خيرالله سليم يحتمي بمنجزه درءا لخراب الوجود
فعل فني يستمد قوته من قدرته على التأثير في المتلقي وتحفيزه.
الثلاثاء 2023/11/14
خيرالله سليم يفتح نوافذ على المجهول
بلوحات تعبيرية، يصور لنا الفنان التشكيلي الفلسطيني خيرالله سليم حكاياته البصرية التي يهتدي بها إلى نفسه وإلى سبل استفزاز المتلقي وتحفيزه على التفكير والتحليل، ومشاركته في عملية إعادة صياغة المعاني المتحررة من سطوة المكان والزمان.
إن قراءة أعمال الفنان التشكيلي خيرالله سليم، السوري المولد (حمص 1953)، والفلسطيني الجنسية في ضوء نهوضها، وتشكلها وكيفية بنائها تفرض علينا التفطن لكل ما يمكننا من احتوائها، فهي منخرطة في الزمن الميقاتي/الحاضر لا بوصفها مرجعيات عينية له، ولا بوصفها كيانات مقفلة عليه، بل بوصفها جهات تحمل في صميمها بوصلتها، بها يهتدي إليها وإن لم يكن تماما فهو يهتدي إلى صداها الذي يعلن عن نفسه بإلحاق هذه النفس بجموح ما يجاهد من أجله، فينفتح الباب على المواجهة ما بين الواقع في لحظة التقاطه، وبين الخفي المحجوب عنه والذي قد يكون غلوا في وصفه أو مبالغة في نقل هديره.
الحال هنا أن الأعمال لها مقدرتها على الفعل فينا والبقاء في دائرة ترحالنا فيها تاركة مجراها في حالة من التدفق حتى وهي في لحظة الكشف عن نفسها، أو في اللجوء إلى رؤية بيانية تتم بالاعتماد على ما يمكن تسميته بالمضمرة المتكتمة على نفسها، إن كان في صمتها الذي يتجلى في أشكال واعية منها يتسلل مجمل آرائه، أو في تحولاتها في صميمها كقوة جذب لا تحد من اندفاعاته فحسب، بل تحرضها كصياغات لمعان الغرض منها المضي بها إلى ذروة التناغم الإيقاعي الدلالي، وإجراء ما ينظم ذلك.
هذا أمر لا يحصل إلا إذا كان المعتاد مكسورا لدى الفنان والدروب الجديدة مفتوحة له وفق متطلبات جديدة وهامة ستلح عليه للسير فيها بعيدا أو قريبا من كل ما قد يتراءى له من الماضي أو ما يمكن أن يشده إليه، وما صياغاته اللونية إلا إشارات لرؤيته لهذا العالم، وطريقته في إقامة تصوراته كضرب من النسيج المستمد قوته من قدرته على التأثير في المتلقي واستنهاضه وتحفيزه وإثارته، وعندها من الطبيعي ألا تغيب عنه أسرار تمعنه وتربصه في الإبهام الذي قد يظهر في لحظة تشكله لذاته.
يكفي هنا أن نستحضر العديد من أعماله التي تضج بوجوه نسائية لكل منها حكايتها ووجعها، تسردها لنا كاستيهامات ذاتية متباعدة حينا ومتقاربة في حين آخر تحول مقاديرها لا من محض صدفة زخرفت تداعياتها بل كتعبير مأهول بالرغبة إلى ينابيع صارخة بالقلق وهي تقترب بتدفقها من جماليات المصب/المأوى دون أن تعجز عن الجريان والذهاب في المسافات من قسوة الحياة والواقع إلى فظاعة الزمن ومرارته.
لا يتجنب خيرالله سليم المخاطر التي قد تكون بوابة لإبراز المنفعة المعرفية بخصالها الكثيرة التي لا حدود لدوائرها، والتي قد تفي بحاجاته من جانبيه الجمالي والدلالي معا، نعم لا يتجنب المخاطر متطلعا إلى حداثة قادرة على أن تظهر خصوصيات ألوانه، وقادرة على أن تستوعب تطلعاته ومقارباته، وما لم يجاهر به بعد.
هو يحتمي بمنجزه درءا لخراب الوجود، ولدبيب الإنسان على هذه الأرض وضوضائه، وكأنه يتمسك بالزمن على طريقته، بلحظات محددة يغرسها في أديمه، لا رغبة في الإبهار ولا استسلاما لإغراءات اللون، بل حالما بمغادرة الرعب ومداراته، وبفض كل ما هو مكدس فيها من صور ومجازات وأحابيل، حالما بمعاودة الحنين ولوعاته، وبكل ما يزدهي حولها من استلهامات بجدوى السبيل إلى كل ما يجمع المكان بمفرداته كلها.
◙ انحدار كبير للواقع
بالاستناد إلى ذلك الحيز الممتد من رحاب حركاته وما يجسدها في وجوه وأوجاع، وإلى عتبات أحداث تقتطع من مقولاته الكثير، يضفي على ملامحها سبلا مؤدية إلى استنساخات موغلة في البعيد. فيقوم باستنهاض البعد المحجب من الواقع ذاته بتلك الذاكرة الممعنة في التخفي، المأهولة بالرغبة في السطوع، حتى يضيع الفارق بين الحدود ويشرع في اختزال المسافات بقدرته وسطوته على الاندساس في الممارسات التي يحرص على تخطيها إلى منجز لا يعجز عن الصعود إلى تغريبتها وما تحمله من حكايات لها التواءاتها ومفاجآتها، لها وعيها الحداثي بكل ما يجري من مناورات.
وأعماله في مجملها ليست توثيقا بل تعبير عن رفض لبراثن باتت تفتك بالمكان وبالزمان، عن رفض لكل صخب الحياة، لكل الويلات والمحن، يكتفي فيها بذاته، وبابتداع صور طافحة بمدركات هي التي تسمح له بإعادة إنتاج الواقع بلغته هو.
أحرص في مقاربتي لمنجز خيرالله سليم أن أكون بطاقتي الإيجابية، فالميدان الذي أجول فيه معتم وفيه من التمرد ما يمكنه من محاصرة بعض الملامح بآمالها وخيباتها وحيرتها، بل حتى برموزها وبكيفية توظيفها في النص حتى يكون لها وقع التغيير وإبرازه، ملخصا مرحلة من المواجهة الذاتية، مرحلة تعلن عن نفسها في شكل إخفاق أو إنكسار، في شكل تنديد أو تشهير أو في سجال قد يشهد على الانحدار الكبير للواقع نحو القاع.
هذا الواقع بات مقبرة للآمال والأحلام، فيها تتراجع حركة الإحياء وما يدور في عمقها مما تبقى من أصداء الوجود إلى الشروع بالأسئلة المرتدة التي تمضي مع الإيقاع إلى المنتهى، إلى حتفها، والتي قد تشكل فيما يسمى مرحلة الإنسان والصراع وتناقضات الحياة، فمهما تبرأت هذه الحياة منه ومن الإنسان فهي ذاتها التي تورطه في اللجوء إلى إبعاد الإضافات الذي قد توهمه بالخذلان والاكتفاء بعصارتها في مكونات طافحة بالجميل.
لا جدوى من تقديم صك البراءة، فمهما كان الفنان يرمي الملامح في الزوال فهو منخرط بالبحث عن تفاصيلها بمفرداتها الدقيقة في حضرة لحظة المكاشفة، اللحظة التي تطال الموجودات كلها قبل أن يطالها التشيؤ، فسليم لا يعلن الخذلان الذي بات سمة العصر وزاده، بقدر ما ينهض بما هو مستبطن من وعي درامي قادر على الانقلاب والمطالبة بتبرئة الوهم من الدفاع عن السراب، فيلجأ إلى استحضار إضافات مفتتنة بذاتها وتسري في مفاصله أقصد في مفاصل المنجز بطيئا ثقيلا وكأنها تمتثل لضرورات هي أقرب للتعبيرية الشعرية التي ترزح تحت ثقل لاوعي درامي، وقد تسمح لرؤيته ورؤياه بتوسيع مجالها وكأنها تكتسح المجهول لتضع على عتباته التيه، أو ما يصاغ من متطلباته الطافحة بالشجن.
ماذا على خيرالله سليم أن يفعله أمام هذا العصف الكبير غير الإلحاح على أن الخطر كبير ومخيف، له مظاهره وأولياته التي لن تفي كل النبرات التبشيرية الحماسية بالتخفيف من آثار الخراب التي أصابت الروح من نقي شهقته.
فعل فني يستمد قوته من قدرته على التأثير في المتلقي وتحفيزه.
الثلاثاء 2023/11/14
خيرالله سليم يفتح نوافذ على المجهول
بلوحات تعبيرية، يصور لنا الفنان التشكيلي الفلسطيني خيرالله سليم حكاياته البصرية التي يهتدي بها إلى نفسه وإلى سبل استفزاز المتلقي وتحفيزه على التفكير والتحليل، ومشاركته في عملية إعادة صياغة المعاني المتحررة من سطوة المكان والزمان.
إن قراءة أعمال الفنان التشكيلي خيرالله سليم، السوري المولد (حمص 1953)، والفلسطيني الجنسية في ضوء نهوضها، وتشكلها وكيفية بنائها تفرض علينا التفطن لكل ما يمكننا من احتوائها، فهي منخرطة في الزمن الميقاتي/الحاضر لا بوصفها مرجعيات عينية له، ولا بوصفها كيانات مقفلة عليه، بل بوصفها جهات تحمل في صميمها بوصلتها، بها يهتدي إليها وإن لم يكن تماما فهو يهتدي إلى صداها الذي يعلن عن نفسه بإلحاق هذه النفس بجموح ما يجاهد من أجله، فينفتح الباب على المواجهة ما بين الواقع في لحظة التقاطه، وبين الخفي المحجوب عنه والذي قد يكون غلوا في وصفه أو مبالغة في نقل هديره.
الحال هنا أن الأعمال لها مقدرتها على الفعل فينا والبقاء في دائرة ترحالنا فيها تاركة مجراها في حالة من التدفق حتى وهي في لحظة الكشف عن نفسها، أو في اللجوء إلى رؤية بيانية تتم بالاعتماد على ما يمكن تسميته بالمضمرة المتكتمة على نفسها، إن كان في صمتها الذي يتجلى في أشكال واعية منها يتسلل مجمل آرائه، أو في تحولاتها في صميمها كقوة جذب لا تحد من اندفاعاته فحسب، بل تحرضها كصياغات لمعان الغرض منها المضي بها إلى ذروة التناغم الإيقاعي الدلالي، وإجراء ما ينظم ذلك.
هذا أمر لا يحصل إلا إذا كان المعتاد مكسورا لدى الفنان والدروب الجديدة مفتوحة له وفق متطلبات جديدة وهامة ستلح عليه للسير فيها بعيدا أو قريبا من كل ما قد يتراءى له من الماضي أو ما يمكن أن يشده إليه، وما صياغاته اللونية إلا إشارات لرؤيته لهذا العالم، وطريقته في إقامة تصوراته كضرب من النسيج المستمد قوته من قدرته على التأثير في المتلقي واستنهاضه وتحفيزه وإثارته، وعندها من الطبيعي ألا تغيب عنه أسرار تمعنه وتربصه في الإبهام الذي قد يظهر في لحظة تشكله لذاته.
يكفي هنا أن نستحضر العديد من أعماله التي تضج بوجوه نسائية لكل منها حكايتها ووجعها، تسردها لنا كاستيهامات ذاتية متباعدة حينا ومتقاربة في حين آخر تحول مقاديرها لا من محض صدفة زخرفت تداعياتها بل كتعبير مأهول بالرغبة إلى ينابيع صارخة بالقلق وهي تقترب بتدفقها من جماليات المصب/المأوى دون أن تعجز عن الجريان والذهاب في المسافات من قسوة الحياة والواقع إلى فظاعة الزمن ومرارته.
لا يتجنب خيرالله سليم المخاطر التي قد تكون بوابة لإبراز المنفعة المعرفية بخصالها الكثيرة التي لا حدود لدوائرها، والتي قد تفي بحاجاته من جانبيه الجمالي والدلالي معا، نعم لا يتجنب المخاطر متطلعا إلى حداثة قادرة على أن تظهر خصوصيات ألوانه، وقادرة على أن تستوعب تطلعاته ومقارباته، وما لم يجاهر به بعد.
هو يحتمي بمنجزه درءا لخراب الوجود، ولدبيب الإنسان على هذه الأرض وضوضائه، وكأنه يتمسك بالزمن على طريقته، بلحظات محددة يغرسها في أديمه، لا رغبة في الإبهار ولا استسلاما لإغراءات اللون، بل حالما بمغادرة الرعب ومداراته، وبفض كل ما هو مكدس فيها من صور ومجازات وأحابيل، حالما بمعاودة الحنين ولوعاته، وبكل ما يزدهي حولها من استلهامات بجدوى السبيل إلى كل ما يجمع المكان بمفرداته كلها.
◙ انحدار كبير للواقع
بالاستناد إلى ذلك الحيز الممتد من رحاب حركاته وما يجسدها في وجوه وأوجاع، وإلى عتبات أحداث تقتطع من مقولاته الكثير، يضفي على ملامحها سبلا مؤدية إلى استنساخات موغلة في البعيد. فيقوم باستنهاض البعد المحجب من الواقع ذاته بتلك الذاكرة الممعنة في التخفي، المأهولة بالرغبة في السطوع، حتى يضيع الفارق بين الحدود ويشرع في اختزال المسافات بقدرته وسطوته على الاندساس في الممارسات التي يحرص على تخطيها إلى منجز لا يعجز عن الصعود إلى تغريبتها وما تحمله من حكايات لها التواءاتها ومفاجآتها، لها وعيها الحداثي بكل ما يجري من مناورات.
وأعماله في مجملها ليست توثيقا بل تعبير عن رفض لبراثن باتت تفتك بالمكان وبالزمان، عن رفض لكل صخب الحياة، لكل الويلات والمحن، يكتفي فيها بذاته، وبابتداع صور طافحة بمدركات هي التي تسمح له بإعادة إنتاج الواقع بلغته هو.
أحرص في مقاربتي لمنجز خيرالله سليم أن أكون بطاقتي الإيجابية، فالميدان الذي أجول فيه معتم وفيه من التمرد ما يمكنه من محاصرة بعض الملامح بآمالها وخيباتها وحيرتها، بل حتى برموزها وبكيفية توظيفها في النص حتى يكون لها وقع التغيير وإبرازه، ملخصا مرحلة من المواجهة الذاتية، مرحلة تعلن عن نفسها في شكل إخفاق أو إنكسار، في شكل تنديد أو تشهير أو في سجال قد يشهد على الانحدار الكبير للواقع نحو القاع.
هذا الواقع بات مقبرة للآمال والأحلام، فيها تتراجع حركة الإحياء وما يدور في عمقها مما تبقى من أصداء الوجود إلى الشروع بالأسئلة المرتدة التي تمضي مع الإيقاع إلى المنتهى، إلى حتفها، والتي قد تشكل فيما يسمى مرحلة الإنسان والصراع وتناقضات الحياة، فمهما تبرأت هذه الحياة منه ومن الإنسان فهي ذاتها التي تورطه في اللجوء إلى إبعاد الإضافات الذي قد توهمه بالخذلان والاكتفاء بعصارتها في مكونات طافحة بالجميل.
خيرالله سليم لا يتجنب المخاطر التي قد تكون بوابة لإبراز المنفعة المعرفية بخصالها الكثيرة التي لا حدود لدوائرها
لا جدوى من تقديم صك البراءة، فمهما كان الفنان يرمي الملامح في الزوال فهو منخرط بالبحث عن تفاصيلها بمفرداتها الدقيقة في حضرة لحظة المكاشفة، اللحظة التي تطال الموجودات كلها قبل أن يطالها التشيؤ، فسليم لا يعلن الخذلان الذي بات سمة العصر وزاده، بقدر ما ينهض بما هو مستبطن من وعي درامي قادر على الانقلاب والمطالبة بتبرئة الوهم من الدفاع عن السراب، فيلجأ إلى استحضار إضافات مفتتنة بذاتها وتسري في مفاصله أقصد في مفاصل المنجز بطيئا ثقيلا وكأنها تمتثل لضرورات هي أقرب للتعبيرية الشعرية التي ترزح تحت ثقل لاوعي درامي، وقد تسمح لرؤيته ورؤياه بتوسيع مجالها وكأنها تكتسح المجهول لتضع على عتباته التيه، أو ما يصاغ من متطلباته الطافحة بالشجن.
ماذا على خيرالله سليم أن يفعله أمام هذا العصف الكبير غير الإلحاح على أن الخطر كبير ومخيف، له مظاهره وأولياته التي لن تفي كل النبرات التبشيرية الحماسية بالتخفيف من آثار الخراب التي أصابت الروح من نقي شهقته.