خاتمة
نهاية الفن الاسلامي والاتجاهات الجديدة لفن العمارة في العص الحديث :
نلاحظ من استعراض الفصول السابقة كيف أن النتاج المعماري الضخم الذي ماتزال بلادنا تزخر بآثاره الرائعة يؤلف تراثاً محلياً أصيلا ، إلى مدرسة فنية عالمية هي الفن الاسلامي ، وإنه كان يتطور من عصر إلى عصر ضمن سلسلة من المراحل متصلة الحلقات .
لكن هذا التطور توقف فجأة في أواخر القرن التاسع عشر . فاذا ألقينا نظرة على المباني الهامة التي أخذت تشيد في المدن السورية منذ ذلك التاريخ نجدها لا تمت بصلة إلى فنون العمارة العربية الاسلامية ، بل تنتسب إلى طراز دخيل انتقل اليها من العاصمة استامبول . وكانت هذه العاصمة ، رغبة منها في نفض غبار التأخر والضعف عن جسد الامبراطورية العجوز ، قد مالت إلى كل ما هو غربي أو أوربي وفتحت أبوابها أمام التيارات الاجنبية ووفد اليها . مع هذه التيارات المهندسون والفنانون فشيدوا القصور والمنشآت العامة وفق الفنون المعمارية السائدة وقتئذ في البلدان الأوربية وكان يغلب عليها طراز الكلاسيكية الحديثة المتأثرة بفن الباروك أو الروكوكو اللذين شاعا في القرنين الثامن والتاسع عشر .
وأخذ هذا اللون الجديد من الفن المعماري يغزو بلدان الامبراطورية. وانتقل إلى سورية مع الحكام والباشوات والاغنياء الذين كانوا يميلون إلى تقليد العاصمة في كل شيء . ونرى من المفيد أن نذكر أ أمثلة على هذا النوع من المنشآت :
هناك في مدينة دمشق مجموعة نعددها فيما يلي :
١ - الثكنة الحميدية التي أنشئت سنة ۱۸۷۳ ( مقر جامعة دمشق ) .
۲ - مستشفى الغربا شيد سنة ۱۸۹۹ ، ( يعرف اليوم بالمستشفى
الوطني ) .
٣ - السرايا : شيدت في عام ۱۹۰۰ ، وهي ، مقر وزارة الداخلية ( انظر الصورة رقم ١٠١ ) .
٤ - قصر الوالي ناظم باشا في المهاجرين ( القصر الجمهوري حالياً ) شيد في بداية هذا القرن .
٥ - بناية العابد في ساحة المرجة ، شيدت في عام ١٩٠٨ .
٦ - دار المعلمين ( مديرية التربية حالياً ) الواقعة على ضفة بردى قرب التكية السليمانية بنيت سنة ١٩١١ .
وفي حلب أيضاً مبان عديدة من هذا النوع . نذكر منها مبنى البلدية القديم ( الصورة ۱۰۲ ) وقناق ( دار الضيافة ) أبو الهدى الصيادي ، والمستشفى الوطني . وكلها تقع حول القلعة .
ثم طغى هذا اللون المعماري الذي يعتبر مرحلة انتقال بين الفن الاسلامي والفن الحديث على كل المباني التي اخذت تشيد في أعقاب الانتداب الفرنسي .
وهكذا عادت إلى سورية تيارات الفنون الغربية بعد غياب دام اثني عشر قرناً .
وكان ذلك ايذانا بانتهاء دور الفن الاسلامي . فتوقف عن التطور والأزدهار ، كما توقف الفنان العربي عن الابتكار والانتاج الاصيل ، وفقد شخصيته الخلاقة التي عاشت آلاف السنين ، قبل الاسلام وبعده. وأصبح مشدوداً إلى المدنية الأوربية ، يتلقف منها كل ما يجد ويبتكر في مجال العلم والتقنية والفن ، وغير ذلك من مظاهر المدنية.
لقد أصبح من الصعب استمرار الفنون المعمارية المحلية على البقاء في العصر الحديث، في سورية أو غيرها من البلدان. فأمم الأرض اليوم شديدة التمازج والتلاقي ، وأبوابها مفتوحة لتبادل تيارات الفكر والثقافة ، وشى أنواع المعارف والفنون ، وضروب التقنية والمبتكرات . الأمر الذي يفرض على الفنون ، ولا سيما الفن المعماري أن عالمياً ، لا ينتسب إلى مدرسة أو طراز ، بل إلى أشخاص من ذوي المواهب الخلافة ، تذاع أعمالهم في أنحاء العالم ، ويقتبس منها سائر المعماريين .
وبذلك اكتسحت العمارة الحديثة كل شيء، وآمن بها المعماريون في كل مكان على أنها تلبي حاجات العصر وتتجاوب مع الثورة الصناعية وما أوجدته من مواد جديدة للبناء وطرق حديثة في الانشاء .
و هكذا تخلى معماريو العالم عن المدارس القديمة نهائياً ، وتقديرهم لنتاجها وأصبح هذا النتاج تراثا تاريخيا تبذل كل الجهود للحفاظ عليه .
مرت سورية في النصف الأول من هذا القرن بمرحلة انتقال شبيهة بالتي مرت بها أوربا في القرن التاسع عشر حين عملت على احياء الفنون القديمة باقامة طراز معماري يعتمد على الفنون القديمة من جهة وعلى المبتكرات الحديثة من جهة أخرى. فظهرت فيها أبنيية تعتمد على الاسمنت المسلح ، سداها هندسة أوربية ولحمتها فن عربي اسلامي يتجلى في اكساء الواجهات وتزيينها بالحجارة الملونة والاطاريف المقرنصة والأقواس المدببة ، وغير ذلك من العناصر المألوفة في العمارة العربية .
ونجد هذه الطريقة ممثلة بشكل خاص في المساجد وفي بعض المباني العامة كمبنى المجلس النيابي ومبنى مؤسسة الفيجة وغيرها من البنايات في دمشق وحلب .
وهنا نود أن نطرح السؤال التالي : هل تعتبر هذه الأعمال التي أشرنا اليها تطويراً للفن العربي الاسلامي وأساساً لخلق مرحلة جديدة من مراحله تمثل القرن العشرين . أم أن هذه التجربة لن يكتب لها البقاء ؟ .
ليس من السهل الاجابة على هذا التساؤل . بل إن هذا الموضوع جدير بأن يكون موضع حوار وجدل بين أنصار التراث والاصالة وبين أنصار التجديد .
لقد لاحظنا كيف تراجعت المحاولة التي قامت في أوربا في أواخر القرن الماضي أمام زحف العمارة الحديثة وتطويرها السريع . ولا نعلم فيما إذا كان تيار الإحياء سيلقي عندنا المصير نفسه ، أم أن هناك أملا في تعايشه مع العمارة الحديثة ؟ .
على أننا لا نريد أن يفهم من إحياء التراث وتطرير الفن العربي الاسلامي على أنه تقليد الاعمال القديمة أو النقل عن آثار الماضي وتكرار نماذج منها ، كما يفعل بعض المهندسين عند تشييد مسجد حديث .
إن هذا التقليد خال من الاصالة ، وأن دل على شيء فانما يدل على انعدام القدرة على الخلق والتجديد لقد كان أجدادنا يطورون نتاجهم باستمرار ، فتختلف صفات هذا النتاج وخصائصه من عصر لآخر .
وأرى أن أي عمل معماري يجري تحقيقه اليوم ، إذا أريد له أن يكون له هوية قومية أو محلية ، لابد أن تتوفر فيه الشرائط التالية :
١ - أن يعبر عن روح العصر ، ويمثل التطور الحضاري ويفيد من التقنية الحديثة .
٢ - أن يلائم بين البيئة الجغرافية والاقليم ، والعادات والتقاليد ، والأذواق المحلية ، وبين الفن الحديث العالمي .
٣ - أن يفيد من ترات الماضي فيقتبس عنه كل ماهو صالح من المكتسبات وكل ماهو جميل ، ويطوره بحيث يتفق مع حاجات الحياة الحديثة ومتطلباتها وينسجم مع ما أوجدته من مبتكرات نافعة وعملية في مجال المواد وطرق الانشاء .
تعليق