صبري يوسف يصرّح للوسط
لوحاتي وأشعاري مستنبتة من رحاب الحبِّ والفرح والسَّلام
أجرى الحوار نصر سامي
لم ألتق به من قبل، التقيت بأعماله، مساحات من الصَّفاء، والعمق وألوان تخفي أسراراً كثيرة ودنى خبيئة، في شعره وفي أعماله التَّشكيليّة يتشكّل عالم متخيّل ثريّ مذهل يأخذك إلى فضاءات الدّهشة والمحبَّات والتَّصوّف، يلحّ على أنّه سفير سلام، أمّا أنا فأرى في أعماله قدرة على التَّحليق والإيمان بالإنسان المطلق القادر على الخلق والخلود ومقاومة النّسيان والبلى، في ترحاله من سوريا إلى استوكهولم تغيّرت أعماله، وتعمّقت، وأصبحت جغرافيا ممتدّة لتحضن تواريخ أخرى صاغها الشَّاعر، يغيب منها العنف والخوف والموت، تنبئ أعماله بعالم أبيض مضيء عادل وصادق. وهو يؤمن بالإنسان الكوني وباللُّغة الكونيّة، في حوار الوسط معه يعترف ويبرّر ويقرأ .. ويستنطق الجمال.
تقمّطْتُ باخضرارِ الطَّبيعة مع حبق اللَّون
ترعرَعْتُ في بيئة فلاحيّة، حيثُ استقبلتني سهول القمح على صوت زقزقات العصافير، وهسيس الكائنات البرّية، قمّطني اخضرار الطَّبيعة وكروم المالكيّة/ديريك، فقد كان اللَّون، القصيدة الأعمق في حياتي منذ أن فتحْتُ عيني على وجه الدُّنيا!
طموحٌ من نكهةِ الصُّعودِ إلى أعلى القمم راودني منذُ أن كتبتُ الحرف الأوَّل، منحتني بيئتي الفلاحيّة الصَّفاء والنّقاء والصَّبر في التَّعامل مع دراساتي ومتابعاتي واهتماماتي الأدبيّة والفنّية والفكريّة، وصقلَتْ آفاقي عبر تجاربي ومتابعاتي وقراءاتي المتواصلة، وستبقى البيئة هي الأرضيّة والمعين الَّذي اغترفُ منه تدفُّقات إبداعي على كافّة المناحي!
حصلتُ على ثلاث بكالوريات أدبيّة، تابعت دراستي عبر الأولى بالصَّف الخاص، نظام السَّنة الواحدة، كأقرب طريق إلى لقمة الخبز! ثم التحقتُ بالثَّانية بجامعة حلب قسم الأدب الإنكليزي، وإنتقلت إلى السَّنة الثَّانية ثم توقّفت عن متابعة دراستي لأسباب بكائيّة، وفي الثَّالثة التحقت بجامعة دمشق دراسات فلسفيّة وإجتماعيّة وتخرّجت بتقدير جيد في شعبة علم الإجتماع!
اشتغلتُ مدرسِّاً في إعداديات وثانويات المالكيّة 13 سنة في الوطن الأم ثمَّ عبرْتُ البحارَ بحثاً عن أبجدياتٍ جديدة للإبداع.
أطلُّ من ستوكهولم على العالم من خلال حرفي
حالما وطأَتْ أقدامي على أرض ممكلة السُّويد، خطَّطْتُ أن أطلَّ من ستوكهولم على العالم من خلال حرفي، فبدأتُ ألملمُ أوراقي، أحرقتُ كتابات المرحلة الأولى الّتي كتبتها في الوطن الأم، “رواية مخطوطة، والكثير من القصائد والنُّصوص والخواطر والقصص القصيرة”، وإحتفظت بقصة قصيرة واحدة من كلِّ تلك المرحلة! لأنَّني وجدتُها كتاباتٍ منقوصة، وتحتاج إلى الكثير من العمق والتَّقنيات الفنِّية والتَّدفُّقات الإنسيابيّة، وبدأتُ أفرش رؤاي وأحداث ومواقف لأستنبط منها قصصاً وأشعاراً ونصوصاً ومقالات. دائماً كنتُ أراني قلِقَاً قَلَقَاً إبداعيّاً، مندفعاً بحماسٍ كبير لترجمة طموحاتي وآفاقي الحلميّة!
كتبتُ بشكل مستمر على مدى أكثر من عقدين من اغترابي، أصدرتُ مجموعتي القصصيّة الأولى في ستوكهولم 1997، ثم أسَّست دار نشر صبري يوسف، وأصدرت عبر دار نشري 16 ديوان شعري، ومجموعتَين قصصيتَين، ومجموعة كتب تتضمَّن نصوصاً أدبيّة ودراسات تحليليّة ومقالات أدبيّة سياسيّة فكريّة، وحوارات أُجريَتْ معي وأخرى أجريتها مع مبدعين!
ترجمْتُ ديوانَين من دواويني الشِّعريّة إلى اللُّغة السُّويديّة، روحي شراعٌ مسافر، وطقوس فرحي، لخلق جسر ثقافي بيني وبين الآخر، ولاقَتْ قصائدي استحسان القارئ السُّويدي، ووجدَ فيها صوراً غنيّة بالحبِّ والحنين والسَّلام والفرح والطُّفولة والغربة والتَّآخي الإنساني، كما وجدني عبر نصوصي ضدَّ الحروب المميتة الَّتي تقودُ إلى صراعاتِ الإنسان مع أخيه الإنسان!
أسَّست مؤخّراً مجلّة سنويَّة بعنوان السَّلام وهي مجلّة مستقلِّة وأتلقّى نصوصاً ومواضيع متعدِّدة تخصُّ السَّلام الإنساني ككل! أرى من الضّروري أن يتمَّ تغيير الواقع العربي من المحيط إلى الخليج، عبر إعادة صياغة رؤانا في بناء إنسان سوي وسليم، بعيداً عن التَّعصُّب الدِّيني والمذهبي والقومي والإثني، على أن يكون المواطن كمواطن هو الأساس الَّذي ينطلق منه كلّ مواطن في بناء الوطن، لأنَّ الأوطان تمزّقَتْ من خلال عدم توفُّر فكر تنويري حضاري تقدُّمي إنساني نسير عليه!
شغفي العميق في عوالم اللَّون، قادني إلى فضاءات التَّشكيل
منحتني الطَّبيعة والبيئة الَّتي نشأت فيها، مخزوناً عميقاً وطاقات لونيّة ظلَّتْ منقوشة في ثنايا اللاشعور الضُّمني، وكنتُ شغوفاً منذ بواكير عمري بالخطِّ العربي، وبالرَّسم والتَّشكيل وتذوّق الجَّمال، لهذا كان أغلب أصدقائي من الكتَّاب والشُّعراء والفنَّانين التَّشكيليين، وحضرْتُ معارضهم والكثير من المعارض في ديريك مسقط رأسي وفي دمشق، فتشبّعْتُ بهذا الحبق اللَّوني ابتداءً من الطَّبيعة، ومروراً بمحطَّات عمري وصداقاتي ومتابعاتي، إلى أنَّ حطّ بي الرِّحال في ستوكهولم عام 1990، وإذ بي بين أحضان عاصمة مقمَّطة بالبحيرات والجَّمال والغابات الخلابة.
تشبه ستوكهولم أنثى عاشقة ومعشوقة على الدَّوام! تنام على مناغات النَّوارس وحنين العشَّاق وشوق الشُّعراء والفنَّانين إلى وهج الإبداع. بعد أن كتبتُ عشرات القصص القصيرة، والنّصوص والمقالات والحوارات في هذه العاصمة الهادئة، هبطَتْ عليّ فجأة عام 2004 رغبة عارمة للدخول في عالم اللَّون والرَّسم والتَّشكيل، رغبة لم أستطِعْ مقاومتها على الإطلاق! كمَنْ يكون صائماً عقوداً من الزَّمن عن أكلة لذيذة يحبُّها فيفطر عليها بشهيّة عميقة، وهكذا وفي ليلة من ليالي ستوكهولم تبرعم في قلبي وكياني وروحي وخيالي هاجس كبير وشغف عميق لمداعبة اللَّون، ففرشْتُ ألواني وفرشاتي وسكاكيني “الخاصّة بالرَّسم” وأقمشة اللَّوحات البيضاء تنتظر عناقي المفتوح بشهيّةٍ لا تقاوم! وبدأتُ أرسم كما يرسم طفل ما يراوده، ويبدو أنّني فنّان تشكيلي بالفطرة، بالمخزون اللَّوني والجّمالي، اللَّوحة عندي ترسم ذاتها، تتدفّق بألوانها وتفاصيلها وتماهياتها، مثلما تتدفَّق قصائدي الشِّعريّة.
أنظر إلى نفسي أحياناً كجزء من الطّبيعة، كشجرة، كوردة، كجبل، كنهر متدفِّق، كبسمة طفل، كحنين عاشق إلى صدر حبيبة. لا أنظر إلى نفسي كانسان فقط، غالباً ما أراني كجزء منبعث من شهقة الطَّبيعة على الأرض، لديّ طاقات وإنشغالات إبداعيّة عديدة، أحياناً تدهشني هذه الطّاقات والجُّموحات المتدفِّقة في الكثير من الأجناس الإبداعيّة، وتنبع من أعماقي الخفيّة، بطريقة حلميّة، مثلما يتدفّق الماء من بواطن الأرض، أو يتهاطل المطر من مآقي السَّماء، حتّى انّني أشعر عندما أسير تحت المطر النّاعم أنّه يعانقني وأنّه صديقي، وأتحاور معه ويتحاور معي، كأنّني أجزاء متطايرة من رذاذاته.
مواضيع لوحاتي منبعثة من رحابِ الفرح والحبِّ والسَّلام
رسمتُ خلال فترةٍ قصيرة (ثماني سنوات) أكثر من 300 لوحة تشكيليّة، فجأةً وبعد أن قدَّمْتُ أكثر من معرض في ستوكهولم، قرَّرتُ أن التحق بجامعة ستوكهولم لدراسة الفن التَّشكيلي وتخرّجت كمدرّس لتدريس مادَّة الرَّسم، قدّمْتُ سبعة معارض فرديّة وعدّة معارض مشتركة في ستوكهولم. أعشق جمال الطَّبيعة، الأزاهير والمرأة رسمتها زهرة، فراشة، قمر… وإنَّ مفاهيم الحبّ والفرح والسَّلام هي جوهر مواضيع لوحاتي الَّتي أرسمها، ومَن يتابعني بدقّة يكتشف أنَّ فنّي هو مرآة روحي وقلبي وشهقتي الجَّانحة نحو حيثيات هذه المفاهيم العميقة في الحياة. ولديّ معرض في شهر تشرين الأول (أكتوبر) القادم في غاليري المركز الثّقافي العراقي في ستوكهولم، سأعرض فيه مائة لوحة بعنوان: حب وفرح وسلام صبري يوسف.
الشِّعر والرَّسم وجهان لعشقٍ واحد هو الإبداع
أرسم بأسلوب عفوي، حلمي، انسيابي وبمتعة عميقة. تولد اللَّوحة غالباً بطريقة غير مخطَّط لها، تنمو وتترعرع مثل القصيدة بطريقة غير متوقَّعة، أرسمُ أعمالي بالسِّكِّين والفرشاة النَّاعمة، بأسلوب شاعري فطري طفولي حُلمي تخيُّلي، وبعدّةِ مدارس فنّية، بعيداً عن التَّقيّد بأساليب معيّنة في عالم الفنِّ، فلا أتوقّف عند مدرسة أو تيّار فنِّي معيَّن، بقدر ما أتوقَّف عند مشاعري العفويّة المتدفِّقة مثل حنين العشَّاق إلى أعماق تجلِّيات الرُّوح، أو مثلَ شلالٍ يتدفّقُ من أعالي الجِّبال، أو كشهقةِ طفلٍ لاشراقةِ الشَّمسِ في صباحٍ باكر، حيث تتداخل عدّة أساليب في اللَّوحة الواحدة، وغالباً ما تتدفّق هذه الألوان بشكل عفوي حلمي تأمُّلاتي، ثمَّ تتوالد الأفكار وتتطوّر وتتناغم الألوان خلال عمليات الرَّسم، ويتميّز الأسلوب الَّذي أشتغل عليه بالتَّدفُّقاتِ اللَّونيّة وموشور إنسيابيّة الأفكار ضمن إيقاع لوني فيه من الموسيقى والرّقص والفرح والحنين إلى عوالم الطُّفولة والشَّباب والحياة بكلِّ رحابها، وكأنّي أكتب شعراً عبر اللَّون، لهذا أرى: “أنَّ الشّعر والرَّسم وجهان لعشقٍ واحد هو الإبداع”!
تطهير وتنقية الرُّوح والقلب من شوائب الحياة
الرَّسم والكتابة هما حاجة روحيّة، فكريّة، عشقيّة، كأنّهما بلسم شافٍ، يطهّرانني من سمومِ وشرورِ الحياة، أرسم كَمَنْ يتعبّد في معبد خاص بتطهير وتنقية الرُّوح والقلب من شوائب الحياة في هذا الزَّمن الأحمق! عندما أرسم، أشعر وكأنّني أتمم فضاءات القصائد الَّتي تطايرَتْ من مخيَّلتي ولم أستطِع الإمساك بها لحظة الكتابة، فانبعثَتْ من جديد عبر تناغمات الألوان. وأحياناً، أكتب نصّاً شعريّاً، وكأنّني استكمل فضاءات لوحة تدفّقَتْ انسيابيّة رذاذاتها من خيالي ولم أستطِع الإمساك بكلِّ تفاصيلها، فتوغَّلَتْ مسترخيةً في لاشعوري الضُّمني، ثمَّ نهضَتْ متوفّزة بإيقاعٍ شعري وكأنّها الجّزء المتمّم للوحة.
تتنحّى فكرة من خلال ولادة أفكار جديدة من الفكرة المتنحّية
أرسم أحياناً فكرة ما ثمَّ تولد فكرة جديدة مستوحاة من الأولى فتتنحّى الأولى، تسطع الفكرة الجَّديدة متألِّقة بكلِّ حفاوتها أمامي، فأركّز عليها، تتزاحم الأفكار لحظة انبعاث الإشراقة الإبداعيّة خلال الرّسم، تجرفني هواجس الرَّسم، وتفرُّعات الأفكار والألوان، أشعر أحياناً أنّني متعانق في غابة لونيّة متدفِّقة من كلِّ الأطراف، تنمو اللَّوحة بتفاصيلها ورموزها وتشعُّباتها بعفويّة جامحة، عندما تكتمل اللَّوحة، أنظر إليها وكأنّني على حوار مع الكائنات الصَّغيرة والتَّفاصيل والرُّموز الَّتي رسمتها، تتحوَّل اللَّوحة أمامي إلى حالة انتعاشيّة، أنظر إلى ألوانها وتناغماتها باستمتاعٍ عميق، وأسمع إلى موسيقى هادئة، فتحرِّضني بعض اللَّوحات على استلهام اشراقات شعريّة، فأغمس حبري متوغِّلاً في بحبوحةِ الإشراقات.
متعة الإبداع لا يضاهيها أيّة متعة أخرى على وجه الدُّنيا
أرسمُ لأنَّ الرَّسم يمنحني متعة عميقة، وأرى متعةَ الإبداع بكلَّ أجناسه وأشكاله، لا تضاهيها متعة أخرى على وجه الدُّنيا! حيثُ يمنحني الإبداع فرحاً عميقاً، يمسح أحزاني وآهاتي ويخفِّف عنِّي جراحَ غربتي في الحياة، ويجعلني أشعر أنَّ هناك هدف كبير يستحقُّ أن أعيشَ من أجله طوال حياتي، لأنّني من خلال حرفي ولوني أقدِّم تفاؤلي وأملي وأبهى ما لديّ من رؤى وأفكار وتطلُّعات للقارئ، وأعرف أنَّ هذه الحميميات الإبداعيّة المنبعثة من عوالمي ستبقى ساطعةً على وجنةِ الحياة!
نقلاً عن جريدة الوسط الجزائريّة
(تمَّ نشر هذا اللقاء من قبل الصديق الأديب التونسي نصر سامي منذ عدة سنوات بناءً على طلبه وبتوجُّهات من إدارة جريدة الوسط آنذاك)