مجمل مقال العقاد يبعد عن القضايا الأساسية والمهمة التي كانت تُطرح في صالونها، ويكتفي بما يراه ينقص من قيمتها، وأنه هو السبب الحقيقي لذهاب الذكور إلى مجلسها، وهو غمز صريح، بالافتتنان بالجسد لا العقل! وينتهج نهج العقاد في الهجوم، الشاعر والصحافي كامل الشناوي في كتاب “الذين أحبوا مي”، مع أنه في مقدمة كتابه ينتقد هؤلاء الكتاب.
    طه حسين المعنِّف



    ظاهرة مي


    لم يختلف طه حسين عن قامات عصره في تقييم مي، ومحاولة النظر إليها بعيدا عن نتاجها الأدبي والنقدي المميّز، فطه حسين عند وفاتها، ألقى كلمة في تأبينها، حصر فيها مي في شيئين: الأول يتمثّل في صالونها الأدبي، والذي استُؤنفت فيه الحياة الأدبيّة المشتركة بين الرجال والنساء بعد أن انقضت عصور بغداد والأندلس.

    والشيء الثاني هو تأثرها بأبي العلاء بعد محاضرة ألقاها أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد. يظهر تأثير القبيلة الأدبيّة في أن معظم الكتابات التي تناولت حياة مي، أثنت على ما قاله طه حسين، واعتبرت ما قاله ميزة خصّ بها مي، وإن كان شعبان يوسف يرى في موقف طه حسين انتقاصا لمي ومكانتها ودورها الأدبي والنقدي، وثانيا أن الكتابات التي أشادت بموقف طه حسين هي الأخرى غير منصفة، لم يبذل أصحابها، وتحديدا محمد عبدالغني حسن، وسلمى الحفار الكزبري، مجهودات في تتبّع مسيرة مي.

    يكشف يوسف أن كتابات طه حسين عن المرأة بصفة عامة، كانت شحيحة، ولم يكتب إلا نادرا ولأسباب خاصة، أما قسوته ضد مي فظهرت بعد محاضرتها التي ألقتها في الجامعة الأميركية، عن مكانة المرأة عام 1943، وتأكيدها على دور المرأة في بناء الحضارات، فلم يرض طه حسين عن أفكارها وعن فحوى المحاضرة فهاجمها بقسوة، بأسلوب شديد السّخرية والتسخيف، بل وصل به إلى عقد مقارنة بين آدم وحواء، ومن المسؤول عن الشر الذي استشرى في العالم، واعتبر أن المرأة أصل الشرور.

    الناقد اتسم بالأمانة العلمية وقراءاته الواعية والدقيقة للسياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية والفكرية لتهميش المرأة

    لم يكتف طه حسين بنقده محاضرتها، بل قام بنشر مقالة أخرى في جريدة الوادي (23 أغسطس 1934) بعنوان “في الثقافة: كتاب إلى الآنسة مي”، اعترض فيها على محاضرتها عن أبي العلاء المعري، والتي عقدت فيها مقارنة بينه وبين طه حسين، وراح ينتقد أفكارها، ويسخر من آرائها بأسلوب شديد القسوة.

    قسوة طه حسين كشفت في أحد جوانبها عن حالة الاستعلاء التي واجهت بها الذكورية خطاب المرأة، وكأنه عزّ عليهم أن يروا المرأة في منزلة غير تلك التي حبسوها فيها، أو أن العلم صار حكرا عليهم، ولا يجوز أن تقترب منه المرأة بتاتا مهما كان نبوغها وتفوقها، وهو ما تكرّر مع جيل طه حسين كإبرهيم عبدالقادر المازني، الذي لم يقلّ قسوة في نقده لمي عنه، بل سخر من كتاباتها.

    هذه الآراء التي أوردها شعبان يوسف حول مي من كبار الكتاب سواء في كتابات عنها أو في حوارات أو في مناسبات متعلّقة بحفل التأبين، جميعها أكدت همينة النقد الانطباعي القائم على الذوق الخاص والرأي الشخصي، بعيدا عن الفنيات، أو حتى متصل بالكتابة نفسها وما تطرحه من أفكار وقضايا، فكثير من الكتّاب هاجموا مي لكونها امرأة ليس إلا، وحكموا على جسدها لا على عقلها، فمثلا الناقد أنور المعداوي لم يشغله من أمر مي سوى علاقتها بجبران، وقد وصل به الأمر إلى التحدّث عنها بصورة غير لائقة فيقول “مي ليست امرأة طبيعية، بل هي امرأة شاذة، بل هي ليست امرأة على الإطلاق”، والسؤال عندما نقرأ مثل هذا الرأي نتأسف لما كان عليه الواقع الثقافي.

    مع الأسف وقعت مي فريسة لكتابات الرجال الذين تناوبوا الكتابة عنها باستثناء كتاباتها، تحدثوا عن شخصيتها وجمالها، وعلاقتها بالرجال عبر صالونها، إلا أنهم لم يقفوا على ما تكتب لأنهم بالأحرى لم يقرأوا، هم حاكموها دون أن يقرأوا ما كتبت، وكأنهم استنكروا أن يروا مثل هذه المرأة الاستثنائية تكتب مثلما يكتبون، وتفكر بعقل مثلما يفكرون، وتناقش بمنطق ووعي مثلما يناقشون بل أكثر، فوجدوا فيها عقلية مفكرة وناقدة لا امرأة تقول نعم وحاضر، وهو ما ألّبهم ضدها.

    يبدو شعبان يوسف وهو يستعرض للكثير من آرائها وكتاباتها، أنه ينحاز لعقل وأفكار مي، لا لجمالها وأنوثتها، كما دأب كبار المفكرين، الذين انشغلوا بالجسد على حساب العقل، وعندما وجدوا صدودا منها، انقلبوا عليها وارتدوا عن آرائهم التي مدحوها بها من قبلُ، وهو الأمر الذي يضع رجال الفكر والثقافة تحت دائرة السؤال! عن هذه الازدواجية، خاصة أن هذه السياسة التقزيميّة دفعت البعض إلى الانتحار على نحو ما حدث مع نعمات الزيات، وأروى صالح، وكان الانتحار بمثابة لطمة على وجه المثقفين الليبراليين الذين يفعلون عكس ما ينادون به، وهي الإشكالية التي تعود بنا إلى ثنائية المثقف الحقيقي والمثقف المشوّه بتعبير أروى صالح، أي المثقف العاشق كما وصفته أروى، الذي كان هدفه صبّ العسل في آذان المناضلات، باسم وهم الحبِّ وشعارات التحرّر والتمرد، وكلّ هذا من أجل غرض وحيد، هو ممارسة الدعارة الفكريّة إلى جانب الدعارة الجسديّة، ليتمّ النضال الحقيقي على الأَسِرَّة.

    يتخذ الكاتب من نموذج مي زيادة، وسيلة لقراءة التاريخ الخلفي للثقافة المصرية والعربية أو التنقيب في أرشيفها السّري

    يغلب على الكتاب رغم صغر حجمه الاستطراد، فهو لا يقف عند موضوع الكتاب مي، أو آراء المنتقدين لها، بل نراه يستطرد ويتحدث عن التاريخ الشخصي لهؤلاء النّقاد: ميلادهم ونشأتهم وثقافتهم، واتجاهاتهم، لاحظ ما فعله مع سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وأنور المعداوي، حتى إنني خلت أن الكتاب موضوع عنهم، وأن اسم مي على الغلاف خطأ.

    الاستطراد يغلب على الموضوعات أيضا، فأثناء حديثه عن الدور التهميشي الذي قام به أنور المعداوي، خلافا لدوره النقدي، نراه يترك الحديث عن أنور المعداوي، ويتحدث عن ميخائيل نعيمة ومحاولاته في التسخيف على مي، ورفضه أن تكون مترجمة أو متفلسفة، ثم يعود من جديد للحديث عن أنور المعداوي، لم أعرف لماذا قطع الكلام عن أنور المعداوي ثم عاد إليه؟ وما مبرّر ذكر ميخائيل نعيمة في سياق الحديث عن المعداوي، خاصة أن منهج الكتاب يستعرض موقف كل كاتب على حدة؟

    الشيء الآخر غير المفهوم، هو الفصل الأخير، وهو فصل عن الكاتبة الراحلة نوال السعداوي، يستعرض فيه تاريخها الأدبي، ومواجهاتها الفكرية في غابة الأفكار الصنميّة، بالطبع قد يقول إنه يتحدث عن شخصية عانت من الذكورية أو بمعنى أدق من الأفكار الرجعية، ولكن منذ البداية، أي منذ عتبة العنوان، يخبرنا بأنه يتحدث عن مي زيادة، فما الدافع من ذكر نوال السعداوي في سياق الحديث عن مي، حتى لو ثمة مشتركات في فعل التنكيل والتربص، والأهم وأن شعبان يوسف سبق وأن أصدر كتابا لافتا بعنوان “لماذا تموت الكاتبات كمدا” وفيه استعرض للكثير من الأسماء التي عانت من الوصايا الأبوية، راصدا لتاريخ معاناة المرأة الكاتبة في ظل مناخات الرجعية، وهو ما انتهى بالبعض إلى القتل الفيزيقي وليس المعنوي كما في حالة مي، وهو ما تعرضت له نوال السعداوي نفسها، بالهجوم الشرس عليها من التيارات الدينيّة الراديكاليّة، وإعلان موتها أكثر من مرة، وإخراجها من الملة. فكان من الممكن إضافة هذا الجزء إلى هذا الكتاب، في إصدار ثان له، فموضوع السعداوي صار نشازا في سياق الحديث عن مي.

    لا تنفي هذه الملاحظات الأمانة العلمية التي يتسم بها الناقد شعبان يوسف، وقراءاته الواعية والدقيقة للسياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية والفكرية، والربط بين السياقات لاكتشاف الدلالات الكامنة والمستترة، والأهم هو جرأته النقدية في تعرية المسكوت عنه في واقعنا الثقافي، وعدم تقديس القامات الثقافية واعتبارها أصناما لا يجوز الاقتراب منها مهما كان اسمها أو قيمتها التاريخية والثقافية، فهو يتوخى الأمانة العلمية والمصداقية، ويكتب كتابة أشبه بكتابة مضادة لما هو سائد، كتابة تعمل على تصحيح الصورة دون هدم أو تجريح، وإعطاء كل ذي حق حقه، ويأتي هذا بأسلوب أدبي رفيع، يجمع بين جزالة اللفظ ودقة المعلومة العلمية. فتحية له على جهوده في كشف غلالة الزيف عن واقعنا الثقافي، وإنارة شمعة في نفق واقعنا الثقافي المعتم، وتصحيح مسار “النظام العشوائي” لثقافتنا، لو استعرنا كتاب غالي شكري.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    ممدوح فراج النابي
    كاتب مصري
يعمل...
X