غسان جديد للميادين نت: الفن أن أرفع الغطاء عن شاعرية الطفل بداخلي
السمة الأبرز لواقعية غسان جديد التعبيرية والتلقائية هي اتكاؤه على الخطوط الناعمة والعفوية، التي يؤكد من خلالها على أشكاله وماهية عناصره ومفرداته البصرية.
لعل الفنان التشكيلي السوري غسان جديد (1946) من القلائل بين جيله الذين حققوا معادلة الرسم كالأطفال التي تحدَّث عنها بيكاسو. فما نشاهده في لوحات معرضه التي احتضنها غاليري "البيت الأزرق" في دمشق، هو فرح طفل في السابعة والسبعين من عمره بما تختزنه ذاكرته من بيوت مدينته طرطوس وخِيَم أرواد، بكل ما تتضمنه من سحر وغموض، إضافة إلى تجديلها بالرموز والإشارات والأشكال المستعارة من الحضارات القديمة.
بيوت متراصفة فوق بعضها أشبه برقعة الشطرنج أخذت طريقها إلى لوحات جديد، بشكل فطري مفعم بالعاطفة، وبأسلوب يجاهر بألوان زاهية وصريحة، وخطوط رقيقة عذبة، تحيط بأشكال وعناصر لوحته، بليونة نادرة، وعفوية عجيبة، ما يجعلها تقارب رسومات الإنسان البدائي في الكهوف، وفي مرات أخرى تتقاطع مع خربشات الأطفال، كل ذلك ضمن فن يقارب الشعبي ببساطته المذهلة، وبقدرة كبيرة على مواءمة القديم والجديد، النظام والفوضى، الواقعي والسحري، الخبرة التي تجاوزت الخمسين عاماً من الرسم والتلقائية المفرطة.
وفي مقاربة الفنان جديد للبيوت نستشف أنه يسعى إلى صياغة متحف ذاكرته الخاص بطريقة تشبه إلى حد كبير متحف طرطوس القديم القائم في مقابلة شاطئ البحر بأمواجه التي تكتب مشيئتها على الرمل ثم تمحوها بتكرار لا ينتهي، ومثلها يفعل غسان في تركيباته وتكويناته للبيوت التي تغطي القسم الأكبر من مساحة لوحته، والتي يقوم أحياناً باختزالها لتقتصر على بضعة بيوت ونوافذ وأبواب، وكأن الباقي فائض عن الحاجة العاطفية التي يريد إيصالها لمتلقي أعماله.
وكما يفعل مع عناصر لوحته، فإنه يتعامل مع ألوانه، مرةً تكون غزيرة، متضادة، زاهية، كثيفة، متنوعة، تأخذ مساحتها على سطح اللوحة بتقنية الطلس المباشر من ماسورة الألوان، بينما تكون في أحيان أخرى متدرجة من الغامق إلى الفاتح، وبتجاورات بين الحار والبارد، مع اشتغاله على إضافة خطوط صغيرة ونقاط وبعض التفصيلات التي تُزيد المشهد حيوية، وكأنه بذلك يهدف إلى تحريك عناصره والإيحاء بالظل والنور أو التجسيم، خاصةً أنه يعتمد على تسطيح أعماله وإلغاء البعد الثالث منها.
ولعل السمة الأبرز لواقعية غسان التعبيرية والتلقائية هي اتكاؤه على الخطوط الناعمة والعفوية والتي يؤكد من خلالها على أشكاله وماهية عناصره ومفرداته البصرية. حتى أن المتلقي يستغرب ليونتها المبهرة وآلية وضعها على اللوحة بهذه السلاسة، ليكتشف أنها إحدى أسرار الاشتغالات التي تمرَّس بها ابن طرطوس لأكثر من نصف قرن، عن تلك الأسرار وآلية تفعيل الذاكرة والطفولة المستمرة في أعماله الفنية كان لــ "الميادين الثقافية"، مع جديد، هذا الحوار:
إلى متى ستسكنك بيوت طرطوس؟
لوحاتي هي رسائل محبة لمدينة طرطوس، أشعر نفسي من خلالها كطائر يُحلِّق فوق سماء مدينته ويتغنّى بها. طرطوس مدينة ساحلية فيها سكينة ومودة ومحبة، وفيها سحر البحر، وكما يقول أحد الشعراء: "أصبحت شاعراً بين البشر حينما كنت أستنشق الحياة وأعيدها في زفير أسمى"، وأنا مثل ذاك الشاعر أستوحي أعمالي من الساحل والمدينة والبيوت المائلة على البحر، بما فيها من صلابة الحجر وليونة الماء.
أغلب أعمالك تحمل ألواناً طفولية وبهجة وفرح، وهناك عبث طفولي بالألوان، رغم أن طرطوس معروفة بهدوئها الزائد، كيف تبرر هذا الشيء؟
أعمالي التي أرسمها تطرح السكينة والسلام والتسامح في الحياة، هدفي بالعموم أن تتضمن اللوحة سعادة، فأنا أنقل متعتي أثناء رسم اللوحة إلى المتلقي.
الفن الحديث فيه تبسيط كبير، وتوزيع لوني ذكي، تنظر الآن إلى اللوحة فتشعر أنها غيمة، فيها الكثير من الليونة مثل الطفولة تماماً. وإذا ربطتني بفنون الأطفال، فإنني أتذكر اليابانيين عندما نظروا إلى فنون أطفالهم وجدوا فيها تفاصيل كثيرة، وهذا يعني وجود خطأ في التربية، إذ لدى الطفل مخاوف، بينما الطفل الألماني كان عنده ثقة ويرسم خطاً كبيراً، لأن توجهيهم أن يعطوا للطفل الحرية والثقة، أما نحن فنقيد الطفل بأن يرسم التفاحة تماماً كما هي، هذا خطأ. الفن أن أرفع الغطاء عن شاعرية الطفل بداخلي. الفن تعبير صادق، فليس من المهم أن أرسم البيت كما هو تماماً، بل أن أضيف إليه شيئاً من عندي.
النقاد يقولون لا يهمنا قلق سيزان ولا آلام فان غوخ، بل أن سيزان رسم التفاحة أجمل من الواقع وفان غوخ أيضاً وغيرهما. إنهم يقدمون حالتهم النفسية، وهذا ما أعمل عليه أن أعطي رسوماتي الكثير من عالمي الداخلي.
من هنا أعمالك واقعية تعبيرية مبسطة وبعضها يحوي تجريداً. ولاحظت أن هناك رسم بأقلام الفحم وتلوين فوقه من دون محي
العمل أبدأ به ثم ينقلني إلى أماكن أخرى، طبقات فوق طبقات، وانزياحات في اللون التي قد تنتقل من الفاتح إلى الداكن، وهذا لا يعني أنني أنجح دائماً في الوصول إلى لوحة تقنعني، بل في كثير من الأحيان أفشل وأمزق اللوحة.
البعد الثالث ملغي في أعمالي، لدي مناظير خيالية ووحدات حركية، بين الغامق والفاتح، أجسام فيها نوع من الحركة بين الحار والبارد، وأؤكد على ملمس اللوحة كثيراً، لأنني دائماً أتذكر أحد النقاد عندما يقول إنني لو جرحت اللوحة سيخرج منها دم، كنوع من التأكيد على أهمية الحقيقية في العمل الفني والشيء الغريزي فيها.
السمة الأبرز لواقعية غسان جديد التعبيرية والتلقائية هي اتكاؤه على الخطوط الناعمة والعفوية، التي يؤكد من خلالها على أشكاله وماهية عناصره ومفرداته البصرية.
بديع صنيج- 26 تشرين اول 11:45
لعل الفنان التشكيلي السوري غسان جديد (1946) من القلائل بين جيله الذين حققوا معادلة الرسم كالأطفال التي تحدَّث عنها بيكاسو. فما نشاهده في لوحات معرضه التي احتضنها غاليري "البيت الأزرق" في دمشق، هو فرح طفل في السابعة والسبعين من عمره بما تختزنه ذاكرته من بيوت مدينته طرطوس وخِيَم أرواد، بكل ما تتضمنه من سحر وغموض، إضافة إلى تجديلها بالرموز والإشارات والأشكال المستعارة من الحضارات القديمة.
بيوت متراصفة فوق بعضها أشبه برقعة الشطرنج أخذت طريقها إلى لوحات جديد، بشكل فطري مفعم بالعاطفة، وبأسلوب يجاهر بألوان زاهية وصريحة، وخطوط رقيقة عذبة، تحيط بأشكال وعناصر لوحته، بليونة نادرة، وعفوية عجيبة، ما يجعلها تقارب رسومات الإنسان البدائي في الكهوف، وفي مرات أخرى تتقاطع مع خربشات الأطفال، كل ذلك ضمن فن يقارب الشعبي ببساطته المذهلة، وبقدرة كبيرة على مواءمة القديم والجديد، النظام والفوضى، الواقعي والسحري، الخبرة التي تجاوزت الخمسين عاماً من الرسم والتلقائية المفرطة.
وفي مقاربة الفنان جديد للبيوت نستشف أنه يسعى إلى صياغة متحف ذاكرته الخاص بطريقة تشبه إلى حد كبير متحف طرطوس القديم القائم في مقابلة شاطئ البحر بأمواجه التي تكتب مشيئتها على الرمل ثم تمحوها بتكرار لا ينتهي، ومثلها يفعل غسان في تركيباته وتكويناته للبيوت التي تغطي القسم الأكبر من مساحة لوحته، والتي يقوم أحياناً باختزالها لتقتصر على بضعة بيوت ونوافذ وأبواب، وكأن الباقي فائض عن الحاجة العاطفية التي يريد إيصالها لمتلقي أعماله.
وكما يفعل مع عناصر لوحته، فإنه يتعامل مع ألوانه، مرةً تكون غزيرة، متضادة، زاهية، كثيفة، متنوعة، تأخذ مساحتها على سطح اللوحة بتقنية الطلس المباشر من ماسورة الألوان، بينما تكون في أحيان أخرى متدرجة من الغامق إلى الفاتح، وبتجاورات بين الحار والبارد، مع اشتغاله على إضافة خطوط صغيرة ونقاط وبعض التفصيلات التي تُزيد المشهد حيوية، وكأنه بذلك يهدف إلى تحريك عناصره والإيحاء بالظل والنور أو التجسيم، خاصةً أنه يعتمد على تسطيح أعماله وإلغاء البعد الثالث منها.
ولعل السمة الأبرز لواقعية غسان التعبيرية والتلقائية هي اتكاؤه على الخطوط الناعمة والعفوية والتي يؤكد من خلالها على أشكاله وماهية عناصره ومفرداته البصرية. حتى أن المتلقي يستغرب ليونتها المبهرة وآلية وضعها على اللوحة بهذه السلاسة، ليكتشف أنها إحدى أسرار الاشتغالات التي تمرَّس بها ابن طرطوس لأكثر من نصف قرن، عن تلك الأسرار وآلية تفعيل الذاكرة والطفولة المستمرة في أعماله الفنية كان لــ "الميادين الثقافية"، مع جديد، هذا الحوار:
إلى متى ستسكنك بيوت طرطوس؟
لوحاتي هي رسائل محبة لمدينة طرطوس، أشعر نفسي من خلالها كطائر يُحلِّق فوق سماء مدينته ويتغنّى بها. طرطوس مدينة ساحلية فيها سكينة ومودة ومحبة، وفيها سحر البحر، وكما يقول أحد الشعراء: "أصبحت شاعراً بين البشر حينما كنت أستنشق الحياة وأعيدها في زفير أسمى"، وأنا مثل ذاك الشاعر أستوحي أعمالي من الساحل والمدينة والبيوت المائلة على البحر، بما فيها من صلابة الحجر وليونة الماء.
أغلب أعمالك تحمل ألواناً طفولية وبهجة وفرح، وهناك عبث طفولي بالألوان، رغم أن طرطوس معروفة بهدوئها الزائد، كيف تبرر هذا الشيء؟
أعمالي التي أرسمها تطرح السكينة والسلام والتسامح في الحياة، هدفي بالعموم أن تتضمن اللوحة سعادة، فأنا أنقل متعتي أثناء رسم اللوحة إلى المتلقي.
الفن الحديث فيه تبسيط كبير، وتوزيع لوني ذكي، تنظر الآن إلى اللوحة فتشعر أنها غيمة، فيها الكثير من الليونة مثل الطفولة تماماً. وإذا ربطتني بفنون الأطفال، فإنني أتذكر اليابانيين عندما نظروا إلى فنون أطفالهم وجدوا فيها تفاصيل كثيرة، وهذا يعني وجود خطأ في التربية، إذ لدى الطفل مخاوف، بينما الطفل الألماني كان عنده ثقة ويرسم خطاً كبيراً، لأن توجهيهم أن يعطوا للطفل الحرية والثقة، أما نحن فنقيد الطفل بأن يرسم التفاحة تماماً كما هي، هذا خطأ. الفن أن أرفع الغطاء عن شاعرية الطفل بداخلي. الفن تعبير صادق، فليس من المهم أن أرسم البيت كما هو تماماً، بل أن أضيف إليه شيئاً من عندي.
النقاد يقولون لا يهمنا قلق سيزان ولا آلام فان غوخ، بل أن سيزان رسم التفاحة أجمل من الواقع وفان غوخ أيضاً وغيرهما. إنهم يقدمون حالتهم النفسية، وهذا ما أعمل عليه أن أعطي رسوماتي الكثير من عالمي الداخلي.
من هنا أعمالك واقعية تعبيرية مبسطة وبعضها يحوي تجريداً. ولاحظت أن هناك رسم بأقلام الفحم وتلوين فوقه من دون محي
العمل أبدأ به ثم ينقلني إلى أماكن أخرى، طبقات فوق طبقات، وانزياحات في اللون التي قد تنتقل من الفاتح إلى الداكن، وهذا لا يعني أنني أنجح دائماً في الوصول إلى لوحة تقنعني، بل في كثير من الأحيان أفشل وأمزق اللوحة.
البعد الثالث ملغي في أعمالي، لدي مناظير خيالية ووحدات حركية، بين الغامق والفاتح، أجسام فيها نوع من الحركة بين الحار والبارد، وأؤكد على ملمس اللوحة كثيراً، لأنني دائماً أتذكر أحد النقاد عندما يقول إنني لو جرحت اللوحة سيخرج منها دم، كنوع من التأكيد على أهمية الحقيقية في العمل الفني والشيء الغريزي فيها.