۱ - اللاشعور في مبدأ الحياة النفسية
إن في مبدأ الحياة النفسية أحوالاً تدل على تأثير اللاشعور ، لأن الطفل لا يفرق في هذه المرحلة بين الأنا واللا أنا ، ولا يميز شخصيته عن الإحساس ، فلا يتعدى وجود الشيء عنده الإحساس الدال عليه ، ولا فرق عنده بين الموجود والمحسوس ، كأن هناك وحدة ذاتية بين الشخص المدرك والشيء المدرك. وقد سمى (مين دوبیران ( هذه الحالة بالحالة الانفعالية المحضة ) Affectivité pure ) أو حالة الإنفعال البسيط ) Affection simple ) ، وهي حال جميع الذي لم يتوصلوا إلى الشعور التام بشخصيتهم ، ولم يستطيعوا أن يقاوموا تأثير العالم الخارجي فيهم . وأحسن تصوير لهذه الحال قولهم : إنها حال ركود و خمود وخدر ، يزول عنها التأثير عقب حدوثه ، من غير أن يتحد بغيره ، ويندمج في شخصية كاملة متماسكة . وهذه الحال شبيهة بحال الشعور
السريع المصحوب بالنسيان ، فهي اذن حال لا شعورية .
ليست هذه الحالة خاصة بالأطفال ، بل قد تعرض للراشد أيضاً في الأحلام والاغماء.
وقع ( روسو ( مرة على رأسه ، فأغمي عليه ، فقال يصف حاله :
د عدت إلى نفسي فوجدتني في تلك اللحظة في حال هي من الغرابة في درجة لا بد لي من وصفها هنا .
أخذ الليل يدنو مني ، فأبصرت السماء وبعض النجوم وقليلا من الخضرة ، فكان هذا الاحساس الاول عذباً ولم اكن ادرك نفسي الا من تلك الناحية ، فكنت في تلك اللحظة كمن ولد من جديد ، وكان يظهر لي اني الخفيف كل الاشياء التي رأيتها ، فكنت بكليتي منصرفاً إلى هذه اللحظة الحاضرة، فلم اتذكر شيئاً مما حدث لي ، واضعت صورة شخصي البينة ، فلم أعلم ما انا ولا من أنا، ولا أين انا ، ولم أشعر بألم وخوف املا بوجودي
ولا بقلق ، وكان دمي يجري أمامي كما يجري ماء الجدول ، فلم يخطر لي ابدا انه . دمي
ان لهذه الانفعالات البسيطة تأثيراً كبيراً في حياتنا النفسية ، حتى لقد بين ( مين دو بيران )
من مربع فلا يدري انفعال بسيط . الانسان بها الا بعد ظهورها. وكم مرة خضع الانسان العوامل العجب ، والغرور ، وحب الذات. من غير أن يشعر بها ، وما أعمق تحليل ) لاروشفو كولد ( و ) باسكال ( وغيرهما من فلاسفة الأخلاق لهذه العوامل الخفية . ان تهيجاتنا واهواءنا وميولنا متصلة بماضينا ومتعلقة بمزاجنا . فتارة تمر بنا الأيام طافحة بالسرور . وأخرى نستثقل فيها كل لطيف ، ونستقبح كل جميل ، ولو حللنا أسباب سرورنا وحزننا لما وجدنا لهماسبباً معقولاً (۲) وقد قيل ان . ( التشاؤم ناشيء عن المعدة
ان لها تأثيراً كبيراً في تكون الانا (١) ، لأن النفس تحفظها في اللاشعور . وتنسج منها أشعة الميول . يخال الانسان انه نسيها وهي باقية وراء الستار ، تؤثر في سلوكه وتكيف ميوله الطبيعية ، ومخاوفه الغريزية ، ونزعاته التي لا يمكن ايضاحها بالتجربة
والعادة المكتسبة
- اللاشعور في منشأ المواطف والأهواء : - كثيراً ما تتولد العواطف الشديدة
والاحشاء ، لا عن التفكير في الحياة (٣) )
وكما يوجد في النفس تهيجات خفية ، فكذلك يوجد فيها ميول لا شعورية ، انا نجهل اسباب عطفنا ونفورنا ، كما نجهل أسباب حبنا وبغضنا. ولولا الأشخاص الذين يراقبوننا وينتبهوننا لما أطلعنا من ذلك على شيء ، الميل عند تولده يكون خجولاً متردداً مجهولاً من صاحبه ، الا انه لا يلبث أن يستولى على النفس كلها ، ويصبح إلها معبوداً ، مسيطراً ، وكثيراً ما وصف الروائيون تولد الهوى في قلب العاشق ، وهو جاهل به. فإن ( قدر ) (٤) راسين كانت في البدء غير شاعرة بتولد الهوى في قلبها ، ) وبول ( و ) فيرجيني ( حبا حبها الشديد صداقة بسيطة ، و ( جوسلن ) اخطأ ايضاً في تأويل حبه ، و ( ناتاشا ) تولوستوي تمثل براءة الحب وقوته مما (٥) ، كل ذلك يدل على عدم شعور العاشق بحقيقة ما تنطوي عليه
(۱) راجع ( مين دو بیران ( : ) Essai sur les fondements de la Psychologie ) جزء
٢ ٠ ص - ۱۲ ، من طبعة ) تافيل ) .
(٢) للاسباب اللاشعورية أثر كبير في تولد اللذة، اذ كثيراً ما يفرح الانسان ، ويحزن دون سبب ظاهره فيزداد حزنه وسروره تبعاً لبعض العوامل الخفية ، ويخفان بتأثير العادة
(۳) راجع ) بودن Baudin ) ، كتاب علم النفس ، طبعة ه ، ص - ١١٤ (٤) راسين Racine . رواية - قدر - Fhedre .
(0) في رواية الابله L'idiot للكاتب الروسي ) دوستويوسكي Dostoievsky )وصف جميل لهذه -
عن و تتبدل جميع أسباب ظاهرة ، الا انها في نفسه . وقد تنقلب العواطف إلى ضدها من غير ان يشعر المرء بأسباب ذلك ، فتنقلب الصداقة إلى عداوة ، والحب إلى بغضاء ، والعطف إلى نفور ، ويصبح الشجي خلي البال اعتقاداته . قد تكون هذه التبدلات ناشئة. الغالب متصلة بأسباب لاشعورية . ان الخيبة الأمل في حياة الانسان تأثيراً تتبدل على أثره ميوله واعتقاداته من غير أن يدري لذلك سبباً ب - اللاشعور في الحياة العقلية
في الحياة العقلية أمثلة كثيرة تدل على تأثير اللاشعور ، لأن الحالات الفكرية ليست
واضحة كلها .
١ - اللاشعور في الادراك . - ليس الادراك ظاهرة عقلية بسيطة، وانما هو نتيجة عدة أفاعيل ذهنية . إن بعض صفات الادراك تعلل بأسباب فيسيولوجية كما رايت سابقاً ولكن قسماً كبيراً منها لا يعلل الا باسباب لاشعورية . فالمسافة مثلا لا تقدر إلا باستدلال لا شعوري يتضمن مقارنة بين حجم الجسم الحقيقي وحجمه الظاهر ، ونظرة إلى عدد الأجسام الفاصله بيننا وبينه ، واستعادة لذكرى تجاربنا الماضية . وعلى ذلك فان
للاستدلالات اللاشعورية أثراً في حصول الادراك . - اللاشعور في الذاكرة : - ابن تحفظ الذكريات بعد غيابها عن ساحة الشعور ؟
سنجيب عن هذا السؤال عند البحث في الذاكرة ، ونقتصر الآن على القول : ان نسيان الذكريات لا يبعث على زوالها من النفس ، بل يتركها محبوءة وراء الشعور . فلا تعود إلا ليتم بها الادراك الحاضر. وكثيراً ما يكون خطور الذكريات بالبال ناشئاً عن اسباب لا شعورية ، ولذلك فان خير وسيلة لاسترجاع اسم استعصى علينا تذكره هي الاعراض عنه ، فإذا أعرضنا عنه انبجس من أعماق اللاشعور انبجاساً عفوياً ، فكأن العقل الباطن
قد هيأه لنا ونحن غير شاعرين به .
- اللاشعور في تداعي الأفكار : - كثيراً ما ينتقل الانسان من فكرة إلى أخرى انتقالاً ميكانيكيا ، من غير أن يشعر بالأفكار المتوسطة التي قادته اليها ، هبني
الاحوال ، اذ يظن بطل الرواية - مويشكين - انه لا يجب - ناستاسيا فيليبوفنا - كما يحبها صديقه ، بل يحبها شفقة منه عليها ، وكذلك - غلايه - فانها بالرغم من حبها الشديد للامير - مويشكين - لا تستطيع ان
تصدق انها تحب مجنوناً مثله .
كنت أفكر في ) هنري برغون ( فانتقلت فجأة إلى التفكير في ( تين) ، فما هي الرابطة الجامعة بين هذين الاسمين ، لو حللت أفكاري لوجدت أني قرأت في كتاب ( لويليم جيمس ( ۱۱ ) أن قاعدة ( تين ( في الجنس والبيئة والزمان ، لا تنطبق على نشأة ) هنري برغسون ) . فأنا قد انتقلت إذن من ) هنري برغسون ) إلى ( ويليم جيمس ( ) الأخير الى ( تين ) ، ولم أشعر بالحد الأوسط الذي قادني من الفكرة الأولى إلى الفكرة ومن هذا الأخيرة .
مثال آخر : سمع ( هوبس ( مرة أسم ( شارل ( الأول ، فأخذ يفكر في قيمة الدرهم الروماني . فأدرك بعد التحليل أنه لم ينتقل إلى هذا الحد الأخير إلا بعد أن قال في نفسه : لقد باع الأسكتلنديون شارل الأول ، كما باع اليهود المسيح بثلاثين درهما ، فالرابطة بين
الحدين رابطة خفية
ولقد وصف ( هاميلتون ( هذه الظاهرة وشبهها بالحركة الميكانيكية التي تنتقل إلى كرات ( البيلاردو ( الموضوعة على خط مستقيم ، فقال ( ماذا يحدث إذا قذفنا إحدى الكرات فأصابت الكرة الأولى التي على رأس الخط ؟ إن حركة الكرة المقذوفة لا تنقسم على صف الكرات ، ولا يحدث ما كنا نتوقع حدوثه قبل التجربة ، بل تنتقل حركتها إلى الكرة التي على الطرف الآخر ، فتمر يجميع الكرات المتوسطة من غير أن تحركها (٢) . (۲)
وهذا شبيه بتداعي الأفكار ، لأن المقل ينتقل من الفكرة الأولى إلى الفكرة الأخيرة من غير أن يشعر بالحلقات المتوسطة ، التي يمر بها ، فهي إذن لا شعورية .
لقد زعم ) استوارت میل ( و ) ويليم جيمس ( أن هناك شعوراً بالحلقات المتوسطة،
إلا أنه شعور سريع متبوع بنسيان ( ) ( Conscience rapide suivi d'oublie ) ، فالحدود المتوسطة التي انتقلنا بوساطتها من الفكرة الأولى إلى الفكرة الأخيرة مرت بساحة
(۱) ويليم جيمس ، فلسفة التجربة ، ص - ١٢٤
(۲) هامیلتون ، نقلا عن ) استوارت ميل) : فلسفة هاميلتون - ص - ٣٢٩ ، من الترجمة الفرنسية (
۳) راجع ) روستان ) ، دروس الفلسفة ، جلد - ١ علم النفس ، ص - ٧٩
الشعور ، إلا أن مرورها كان سريعاً فلم تترك أثراً في النفس ، فخيل الينا انها خفية مع انها حالات شعور سريع أعقبه نسيان مباشر
لا جرم أن ايضاح ( ميل ) و ( جيمس ( ينطبق على كثير من الحالات النفسية ، فالشعور السريع المتبوع بالنسيان أقرب إلى الحق في بعض الأحيان من اللاشعور المطلق ، ولكن هل يغنينا هذا التعليل عن نظرية اللاشعور ؟ أو ليس النسيان نفسه دليلا على وجود
الحياة اللاشعورية ؟
إن في مبدأ الحياة النفسية أحوالاً تدل على تأثير اللاشعور ، لأن الطفل لا يفرق في هذه المرحلة بين الأنا واللا أنا ، ولا يميز شخصيته عن الإحساس ، فلا يتعدى وجود الشيء عنده الإحساس الدال عليه ، ولا فرق عنده بين الموجود والمحسوس ، كأن هناك وحدة ذاتية بين الشخص المدرك والشيء المدرك. وقد سمى (مين دوبیران ( هذه الحالة بالحالة الانفعالية المحضة ) Affectivité pure ) أو حالة الإنفعال البسيط ) Affection simple ) ، وهي حال جميع الذي لم يتوصلوا إلى الشعور التام بشخصيتهم ، ولم يستطيعوا أن يقاوموا تأثير العالم الخارجي فيهم . وأحسن تصوير لهذه الحال قولهم : إنها حال ركود و خمود وخدر ، يزول عنها التأثير عقب حدوثه ، من غير أن يتحد بغيره ، ويندمج في شخصية كاملة متماسكة . وهذه الحال شبيهة بحال الشعور
السريع المصحوب بالنسيان ، فهي اذن حال لا شعورية .
ليست هذه الحالة خاصة بالأطفال ، بل قد تعرض للراشد أيضاً في الأحلام والاغماء.
وقع ( روسو ( مرة على رأسه ، فأغمي عليه ، فقال يصف حاله :
د عدت إلى نفسي فوجدتني في تلك اللحظة في حال هي من الغرابة في درجة لا بد لي من وصفها هنا .
أخذ الليل يدنو مني ، فأبصرت السماء وبعض النجوم وقليلا من الخضرة ، فكان هذا الاحساس الاول عذباً ولم اكن ادرك نفسي الا من تلك الناحية ، فكنت في تلك اللحظة كمن ولد من جديد ، وكان يظهر لي اني الخفيف كل الاشياء التي رأيتها ، فكنت بكليتي منصرفاً إلى هذه اللحظة الحاضرة، فلم اتذكر شيئاً مما حدث لي ، واضعت صورة شخصي البينة ، فلم أعلم ما انا ولا من أنا، ولا أين انا ، ولم أشعر بألم وخوف املا بوجودي
ولا بقلق ، وكان دمي يجري أمامي كما يجري ماء الجدول ، فلم يخطر لي ابدا انه . دمي
ان لهذه الانفعالات البسيطة تأثيراً كبيراً في حياتنا النفسية ، حتى لقد بين ( مين دو بيران )
من مربع فلا يدري انفعال بسيط . الانسان بها الا بعد ظهورها. وكم مرة خضع الانسان العوامل العجب ، والغرور ، وحب الذات. من غير أن يشعر بها ، وما أعمق تحليل ) لاروشفو كولد ( و ) باسكال ( وغيرهما من فلاسفة الأخلاق لهذه العوامل الخفية . ان تهيجاتنا واهواءنا وميولنا متصلة بماضينا ومتعلقة بمزاجنا . فتارة تمر بنا الأيام طافحة بالسرور . وأخرى نستثقل فيها كل لطيف ، ونستقبح كل جميل ، ولو حللنا أسباب سرورنا وحزننا لما وجدنا لهماسبباً معقولاً (۲) وقد قيل ان . ( التشاؤم ناشيء عن المعدة
ان لها تأثيراً كبيراً في تكون الانا (١) ، لأن النفس تحفظها في اللاشعور . وتنسج منها أشعة الميول . يخال الانسان انه نسيها وهي باقية وراء الستار ، تؤثر في سلوكه وتكيف ميوله الطبيعية ، ومخاوفه الغريزية ، ونزعاته التي لا يمكن ايضاحها بالتجربة
والعادة المكتسبة
- اللاشعور في منشأ المواطف والأهواء : - كثيراً ما تتولد العواطف الشديدة
والاحشاء ، لا عن التفكير في الحياة (٣) )
وكما يوجد في النفس تهيجات خفية ، فكذلك يوجد فيها ميول لا شعورية ، انا نجهل اسباب عطفنا ونفورنا ، كما نجهل أسباب حبنا وبغضنا. ولولا الأشخاص الذين يراقبوننا وينتبهوننا لما أطلعنا من ذلك على شيء ، الميل عند تولده يكون خجولاً متردداً مجهولاً من صاحبه ، الا انه لا يلبث أن يستولى على النفس كلها ، ويصبح إلها معبوداً ، مسيطراً ، وكثيراً ما وصف الروائيون تولد الهوى في قلب العاشق ، وهو جاهل به. فإن ( قدر ) (٤) راسين كانت في البدء غير شاعرة بتولد الهوى في قلبها ، ) وبول ( و ) فيرجيني ( حبا حبها الشديد صداقة بسيطة ، و ( جوسلن ) اخطأ ايضاً في تأويل حبه ، و ( ناتاشا ) تولوستوي تمثل براءة الحب وقوته مما (٥) ، كل ذلك يدل على عدم شعور العاشق بحقيقة ما تنطوي عليه
(۱) راجع ( مين دو بیران ( : ) Essai sur les fondements de la Psychologie ) جزء
٢ ٠ ص - ۱۲ ، من طبعة ) تافيل ) .
(٢) للاسباب اللاشعورية أثر كبير في تولد اللذة، اذ كثيراً ما يفرح الانسان ، ويحزن دون سبب ظاهره فيزداد حزنه وسروره تبعاً لبعض العوامل الخفية ، ويخفان بتأثير العادة
(۳) راجع ) بودن Baudin ) ، كتاب علم النفس ، طبعة ه ، ص - ١١٤ (٤) راسين Racine . رواية - قدر - Fhedre .
(0) في رواية الابله L'idiot للكاتب الروسي ) دوستويوسكي Dostoievsky )وصف جميل لهذه -
عن و تتبدل جميع أسباب ظاهرة ، الا انها في نفسه . وقد تنقلب العواطف إلى ضدها من غير ان يشعر المرء بأسباب ذلك ، فتنقلب الصداقة إلى عداوة ، والحب إلى بغضاء ، والعطف إلى نفور ، ويصبح الشجي خلي البال اعتقاداته . قد تكون هذه التبدلات ناشئة. الغالب متصلة بأسباب لاشعورية . ان الخيبة الأمل في حياة الانسان تأثيراً تتبدل على أثره ميوله واعتقاداته من غير أن يدري لذلك سبباً ب - اللاشعور في الحياة العقلية
في الحياة العقلية أمثلة كثيرة تدل على تأثير اللاشعور ، لأن الحالات الفكرية ليست
واضحة كلها .
١ - اللاشعور في الادراك . - ليس الادراك ظاهرة عقلية بسيطة، وانما هو نتيجة عدة أفاعيل ذهنية . إن بعض صفات الادراك تعلل بأسباب فيسيولوجية كما رايت سابقاً ولكن قسماً كبيراً منها لا يعلل الا باسباب لاشعورية . فالمسافة مثلا لا تقدر إلا باستدلال لا شعوري يتضمن مقارنة بين حجم الجسم الحقيقي وحجمه الظاهر ، ونظرة إلى عدد الأجسام الفاصله بيننا وبينه ، واستعادة لذكرى تجاربنا الماضية . وعلى ذلك فان
للاستدلالات اللاشعورية أثراً في حصول الادراك . - اللاشعور في الذاكرة : - ابن تحفظ الذكريات بعد غيابها عن ساحة الشعور ؟
سنجيب عن هذا السؤال عند البحث في الذاكرة ، ونقتصر الآن على القول : ان نسيان الذكريات لا يبعث على زوالها من النفس ، بل يتركها محبوءة وراء الشعور . فلا تعود إلا ليتم بها الادراك الحاضر. وكثيراً ما يكون خطور الذكريات بالبال ناشئاً عن اسباب لا شعورية ، ولذلك فان خير وسيلة لاسترجاع اسم استعصى علينا تذكره هي الاعراض عنه ، فإذا أعرضنا عنه انبجس من أعماق اللاشعور انبجاساً عفوياً ، فكأن العقل الباطن
قد هيأه لنا ونحن غير شاعرين به .
- اللاشعور في تداعي الأفكار : - كثيراً ما ينتقل الانسان من فكرة إلى أخرى انتقالاً ميكانيكيا ، من غير أن يشعر بالأفكار المتوسطة التي قادته اليها ، هبني
الاحوال ، اذ يظن بطل الرواية - مويشكين - انه لا يجب - ناستاسيا فيليبوفنا - كما يحبها صديقه ، بل يحبها شفقة منه عليها ، وكذلك - غلايه - فانها بالرغم من حبها الشديد للامير - مويشكين - لا تستطيع ان
تصدق انها تحب مجنوناً مثله .
كنت أفكر في ) هنري برغون ( فانتقلت فجأة إلى التفكير في ( تين) ، فما هي الرابطة الجامعة بين هذين الاسمين ، لو حللت أفكاري لوجدت أني قرأت في كتاب ( لويليم جيمس ( ۱۱ ) أن قاعدة ( تين ( في الجنس والبيئة والزمان ، لا تنطبق على نشأة ) هنري برغسون ) . فأنا قد انتقلت إذن من ) هنري برغسون ) إلى ( ويليم جيمس ( ) الأخير الى ( تين ) ، ولم أشعر بالحد الأوسط الذي قادني من الفكرة الأولى إلى الفكرة ومن هذا الأخيرة .
مثال آخر : سمع ( هوبس ( مرة أسم ( شارل ( الأول ، فأخذ يفكر في قيمة الدرهم الروماني . فأدرك بعد التحليل أنه لم ينتقل إلى هذا الحد الأخير إلا بعد أن قال في نفسه : لقد باع الأسكتلنديون شارل الأول ، كما باع اليهود المسيح بثلاثين درهما ، فالرابطة بين
الحدين رابطة خفية
ولقد وصف ( هاميلتون ( هذه الظاهرة وشبهها بالحركة الميكانيكية التي تنتقل إلى كرات ( البيلاردو ( الموضوعة على خط مستقيم ، فقال ( ماذا يحدث إذا قذفنا إحدى الكرات فأصابت الكرة الأولى التي على رأس الخط ؟ إن حركة الكرة المقذوفة لا تنقسم على صف الكرات ، ولا يحدث ما كنا نتوقع حدوثه قبل التجربة ، بل تنتقل حركتها إلى الكرة التي على الطرف الآخر ، فتمر يجميع الكرات المتوسطة من غير أن تحركها (٢) . (۲)
وهذا شبيه بتداعي الأفكار ، لأن المقل ينتقل من الفكرة الأولى إلى الفكرة الأخيرة من غير أن يشعر بالحلقات المتوسطة ، التي يمر بها ، فهي إذن لا شعورية .
لقد زعم ) استوارت میل ( و ) ويليم جيمس ( أن هناك شعوراً بالحلقات المتوسطة،
إلا أنه شعور سريع متبوع بنسيان ( ) ( Conscience rapide suivi d'oublie ) ، فالحدود المتوسطة التي انتقلنا بوساطتها من الفكرة الأولى إلى الفكرة الأخيرة مرت بساحة
(۱) ويليم جيمس ، فلسفة التجربة ، ص - ١٢٤
(۲) هامیلتون ، نقلا عن ) استوارت ميل) : فلسفة هاميلتون - ص - ٣٢٩ ، من الترجمة الفرنسية (
۳) راجع ) روستان ) ، دروس الفلسفة ، جلد - ١ علم النفس ، ص - ٧٩
الشعور ، إلا أن مرورها كان سريعاً فلم تترك أثراً في النفس ، فخيل الينا انها خفية مع انها حالات شعور سريع أعقبه نسيان مباشر
لا جرم أن ايضاح ( ميل ) و ( جيمس ( ينطبق على كثير من الحالات النفسية ، فالشعور السريع المتبوع بالنسيان أقرب إلى الحق في بعض الأحيان من اللاشعور المطلق ، ولكن هل يغنينا هذا التعليل عن نظرية اللاشعور ؟ أو ليس النسيان نفسه دليلا على وجود
الحياة اللاشعورية ؟
تعليق