الشــــروح والتعليقـات والتمهيـد .. كتاب مصوّر الخط العربي .. ناجي زين الدين
الشــــروح والتعليقـات
تمهيـد
مما لابد منه في هذا الفصل الوثيق العلاقة بفصول قصة البشرية ان نبدا بتعريف الكتابة والتاريخ في عرف المؤرخين من الوقت الذي اخذت هذه البشرية تسجل احداثها .
وليس من الانصاف ان تطلق على المراحل السابقة لمعرفة الانسان الكتابة عصر ما قبل التاريخ .
اذ ليس من شك أن معرفة الكتابة كانت خطوة واسعة خطتها البشرية وهي تتحسس موقع اقدامها على درب الحياة الطويل ، وهي حدث يمكن ان يعتبر بداية التاريخ مرحلة ما من مراحل الحياة البشرية ولكنه يغفل كثيرا من فصول القصة الانسانية التي تشكل مراحل طويلة بحساب الزمن من مراحل التاريخ ، وقد اعتمدت واستمدت مادتها من عظام الجماجم ، ورماد المواقد ورؤوس حراب صخرية مضى عليها آلاف السنين ، فليست الكتابة في الواقع سوى مظهر جديد على تاريخ الاحداث البشرية . وقد يكون للبشرية في العصور السابقة للكتابة تاريخ واحداث لا يقل اهميته عن تاريخ الكتابة المكتوب بل وربما يكون قد عرفت نوعا بل انواعا من الكتابات او استغلقت قراءة رموزها و نقوشها وصورها وزخارفها فلم يهند الى حلها وذهبت اخبارها واندثرت . . في انحاء المعمورة اندثرت وثائقها فلم تصل الى ايدينا كانها لم تكن شيئا مذكورا .
لهذا ولغيره راى العلماء ايضاح الفرق بين معاني كلمتي - التاريخ ، و - التاريخ .
اما الأول فهي المراحل المتتابعة للحياة ، وأما الأخرى فهي وسيلة لتسجيل احداث تلك المراحل .
وليست الكتابة بالوسيلة الوحيدة لهذا السجيل منذ ان استقرت الارض على شكلها الحالي تقريبا منذ نحو ۱۸۳۲ مليون سنة على حد قول علماء الجيولوجيا والانثربولوجيا .
ويقول فرانك هيبن Frank Hibben في كتابه : الحضارة القديمة في الدنيا الجديدة المطبوع سنة ( 1960 ) في نيويورك وترجمه الدكتور م - محمود الصياد وطبع سنة ١٩٦٢ في مصر . . لقد عاقت الافكار الدينية التي كانت سائدة منذ قرن من الزمان عمل الرواد من علماء الآثار الاوربين فمثلا على ذلك منع التمسك بالتفسير ، الكالفيني » ( * ) للخليفة ، وبانها لم تنشا الا منذ نحو ستة آلاف سنة منع كثيرا من الاوروبين من ان يتقبلوا الادوات الصوانية وعظام حيوانات ، وادوات قطع ودؤوس يدوية مطمورة تحت مستوى عميق من الركامات الجليدية التي تعود للعصر الجليدي . .
ولم يسلم الباحثون الأوروبيون بشكل عام بان الانسان الاول انما ظهر في العالم القديم ( آسيا ، افريقيا اوروبا ) منذ نحو مليون سنة . في
الجزء الاول من الدور الجليدي الاخير ، وقد عرف الجيولوجيون الآن من دراسة الحيوانات المنقرضة والتغيرات الجليدية ، وباستخدام الجداول المناخية ان العصر الجليدي الذي اطلقوا عليه اسم « البليستوسين ه قد استمر عدة مليون سنة تقريبا ، وفي تلك الفترة تكونت كتل ضخمة من الجلد على قارات نصف الكرة الشمالي ، وفي نفس الوقت كان اجزاء نصف الكرة الجنوبي تحت تاثير عصور مطيرة وقد تكون الجليد اربع مرات وذاب اربع مرات خلال البليستوسين على سطح الكرة الارضية ، وكانت هذه العصور الجليدية الاربعة رد فعل لتغيرات ضخمة في المناخ والمطر .
وبعد مواصلة علماء الآثار الجيولوجيون الاستعانة بالعلوم الأخرى لتاريخ الادلة البشرية ، بدا نمط الحوادث البشرية ياخذ نمطا واضحا يمكن التسليم به ، وعرفوا ان العصر الجليدي الاخير او جليد ( وسكونسن ) قد انتهى منذ حوالي ثمانية آلاف سنة ، اذ اخذت حيوانات العصر الجليدي التي مرت هذه الحقبة تنقرض منذ ذلك التاريخ .
وبتلك المبتكرات العلمية للتاريخ بلغت الاركيولوجيا رشدها كمعـدم مضبوط ، واصبح في مقدور علماء الآثار أن يكتشفوا مجرى متصلا للتاريخ لا يقل في تحقيقه عن المجرى الذي يتتبعه المؤرخون معتمدين على الوثائق المكتوبة . وعرفت التطورات البشرية منذ ان كان الكهف المقر الاول لسكنى البشر البدائي ، ثم انتقل من الكهف المظلم إلى الكوخ المخروطي ، المقام من فروع الشجر وسط الغابة وتدرج البدائيون من طور الصيد الى الرعي ثم الى الزراعة التي مست الحاجة الى التعاون والتجمع ، فتعلم آياء البشر اعمال الفكر في بناء المساكن من الطين واللبن کیا تعلموا كيف بحمون ما سار ، ومن هذا نشأت التقاليد التي تناولت علاقات الافراد بعضهم ببعض في الاسرة الواحدة وعلاقة الاسرة مجتمعة باخرى بينهم ، مما اوجد الحالة الأولى للعشيرة ثم للقبيلة فالقرية .
ثم قضت المشاكل التي ظهرت بين البدائيين بظهور الرياسات والزعامات ، ولم يلبث ذلك الوضع حتى اسفر بدوره عن نشأة الحكام والحكومات للتوجيه الاجتماعي ، وعنى السحرة والكهنة بالكتابات للاشراف على العبادات ، ومن الزعماء من جميع السلطتين الزمنية والروحية .
وكانت فكرة الفناء والموت تقض مضجع الانسان الاول فأراد ان يفهم اين يذهب الانسان بعد الموت ؟ . ومن ذلك الشعور تولد التدين والتعبد وظهرت اماكن العبادة الى جانب بيوت السكن واخذت القرية في الاتساع فاصبحت مدينة ، ونمت في المدينة وسائل تبادل الافكار فتكونت الدولة وظهرت عبادة الانصاب « الاحجار » والشمس والاوثان والاصنام .
ويعزى استعمال المعادن في انتاج السلع البدائية الى الفترة الاخيرة من العهد الحجري الحديث اذ عثر على مكتشفات نحاسية دلت على استعماله بمصر قبل اربعة آلاف سنة من مولد المسيح ، وان استعمال الحديد تلا استعمال النحاس في صنع الادوات الامر الذي ادى الى تغير شامل في الحياة البشرية . وقد راى « ارنولد توينبي » وهو مسؤول لاعظم فلاسفة التاريخ الحضاري في العصر الحديث فذكر في مجالات الدراسة التاريخية قال : « .. ان عدد المجتمعات الحضارية المعروفة أقل بكثير من عدد المجتمعات البدائية التي وجدت واندثرت منذ فجر التاريخ البشرى » . ( وربما ظلت بدايتها الاولى غامظة الى الابد ) فهي : الحضارة المصرية والسومرية والبابلية والحثية والسريانية والمينوئية والهلينية والايرانية والعربية والهندوكية والهندية والصينية وحضارات الشرق الاقصى ( الصينية - والكورية اليابانية ) والانديانية واليوقاتيقيـة والمايانية والمكسيكية ( الارثوذكسية المسيحية البيزنطية ) ( والارثوذوكسية المسيحية الروسية ) والحضارة الغربية .
ويتابع « توینبی » فيرتب الاحدى والعشرين حضارة في سلسلة متصلة ، فيظهر له في طرفيها نوعان مختلفان من المجتمعات : نوع المجتمعات « المتصلة » بأنساب حضارية قديمة ، وعددها ، على اختلاف طبيعة اتصالها خمسة عشر مجتمعا .
ونوع المجتمعات « غير المتصلة بكل نسب حضاري وعددها ستة هي : المصرية ، والانديانية ، والسومرية ، والمينونية ، والصينية ، والمايانية و يعرض توينبي لبعض البيئات الجغرافية فيلاحظ ان تدمر والبتراء وفينيقيا كانت تشكل تحديات طبيعية .
ثم يستمر هذا المؤرخ الكبير فيوضح في موسوعته التاريخية التي استوعبت عشرة مجلدات ضخمة وقد تجرأ فيها على عتمة الازمان البعيدة وراح يبحث في متاهاتها ويعرض اهم ما حققه المجتمع الآرامي السرياني ، والعربي من منجزات حضارية عظيمة وهي :
اولا ـ اختراع الألف باء .
ثانيا - اكتشاف المحيط الأطلسي
ثالثا ـ الوصول الى مفهوم معين هو . الله تعالى ، بين الديانات الاربع :
وهي : اليهودية والزرداشتية والمسيحية والإسلامية ، وتناول توينبي كيف كان اخفاق ، الزردائتية واليهودية والنسطورية واليعقوبية في مكافحة الطغيان الروماني البيزنطي الذي كان باسطا يده آنند ، اذ ضمت روما ما تبقى من فتوحات الاسكندر الى الحوزة الهلينية ، والتقمت روما من انتصار المكابيين على السلوقيين انتقاما شديدا ، يتمرى فيما حل باليهود بين سنتي 66 ، 70 م من الهزيمة الساحقة . ولم تنجح النسطورية واليعقوبية عندما قامت تصفية المسيحية من الهلينية الصوغها من جديد ديانة سريانية وانتهى الأمر بطرد النسطورية شرقا إلى ما وراء الفرات ، واستقرار اليعقوبية في سورية ومصر وارمينيا بين الطبقات الشعبية . لقد اخفقت كل هذه الشعوب في محاولاتها لزحزحة التحدي الهليني الصامد في وجه المجتمع السرياني المنحل ، الى ان كانت الدعوة الإسلامية التي ارتح لها اركان الجزيرة العربية وكان انبثاقها عام 630 م - تاریخ شؤم على الامبراطوليتين البيزنطية والفارسية وروى لنا التاريخ انه عندما أولى عمر بن الخطاب الخلافة خطب في الناس فقال : ( * ) « ايها الناس ان الحجاز ليس لكم بدار الا على النجعة ولا تقوى عليه اهله الا بذلك ابن الطراء المهاجرون عن موعود الله ؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله ان يورثكم اياها فانه قال ليظهره على الدين كله والله ومعز ناصره ، ومولى اهله مواريث الامم ، ابن عباد الله الصالحون ؟ .. . فشعر الناس الند بواجبهم تجاه نداء خليفة رسول الله بدعوتهم الاسلامية وتوثبهم لعيش كريم فقامت على اكتافهم دولة واسعة الارجاء وتمكنت جحافلهم من فتح دولة فارس وهي اخطر قوة لاعظم امبراطورية ساسانية في الشرق .
واما الامبراطورية البيزنطية في سورية فقد كتب على الامبراطور هرقل ان لا يفارق الدنيا قبل ان يشهد جيوش الفاروق تجتاح امبراطوريته وتحطم الى الابد ما شاده هو نفسه وما شاده بومبيوس والاسكندر من قبله في رحاب المجتمع السرياني فحقق الاسلام جميع ماحاولت اليهودية والزرداشتية والنسطورية واليعقوبية مرارا وتكرارا ان تحققه دون جدوى ، فانجز الاسلام طرد الهلينية والوثنية من الشرق الاوسط واعاد في شخص الدولة العربية الناشئة المزودة بالديانة الإسلامية التي منها الطلق المجتمع الايراني والهندي والتركي والافغاني والشعوب الاخرى في النشأة الحضارية التي دانت للاسلام •
وقد انطلق الخط العربي الذي كتب به القرآن الكريم غازيا ومعلما مع الجيوش الفاتحة الى الممالك المجاورة والبعيدة فاين ما حل اباد خطوط الامم المغلوبـة .
ان هذا العالم الاسلامي الذي امتد من بلاد ما وراء النهر في تركستان شرقا الى المغرب الاقصى بشمال افريقيا غربا قد انجب عددا لا يحصى من اهل الفن الخالدين تركوا على صفحات العصور ما على الطابع الاسلامي في هذه الرقعة الوسيعة .
وان التوثب العربي الحديث يتطلب تلقين الذات العربية بان پستند لحد كبير الى تفهم جذوره التاريخية والثقافية في موضوعاته الدينية والآثارية والخطية التي تتصل بطبيعة هذه الدراسات الفنية .
وواضح ان اهل الخط الأول كانوا من اهل الحجاز والشام والعراق على الأخص ، ولا غرو في ذلك ، فالعراق الذي كان مهدا للحضارة ونشوء الكتابة المسمارية منذ العصور الموغلة في القدم جديرة بهذه الزعامة الفنية ، وذلك بعد أن نشات الكوفة والبصرة وقامت ببغداد ( دار السلام ) عاصمة للدولة العربية فاخذ يتجل فن تجويد الخط العربي باحلى مظاهره ، ثم تعاظم هذا واتسع وتطور حتى تعددت اقلامه وتنوعت اشكاله ، ولم يقتصر تجويد الخط الكوفي والحجازي في الكتابة على رق الغزال او الورق السمرقندي او تطعيم الاغلفة بالذهب والالوان الزاهية بل تعداها الى الرخام فزينت جدران المساجد وزخرفت الصروح ونقشت السيوف وضربت النقود بذلك الخط الرفيع ، فهو فخر حضارتنا ورمز تراننا الاسلامي الذي لا تملك مثيل له ، وهو الوسيلة الجليلة لكتابة القرآن الكريم ، كلام الله العظيم . فما علينا الا العناية باستجادة هذا الخط ، والاستزادة من معرفة انواعه مما يكثر استعماله ؛ مع دراسة كيفية تبسيط الحروف واتقان دقائق اشكالها وتأليف كلماتها وجملها تأليفا فنيا يجمع الى حســـن التنسيق جودة الكتابة ؛ والى حسن الخط سلامة النوق ؛ وفي رأيي ان ماكتبت في هذا الكتاب من الفصول الموجزة لا يستوف حظه من البحث لكامل ، وانه توطئه لاخراج كتاب اشمل في الخط العربي في المستقبل القريب ان شاء الله .
الشــــروح والتعليقـات
تمهيـد
مما لابد منه في هذا الفصل الوثيق العلاقة بفصول قصة البشرية ان نبدا بتعريف الكتابة والتاريخ في عرف المؤرخين من الوقت الذي اخذت هذه البشرية تسجل احداثها .
وليس من الانصاف ان تطلق على المراحل السابقة لمعرفة الانسان الكتابة عصر ما قبل التاريخ .
اذ ليس من شك أن معرفة الكتابة كانت خطوة واسعة خطتها البشرية وهي تتحسس موقع اقدامها على درب الحياة الطويل ، وهي حدث يمكن ان يعتبر بداية التاريخ مرحلة ما من مراحل الحياة البشرية ولكنه يغفل كثيرا من فصول القصة الانسانية التي تشكل مراحل طويلة بحساب الزمن من مراحل التاريخ ، وقد اعتمدت واستمدت مادتها من عظام الجماجم ، ورماد المواقد ورؤوس حراب صخرية مضى عليها آلاف السنين ، فليست الكتابة في الواقع سوى مظهر جديد على تاريخ الاحداث البشرية . وقد يكون للبشرية في العصور السابقة للكتابة تاريخ واحداث لا يقل اهميته عن تاريخ الكتابة المكتوب بل وربما يكون قد عرفت نوعا بل انواعا من الكتابات او استغلقت قراءة رموزها و نقوشها وصورها وزخارفها فلم يهند الى حلها وذهبت اخبارها واندثرت . . في انحاء المعمورة اندثرت وثائقها فلم تصل الى ايدينا كانها لم تكن شيئا مذكورا .
لهذا ولغيره راى العلماء ايضاح الفرق بين معاني كلمتي - التاريخ ، و - التاريخ .
اما الأول فهي المراحل المتتابعة للحياة ، وأما الأخرى فهي وسيلة لتسجيل احداث تلك المراحل .
وليست الكتابة بالوسيلة الوحيدة لهذا السجيل منذ ان استقرت الارض على شكلها الحالي تقريبا منذ نحو ۱۸۳۲ مليون سنة على حد قول علماء الجيولوجيا والانثربولوجيا .
ويقول فرانك هيبن Frank Hibben في كتابه : الحضارة القديمة في الدنيا الجديدة المطبوع سنة ( 1960 ) في نيويورك وترجمه الدكتور م - محمود الصياد وطبع سنة ١٩٦٢ في مصر . . لقد عاقت الافكار الدينية التي كانت سائدة منذ قرن من الزمان عمل الرواد من علماء الآثار الاوربين فمثلا على ذلك منع التمسك بالتفسير ، الكالفيني » ( * ) للخليفة ، وبانها لم تنشا الا منذ نحو ستة آلاف سنة منع كثيرا من الاوروبين من ان يتقبلوا الادوات الصوانية وعظام حيوانات ، وادوات قطع ودؤوس يدوية مطمورة تحت مستوى عميق من الركامات الجليدية التي تعود للعصر الجليدي . .
ولم يسلم الباحثون الأوروبيون بشكل عام بان الانسان الاول انما ظهر في العالم القديم ( آسيا ، افريقيا اوروبا ) منذ نحو مليون سنة . في
الجزء الاول من الدور الجليدي الاخير ، وقد عرف الجيولوجيون الآن من دراسة الحيوانات المنقرضة والتغيرات الجليدية ، وباستخدام الجداول المناخية ان العصر الجليدي الذي اطلقوا عليه اسم « البليستوسين ه قد استمر عدة مليون سنة تقريبا ، وفي تلك الفترة تكونت كتل ضخمة من الجلد على قارات نصف الكرة الشمالي ، وفي نفس الوقت كان اجزاء نصف الكرة الجنوبي تحت تاثير عصور مطيرة وقد تكون الجليد اربع مرات وذاب اربع مرات خلال البليستوسين على سطح الكرة الارضية ، وكانت هذه العصور الجليدية الاربعة رد فعل لتغيرات ضخمة في المناخ والمطر .
وبعد مواصلة علماء الآثار الجيولوجيون الاستعانة بالعلوم الأخرى لتاريخ الادلة البشرية ، بدا نمط الحوادث البشرية ياخذ نمطا واضحا يمكن التسليم به ، وعرفوا ان العصر الجليدي الاخير او جليد ( وسكونسن ) قد انتهى منذ حوالي ثمانية آلاف سنة ، اذ اخذت حيوانات العصر الجليدي التي مرت هذه الحقبة تنقرض منذ ذلك التاريخ .
وبتلك المبتكرات العلمية للتاريخ بلغت الاركيولوجيا رشدها كمعـدم مضبوط ، واصبح في مقدور علماء الآثار أن يكتشفوا مجرى متصلا للتاريخ لا يقل في تحقيقه عن المجرى الذي يتتبعه المؤرخون معتمدين على الوثائق المكتوبة . وعرفت التطورات البشرية منذ ان كان الكهف المقر الاول لسكنى البشر البدائي ، ثم انتقل من الكهف المظلم إلى الكوخ المخروطي ، المقام من فروع الشجر وسط الغابة وتدرج البدائيون من طور الصيد الى الرعي ثم الى الزراعة التي مست الحاجة الى التعاون والتجمع ، فتعلم آياء البشر اعمال الفكر في بناء المساكن من الطين واللبن کیا تعلموا كيف بحمون ما سار ، ومن هذا نشأت التقاليد التي تناولت علاقات الافراد بعضهم ببعض في الاسرة الواحدة وعلاقة الاسرة مجتمعة باخرى بينهم ، مما اوجد الحالة الأولى للعشيرة ثم للقبيلة فالقرية .
ثم قضت المشاكل التي ظهرت بين البدائيين بظهور الرياسات والزعامات ، ولم يلبث ذلك الوضع حتى اسفر بدوره عن نشأة الحكام والحكومات للتوجيه الاجتماعي ، وعنى السحرة والكهنة بالكتابات للاشراف على العبادات ، ومن الزعماء من جميع السلطتين الزمنية والروحية .
وكانت فكرة الفناء والموت تقض مضجع الانسان الاول فأراد ان يفهم اين يذهب الانسان بعد الموت ؟ . ومن ذلك الشعور تولد التدين والتعبد وظهرت اماكن العبادة الى جانب بيوت السكن واخذت القرية في الاتساع فاصبحت مدينة ، ونمت في المدينة وسائل تبادل الافكار فتكونت الدولة وظهرت عبادة الانصاب « الاحجار » والشمس والاوثان والاصنام .
ويعزى استعمال المعادن في انتاج السلع البدائية الى الفترة الاخيرة من العهد الحجري الحديث اذ عثر على مكتشفات نحاسية دلت على استعماله بمصر قبل اربعة آلاف سنة من مولد المسيح ، وان استعمال الحديد تلا استعمال النحاس في صنع الادوات الامر الذي ادى الى تغير شامل في الحياة البشرية . وقد راى « ارنولد توينبي » وهو مسؤول لاعظم فلاسفة التاريخ الحضاري في العصر الحديث فذكر في مجالات الدراسة التاريخية قال : « .. ان عدد المجتمعات الحضارية المعروفة أقل بكثير من عدد المجتمعات البدائية التي وجدت واندثرت منذ فجر التاريخ البشرى » . ( وربما ظلت بدايتها الاولى غامظة الى الابد ) فهي : الحضارة المصرية والسومرية والبابلية والحثية والسريانية والمينوئية والهلينية والايرانية والعربية والهندوكية والهندية والصينية وحضارات الشرق الاقصى ( الصينية - والكورية اليابانية ) والانديانية واليوقاتيقيـة والمايانية والمكسيكية ( الارثوذكسية المسيحية البيزنطية ) ( والارثوذوكسية المسيحية الروسية ) والحضارة الغربية .
ويتابع « توینبی » فيرتب الاحدى والعشرين حضارة في سلسلة متصلة ، فيظهر له في طرفيها نوعان مختلفان من المجتمعات : نوع المجتمعات « المتصلة » بأنساب حضارية قديمة ، وعددها ، على اختلاف طبيعة اتصالها خمسة عشر مجتمعا .
ونوع المجتمعات « غير المتصلة بكل نسب حضاري وعددها ستة هي : المصرية ، والانديانية ، والسومرية ، والمينونية ، والصينية ، والمايانية و يعرض توينبي لبعض البيئات الجغرافية فيلاحظ ان تدمر والبتراء وفينيقيا كانت تشكل تحديات طبيعية .
ثم يستمر هذا المؤرخ الكبير فيوضح في موسوعته التاريخية التي استوعبت عشرة مجلدات ضخمة وقد تجرأ فيها على عتمة الازمان البعيدة وراح يبحث في متاهاتها ويعرض اهم ما حققه المجتمع الآرامي السرياني ، والعربي من منجزات حضارية عظيمة وهي :
اولا ـ اختراع الألف باء .
ثانيا - اكتشاف المحيط الأطلسي
ثالثا ـ الوصول الى مفهوم معين هو . الله تعالى ، بين الديانات الاربع :
وهي : اليهودية والزرداشتية والمسيحية والإسلامية ، وتناول توينبي كيف كان اخفاق ، الزردائتية واليهودية والنسطورية واليعقوبية في مكافحة الطغيان الروماني البيزنطي الذي كان باسطا يده آنند ، اذ ضمت روما ما تبقى من فتوحات الاسكندر الى الحوزة الهلينية ، والتقمت روما من انتصار المكابيين على السلوقيين انتقاما شديدا ، يتمرى فيما حل باليهود بين سنتي 66 ، 70 م من الهزيمة الساحقة . ولم تنجح النسطورية واليعقوبية عندما قامت تصفية المسيحية من الهلينية الصوغها من جديد ديانة سريانية وانتهى الأمر بطرد النسطورية شرقا إلى ما وراء الفرات ، واستقرار اليعقوبية في سورية ومصر وارمينيا بين الطبقات الشعبية . لقد اخفقت كل هذه الشعوب في محاولاتها لزحزحة التحدي الهليني الصامد في وجه المجتمع السرياني المنحل ، الى ان كانت الدعوة الإسلامية التي ارتح لها اركان الجزيرة العربية وكان انبثاقها عام 630 م - تاریخ شؤم على الامبراطوليتين البيزنطية والفارسية وروى لنا التاريخ انه عندما أولى عمر بن الخطاب الخلافة خطب في الناس فقال : ( * ) « ايها الناس ان الحجاز ليس لكم بدار الا على النجعة ولا تقوى عليه اهله الا بذلك ابن الطراء المهاجرون عن موعود الله ؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله ان يورثكم اياها فانه قال ليظهره على الدين كله والله ومعز ناصره ، ومولى اهله مواريث الامم ، ابن عباد الله الصالحون ؟ .. . فشعر الناس الند بواجبهم تجاه نداء خليفة رسول الله بدعوتهم الاسلامية وتوثبهم لعيش كريم فقامت على اكتافهم دولة واسعة الارجاء وتمكنت جحافلهم من فتح دولة فارس وهي اخطر قوة لاعظم امبراطورية ساسانية في الشرق .
واما الامبراطورية البيزنطية في سورية فقد كتب على الامبراطور هرقل ان لا يفارق الدنيا قبل ان يشهد جيوش الفاروق تجتاح امبراطوريته وتحطم الى الابد ما شاده هو نفسه وما شاده بومبيوس والاسكندر من قبله في رحاب المجتمع السرياني فحقق الاسلام جميع ماحاولت اليهودية والزرداشتية والنسطورية واليعقوبية مرارا وتكرارا ان تحققه دون جدوى ، فانجز الاسلام طرد الهلينية والوثنية من الشرق الاوسط واعاد في شخص الدولة العربية الناشئة المزودة بالديانة الإسلامية التي منها الطلق المجتمع الايراني والهندي والتركي والافغاني والشعوب الاخرى في النشأة الحضارية التي دانت للاسلام •
وقد انطلق الخط العربي الذي كتب به القرآن الكريم غازيا ومعلما مع الجيوش الفاتحة الى الممالك المجاورة والبعيدة فاين ما حل اباد خطوط الامم المغلوبـة .
ان هذا العالم الاسلامي الذي امتد من بلاد ما وراء النهر في تركستان شرقا الى المغرب الاقصى بشمال افريقيا غربا قد انجب عددا لا يحصى من اهل الفن الخالدين تركوا على صفحات العصور ما على الطابع الاسلامي في هذه الرقعة الوسيعة .
وان التوثب العربي الحديث يتطلب تلقين الذات العربية بان پستند لحد كبير الى تفهم جذوره التاريخية والثقافية في موضوعاته الدينية والآثارية والخطية التي تتصل بطبيعة هذه الدراسات الفنية .
وواضح ان اهل الخط الأول كانوا من اهل الحجاز والشام والعراق على الأخص ، ولا غرو في ذلك ، فالعراق الذي كان مهدا للحضارة ونشوء الكتابة المسمارية منذ العصور الموغلة في القدم جديرة بهذه الزعامة الفنية ، وذلك بعد أن نشات الكوفة والبصرة وقامت ببغداد ( دار السلام ) عاصمة للدولة العربية فاخذ يتجل فن تجويد الخط العربي باحلى مظاهره ، ثم تعاظم هذا واتسع وتطور حتى تعددت اقلامه وتنوعت اشكاله ، ولم يقتصر تجويد الخط الكوفي والحجازي في الكتابة على رق الغزال او الورق السمرقندي او تطعيم الاغلفة بالذهب والالوان الزاهية بل تعداها الى الرخام فزينت جدران المساجد وزخرفت الصروح ونقشت السيوف وضربت النقود بذلك الخط الرفيع ، فهو فخر حضارتنا ورمز تراننا الاسلامي الذي لا تملك مثيل له ، وهو الوسيلة الجليلة لكتابة القرآن الكريم ، كلام الله العظيم . فما علينا الا العناية باستجادة هذا الخط ، والاستزادة من معرفة انواعه مما يكثر استعماله ؛ مع دراسة كيفية تبسيط الحروف واتقان دقائق اشكالها وتأليف كلماتها وجملها تأليفا فنيا يجمع الى حســـن التنسيق جودة الكتابة ؛ والى حسن الخط سلامة النوق ؛ وفي رأيي ان ماكتبت في هذا الكتاب من الفصول الموجزة لا يستوف حظه من البحث لكامل ، وانه توطئه لاخراج كتاب اشمل في الخط العربي في المستقبل القريب ان شاء الله .
تعليق